الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ التَّفَقُّدُ: طَلَبُ ما غابَ عَنْكَ؛ والمَعْنى أنَّهُ طَلَبَ ما فَقَدَ مِنَ الطَّيْرِ؛ والطَّيْرُ اسْمٌ جامِعٌ لِلْجِنْسِ، وكانَتِ الطَّيْرُ تَصْحَبُ سُلَيْمانَ في سَفَرِهِ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِها ﴿فَقالَ ما لِيَ لا أرى الهُدْهُدَ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ، والكِسائِيُّ: " ما لِيَ لا أرى الهُدْهُدَ " بِفَتْحِ الياءِ. وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ بِالسُّكُونِ، والمَعْنى: ما لِلْهُدْهُدِ [لا أراهُ]؟! تَقُولُ العَرَبُ: ما لِي أراكَ كَئِيبًا، أيْ: ما لَكَ؟ فَهَذا مِنَ المَقْلُوبِ الَّذِي مَعْناهُ مَعْلُومٌ. قالَ المُفَسِّرُونَ: لَمّا فَصَلَ سُلَيْمانُ عَنْ وادِي النَّمْلِ، وقَعَ في قَفْرٍ مِنَ الأرْضِ، فَعَطِشَ الجَيْشُ فَسَألُوهُ الماءَ، وكانَ الهُدْهُدُ يَدُلُّهُ عَلى الماءِ، فَإذا قالَ لَهُ: هاهُنا الماءُ، شَقَّقَتِ الشَّياطِينُ الصَّخْرَ وفَجَّرَتِ العُيُونَ قَبْلَ أنْ يَضْرِبُوا أبْنِيَتَهم، وكانَ الهُدْهُدُ يَرى الماءَ في الأرْضِ كَما يَرى الماءَ في الزُّجاجَةِ، فَطَلَبَهُ يَوْمئِذٍ فَلَمْ يَجِدْهُ. (p-١٦٤)وَقالَ بَعْضُهم: إنَّما طَلَبُهُ لِأنَّ الطَّيْرَ كانَتْ تُظِلُّهم مِنَ الشَّمْسِ، فَأخَلَّ الهُدْهُدُ بِمَكانِهِ، فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَيْهِمْ مِنَ الخَلَلِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ كانَ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ: بَلْ كانَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا﴾ فِيهِ سِتَّةُ أقْوالٍ. أحَدُها: نَتْفُ رِيشِهِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والجُمْهُورُ. والثّانِي: نَتْفُهُ وتَشْمِيسُهُ، قالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدّادٍ. والثّالِثُ: شَدُّ رِجْلِهِ وتَشْمِيسُهُ، قالَهُ الضَّحّاكُ. والرّابِعُ: أنْ يَطْلِيَهُ بِالقَطِرانِ ويُشَمِّسُهُ، قالَهُ مُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ. والخامِسُ: أنْ يُودِعَهُ القَفَصَ والسّادِسُ: أنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ إلْفِهِ، حَكاهُما الثَّعْلَبِيُّ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ لَيَأْتِيَنِّي﴾ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: " لَيَأْتِينَّنِي " بِنُونَيْنِ، وكَذَلِكَ هي في مَصاحِفِهِمْ. فَأمّا السُّلْطانُ، فَهو الحُجَّةُ، وقِيلَ: العُذْرُ. وَجاءَ في التَّفْسِيرِ أنَّ سُلَيْمانَ لَمّا نَزَلَ في بَعْضِ مَسِيرِهِ، قالَ الهُدْهُدُ: إنَّهُ قَدِ اشْتَغَلَ بِالنُّزُولِ فَأرْتَفِعُ أنا إلى السَّماءِ فانْظُرُ إلى طُولِ الدُّنْيا وعَرْضِها، فارْتَفَعَ فَرَأى بُسْتانًا لِبِلْقِيسَ، فَمالَ إلى الخُضْرَةِ فَوَقَعَ فِيهِ، فَإذا هو بِهُدْهُدٍ قَدْ لَقِيَهُ، فَقالَ: مِن أيْنَ أقْبَلْتَ؟ قالَ: مِنَ الشّامِ مَعَ صاحِبِي سُلَيْمانَ، فَمِن أيْنَ أنْتَ؟ قالَ: مِن هَذِهِ البِلادِ، ومَلِكُها امْرَأةٌ يُقالُ لَها: بِلْقِيسَ، فَهَلْ أنْتَ مُنْطَلِقٌ مَعِي حَتّى تَرى مُلْكَها؟ قالَ: أخافُ أنْ يَتَفَقَّدَنِي سُلَيْمانُ وقْتَ الصَّلاةِ إذا احْتاجَ إلى الماءِ، قالَ: إنَّ صاحِبَكَ يَسُرُّهُ أنْ تَأْتِيَهُ بِخَبَرِ هَذِهِ المَلِكَةِ، فانْطَلَقَ مَعَهُ، فَنَظَرَ إلى بِلْقِيسَ ومُلْكَها، ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِضَمِّ الكافِ، وقَرَأ عاصِمٌ بِفَتْحِها، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: " فَتَمْكُثُ " بِزِيادَةِ تاءٍ؛ والمَعْنى: لَمْ يَلْبَثْ إلّا يَسِيرًا حَتّى جاءَ، فَقالَ سُلَيْمانُ: ما الَّذِي أبْطَأ بِكَ؟ ﴿فَقالَ أحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ أيْ: عَلِمْتَ شَيْئًا مِن جَمِيعِ جِهاتِهِ مِمّا لَمْ تُعْلَمْ [بِهِ] ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، (p-١٦٥)وَأبُو عَمْرٍو: " سَبَأ " نَصْبًا غَيْرَ مَصْرُوفٍ، وقَرَأ الباقُونَ خَفْضًا مُنَوَّنًا. وجاءَ في الحَدِيثِ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّ سَبَأ رَجُلٌ مِنَ العَرَبِ» . وقالَ قَتادَةُ: هي أرْضٌ بِاليَمَنِ يُقالُ لَها: مَأْرِبٌ. وقالَ أبُو الحَسَنِ الأخْفَشِ: إنْ شِئْتَ صَرَفْتَ " سَبَأ " فَجَعَلْتَهُ اسْمَ أبِيهِمْ، أوِ اسْمَ الحَيِّ، وإنْ شِئْتَ لَمْ تَصْرِفْ فَجَعَلْتَهُ اسْمَ القَبِيلَةِ، أوِ اسْمَ الأرْضِ. قالَ الزَّجّاجُ: وقَدْ ذَكَرَ قَوْمٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ أنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ. وقالَ آخَرُونَ: الِاسْمُ إذا لَمْ يُدْرَ ما هو لَمْ يُصْرَفْ؛ وكِلا القَوْلَيْنِ خَطَأٌ، لِأنَّ الأسْماءَ حَقُّها الصَّرْفُ، وإذا لَمْ يُعْلَمْ هَلْ الِاسْمُ لِلْمُذَكَّرِ أمْ لِلْمُؤَنَّثِ، فَحَقُّهُ الصَّرْفُ حَتّى يُعْلَمَ أنَّهُ لا يَنْصَرِفُ، لِأنَّ أصْلَ الأسْماءِ الصَّرْفُ. وقَوْلُ الَّذِينَ قالُوا: هو اسْمُ رَجُلٍ، غَلَطٌ، لِأنَّ سَبَأ هي مَدِينَةٌ تُعْرَفُ بِمَأْرِبٍ مِنَ اليَمَنِ، بَيْنَها وبَيْنَ صَنْعاءَ مَسِيرَةُ ثَلاثَةِ أيّامٍ، فَمَن لَمْ يَصْرِفْهُ جَعَلَهُ اسْمَ مَدِينَةٍ، ومَن صَرَفَهُ فَلِأنَّهُ اسْمُ البَلَدِ، فَيَكُونُ مُذَكَّرًا سُمِّيَ بِمُذَكِّرٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ أيْ: بِخَبَرٍ صادِقٍ، ﴿إنِّي وجَدْتُ امْرَأةً تَمْلِكُهُمْ﴾ يَعْنِي بِلْقِيسَ ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ: مِن كُلِّ شَيْءٍ يُعْطاهُ المُلُوكُ ويُؤْتاهُ النّاسُ. والعَرْشُ: سَرِيرُ المُلْكِ. قالَ قَتادَةُ: كانَ عَرْشُها مِن ذَهَبٍ، قَوائِمُهُ مِن جَوْهَرٍ مُكَلَّلٍ بِاللُّؤْلُؤِ، وكانَ أحَدُ أبَوَيْها مِنَ الجِنِّ، وكانَ مُؤَخَّرُ أحَدِ قَدَمَيْها مِثْلَ حافِرِ الدّابَّةِ. وقالَ مُجاهِدٌ: كانَ قَدَماها كَحافِرِ الحِمارِ. وَقالَ ابْنُ السّائِبِ: لَمْ يَكُنْ بِقَدَمَيْها شَيْءٌ، إنَّما وقَعَ الجِنُّ فِيها عِنْدَ سُلَيْمانَ بِهَذا القَوْلِ، فَلَمّا جُعِلَ لَها الصَّرْحُ بانَ لَهُ كَذِبُهم. قالَ مُقاتِلٌ: كانَ ارْتِفاعُ عَرْشِها (p-١٦٦)ثَمانِينَ ذِراعًا في عَرْضِ ثَمانِينَ، وكانَتْ أُمُّها مِنَ الجِنِّ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ وإنَّما صارَ هَذا الخَبَرُ عُذْرًا لِلْهُدْهُدِ، لِأنَّ سُلَيْمانَ كانَ لا يَرى لِأحَدٍ في الأرْضِ مَمْلَكَةً سِواهُ، وكانَ مَعَ ذَلِكَ يُحِبُّ الجِهادَ، فَلَمّا دَلَّهُ الهُدْهُدُ عَلى مَمْلَكَةٍ لِغَيْرِهِ، وعَلى قَوْمٍ كَفَرَةٍ يُجاهِدُهم، صارَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألا يَسْجُدُوا﴾ قَرَأ الأكْثَرُونَ: " ألّا " بِالتَّشْدِيدِ. قالَ الزَّجّاجُ: والمَعْنى: وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ألّا يَسْجُدُوا، أيْ: فَصَدَّهم لِئَلّا يَسْجُدُوا. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، والحَسَنُ، والزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ، وأبُو العالِيَةِ، وحُمَيْدُ الأعْرَجُ، والأعْمَشُ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، والكِسائِيُّ: " ألّا يَسْجُدُوا " مُخَفَّفَةً، عَلى مَعْنى: ألا يا هَؤُلاءِ اسْجُدُوا، فَيَكُونُ في الكَلامِ إضْمارُ " هَؤُلاءِ " ويُكْتَفى مِنها بِ " يا "، ويَكُونُ الوَقْفُ " ألا يا " والِابْتِداءُ " اسْجُدُوا "؛ قالَ الفَرّاءُ: فَعَلى هَذِهِ القِراءَةِ هي سَجْدَةٌ، وعَلى قِراءَةِ مَن شَدَّدَ لا يَنْبَغِي لَها أنْ تَكُونَ سَجْدَةً. وَقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: هَذا أمْرٌ مِنَ اللَّهِ مُسْتَأْنَفٌ، يَعْنِي: ألا يا أيُّها النّاسُ اسْجُدُوا. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأُبِيُّ: " هَلّا يَسْجُدُوا " بَهاءٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أيِ: المُسْتَتِرُ فِيهِما، وهو مِن خَبَّأْتُ الشَّيْءَ: إذا أخْفَيْتُهُ، ويُقالُ: خَبْءُ السَّمَواتِ: المَطَرُ، وخَبْءُ الأرْضِ: النَّباتُ. وقالَ الزَّجّاجُ: كُلُّ ما خَبَّأْتَهُ فَهو خَبْءٌ، فالخَبْءُ: كُلُّ ما غابَ؛ فالمَعْنى: يَعْلَمُ الغَيْبَ في السَّمَواتِ والأرْضِ. ٥٠ وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: " في " بِمَعْنى " مِن "، فَتَقْدِيرُهُ: يُخْرِجُ الخَبْءَ مِنَ السَّمَواتِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ﴾ قَرَأ حَفْصٌ [عَنْ] عاصِمٍ، والكِسائِيُّ بِالتّاءِ فِيهِما. وقَرَأ الباقُونَ بِالياءِ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِن قَوْلِهِ: ﴿أحَطْتُ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿العَظِيمِ﴾ كَلامُ الهُدْهُدِ. وقَرَأ الضَّحّاكُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: " العَظِيمُ " بِرَفْعِ المِيمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب