الباحث القرآني

﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ الظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ لِلْهُدْهُدِ و(بَعِيدٍ) صِفَةُ زَمانٍ، والكَلامُ بَيانٌ لِمُقَدَّرٍ كَأنَّهُ قِيلَ: ما مَضى مِن غَيْبَتِهِ بَعْدَ التَّهْدِيدِ؟ فَقِيلَ: مَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ، أيْ: مَكَثَ زَمانًا غَيْرَ مَدِيدٍ، ووُصِفَ زَمانُ مُكْثِهِ بِذَلِكَ لِلدَّلالَةِ عَلى إسْراعِهِ؛ خَوْفًا مِن سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ولِيُعْلَمَ كَيْفَ كانَ الطَّيْرُ مُسَخَّرًا لَهُ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِسُلَيْمانَ، وهو كَما تَرى. وقِيلَ: (بَعِيدٍ) صِفَةُ مَكانٍ، أيْ: فَمَكَثَ الهُدْهُدُ في مَكانٍ غَيْرِ بَعِيدٍ مِن سُلَيْمانَ، وجَعْلُهُ صِفَةَ الزَّمانِ أوْلى، ويُحْكى أنَّهُ حِينَ نَزَلَ سُلَيْمانُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - حَلَّقَ الهُدْهُدُ، فَرَأى هُدْهُدًا - واسْمَهُ فِيما قِيلَ عَفِيرٌ – واقِعًا، فانْحَطَّ إلَيْهِ، فَوَصَفَ لَهُ مُلْكَ سُلَيْمانَ، وما سُخِّرَ لَهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ، وذَكَرَ لَهُ صاحِبُهُ مُلْكَ بِلْقِيسَ، وذَهَبَ مَعَهُ لِيَنْظُرَ، فَما رَجَعَ إلّا بَعْدَ العَصْرِ. وفِي بَعْضِ الآثارِ أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا لَمْ يَرَهُ دَعا عَرِيفَ الطَّيْرَ - وهو النَّسْرُ - فَسَألَهُ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ عِلْمَهُ، ثُمَّ قالَ لِسَيِّدِ الطَّيْرِ - وهو العُقابُ -: عَلَيَّ بِهِ، فارْتَفَعَتْ فَنَظَرَتْ فَإذا هو مُقْبِلٌ، فَقَصَدَتْهُ، فَناشَدَها اللَّهَ تَعالى، وقالَ: بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي قَوّاكِ وأقْدَرَكِ عَلَيَّ إلّا رَحِمَتْنِي، فَتَرَكَتْهُ، وقالَتْ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، إنَّ نَبِيَّ اللَّهِ تَعالى قَدْ حَلَفَ لَيُعَذِّبَنَّكَ أوْ لَيَذْبَحَنَّكَ، قالَ: وما اسْتَثْنى؟ قالَتْ: بَلى، قالَ: ﴿أوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ فَقالَ: نَجَوْتُ إذًا، فَلَمّا قَرُبَ مِن سُلَيْمانَ أرْخى ذَنَبَهُ وجَناحَيْهِ يَجُرُّها عَلى الأرْضِ؛ تَواضُعًا لَهُ، فَلَمّا دَنا مِنهُ أخَذَ بِرَأْسِهِ فَمَدَّهُ إلَيْهِ فَقالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ تَعالى اذْكُرْ وُقُوفَكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - فارْتَعَدَ سُلَيْمانُ وعَفا عَنْهُ. وعَنْ عِكْرِمَةَ أنَّهُ إنَّما عَفا عَنْهُ؛ لِأنَّهُ كانَ بارًّا بِأبَوَيْهِ يَأْتِيهِما بِالطَّعامِ فَيَزُقُّهُما لِكِبَرِهِما، ثُمَّ سَألَهُ: ﴿فَقالَ أحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ أيْ: عِلْمًا ومَعْرِفَةً، وحَفِظْتُهُ مِن جَمِيعِ جِهاتِهِ، وابْتِداءُ كَلامِهِ بِذَلِكَ لِتَرْوِيجِهِ عِنْدَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وتَرْغِيبِهِ في الإصْغاءِ إلى اعْتِذارِهِ، واسْتِمالَةِ قَلْبِهِ نَحْوَ قَبُولِهِ؛ فَإنَّ النَّفْسَ لِلِاعْتِذارِ المُنْبِئِ عَنْ أمْرٍ بَدِيعٍ أقْبَلُ، وإلى تَلَقِّي ما لا تَعْلَمُهُ أمْيَلُ، وأُيِّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ حَيْثُ فَسَّرَ إبْهامَهُ السّابِقَ نَوْعَ تَفْسِيرٍ، وأراهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ كانَ بِصَدَدِ إقامَةِ خِدْمَةٍ مُهِمَّةٍ لَهُ، حَيْثُ عَبَّرَ عَمّا جاءَ بِهِ بِالنَّبَإ - الَّذِي هو الخَبَرُ الخَطِيرُ والشَّأْنُ الكَبِيرُ - ووَصَفَهُ بِما وصَفَهُ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّ اللَّهَ تَعالى ألْهَمَ الهُدْهُدَ فَكافَحَ سُلَيْمانَ بِهَذا الكَلامِ عَلى ما أُوتِيَ مِن فَضْلِ النُّبُوَّةِ والحِكْمَةِ والعُلُومِ الجَمَّةِ والإحاطَةِ بِالمَعْلُوماتِ الكَثِيرَةِ؛ ابْتِلاءً لَهُ في عِلْمِهِ، وتَنْبِيهًا عَلى أنَّ في أدْنى خَلْقِهِ وأضْعَفِهِ مَن أحاطَ عِلْمًا بِما لَمْ يُحِطْ بِهِ؛ لِيَتَحاقَرَ إلَيْهِ نَفْسُهُ، ويَصْغُرَ إلَيْهِ عِلْمُهُ، ويَكُونَ لُطْفًا بِهِ في تَرْكِ الإعْجابِ الَّذِي هو فِتْنَةُ العُلَماءِ، وأعْظِمْ بِها فِتْنَةً، انْتَهى. وتُعُقِّبَ بِأنَّ ما أحاطَ بِهِ مِنَ الأُمُورِ المَحْسُوسَةِ الَّتِي لا تُعَدُّ الإحاطَةُ بِها فَضِيلَةً ولا الغَفْلَةُ عَنْها نَقِيصَةً؛ لِعَدَمِ تَوَقُّفِ إدْراكِها إلّا عَلى مُجَرَّدِ إحْساسٍ يَسْتَوِي فِيهِ العُقَلاءُ وغَيْرُهُمْ، وماذا صَدَرَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَعَ ما حُكِيَ عَنْهُ ما حُكِيَ مِنَ الحَمْدِ والشُّكْرِ والدُّعاءِ حَتّى يَلِيقَ بِالحِكْمَةِ الإلَهِيَّةِ تَنْبِيهُهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى تَرْكِهِ. واعْتُرِضَ بِأنَّ قَوْلَهُ: (أحَطْتُ) ... إلَخْ ظاهِرٌ في أنَّهُ كَلامٌ مُدِلٌّ بِعِلْمِهِ، مُصَغِّرٌ لِما عِنْدَ صاحِبِهِ، وأنَّ العِلْمَ بِالأُمُورِ المَحْسُوسَةِ - وإنْ لَمْ يَكُنْ فَضِيلَةً - إلّا أنَّ فَقْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إلى سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ – ومُلْكِهِ، وإلْقاءَ الرِّيحِ الأخْبارَ في سَمْعِهِ يَدُلُّ عَلى ما يَدُلُّ، وفي التَّنْبِيهِ المَذْكُورِ تَثْبِيتٌ مِنهُ تَعالى لَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى الحَمْدِ والشُّكْرِ، وهو مِمّا يُناسِبُ دُعاءَهُ السّابِقَ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبِّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾، ولَعَلَّ الأوْلى والأظْهَرَ - مَعَ هَذا - ما ذُكِرَ أوَّلًا. و(سَبَإٍ) مُنْصَرِفٌ، عَلى أنَّهُ لِحَيٍّ مِنَ النّاسِ سُمُّوا بِاسْمِ أبِيهِمْ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطانَ. (p-187)وفِي حَدِيثِ فَرْوَةَ وغَيْرِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّ سَبَأً اسْمُ رَجُلٍ، ولَدَ عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ، تَيامَنَ مِنهم سِتَّةٌ وتَشاءَمَ أرْبَعَةٌ، والسِّتَّةُ حِمْيَرٌ، وكِنْدَةُ، والأزْدُ، وأشْعَرُ، وخَثْعَمُ، والأرْبَعَةُ: لَخْمٌ، وجُذامُ، وعامِلَةُ، وغَسّانُ. وقِيلَ: سَبَأٌ لَقَبٌ لِأبِي هَذا الحَيِّ مِن قَحْطانَ، واسْمُهُ عَبْدُ شَمْسٍ، وقِيلَ: عامِرٌ، ولُقِّبَ بِذَلِكَ لِأنَّهُ أوَّلُ مَن سَبى. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو «مِن سَبَأ» بِفَتْحِ الهَمْزَةِ غَيْرَ مَصْرُوفٍ، عَلى أنَّهُ اسْمٌ لِلْقَبِيلَةِ، ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ مَأْرَبُ سَبَأ، وبَيْنَها وبَيْنَ صَنْعاءَ مَسِيرَةُ ثَلاثٍ، وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِهِ عَلى الصَّرْفِ المَوْضِعُ المَخْصُوصُ، وعَلى مَنعِ الصَّرْفِ المَدِينَةُ المَخْصُوصَةُ، وأنْشَدُوا عَلى صَرْفِهِ قَوْلَهُ: ؎الوارِدُونَ وتَيْمٌ في ذُرى سَبَأٍ قَدْ عَضَّ أعْناقَهم جِلْدُ الجَوامِيسِ وقَرَأ قُنْبُلٌ - مِن طَرِيقِ النَّبّالِ - بِإسْكانِ الهَمْزَةِ، وخُرِّجَ عَلى إجْراءِ الوَصْلِ مَجْرى الوَقْفِ، وقالَ مَكِّيٌّ: الإسْكانُ في الوَصْلِ بِعِيدٌ غَيْرُ مُخْتارٍ ولا قَوِيٍّ. وقَرَأ الأعْمَشُ: «مِن سَبَإ» بِكَسْرِ الهَمْزَةِ مِن غَيْرِ تَنْوِينٍ، حَكاها عَنْهُ ابْنُ خالَوَيْهِ وابْنُ عَطِيَّةَ، وخُرِّجَتْ عَلى أنَّ الجَرَّ بِالكَسْرَةِ لِرِعايَةِ ما نُقِلَ عَنْهُ، فَإنَّهُ في الأصْلِ اسْمُ الرَّجُلِ أوْ مَكانٌ مَخْصُوصٌ، وحُذِفَ التَّنْوِينُ لِرِعايَةِ ما نُقِلَ إلَيْهِ، فَإنَّهُ جُعِلَ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ أوْ لِلْمَدِينَةِ، وهو كَما تَرى. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ في رِوايَةٍ «مِن سَبًى» بِتَنْوِينِ الباءِ عَلى وزْنِ رَحًى، جَعَلَهُ مَقْصُورًا مَصْرُوفًا، وذَكَرَ أبُو مُعاذٍ أنَّهُ قَرَأ «مِن سَبْأى» بِسُكُونِ الباءِ وهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ غَيْرَ مُنَوَّنَةٍ عَلى وزْنِ فَعْلى، فَهو مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلتَّأْنِيثِ اللّازِمِ. ورَوى ابْنُ حَبِيبٍ، عَنِ اليَزِيدِيِّ «مِن سَبا» بِألِفٍ ساكِنَةٍ كَما في قَوْلِهِمْ: تَفَرَّقُوا أيْدِي سَبا، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ «بِنَبا» بِالألِفِ عِوَضَ الهَمْزَةِ، وكَأنَّها قِراءَةُ مَن قَرَأ (سَبا) بِالألِفِ؛ لِتَتَوازَنَ الكَلِمَتانِ كَما تَوازَنَتْ في قِراءَةِ مَن قَرَأهُما بِالهَمْزَةِ المَكْسُورَةِ والتَّنْوِينِ، وفي التَّحْرِيرِ أنَّ مِثْلَ «مِن سَبا بِنَبا» يُسَمّى تَجْنِيسَ التَّصْرِيفِ، وهو أنْ تَنْفَرِدَ كُلٌّ مِنَ الكَلِمَتَيْنِ بِحَرْفٍ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكم بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ وحَدِيثِ: ««الخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَواصِيها الخَيْرُ»». وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: «مِن سَبا بِنَبا» مِن جِنْسِ الكَلامِ الَّذِي سَمّاهُ المُحَدِّثُونَ البَدِيعَ، وهو مِن مَحاسِنِ الكَلامِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ بِشَرْطِ أنْ يَجِيءَ مَطْبُوعًا، أوْ يُصِيغَهُ عالِمٌ بِجَوْهَرِ الكَلامِ يَحْفَظُ مَعَهُ صِحَّةَ المَعْنى وسَدادَهُ، ولَقَدْ جاءَ هاهُنا زائِدًا عَلى الصِّحَّةِ فَحَسُنَ وبَدُعَ لَفْظًا ومَعْنًى، ألا تَرى لَوْ وُضِعَ مَكانَ (بِنَبَإٍ) (بِخَبَرٍ) لَكانَ المَعْنى صَحِيحًا، وهو - كَما جاءَ - أصَحُّ لِما في النَّبَأِ مِنَ الزِّيادَةِ الَّتِي يُطابِقُها وصْفُ الحالِ اهـ. وهَذِهِ الزِّيادَةُ كَوْنُ الخَبَرِ ذا شَأْنٍ، وكَوْنُ النَّبَأِ بِمَعْنى الخَبَرِ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ مِمّا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ، والظّاهِرُ أنَّهُ مَعْنًى وضْعِيٌّ لَهُ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّهُ لَيْسَ بِوَضْعِيٍّ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، وقَوْلُ المُحَدِّثِينَ: (أنْبَأنا) أحَطُّ دَرَجَةً مِن (أخْبَرَنا) غَيْرُ وارِدٍ؛ لِأنَّهُ اصْطِلاحٌ لَهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ «فَمَكُثَ» بِضَمِّ الكافِ، والفَتْحُ قِراءَةُ عاصِمٍ وأبِي عَمْرٍو في رِوايَةِ الجُعْفِيِّ وسَهْلٍ ورَوْحٍ، وقَرَأ أُبَيٌّ «فَمَكَثَ ثُمَّ قالَ» وعَبْدُ اللَّهِ «فَمَكَثَ فَقالَ» وكِلْتا القِراءَتَيْنِ - في الحَقِيقَةِ عَلى ما في البَحْرِ - تَفْسِيرٌ لا قِراءَةٌ لِمُخالَفَتِها سَوادَ المُصْحَفِ. وقَرَئَ في السَّبْعَةِ (أحَطْتُ) بِإدْغامِ التّاءِ في الطّاءِ مَعَ بَقاءِ صِفَةِ الإطْباقِ، ولَيْسَ بِإدْغامٍ حَقِيقِيٍّ. (p-188)وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإدْغامٍ حَقِيقِيٍّ، واعْتَرَضَ ابْنُ الحاجِبِ القِراءَةَ الأُولى بِأنَّ الإطْباقَ - وهو رَفْعُ اللِّسانِ إلى ما يُحاذِيهِ مِنَ الحَنَكِ لِلتَّصْوِيتِ بِصَوْتِ الحَرْفِ المُخْرَجِ - لا يَسْتَقِيمُ إلّا بِنَفْسِ الحَرْفِ وهو الطّاءُ هُنا، والإدْغامُ يَقْتَضِي إبْدالَها تاءً، وهو يُنافِي وُجُودَ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً وغَيْرَ مَوْجُودَةٍ، وهو تُناقِضٌ، فالتَّحْقِيقُ أنَّ نَحْوَ (أحَطْتُ) بِالإطْباقِ لَيْسَ فِيهِ إدْغامٌ، ولَكِنَّهُ لَمّا أمْكَنَ النُّطْقُ بِالثّانِي مَعَ الأوَّلِ مِن غَيْرِ ثِقَلٍ عَلى اللِّسانِ كانَ كالنُّطْقِ بِالمِثْلِ بَعْدَ المِثْلِ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الإدْغامُ؛ تَوَسُّعًا قالَهُ الطِّيبِيُّ. وفِي النَّشْرِ أنَّ التّاءَ تُدْغَمُ في الطّاءِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ﴾ وفي التَّسْهِيلِ أنَّهُ إذا أُدْغِمَ المُطْبَقُ يَجُوزُ إبْقاءُ الإطْباقِ وعَدَمُهُ. وقالَ سِيبَوَيْهِ: كُلٌّ كَلامٌ عَرَبِيٌّ، كَذا الحَواشِي الشِّهابِيَّةُ، فَتَأمَّلْ. وفِي قَوْلِهِ تَعالى: (أحَطْتُ) إلَخْ ... دَلِيلٌ بِإشارَةِ النَّصِّ والإدْماجِ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ الرّافِضَةِ أنَّ الإمامَ يَنْبَغِي أنْ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الجُزْئِيّاتِ، ولا يَخْفى أنَّهم إنْ عَنَوْا بِذَلِكَ أنَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ الإمامُ عالِمًا عَلى التَّفْصِيلِ بِأحْكامِ جَمِيعِ الحَوادِثِ الجُزْئِيَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ وُقُوعُها، وأنْ يَكُونَ مُسْتَحْضِرًا الجَوابَ الصَّحِيحَ عَنْ كُلِّ ما يُسْألُ عَنْهُ - فَبُطْلانُ كَلامِهِمْ في غايَةِ الظُّهُورِ. وقَدْ سُئِلَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ -وهُوَ عَلى مِنبَرِ الكُوفَةِ عَنْ مَسْألَةٍ فَقالَ: لا أدْرِي، فَقالَ السّائِلُ: لَيْسَ مَكانُكَ هَذا مَكانَ مَن يَقُولُ: لا أدْرِي، فَقالَ الإمامُ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ – بَلى، واللَّهِ هَذا مَكانُ مَن يَقُولُ لا أدْرِي، وأمّا مَن لا يَقُولُ ذَلِكَ فَلا مَكانَ لَهُ، يَعْنِي بِهِ اللَّهَ، عَزَّ وجَلَّ. وإنْ عَنَوْا أنَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ عالِمًا بِجَمِيعِ القَواعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وبِكَثِيرٍ مِنَ الفُرُوعِ الجُزْئِيَّةِ لِتِلْكَ القَواعِدِ بِحَيْثُ لَوْ حَدَثَتْ حادِثَةٌ ولا يَعْلَمُ حُكْمَها يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنِ اسْتِنْباطِ الحُكْمِ فِيها عَلى الوَجْهِ الصَّحِيحِ - فَذاكَ حَقٌّ، وهو في مَعْنى قَوْلِ الجَماعَةِ: يَجِبُ أنْ يَكُونَ الإمامُ مُجْتَهِدًا، وتَمامُ الكَلامِ في هَذا المَقامِ يُطْلَبُ مِن مَحَلِّهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب