الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أرى الهُدْهُدَ أمْ كانَ مِنَ الغائِبِينَ﴾ ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا أو لأذْبَحَنَّهُ أو لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ ﴿إنِّي وجَدْتُ امْرَأةً تَمْلِكُهم وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ اخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى "تَفَقُّدِهِ الطَيْرَ"، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: ذَلِكَ بِحَسَبَ ما تَقْتَضِيهِ العِنايَةُ بِأُمُورِ المُلْكِ والتَهَمُّمِ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وظاهِرُ الآيَةِ أنَّهُ تَفَقَّدَ جَمِيعَ الطَيْرِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ تَفَقَّدُ الطَيْرَ لِأنَّ الشَمْسَ دَخَلَتْ مِن عَلى المَلِكِ مِن مَوْضِعِ الهُدْهُدِ حِينَ غابَ، فَكانَ ذَلِكَ سَبَبُ تَفَقُّدِ الطَيْرِ لِيَتَبَيَّنَ مِن أيْنَ دَخَلَتِ الشَمْسُ، وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ: إنَّما طَلَبَ الهُدْهُدَ لِأنَّهُ احْتاجَ إلى مَعْرِفَةِ الماءِ عَلى كَمْ هو مِن وجْهِ الأرْضِ؛ لِأنَّهُ كانَ نَزَلَ في مَفازَةِ حُرِمَ فِيها الماءَ، ولِأنَّ الهُدْهُدَ كانَ يَرى بَطْنَ الأرْضِ وظاهِرَها، كانَتْ تَشُفُّ لَهُ، وكانَ يُخْبِرُ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ بِمَوْضِعِ الماءِ، ثُمَّ كانَتِ الجِنُّ تُخْرِجُهُ في ساعَةٍ يَسِيرَةٍ، تُسْلَخُ عنهُ وجْهُ الأرْضِ كَما تُسْلَخُ الشاةُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما فِيما رُوِيَ عن أبِي سَلامٍ وغَيْرِهِ، وقالَ في كِتابِ النَقّاشِ: كانَ الهُدْهُدَ مُهَنْدِسًا، ورُوِيَ أنَّ نافِعَ بْنَ الأزْرَقِ سَمِعَ ابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما يَقُولُ هَذا، فَقالَ لَهُ: قِفْ يا وقّافُ، كَيْفَ يَرى الهُدْهُدُ بَطْنَ الأرْضِ وهو لا يَرى الفَخَّ حِينَ يَقَعُ فِيهِ؟ فَقالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: إذا جاءَ القَضاءُ عَمِيَ البَصَرُ، وقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كانَتِ الطَيْرُ تَنْتابُ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ كُلَّ يَوْمٍ مِن كُلِّ نَوْعٍ واحِدٍ نَوْبَةٌ مَعْهُودَةٌ، فَفَقَدَ الهُدْهُدَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما لِيَ لا أرى﴾ إنَّما المَقْصِدُ أنَّ الهُدْهُدَ غابَ، لَكِنَّهُ أخَذَ اللازِمَ عن غِيابِهِ وهو ألّا يَراهُ، فاسْتَفْهَمَ -عَلى جِهَةِ التَوْقِيفِ- عَنِ اللازِمْ، وهَذا ضَرْبٌ مِنَ الإيجازِ والِاسْتِفْهامِ الَّذِي في قَوْلِهِ "ما لِيَ" نابَ مَنابَ الألِفِ الَّتِي تَحْتاجُها "أمْ". ثُمَّ تَوَعَّدَهُ (p-٥٢٩)عَلَيْهِ السَلامُ بِالعَذابِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ وابْنِ جُرَيْجٍ أنَّ تَعْذِيبَهُ لِلطَّيْرِ كانَ بِأنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ أجْمَعَ، وقالَ يَزِيدُ بْنُ رُومانٍ: جَناحَهُ، ورُوِيَ عن وهَبٍ أنَّهُ بِأنْ يَنْتِفَ بَعْضُهُ ويَبْقى بِضْعُهُ. و "السُلْطانُ": الحُجَّةُ حَيْثُ وقَعَ في القُرْآنِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَرَأ عِكْرِمَةُ وحْدَهُ: "لِيَأْتِينَنِي" بِنُونَيْنِ، وفَعَلَ سُلَيْمانُ عَلَيْهِ السَلامُ هَذا بِالهُدْهُدِ وحْدَهُ إغْلاظًا عَنِ العاصِينَ، وعَلى إخْلالِهِ بِنَوْبِهِ ورُتْبَتِهِ. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "فَمَكُثَ" بِضَمِّ الكافِ، وقَرَأ عاصِمْ وحْدَهُ: "فَمَكَثَ" بِفَتْحِها، ومَعْناهُ -فِي القِراءَتَيْنِ-: أقامَ، والفَتْحُ في الكافِ أحْسَنُ؛ لِأنَّها لُغَةُ القُرْآنِ في قَوْلِهِ: "ماكِثِينَ"؛ إذْ هو مِن "مَكَثَ" بِفَتْحِ الكافِ، ولَوْ كانَ مَن "مَكُثَ" بِضَمِّ الكافِ لَكانَ جَمْعُ "مَكِيثٌ"، والضَمِيرُ في "مَكَثَ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِسُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ أوِ الهُدْهُدِ، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "فَتَمَكَّثَ ثُمْ جاءَ فَقالَ"، وفي قِراءَةِ أُبَيِّ: "فَتَمَكَّثَ ثُمْ قالَ أحَطْتَ". وقَوْلُهُ: "غَيْرَ بَعِيدٍ" كَما في مَصاحِفِ الجُمْهُورِ يُرِيدُ بِهِ الزَمَنَ والمُدَّةَ، وقَوْلُهُ: "أحَطْتُ" أيْ: عَلِمْتُ عِلْمًا تامًّا لَيْسَ في عِلْمِكَ. واخْتَلَفَ القُرّاءُ في "سَبَأٍ"، فَقَرَأ الجُمْهُورُ: "سَبَأٍ" بِالصَرْفِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرُو: "سَبَأ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وتَرْكِ الصَرْفِ، وقَرَأ الأعْمَشُ: "مِن سَبَإٍ" بِالكَسْرِ وتَرْكِ الصَرْفِ، ورَوى ابْنُ حَبِيبٍ عَنِ اليَزِيدِيِّ "سَبَأْ" بِألْفٍ ساكِنَةٍ، وقَرَأ قَنْبَلُ -عَنِ النَبالِ - بِسُكُونِ الهَمْزَةِ، فالأُولى عَلى أنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ، وعَلَيْهِ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ الوارِدُونَ وتَيْمٌ في ذُرى سَبَأٍ قَدْ عَضَّ أعْناقَهم جِلْدُ الجَوامِيسِ (p-٥٣٠)وَقالَ الآخَرُ: ؎ مِن سَبَأ الحاضِرِينَ مَآرِبَ ∗∗∗.................... وهَذا عَلى أنَّها قَبِيلَةٌ، والثانِيَةُ عَلى أنَّها بَلْدَةٌ، قالَهُ الحَسَنُ وقَتادَةُ، وكِلا القَوْلَيْنِ قَدْ قِيلَ، ولَكِنْ رُوِيَ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ مِن حَدِيثِ فَرْوَةِ بْنِ مُسَيْكٍ وغَيْرِهِ أنَّهُ «وُلِدَ لَهُ عَشْرَةٌ مِنَ الوَلَدِ، تَيامَنَ مِنهم سِتَّةً وتَشاءَمَ أرْبَعَةً»، وحُكِيَ هَذا الحَدِيثُ عَلى الزَجّاجِ فَخَبَطَ عَشْواءَ. والثالِثَةُ عَلى البِناءِ. والرابِعَةُ والخامِسَةُ لِتَوالِي الحَرَكاتِ السَبْعِ فَسُكِّنَ تَخْفِيفًا لِلتَّثْقِيلِ في تَوالِي الحَرَكاتِ، وهَذِهِ القِراءَةُ لا تُبْنى عَلى الأُولى، بَلْ هي إمّا عَلى الثانِيَةِ أوِ الثالِثَةِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ دُونَ تَنْوِينٍ عَلى الإضافَةِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ "بِنَبى" بِالألْفِ مَقْصُورَةً. (p-٥٣١)وَقَوْلُهُ: ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ مُبالَغَةٌ، أيْ: مِمّا تَحْتاجُ المَمْلَكَةُ، قالَ الحَسَنُ: مِن كُلِّ أمْرِ الدُنْيا، ووَصَفَ عَرْشَها بِالعِظَمِ في الهَيْئَةِ ورُتْبَةِ السُلْطانِ، ورُوِيَ عن نافِعٍ الوَقْفُ عَلى [عَرْشٍ]، فَـ "عَظِيمٌ" -عَلى هَذا- مُتَعَلِّقٌ بِما بَعْدَهُ، وهَذِهِ المَرْأةِ هي بِلْقِيسٌ بِنْتُ شَراحِيلِ فِيما قالَ بَعْضُهُمْ، وقِيلَ: بِنْتُ القَشْرَحِ، وقِيلَ: كانَتْ أُمُّها جِنِّيَّةً، وأكْثَرَ بَعْضُ الناسِ في قِصَصِها بِما رَأيْتُ اخْتِصارَهُ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ، وإنَّما اللازِمْ مِنَ الآيَةِ أنَّها مُخْتَصَّةٌ بِامْرَأةٍ مُلِّكَتْ عَلى مَدائِنِ اليَمَنِ، وكانَتْ ذاتَ مُلْكٍ عَظِيمٍ، وكانَتْ كافِرَةً مِن قَوْمٍ كُفّارٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب