الباحث القرآني

﴿وتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أرى الهُدْهُدَ أمْ كانَ مِنَ الغائِبِينَ﴾ ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا أوْ لَأذْبَحَنَّهُ أوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أحَطتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ ﴿إنِّي وجَدْتُ امْرَأةً تَمْلِكُهم وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿وجَدْتُها وقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهم فَصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ فَهم لا يَهْتَدُونَ﴾ ﴿ألّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّماواتِ والأرْضِ ويَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ﴾ ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ ﴿قالَ سَنَنْظُرُ أصَدَقْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ ﴿اذْهَبْ بِكِتابِي هَذا فَألْقِهِ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهم فانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ﴾ . (p-٦٤)الظّاهِرُ أنَّهُ تَفَقَّدَ جَمِيعَ الطَّيْرِ، وذَلِكَ بِحَسَبِ ما تَقْتَضِيهِ العِنايَةُ بِأُمُورِ المُلْكِ والِاهْتِمامِ بِالرَّعايا. قِيلَ: وكانَ يَأْتِيهِ مِن كُلِّ صِنْفٍ واحِدٌ، فَلَمْ يَرَ الهُدْهُدَ. وقِيلَ: كانَتِ الطَّيْرُ تُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ، وكانَ الهُدْهُدُ يَسْتُرُ مَكانَهُ الأيْمَنَ، فَمَسَّتْهُ الشَّمْسُ، فَنَظَرَ إلى مَكانِ الهُدْهُدِ، فَلَمْ يَرَهُ. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ: أنَّ سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - نَزَلَ بِمَفازَةٍ لا ماءَ فِيها، وكانَ الهُدْهُدُ يَرى ظاهِرَ الأرْضِ وباطِنَها، وكانَ يُخْبِرُ سُلَيْمانَ بِذَلِكَ، فَكانَتِ الجِنُّ تُخْرِجُهُ في ساعَةٍ تَسْلُخُ الأرْضَ كَما تُسْلَخُ الشّاةُ، فَسَألَ عَنْهُ حِينَ حَلُّوا تِلْكَ المَفازَةَ، لِاحْتِياجِهِمْ إلى الماءِ. وفي قَوْلِهِ ﴿وتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ دَلالَةٌ عَلى تَفَقُّدِ الإمامِ أحْوالَ رَعِيَّتِهِ والمُحافَظَةِ عَلَيْهِمْ. وقالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ أنَّ سَخْلَةً عَلى شاطِئِ الفُراتِ أخَذَها الذِّئْبُ لَسُئِلَ عَنْها عُمَرُ وفي الكَلامِ مَحْذُوفٌ، أيْ فَقَدَ الهُدْهُدَ حِينَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وقَوْلُهُ: ﴿ما لِيَ لا أرى الهُدْهُدَ﴾ مَقْصِدُ الكَلامِ الهُدْهُدُ، غابَ ولَكِنَّهُ أخَذَ اللّازِمَ عَنْ مَغِيبِهِ، وهو أنْ لا يَراهُ، فاسْتَفْهَمَ عَلى جِهَةِ التَّوْقِيفِ عَنِ اللّازِمِ، وهَذا ضَرْبٌ مِنَ الإيجازِ والِاسْتِفْهامِ الَّذِي في قَوْلِهِ: (ما لِيَ) نابَ مَنابَ الألِفِ الَّتِي تَخْتَلِجُها ”أمْ“ . انْتَهى. فَظاهِرُ هَذا الكَلامِ أنَّ ”أمْ“ مُتَّصِلَةٌ وأنَّ الِاسْتِفْهامَ الَّذِي في قَوْلِهِ ”مالِيَ“ نابَ مَنابَ ألِفِ الِاسْتِفْهامِ، فَمَعْناهُ عِنْدَهُ: أغابَ عَنِّي الآنَ فَلَمْ أرَهُ حالَةَ التَّفَقُّدِ ؟ أمْ كانَ مِمَّنْ غابَ قَبْلُ ولَمْ أشْعُرْ بِغَيْبَتِهِ ؟ وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أمْ هي المُنْقَطِعَةُ، نَظَرَ إلى مَكانِ (p-٦٥)الهُدْهُدِ فَلَمْ يُبْصِرْهُ فَقالَ: ﴿ما لِيَ لا أرى الهُدْهُدَ﴾ ؟ عَلى مَعْنى: أنَّهُ لا يَراهُ، وهو حاضِرٌ، لِساتِرٍ سَتَرَهُ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ لاحَ لَهُ أنَّهُ غائِبٌ، فَأضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ وأخَذَ يَقُولُ: أهْوَ غائِبٌ ؟ كَأنَّهُ سَألَ صِحَّةَ ما لاحَ لَهُ، ونَحْوُهُ قَوْلُهم: إنَّها لَإبِلٌ أمْ شاءٌ ؟ انْتَهى. والصَّحِيحُ أنَّ أمْ في هَذا هي المُنْقَطِعَةُ؛ لِأنَّ شَرْطَ المُتَّصِلَةِ تَقَدُّمُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، فَلَوْ تَقَدَّمَها أداةُ الِاسْتِفْهامِ غَيْرَ الهَمْزَةِ، كانَتْ ”أمْ“ مُنْقَطِعَةً، وهُنا تَقَدَّمَ ”ما“، فَفاتَ شَرْطُ المُتَّصِلَةِ. وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مِنَ المَقْلُوبِ وتَقْدِيرُهُ: ما لِلْهُدْهُدِ لا أراهُ ؟ ولا ضَرُورَةَ إلى ادِّعاءِ القَلْبِ. وفي الكَشّافِ، أنَّ سُلَيْمانَ لَمّا تَمَّ لَهُ بِناءُ بَيْتِ المَقْدِسِ، تَجَهَّزَ لِلْحَجِّ، فَوافى الحَرَمَ وأقامَ بِهِ ما شاءَ، ثُمَّ عَزَمَ عَلى المَسِيرِ إلى اليَمَنِ، فَخَرَجَ مِن مَكَّةَ صَباحًا يَؤُمُّ سُهَيْلًا، فَوافى صَنْعاءَ وقْتَ الزَّوالِ، وذَلِكَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، فَرَأى أرْضًا حَسْناءَ أعْجَبَتْهُ خُضْرَتُها، فَنَزَلَ لِيَتَغَذّى ويُصَلِّيَ، فَلَمْ يَجِدِ الماءَ، وكانَ الهُدْهُدُ يَأْتِيهِ، وكانَ يَرى الماءَ مِن تَحْتِ الأرْضِ. وذَكَرَ أنَّهُ كانَ الجِنُّ يَسْلُخُونَ الأرْضَ حَتّى يَظْهَرَ الماءُ. ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا﴾ أبْهَمَ العَذابَ الشَّدِيدَ، وفي تَعْيِينِهِ أقْوالٌ مُتَعارِضَةٌ، والأجْوَدُ أنْ يُجْعَلَ أمْثِلَةً. فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وابْنِ جُرَيْجٍ: نَتَفَ رِيشَهُ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: رِيشَهُ كُلَّهُ. وقالَ يَزِيدُ بْنُ رُومانَ: جَناحَهُ. وقالَ ابْنُ وهْبٍ: نَصِفَهُ ويُبْقَي نِصْفَهُ. وقِيلَ: يُزادُ مَعَ نَتْفِهِ تَرْكُهُ لِلشَّمْسِ. وقِيلَ: يُحْبَسُ في القَفَصِ. وقِيلَ: يُطْلى بِالقَطِرانِ ويُشَمَّسُ. وقِيلَ: يُنْتَفُ ويُلْقى لِلنَّمْلِ. وقِيلَ: يُجْمَعُ مَعَ غَيْرِ جِنْسِهِ. وقِيلَ: يُبْعَدُ مِن خِدْمَةِ سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - . وقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ إلْفِهِ. وقِيلَ: يُلْزَمُ خِدْمَةَ امْرَأتِهِ، وكانَ هَذا القَوْلُ مِن سُلَيْمانَ غَضَبًا لِلَّهِ، حَيْثُ حَضَرَتِ الصَّلاةُ وطَلَبَ الماءَ لِلْوُضُوءِ فَلَمْ يَجِدْهُ، وأباحَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ، كَما أباحَ البَهائِمَ والطُّيُورَ لِلْأكْلِ، وكَما سَخَّرَ لَهُ الطَّيْرَ، فَلَهُ أنْ يُؤَدِّبَهُ إذا لَمْ يَأْتِ ما سُخِّرَ لَهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: أوْ ”لَيَأْتِيَنِّي“ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَها ياءُ المُتَكَلِّمِ، وابْنُ كَثِيرٍ: بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَها نُونُ الوِقايَةِ بَعْدَ الياءِ؛ وعِيسى بْنُ عُمَرَ: بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ بِغَيْرِ ياءٍ. والسُّلْطانُ المُبِينُ: الحُجَّةُ والعُذْرُ، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى الإغْلاظِ عَلى العاصِينَ وعِقابِهِمْ. وبَدَأ أوَّلًا بِأخَفِّ العِقابَيْنِ، وهو التَّعْذِيبُ؛ ثُمَّ أتْبَعَهُ بِالأشَدِّ، وهو إذْهابُ المُهْجَةِ بِالذَّبْحِ، وأقْسَمَ عَلى هَذَيْنِ لِأنَّهُما مِن فِعْلِهِ، وأقْسَمَ عَلى الإتْيانِ بِالسُّلْطانِ ولَيْسَ مِن فِعْلِهِ لَمّا نَظَمَ الثَّلاثَةَ في الحُكْمِ بِأوْ، كَأنَّهُ قالَ: لَيَكُونَنَّ أحَدُ الثَّلاثَةِ، والمَعْنى: إنْ أتى بِالسُّلْطانِ، لَمْ يَكُنْ تَعْذِيبٌ ولا ذَبْحٌ، وإلّا كانَ أحَدُهُما. ولا يَدُلُّ قَسَمُهُ عَلى الإتْيانِ عَلى ادِّعاءِ دِرايَةٍ، عَلى أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَتَعَقَّبَ حَلِفُهُ بِالفِعْلَيْنِ وحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِأنَّهُ يَأْتِيهِ بِسُلْطانٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿أوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ عَنْ دِرايَةٍ وإيقانٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: فَمَكَثَ، بِضَمِّ الكافِ؛ وعاصِمٌ، وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةِ الجُعْفِيِّ، وسَهْلٌ، ورَوْحٌ: بِضَمِّها. وفي قِراءَةِ أُبَيٍّ: فَيَمْكُثُ، ثُمَّ قالَ: وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: فَيَمْكُثُ، فَقالَ: وكِلاهُما في الحَقِيقَةِ تَفْسِيرٌ لا قِراءَةٌ، لِمُخالَفَةِ ذَلِكَ سَوادَ المُصْحَفِ، وما رُوِيَ عَنْهُما بِالنَّقْلِ الثّابِتِ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في فَمَكَثَ عائِدٌ عَلى الهُدْهُدِ، أيْ غَيْرَ زَمَنٍ بَعِيدٍ، أيْ عَنْ قُرْبٍ. ووُصِفَ مُكْثُهُ بِقِصَرِ المُدَّةِ، لِلدَّلالَةِ عَلى إسْراعِهِ، خَوْفًا مِن سُلَيْمانَ، ولِيُعْلَمَ كَيْفَ كانَ الطَّيْرُ مُسَخَّرًا لَهُ، ولِبَيانِ ما أُعْطِيَ مِنَ المُعْجِزَةِ الدّالَّةِ عَلى نُبُوَّتِهِ وعَلى قُدْرَةِ اللَّهِ. وقِيلَ: وقَفَ مَكانًا غَيْرَ بَعِيدٍ مِن سُلَيْمانَ، وكَأنَّهُ فِيما رُوِيَ، حِينَ نَزَلَ سُلَيْمانُ حَلَّقَ الهُدْهُدُ، فَرَأى هُدْهُدًا، فانْحَطَّ عَلَيْهِ ووَصَفَ لَهُ مُلْكَ سُلَيْمانَ وما سُخِّرَ لَهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ، وذَكَرَ لَهُ صاحِبُهُ مُلْكَ بَلْقِيسَ وعَظَّمَ مِنهُ، وذَهَبَ مَعَهُ لِيَنْظُرَ، فَما رَجَعَ إلّا بَعْدَ العَصْرِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في فَمَكَثَ لِسُلَيْمانَ. وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِسُلَيْمانَ ولِلْهُدْهُدِ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ، فَإنْ كانَ غَيْرَ بَعِيدٍ زَمانًا، فالتَّقْدِيرُ: فَجاءَ سُلَيْمانُ، فَسَألَهُ: ما غَيَّبَكَ ؟ فَقالَ: أحَطْتُ؛ وإنْ كانَ مَكانًا، فالتَّقْدِيرُ: فَجاءَ فَوَقَفَ مَكانًا قَرِيبًا مِن سُلَيْمانَ، فَسَألَهُ: ما غَيَّبَكَ ؟ وكانَ فِيما رُوِيَ قَدْ عَلِمَ بِما أقْسَمَ عَلَيْهِ سُلَيْمانُ، فَبادَرَ إلى جَوابِهِ بِما يُسَكِّنُ غَيْظَهُ عَلَيْهِ، وهو أنَّ غَيْبَتَهُ كانَتْ لِأمْرٍ (p-٦٦)عَظِيمٍ عَرَضَ لَهُ، فَقالَ: ﴿أحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ وفي هَذا جَسارَةُ مَن لَدَيْهِ عِلْمٌ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَ غَيْرِهِ، وتَبَجُّحُهُ بِذَلِكَ، وإبْهامُهُ حَتّى تَتَشَوَّفَ النَّفْسُ إلى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ المُبْهَمِ ما هو. ومَعْنى الإحاطَةِ هُنا: أنَّهُ عَلِمَ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمانَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ألْهَمَ اللَّهُ الهُدْهُدَ، فَكافَحَ سُلَيْمانَ بِهَذا الكَلامَ، عَلى ما أُوتِيَ مِن فَضْلِ النُّبُوَّةِ والحِكْمَةِ والعُلُومِ الجَمَّةِ والإحاطَةِ بِالمَعْلُوماتِ الكَثِيرَةِ، ابْتِلاءً لَهُ في عِلْمِهِ، وتَنْبِيهًا عَلى أنَّ في أدْنى خَلْقِهِ وأضْعَفِهِ مَن أحاطَ عِلْمًا بِما لَمْ يُحِطْ بِهِ سُلَيْمانُ، لِتَتَحاقَرَ إلَيْهِ نَفْسُهُ ويَصْغُرَ إلَيْهِ عِلْمُهُ، ويَكُونَ لُطْفًا لَهُ في تَرْكِ الإعْجابِ الَّذِي هو فِتْنَةُ العُلَماءِ، وأعْظِمْ بِها فِتْنَةً، والإحاطَةُ بِالشَّيْءِ عِلْمًا أنْ يُعْلَمَ مِن جَمِيعِ جِهاتِهِ، لا يَخْفى مِنهُ مَعْلُومٌ، قالُوا: وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ الرّافِضَةِ ”إنَّ الإمامَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ“، ولا يَكُونُ في زَمانِهِ أعْلَمُ مِنهُ. انْتَهى. ولَمّا أبْهَمَ في قَوْلِهِ: ﴿بِما لَمْ تُحِطْ﴾ انْتَقَلَ إلى ما هو أقَلُّ مِنهُ إبْهامًا، وهو قَوْلُهُ: ﴿وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾؛ إذْ فِيهِ إخْبارٌ بِالمَكانِ الَّذِي جاءَ مِنهُ، وأنَّهُ لَهُ عِلْمٌ بِخَبَرٍ مُسْتَيْقِنٍ لَهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: مِن سَبَأٍ، مَصْرُوفًا، هَذا وفي: ﴿لَقَدْ كانَ لِسَبَأٍ﴾ [سبإ: ١٥] وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، غَيْرَ مَصْرُوفٍ فِيهِما، وقُنْبُلٌ مِن طَرِيقِ النَّبّالِ: بِإسْكانِها فِيهِما. فَمَن صَرَفَهُ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْحَيِّ أوِ المَوْضِعِ أوْ لِلْأبِ، كَما في حَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ وغَيْرِهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «”أنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ ولَدَ عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ، تَيامَنَ مِنهم سِتَّةٌ، وتَشاءَمَ أرْبَعَةٌ» . (والسِّتَّةُ): حِمْيَرٌ، وكِنْدَةُ، والأزْدُ، وأشْعَرُ، وخَثْعَمٌ، وبَجِيلَةُ؛ (والأرْبَعَةُ): لَخْمٌ، وجُذامٌ، وعامِلَةُ، وغَسّانُ. وكانَ سَبَأٌ رَجُلًا مِن قَحْطانَ اسْمُهُ عَبْدُ شَمْسٍ. وقِيلَ: عامِرٌ، وسُمِّيَ سَبَأً لِأنَّهُ أوَّلُ مَن سَبا، ومَن مَنَعَهُ الصَّرْفَ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ أوِ البُقْعَةِ، وأنْشَدُوا عَلى الصَّرْفِ: ؎الوارِدُونَ وتَيْمٌ في ذُرى سَبَأٍ قَدْ عَضَّ أعْناقَهم جِلْدُ الجَوامِيسِ ومَن سَكَّنَ الهَمْزَةَ، فَلِتَوالِي الحَرَكاتِ فِيمَن مَنَعَ الصَّرْفَ، وإجْراءً لِلْوَصْلِ مَجْرى الوَقْفِ. وقالَ مَكِّيٌّ: الإسْكانُ في الوَصْلِ بَعِيدٌ غَيْرُ مُخْتارٍ ولا قَوِيٍّ. انْتَهى. وقَرَأ الأعْمَشُ: مِن سَبَأِ، بِكَسْرِ الهَمْزَةِ مِن غَيْرِ تَنْوِينٍ، حَكاها عَنْهُ ابْنُ خالَوَيْهِ وابْنُ عَطِيَّةَ، ويَبْعُدُ تَوْجِيهُها. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ في رِوايَةٍ: مِن سَبًا، بِتَنْوِينِ الباءِ عَلى وزْنِ رَحًى، جَعَلَهُ مَقْصُورًا مَصْرُوفًا. وذَكَرَ أبُو مُعاذٍ أنَّهُ قَرَأ مِن سَبْأ: بِسُكُونِ الباءِ وهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ غَيْرِ مُنَوَّنَةٍ، بَناهُ عَلى فَعْلى، فامْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلتَّأْنِيثِ اللّازِمِ. ورَوى ابْنُ حَبِيبٍ، عَنِ اليَزِيدِيِّ: مِن سَبَأْ، بِألِفٍ ساكِنَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: تَفَرَّقُوا أيْدِيَ سَبَأْ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: بِنَبا، بِألِفٍ عِوَضَ الهَمْزَةِ، وكَأنَّها قِراءَةُ مَن قَرَأ: سَبا، بِالألِفِ، لِتَتَوازَنَ الكَلِمَتانِ، كَما تَوازَنَتْ في قِراءَةِ مَن قَرَأهُما بِالهَمْزِ المَكْسُورِ والتَّنْوِينِ. وقالَ في التَّحْرِيرِ: إنَّ هَذا النَّوْعَ في عِلْمِ البَدِيعِ يُسَمّى بِالتَّرْدِيدِ، وفي كِتابِ التَّفْرِيعِ بِفُنُونِ البَدِيعِ. إنَّ التَّرْدِيدَ رَدُّ أعْجازِ البُيُوتِ عَلى صُدُورِها، أوْ رَدُّ كَلِمَةٍ مِنَ النِّصْفِ الأوَّلِ إلى النِّصْفِ الثّانِي، ويُسَمّى أيْضًا التَّصْدِيرُ، فَمِثالُ الأوَّلِ قَوْلُهُ: ؎سَرِيعٌ إلى ابْنِ العَمِّ يَجْبُرُ كَسْرَهُ ∗∗∗ ولَيْسَ إلى داعِي الخَنا بِسَرِيعِ ومِثالُ الثّانِي قَوْلُهُ: ؎واللَّيالِي إذا نَأيْتُمْ طِوالُ ∗∗∗ واللَّيالِي إذا دَنَوْتُمْ قِصارُ وذَكَرَ أنَّ مِثْلَ: ﴿مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ يُسَمّى تَجْنِيسَ التَّصْرِيفِ، قالَ: وهو أنْ تَنْفَرِدَ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ الكَلِمَتَيْنِ عَنِ الأُخْرى بِحَرْفٍ، ومِنهُ قَوْلُهُ - تَعالى -: ﴿ذَلِكم بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ [غافر: ٧٥] وما ورَدَ في الحَدِيثِ: «الخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَواصِيها الخَيْرُ» . وقالَ الشّاعِرُ: ؎لِلَّهِ ما صَنَعَتْ بِنا ∗∗∗ تِلْكَ المَعاجِرُ والمَحاجِرُ وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَوْلُهُ: ﴿مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ مِن جِنْسِ الكَلامِ الَّذِي سَمّاهُ المُحَدِّثُونَ البَدِيعَ، وهو مِن مَحاسِنِ (p-٦٧)الكَلامِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ، بِشَرْطِ أنْ يَجِيءَ مَطْبُوعًا، أوْ بِصِيغَةِ عالِمٍ بِجَوْهَرِ الكَلامِ، يُحْفَظُ مَعَهُ صِحَّةُ المَعْنى وسَدادُهُ. ولَقَدْ جاءَ هاهُنا زائِدًا عَلى الصِّحَّةِ، فَحَسُنَ وبَدُعَ لَفْظًا ومَعْنًى. ألا تَرى لَوْ وُضِعَ مَكانَ بِنَبَأٍ بِخَبَرٍ لَكانَ المَعْنى صَحِيحًا ؟ وهو كَما جاءَ أصَحُّ، لِما في النَّبَأِ مِنَ الزِّيادَةِ الَّتِي يُطابِقُها وصْفُ الحالِ. انْتَهى. والزِّيادَةُ الَّتِي أشارَ إلَيْها هي أنَّ النَّبَأ لا يَكُونُ إلّا الخَبَرَ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ، ولَفْظُ الخَبَرِ مُطْلَقٌ، يَنْطَلِقُ عَلى مالِهِ شَأْنٌ وما لَيْسَ لَهُ شَأْنٌ. ولَمّا أبْهَمَ الهُدْهُدُ أوَّلًا، ثُمَّ أبْهَمَ ثانِيًا دُونَ ذَلِكَ الإبْهامِ، صَرَّحَ بِما كانَ أبْهَمَهُ فَقالَ: ﴿إنِّي وجَدْتُ امْرَأةً تَمْلِكُهُمْ﴾ . ولا يَدُلُّ قَوْلُهُ: ﴿تَمْلِكُهُمْ﴾ عَلى جَوازِ أنْ تَكُونَ المَرْأةُ مَلِكَةً؛ لِأنَّ ذَلِكَ كانَ مِن فِعْلِ قَوْمِ بِلْقِيسَ، وهم كُفّارٌ، فَلا حُجَّةَ في ذَلِكَ. وفي صَحِيحِ البُخارِيِّ، مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا بَلَغَهُ أنَّ أهْلَ فارِسَ قَدْ مَلَّكُوا بِنْتَ كِسْرى قالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ ولَّوْا أمْرَهُمُ امْرَأةً» . ونُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ المَرْأةُ قاضِيَةً، ولَمْ يَصِحَّ عَنْهُ. ونُقِلَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّها تَقْضِي فِيما تَشْهَدُ فِيهِ، لا عَلى الإطْلاقِ، ولا أنْ يُكْتَبَ لَها مَسْطُورٌ بِأنَّ فُلانَةً مُقَدَّمَةٌ عَلى الحُكْمِ، وإنَّما ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّحَكُّمِ والِاسْتِنابَةِ في القَضِيَّةِ الواحِدَةِ. ومَعْنى وجَدْتُ هُنا: أصَبْتُ، والضَّمِيرُ في تَمْلِكُهم عائِدٌ عَلى سَبَأٍ، إنْ كانَ أُرِيدَ القَبِيلَةُ، وإنْ أُرِيدَ المَوْضِعُ، فَهو عَلى حَذْفٍ، أيْ وجِئْتُكَ مِن أهْلِ سَبَأٍ. والمَرْأةُ بِلْقِيسُ بِنْتُ شَراحِيلَ، وكانَ أبُوها مَلِكَ اليَمَنِ كُلِّها، وقَدْ ولَدَهُ أرْبَعُونَ مَلِكًا، ولَمْ يَكُنْ لَهُ ولَدٌ غَيْرُها، فَغَلَبَتْ عَلى المُلْكِ، وكانَتْ هي وقَوْمُها مَجُوسًا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ. واخْتُلِفَ في اسْمِ أبِيها اخْتِلافًا كَثِيرًا. قِيلَ: وكانَتْ أُمُّها جِنِّيَّةً تُسَمّى رَيْحانَةَ بِنْتَ السَّكَنِ، تَزَوَّجَها أبُوها، إذْ كانَ مِن عِظَمِهِ لَمْ يَرَ أنْ يَتَزَوَّجَ أحَدًا مِن مُلُوكِ زَمانِهِ، فَوَلَدَتْ لَهُ بِلْقِيسُ، وقَدْ طَوَّلُوا في قَصَصِها بِما لَمْ يَثْبُتْ في القُرْآنِ، ولا الحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وبَدَأ الهُدْهُدُ بِالإخْبارِ عَنْ مُلْكِها، وأنَّها أُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ، وهَذا عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ، والمَعْنى: مِن كُلِّ شَيْءٍ احْتاجَتْ إلَيْهِ، أوْ مِن كُلِّ شَيْءٍ في أرْضِها. وبَيْنَ قَوْلِ الهُدْهُدِ ذَلِكَ، وبَيْنَ قَوْلِ سُلَيْمانَ: ﴿وأُوتِينا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ١٦] فَرْقٌ، وذَلِكَ أنَّ سُلَيْمانَ عَطَفَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ [النمل: ١٦] وهو مُعْجِزَةٌ، فَيَرْجِعُ أوَّلًا إلى ما أُوتِيَ مِنَ النُّبُوَّةِ والحِكْمَةِ وأسْبابِ الدِّينِ، ثُمَّ إلى المُلْكِ وأسْبابِ الدُّنْيا، وعَطَفَ الهُدْهُدُ عَلى المُلْكِ، فَلَمْ يُرِدْ إلّا ما أُوتِيَتْ مِن أسْبابِ الدُّنْيا اللّائِقَةِ بِحالِها. ﴿ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ قالَ ابْنُ زَيْدٍ: هو مَجْلِسُها. وقالَ سُفْيانُ: هو كُرْسِيُّها، وكانَ مُرَصَّعًا بِالجَواهِرِ، وعَلَيْهِ سَبْعَةُ أبْوابٍ. وذَكَرُوا مِن وصْفِ عَرْشِها أشْياءَ، اللَّهُ هو العالِمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ، واسْتِعْظامُ الهُدْهُدِ عَرْشَها، إمّا لِاسْتِصْغارِ حالِها أنْ يَكُونَ لَها مِثْلُ هَذا العَرْشِ، وإمّا لِأنَّ سُلَيْمانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُهُ، وإنْ كانَ عَظِيمَ المَمْلَكَةِ في كُلِّ شَيْءٍ، لِأنَّهُ قَدْ يُوجَدُ لِبَعْضِ أُمَراءِ الأطْرافِ شَيْءٌ لا يَكُونُ لِلْمَلِكِ الَّذِي هو تَحْتَ طاعَتِهِ. ولَمّا كانَ سُلَيْمانُ قَدْ آتاهُ اللَّهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ، وكانَ لَهُ عَرْشٌ عَظِيمٌ، أخْبَرَهُ بِهَذا النَّبَأِ العَظِيمِ، حَيْثُ كانَ في الدُّنْيا مَن يُشارِكُهُ فِيما يَقْرُبُ مِن ذَلِكَ. ولَمْ يَلْتَفِتْ سُلَيْمانُ لِذَلِكَ، إذْ كانَ مُعْرِضًا عَنْ أُمُورِ الدُّنْيا. فانْتَقَلَ الهُدْهُدُ إلى الإخْبارِ إلى ما يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ، وما أحْسَنَ انْتِقالاتِ هَذِهِ الأخْبارِ بَعْدَ تَهَدُّدِ الهُدْهُدِ وعِلْمِهِ بِذَلِكَ، أخْبَرَ أوَّلًا بِاطِّلاعِهِ عَلى ما لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ سُلَيْمانُ، تَحَصُّنًا مِنَ العُقُوبَةِ، بِزِينَةِ العِلْمِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ، فَتَشَوَّفَ السّامِعُ إلى عِلْمِ ذَلِكَ. ثُمَّ أخْبَرَنا ثانِيًا بِتَعَلُّقِ ذَلِكَ العِلْمِ، وهو أنَّهُ مِن سَبَأٍ، وأنَّهُ أمْرٌ مُتَيَقَّنٌ لا شَكَّ فِيهِ، فَزادَ تَشَوُّفُ السّامِعِ إلى سَماعِ ذَلِكَ النَّبَأِ. ثُمَّ أخْبَرَ ثالِثًا عَنِ المُلْكِ الَّذِي أُوتِيَتْهُ امْرَأةٌ، وكانَ سُلَيْمانُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قَدْ سَألَ اللَّهَ أنْ يُؤْتِيَهُ مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ مِن بَعْدِهِ. ثُمَّ أخْبَرَ رابِعًا ما ظاهِرُهُ الِاشْتِراكُ بَيْنَهُ وبَيْنَ هَذِهِ المَرْأةِ الَّتِي لَيْسَ مِن شَأْنِها ولا شَأْنِ النِّساءِ أنْ تَمْلِكَ فُحُولَ الرِّجالِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ وكانَ سُلَيْمانُ لَهُ بِساطٌ قَدْ صُنِعَ لَهُ، وكانَ عَظِيمًا. ولَمّا لَمْ يَتَأثَّرْ سُلَيْمانُ لِلْإخْبارِ بِهَذا كُلِّهِ، إذْ هو أمْرٌ دُنْياوِيٌّ، أخْبَرَهُ خامِسًا بِما يَهُزُّهُ لِطَلَبِ (p-٦٨)هَذِهِ المَلِكَةِ، ودُعائِها إلى الإيمانِ بِاللَّهِ، وإفْرادِهِ بِالعِبادَةِ، فَقالَ: ﴿وجَدْتُها وقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ: إنَّهم كانُوا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ الأنْوارَ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ. وقِيلَ: كانُوا زَنادِقَةً. وهَذِهِ الإخْباراتِ مِنَ الهُدْهُدِ كانَتْ عَلى سَبِيلِ الِاعْتِذارِ عَنْ غَيْبَتِهِ عَنْ سُلَيْمانَ، وعَرَفَ أنَّ مَقْصِدَ سُلَيْمانَ الدُّعاءُ إلى تَوْحِيدِ اللَّهِ والإيمانِ بِهِ، فَكانَ ذَلِكَ عُذْرًا واضِحًا أزالَ عَنْهُ العُقُوبَةَ الَّتِي كانَ سُلَيْمانُ قَدْ تَوَعَّدَهُ بِها. وقامَ ذَلِكَ الإخْبارُ مَقامَ الإيقانِ بِالسُّلْطانِ المُبِينِ؛ إذْ كانَ في غَيْبَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِإعْلامِ سُلَيْمانَ بِما كانَ خافِيًا عَنْهُ، ومَآلُهُ إلى إيمانِ المَلِكَةِ وقَوْمِها. وخَفِيَ مُلْكُ هَذِهِ المَرْأةِ ومَكانُها عَلى سُلَيْمانَ، وإنْ كانَتِ المَسافَةُ بَيْنَهُما قَرِيبَةً، كَما خَفِيَ مُلْكُ يُوسُفَ عَلى يَعْقُوبَ، وذَلِكَ لِأمْرٍ أرادَهُ اللَّهُ - تَعالى - . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومِن نَوْكى القُصّاصِ مَن يَقِفُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ولَها عَرْشٌ﴾ ثُمَّ يَبْتَدِئُ ﴿عَظِيمٌ وجَدْتُها﴾ يُرِيدُ“ أمْرٌ عَظِيمٌ ”أنْ وجَدْتُها، فَرَّ مِنَ اسْتِعْظامِ الهُدْهُدِ عَرْشَها، فَوَقَعَ في عَظِيمَةٍ وهي مَسْخُ كِتابِ اللَّهِ. انْتَهى. وقالَ أيْضًا (فَإنْ قُلْتَ: مِن أيْنَ لِلْهُدْهُدِ الهُدى إلى مَعْرِفَةِ اللَّهِ ووُجُوبِ السُّجُودِ لَهُ، وإنْكارِ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ، وإضافَتِهِ إلى الشَّيْطانِ وتَزْيِينِهِ ؟ ( قُلْتُ): لا يَبْعُدُ أنْ يُلْهِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ، كَما ألْهَمَهُ وغَيْرَهُ مِنَ الطُّيُورِ وسائِرِ الحَيَواناتِ المَعارِفَ اللَّطِيفَةَ الَّتِي لا تَكادُ العُقَلاءُ يَهْتَدُونَ لَها. ومَن أرادَ اسْتِقْراءَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ بِكِتابِ الحَيَوانِ خُصُوصًا في زَمانِ نَبِيٍّ سُخِّرَتْ لَهُ الطُّيُورُ وعُلِّمَ مَنطِقَها، وجُعِلَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ. انْتَهى. وأُسْنِدَ التَّزْيِينُ إلى الشَّيْطانِ، إذْ كانَ هو المُتَسَبِّبُ في ذَلِكَ بِأقْدارِ اللَّهِ تَعالى. ﴿فَصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ﴾ أيِ الشَّيْطانُ، أوْ تَزْيِينُهُ عَنِ السَّبِيلِ وهو الإيمانُ بِاللَّهِ وإفْرادُهُ بِالعِبادَةِ. ﴿فَهم لا يَهْتَدُونَ﴾ أيْ إلى الحَقِّ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، والزُّهْرِيُّ، والسُّلَمِيُّ، والحَسَنُ، وحُمَيْدٌ، والكِسائِيُّ: ألا، بِتَخْفِيفِ لامِ الألِفِ، فَعَلى هَذا لَهُ أنْ يَقِفَ عَلى: ﴿فَهم لا يَهْتَدُونَ﴾ ويَبْتَدِئَ عَلى: ﴿ألا يَسْجُدُوا﴾ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنْ شاءَ وقَفَ عَلى ألا ثُمَّ ابْتَدَأ اسْجُدُوا، وباقِي السَّبْعَةِ: بِتَشْدِيدِها، وعَلى هَذا يَصِلُ قَوْلُهُ: ﴿فَهم لا يَهْتَدُونَ﴾ بِقَوْلِهِ: ﴿ألا يَسْجُدُوا﴾ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ، وهي قِراءَةُ الأعْمَشِ: هَلّا وهَلا، بِقَلْبِ الهَمْزَتَيْنِ هاءً، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ: هَلا يَسْجُدُونَ، بِمَعْنى: ألا تَسْجُدُونَ، عَلى الخِطابِ. وفي قِراءَةِ أُبَيٍّ:“ ألا تَسْجُدُونَ لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ ويَعْلَمُ سِرَّكم وما تُعْلِنُونَ ”انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَرَأ الأعْمَشُ: هَلّا يَسْجُدُونَ؛ وفي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ: ألا هَلْ تَسْجُدُونَ، بِالتّاءِ، وفي قِراءَةِ أُبَيٍّ: ألا تَسْجُدُونَ، بِالتّاءِ أيْضًا؛ فَأمّا قِراءَةُ مَن أثْبَتَ النُّونَ في يَسْجُدُونَ، وقَرَأ بِالتّاءِ أوِ الياءِ، فَتَخْرِيجُها واضِحٌ. وأمّا قِراءَةُ باقِي السَّبْعَةِ فَخَرَجَتْ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ألا يَسْجُدُوا﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلى أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: (أعْمالَهم) أيْ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أنْ لا يَسْجُدُوا. وما بَيْنَ المُبْدَلِ مِنهُ والبَدَلِ مُعْتَرِضٌ، أوْ في مَوْضِعِ جَرٍّ، عَلى أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ السَّبِيلِ، أيْ فَصَدَّهم عَنْ أنْ لا يَسْجُدُوا. وعَلى هَذا التَّخْرِيجِ تَكُونُ“ لا ”زائِدَةً، أيْ فَصَدَّهم عَنْ أنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ، ويَكُونُ ﴿فَهم لا يَهْتَدُونَ﴾ مُعْتَرِضًا بَيْنَ المُبْدَلِ مِنهُ والبَدَلِ، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ: لِأنْ لا يَسْجُدُوا. وتَتَعَلَّقُ اللّامُ إمّا بِزَيَّنَ، وإمّا بِقَصْدِهِمْ، واللّامُ الدّاخِلَةُ عَلى“ أنْ ”داخِلَةٌ عَلى مَفْعُولٍ لَهُ، أيْ عِلَّةُ تَزْيِينِ الشَّيْطانِ لَهم، أوْ صَدِّهِمْ عَنِ السَّبِيلِ، هي انْتِفاءُ سُجُودِهِمْ لِلَّهِ، أوْ لِخَوْفِهِ أنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ“ لا ”مَزِيدَةً، ويَكُونُ المَعْنى فَهم لا يَهْتَدُونَ إلى أنْ يَسْجُدُوا. انْتَهى. وأمّا قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ ومَن وافَقَهُ، فَخَرَجَتْ عَلى أنْ تَكُونَ“ ألا ”حَرْفُ اسْتِفْتاحٍ، ويا حَرْفُ نِداءٍ، والمُنادى مَحْذُوفٌ، واسْجُدُوا فِعْلُ أمْرٍ، وسَقَطَتْ ألِفُ“ يا ”الَّتِي لِلنِّداءِ، وألِفُ الوَصْلِ في اسْجُدُوا، إذْ رَسْمُ المُصْحَفِ يَسْجُدُوا بِغَيْرِ ألِفَيْنِ لَمّا سَقَطا لَفْظًا سَقَطا خَطًّا. ومَجِيءُ مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ مَوْجُودٌ في كَلامِ العَرَبِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎ألا يا اسْلَمِي ذاتَ الدَّمالِجِ والعِقْدِ وقالَ: ؎ألا يا اسْقِيانِي قَبْلَ غارَةِ سِنْجالِ (p-٦٩)وقالَ: ؎ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ عَلى البِلى وقالَ: ؎ألا يا اسْقِيانِي قَبْلَ حَبْلِ أبِي بَكْرِ ؎فَقالَتْ ألا يا اسْمَعْ أعِظْكَ بِخُطْبَةٍ ∗∗∗ فَقُلْتُ سَمِعْنا فانْطِقِي وأصِيبِي وقالَ: ؎ألا يا اسْلَمِي يا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَدْرِ ∗∗∗ وإنْ كانَ جَبانًا عَدا آخِرَ الدَّهْرِ وسُمِعَ بَعْضُ العَرَبِ يَقُولُ: ؎ألا يا ارْحَمُونا ألا تَصَدَّقُوا عَلَيْنا ووَقَفَ الكِسائِيُّ في هَذِهِ القِراءَةِ عَلى“ يا ”ثُمَّ يَبْتَدِئُ اسْجُدُوا، وهو وقْفُ اخْتِيارٍ لا اخْتِبارٍ، والَّذِي أذْهَبُ إلَيْهِ أنَّ مِثْلَ هَذا التَّرْكِيبِ الوارِدِ عَنِ العَرَبِ لَيْسَتْ“ يا ”فِيهِ لِلنِّداءِ، وحُذِفَ المُنادى؛ لِأنَّ المُنادى عِنْدِي لا يَجُوزُ حَذْفُهُ؛ لِأنَّهُ قَدْ حُذِفَ الفِعْلُ العامِلُ في النِّداءِ، وانْحَذَفَ فاعِلُهُ لِحَذْفِهِ. ولَوْ حَذَفْنا المُنادى، لَكانَ في ذَلِكَ حَذْفُ جُمْلَةِ النِّداءِ، وحَذْفُ مُتَعَلِّقِهِ وهو المُنادى، فَكانَ ذَلِكَ إخْلالًا كَبِيرًا. وإذا أبْقَيْنا المُنادى ولَمْ نَحْذِفْهُ، كانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى العامِلِ فِيهِ جُمْلَةُ النِّداءِ. ولَيْسَ حَرْفُ النِّداءِ حَرْفَ جَوابٍ، كَنَعَمْ، ولا، وبَلى، وأجَلْ؛ فَيَجُوزُ حَذْفُ الجُمَلِ بَعْدَهُنَّ لِدَلالَةِ ما سَبَقَ مِنَ السُّؤالِ عَلى الجُمَلِ المَحْذُوفَةِ. فَـ“ يا ”عِنْدِي في تِلْكَ التَّراكِيبِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ أُكِّدَ بِهِ“ ألا ”الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ، وجازَ ذَلِكَ لِاخْتِلافِ الحَرْفَيْنِ، ولِقَصْدِ المُبالَغَةِ في التَّوْكِيدِ، وإذا كانَ قَدْ وُجِدَ التَّأْكِيدُ في اجْتِماعِ الحَرْفَيْنِ المُخْتَلِفَيِ اللَّفْظِ العامِلَيْنِ في قَوْلِهِ: ؎فَأصْبَحْنَ لا يَسْألْنَنِي عَنْ بِما بِهِ والمُتَّفِقَيِ اللَّفْظِ العامِلَيْنِ في قَوْلِهِ: ؎ولا لِلِما بِهِمْ أبَدًا دَواءُ وجازَ ذَلِكَ، وإنْ عَدُّوهُ ضَرُورَةً أوْ قَلِيلًا، فاجْتِماعُ غَيْرِ العامِلَيْنِ، وهُما مُخْتَلِفا اللَّفْظِ، يَكُونُ جائِزًا، ولَيْسَ“ يا ”في قَوْلِهِ: ؎يا لَعْنَةَ اللَّهِ والأقْوامِ كُلِّهِمْ حَرْفَ نِداءٍ عِنْدِي، بَلْ حَرْفُ تَنْبِيهٍ جاءَ بَعْدَهُ المُبْتَدَأُ، ولَيْسَ مِمّا حُذِفَ مِنهُ المُنادى لِما ذَكَرْناهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): أسَجْدَةُ التِّلاوَةِ واجِبَةٌ في القِراءَتَيْنِ جَمِيعًا، أوْ في واحِدَةٍ مِنهُما: (قُلْتُ): هي واجِبَةٌ فِيهِما، وإحْدى القِراءَتَيْنِ أمْرٌ بِالسُّجُودِ، والأُخْرى ذَمٌّ لِلتّارِكِ؛ وما ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ مِن وُجُوبِ السَّجْدَةِ مَعَ التَّخْفِيفِ دُونَ التَّشْدِيدِ فَغَيْرُ مَرْجُوعٍ إلَيْهِ، انْتَهى. والخَبْءُ: مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلى المَخْبُوءِ، وهو المَطَرُ والنَّباتُ وغَيْرُهُما مِمّا خَبَّأهُ تَعالى مِن غُيُوبِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: الخَبْءُ، بِسُكُونِ الباءِ والهَمْزَةِ. وقَرَأأُبَيٌّ، وعِيسى: بِنَقْلِ حَرَكَةِ الهَمْزَةِ إلى الباءِ وحَذْفِ الهَمْزَةِ. وقَرَأ عِكْرِمَةُ: بِألِفٍ بَدَلَ الهَمْزَةِ، فَلَزِمَ فَتْحُ ما قَبْلَها، وهي قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ، ومالِكِ بْنِ دِينارٍ. ويَخْرُجُ عَلى لُغَةِ مَن يَقُولُ في الوَقْفِ: هَذا الخَبْوُ، ومَرَرْتُ بِالخَبْيِ، ورَأيْتُ الخَبا، وأجْرى الوَصْلَ مَجْرى الوَقْفِ. وأجازَ الكُوفِيُّونَ أنْ تَقُولَ في المَرْأةِ والكَمْأةِ: المَراةُ والكَماةُ، فَيُبْدَلُ مِنَ الهَمْزَةِ ألِفًا، فَتُفْتَحُ ما قَبْلَها، فَعَلى قَوْلِهِمْ هَذا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخَبْأُ مِنهُ. قِيلَ: وهي لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ، وإجْراءُ الوَصْلِ مَجْرى الوَقْفِ أيْضًا نادِرٌ قَلِيلٌ، فَيُعادِلُ التَّخْرِيجانِ. ونَقْلُ الحَرَكَةِ إلى الباءِ، وحَذْفُ الهَمْزَةِ، حَكاهُ سِيبَوَيْهِ، عَنْ قَوْمٍ مِن بَنِي تَمِيمٍ وبَنِي أسَدٍ. وقِراءَةُ الخَبا بِالألِفِ، طَعَنَ فِيها أبُو حاتِمٍ وقالَ: لا يَجُوزُ في العَرَبِيَّةِ، قالَ: لِأنَّهُ إنْ حَذَفَ الهَمْزَةَ ألْقى حَرَكَتَها عَلى الباءِ فَقالَ: الخَبَ، وإنْ حَوَّلَها قالَ: الخَبْيَ، بِسُكُونِ الباءِ وياءٍ بَعْدَها. قالَ المُبَرِّدُ: كانَ أبُو حاتِمٍ دُونَ أصْحابِهِ في النَّحْوِ، ولَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ، إلّا أنَّهُ إذا خَرَجَ مِن بَلْدَتِهِمْ لَمْ يُلْقَ أعْلَمُ مِنهُ. والظّاهِرُ أنَّ ﴿فِي السَّماواتِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبْءِ، أيِ المَخْبُوءَ في السَّماواتِ. وقالَ الفَرّاءُ في ومَن يَتَعاقَبانِ بِقَوْلِ العَرَبِ: لَأسْتَخْرِجَنَّ العِلْمَ فِيكم، يُرِيدُ مِنكم. انْتَهى. فَعَلى هَذا يَتَعَلَّقُ بِيَخْرُجَ، أيْ مِن في السَّماواتِ. ( ولَمّا كانَ الهُدْهُدُ قَدْ أُوتِيَ مِن مَعْرِفَةِ الماءِ تَحْتَ الأرْضِ ما لَمْ يُؤْتَ غَيْرُهُ، وألْهَمَهُ اللَّهُ - تَعالى - ذَلِكَ، كانَ وصْفُهُ رَبَّهُ - تَعالى - بِهَذا الوَصْفِ الَّذِي هو قَوْلُهُ: ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ﴾ إذْ كُلٌّ مُخْتَصٌّ بِوَصْفٍ مِن عِلْمٍ أوْ صِناعَةٍ، يَظْهَرُ عَلَيْهِ مَخايِلُ ذَلِكَ الوَصْفِ في رُوائِهِ ومَنطِقِهِ وشَمائِلِهِ، ولِذَلِكَ ورَدَ ما عَمِلَ عَبْدٌ عَمَلًا إلّا ألْقى اللَّهُ عَلَيْهِ رِداءَ عَمَلِهِ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ والجُمْهُورُ: ما يُخْفُونَ وما (p-٧٠)يُعْلِنُونَ، بِياءِ الغَيْبَةِ، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى المَرْأةِ وقَوْمِها. وقَرَأ الكِسائِيُّ وحَفْصٌ: بِتاءِ الخِطابِ، فاحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِسُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - والحاضِرِينَ مَعَهُ، إذْ يَبْعُدُ أنْ تَكُونَ مُحاوَرَةُ الهُدْهُدِ لِسُلَيْمانَ، وهُما لَيْسَ مَعَهُما أحَدٌ. وكَما جازَ لَهُ أنْ يُخاطِبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ جازَ أنْ يُخاطِبَهُ والحاضِرِينَ مَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ﴾ بَلْ خِطابُهُ بِهَذا لَيْسَ فِيهِ ظُهُورُ شُغُوفٍ بِخِلافِ ذَلِكَ الخِطابِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ألا يَسْجُدُوا﴾ إلى العَظِيمِ مِن كَلامِ الهُدْهُدِ. وقِيلَ: مِن كَلامِ اللَّهِ - تَعالى - لِأُمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: القِراءَةُ بِياءِ الغَيْبَةِ تُعْطِي أنَّ الآيَةَ مِن كَلامِ الهُدْهُدِ، وبِتاءِ الخِطابِ تُعْطِي أنَّها مِن خِطابِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ . وقالَ صاحِبُ الغُنْيانِ: لَمّا ذَكَرَ الهُدْهُدُ عَرْشَ بِلْقِيسَ ووَصَفَهُ بِالعِظَمِ، رَدَّ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - عَلَيْهِ وبَيَّنَ أنَّ عَرْشَهُ - تَعالى - هو المَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلى الحَقِيقَةِ، إذْ لا يَسْتَحِقُّ عَرْشٌ دُونَهُ أنْ يُوصَفَ بِالعَظَمَةِ. وقِيلَ: إنَّهُ مِن تَمامِ كَلامِ الهُدْهُدِ، كَأنَّهُ اسْتَدْرَكَ ورَدَّ العَظَمَةَ مِن عَرْشِ بِلْقِيسَ إلى عَرْشِ اللَّهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ سَوّى الهُدْهُدُ بَيْنَ عَرْشِ بِلْقِيسَ وعَرْشِ اللَّهِ في الوَصْفِ بِالعِظَمِ ؟ (قُلْتُ): بَيْنَ الوَصْفَيْنِ فَرْقٌ؛ لِأنَّ وصْفَ عَرْشِها بِالعِظَمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالإضافَةِ إلى عُرُوشِ أبْناءِ جِنْسِها مِنَ المُلُوكِ، ووَصْفَ عَرْشِ اللَّهِ بِالعِظَمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلى سائِرِ ما خَلَقَ مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ. انْتَهى. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وجَماعَةٌ: العَظِيمُ بِالرَّفْعِ، فاحْتُمِلَ أنْ تَكُونَ صِفَةً لِلْعَرْشِ، وقُطِعَ عَلى إضْمارِ هو عَلى سَبِيلِ المَدْحِ، فَتَسْتَوِي قِراءَتُهُ وقِراءَةُ الجُمْهُورِ في المَعْنى. واحْتُمِلَ أنْ تَكُونَ صِفَةً لِلرَّبِّ، وخُصَّ العَرْشُ بِالذِّكْرِ، لِأنَّهُ أعْظَمُ المَخْلُوقاتِ، وما عَداهُ في ضِمْنِهِ. ولَمّا فَرَغَ الهُدْهُدُ مِن كَلامِهِ، وأبْدى عُذْرَهُ في غَيْبَتِهِ، أخَّرَ سُلَيْمانُ أمْرَهُ إلى أنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ صِدْقُهُ مِن كَذِبِهِ فَقالَ: ﴿سَنَنْظُرُ أصْدَقْتَ﴾ في إخْبارِكَ أمْ كَذَبْتَ. والنَّظَرُ هُنا: التَّأمُّلُ والتَّصَفُّحُ، و“ أصَدَقْتَ ”: جُمْلَةٌ مُعَلَّقٌ عَنْها“ سَنَنْظُرُ ”، وهي في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، لِأنَّ نَظَرَ، بِمَعْنى التَّأمُّلِ والتَّفَكُّرِ، إنَّما يَتَعَدّى بِحَرْفِ الجَرِّ الَّذِي هو في. وعادَلَ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ بِأمْ، ولَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ أمْ كَذَبْتَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ أبْلَغُ في نِسْبَةِ الكَذِبِ إلَيْهِ؛ لِأنَّ كَوْنَهُ مِنَ الكاذِبِينَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالكَذِبِ، سابِقٌ لَهُ هَذا الوَصْفُ قَبْلَ الإخْبارِ بِما أخْبَرَ بِهِ. وإذا كانَ قَدْ سَبَقَ لَهُ الوَصْفُ بِالكَذِبِ، كانَ مُتَّهَمًا فِيما أخْبَرَ بِهِ، بِخِلافِ مَن يُظَنُّ ابْتِداءً كَذِبُهُ فِيما أخْبَرَ بِهِ. وفي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَأمَرَ بِكِتابَةِ كِتابٍ إلَيْهِمْ، وبِذَهابِ الهُدْهُدِ رَسُولًا إلَيْهِمْ بِالكِتابِ، فَقالَ: ﴿اذْهَبْ بِكِتابِي هَذا﴾ أيِ الحاضِرِ المَكْتُوبِ الآنَ. ﴿فَألْقِهِ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أيْ تَنَحَّ عَنْهم إلى مَكانٍ قَرِيبٍ، بِحَيْثُ تَسْمَعُ ما يَصْدُرُ مِنهم وما يَرْجِعُ بِهِ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ مِنَ القَوْلِ. وفِي قَوْلِهِ: ﴿اذْهَبْ بِكِتابِي هَذا فَألْقِهِ إلَيْهِمْ﴾ دَلِيلٌ عَلى إرْسالِ الكُتُبِ إلى المُشْرِكِينَ مِنَ الإمامِ، يُبَلِّغُهُمُ الدَّعْوَةَ ويَدْعُوهم إلى الإسْلامِ. وقَدْ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى كِسْرى وقَيْصَرَ وغَيْرِهِما مُلُوكِ العَرَبِ. وقالَ وهْبٌ: أمْرُهُ بِالتَّوَلِّي حُسْنُ أدَبٍ لِيَتَنَحّى حَسَبَ ما يَتَأدَّبُ بِهِ المُلُوكُ، بِمَعْنى: وكُنْ قَرِيبًا بِحَيْثُ تَسْمَعُ مُراجَعاتِهِمْ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: أمَرَهُ بِالتَّوَلِّي بِمَعْنى الرُّجُوعِ إلَيْهِ، أيْ ألْقِهِ وارْجِعْ. قالَ: وقَوْلُهُ: ﴿فانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ﴾ في مَعْنى التَّقْدِيمِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ . انْتَهى. وقالَهُ أبُو عَلِيٍّ، ولا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، بَلِ الظّاهِرُ أنَّ النَّظَرَ مُعْتَقِبٌ التَّوَلِّيَ عَنْهم. وقُرِئَ في السَّبْعَةِ: فَألْقِهِ، بِكَسْرِ الهاءِ وياءٍ بَعْدَها، وبِاخْتِلاسِ الكَسْرَةِ وبِسُكُونِ الهاءِ. وقَرَأ مُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ: بِضَمِّ الهاءِ وواوٍ بَعْدَها، وجَمَعَ في قَوْلِهِ: (إلَيْهِمْ) الهُدْهُدُ قالَ: ﴿وجَدْتُها وقَوْمَها﴾ . وفي الكِتابِ أيْضًا ضَمِيرُ الجَمْعِ في قَوْلِهِ: (أنْ لا تَعْلُوا عَلَيَّ) والكِتابُ كانَ فِيهِ الدُّعاءُ إلى الإسْلامِ لِبِلْقِيسَ وقَوْمِها. ومَعْنى: ﴿فانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ﴾ أيْ تَأمَّلْ واسْتَحْضِرْهُ في ذِهْنِكَ. وقِيلَ مَعْناهُ: فانْتَظِرْ. ماذا: إنْ كانَ مَعْنى فانْظُرْ مَعْنى (p-٧١)التَّأمُّلِ بِالفِكْرِ، كانَ انْظُرْ مُعَلَّقًا، وماذا: إمّا كَلِمَةُ اسْتِفْهامٍ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وإمّا أنْ تَكُونَ ما اسْتِفْهامًا وذا مَوْصُولٌ بِمَعْنى الَّذِي. فَعَلى الأوَّلِ يَكُونُ“ يَرْجِعُونَ ”خَبَرًا عَنْ“ ماذا ”، وعَلى الثّانِي يَكُونُ“ ذا ”هو الخَبَرُ و“ يَرْجِعُونَ ”صِلَةَ“ ذا " . وإنْ كانَ مَعْنى فانْظُرْ: فانْتَظِرْ، فَلَيْسَ فِعْلُ قَلْبٍ فَيُعَلَّقُ، بَلْ يَكُونُ ماذا كُلُّهُ مَوْصُولًا بِمَعْنى الَّذِي، أيْ فانْتَظِرِ الَّذِي يَرْجِعُونَ، والمَعْنى: فانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ حَتّى تَرُدَّ إلَيَّ ما يَرْجِعُونَ مِنَ القَوْلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب