الباحث القرآني
البسملة تقدم الكلام عليها، وما أكثر الكلام عليها في المؤلفات؛ لأنها تكون في كل مؤلف (...) عند كل فعلٍ بما يناسبه؛ فعند القراءة تقول: باسم الله أقرأ، وعند الأكل: باسم الله آكُل، وعند الشرب: باسم الله أشرب، وعند الذبح: باسم الله أذبح؛ كما قال النبي ﷺ: «فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٤٠٠)، ومسلم (١٩٦٠ / ١)، من حديث جُندب بن عبد الله البجلي.]].
وقدَّروه فعلًا لا مصدرًا، السبب؟ قدَّروه فِعلًا لا مصدرًا؛ يعني قالوا: أقرأُ، ولم يقولوا: قراءتي باسم الله، بل قالوا: التقدير: باسم الله أقرأُ، لا: باسم الله قراءتي، مثلًا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، الاستمرار بمعنى الثبات والدوام، فالفعل يدلُّ على التجدُّد والحدوث. هذه واحدة، وهذه فائدة معنوية.
وأيضًا الأصل في العمل هو الفعل، حينئذٍ هو الذي يَحْسُن أن يقدَّر دون الاسم؛ لأنَّ عمل الاسم فرعٌ ليس أصلًا، فاسم الفاعل مثلًا يعمل عمل الفعل لأنه مشبَّه به.
فصار الآن نقول: يقدر فعلًا؛ لأنها تسميةٌ على فِعْل، والفعل يقتضي التجدُّد والحدوث، هذه واحدة.
ثانيًا: لأنَّ الأصل في العمل ما هو؟ الفعل، فهو الذي يَقْوى على أن يعمل محذوفًا.
طيب، وقدروه (...)؛ يعني قالوا: ينبغي أنك تقول: باسم الله أقرأُ، لا: أقرأُ باسم الله، السبب؟
* طالب: أولًا: التبرُّك بالبداءة باسم الله تعالى، الشيء الثاني: أنَّ تقديم المعمول يفيد الحصر.
* الشيخ: صحيح، التبرُّك بالبداءة باسم الله، وثانيًا: إفادة الحصر؛ لأن تقديم المعمول يدلُّ على الحصر.
وقدَّروه خاصًّا أيضًا؛ يعني ما قالوا مثلًا عندما تريد أن تتوضأ: باسم الله أبتدئ، عندما تريد تقرأ: باسم الله أبتدئ؛ لأنه أدَلُّ على أيش؟ المقصود.
إذَن الجار والمجرور متعلِّق بمحذوف، يكون هذا المحذوف فعلًا متأخِّرًا خاصًّا.
والبسملة كثيرًا ما تقع، عندما تريد تتوضأ تقول: باسم الله، ويش التقدير؟
* طالب: باسم الله أتوضأ.
* الشيخ: باسم الله أتوضأ. أحسن من أن تقدِّر: وضوئي باسم الله، مثلًا، وأحسن من أن تقدِّر: باسم الله أبتدئ. فتقدِّر الفعل الخاصَّ متأخرًا.
أمَّا (الله) فهو عَلَمٌ على الذات المقدَّسة، ذات الله سبحانه وتعالى، ويختصُّ به، وأصله: الإله، لكن لكثرة الاستعمال حذفوا الهمزة، مثل ما حذفوا الهمزة في (الناس) وأصله: الأناس.
إذَن الإله أصله، و(إله) فِعَال بمعنى مفعول؛ أي: مَألُوه؛ أي: معبود، فهذه اللفظة إذَن مشتقَّةٌ وأصلها: الإله، والألوهية هي العبادة.
وقوله: (الرحمن) أيضًا من الأسماء المختصَّة بالله سبحانه وتعالى، وهو صفةٌ مشبَّهة، وإنما قدَّرناه صفةً مشبَّهة لأنه على وزنها؛ مثل (فَعْلان) على وزن غَضْبان، ثم إنَّ الصفة المشبَّهة تفيد الثبوت والاستمرار بخلاف اسم الفاعل.
وإنما جاءت بهذه الصيغة (الرحمن) لِسَعَةِ رحمة الله سبحانه وتعالى، وبهذا فسَّره بعض العلماء بقوله: (الرحمن) ذو الرحمة العامَّة.
و(الرحيم) فَعِيل، منين هو مشتق؟ من الرحمة أيضًا، لكنَّه يفيد الفعل؛ أي: إيصال الرحمة إلى المرحوم، والأول (الرحمن) يفيد الوصف. الأول يفيد الوصف والثاني يفيد الفعل، ولهذا قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه ٥] حينما أراد الصفة المطْلقة، وقال: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب ٤٣] حينما أراد إيصال الرحمة إلى المرحوم.
فالحاصل الآن أنَّ (الرحمن) و(الرحيم) إذا اجتمعا يُفسَّر الرحمن بأنَّه دالٌّ على الصفة أكثر من دلالته على الفعل، والرحيم دالٌّ على الفعل أكثر من دلالته على الصفة، وإنْ كان كلٌّ منهما يدلُّ على صفة الرحمة، هذا إذا اجتمعا. أمَّا إذا افترقا فمعناهما واحد.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم (﴿تَبَارَكَ﴾ [الفرقان ١] تعالَى)، ففسَّر المؤلف التبارُكَ بالتعالي، ولا شك أن هذا التفسير فيه نوعٌ من القصور؛ لأن ﴿تَبَارَكَ﴾ تدلُّ على التعالي، بل وعلى كثرة الخير وسَعتِهِ ودوامِه؛ فمعناها أنَّه كثُرتْ خيراتُه وعظمتْ واستمرَّتْ للعباد.
وقوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان ١] هذا من جملة البركة التي هي من صفات الله سبحانه وتعالى أنَّه ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ محمدٍ ﷺ.
و﴿نَزَّلَ﴾ (فَعَّلَ) تفيد النزول شيئًا فشيئًا، وهكذا القرآن الكريم كان ينزل على النبي ﷺ شيئًا فشيئًا، والكتب السابقة كانت تنزل جملةً واحدةً؛ لقوله تعالى في هذه السورة: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ فردَّ الله عليهم بقوله: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان ٣٢].
وقوله: ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ يفيد أنَّ هذا القرآن كلام الله.
فإذا قال قائلٌ: ليس في هذا دليلٌ على أنه كلام الله؛ لأنَّ الله تعالى يقول: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [الأنعام ٩٩]، والماء الذي هو المطر ليس صفةً من صفات الله، أليس كذلك؟ فلا يَلْزم إذا قال الله: إنه نزَّل القرآن، أن يكون القرآنُ صفةً من صفاته؛ لأن الله تعالى يُضيف التنزيلَ والإنزالَ إلى ما ليس من صفته.
فالجواب على ذلك أن يقال: إذا أضاف الله تعالى إنزالَ شيءٍ إليه، فإنْ كان هذا الشيءُ عينًا قائمًا بذاته أو وصفًا في عينٍ قائمةٍ بذاته فليس من صفات الله. إذا كان عينًا قائمًا بذاته فليس من صفات الله، أو كان صفةً في عينٍ قائمةٍ بذاتها فليس من صفات الله.
وإنْ كان صفةً لا يمكن أن يقوم بعينه، يعني ليس عينًا قائمًا بذاته (...) صفةً في عينٍ قائمةٍ بذاتها لَزِم أن يكون أيش؟
* طالب: صفة.
* الشيخ: صفةً من صفات الله. فالقرآن كلام، هل يمكن أنَّ الكلام يكون عينًا قائمةً بذاتها؟
* طالب: لا يمكن.
* الشيخ: لا يمكن، وهنا لم يُضَف إلى أحدٍ من الناس حتى نقول: إنه صفةٌ في عينٍ قائمةٍ بذاتها فيلزم أن يكون مخلوقًا في العين القائمة به. وعلى هذا يتعيَّن، ويش يتعيَّن؟ أن يكون كلامًا لله وصفةً من صفاته، ولهذا استدلَّ أهل السُّنَّة والجماعة بمثل هذه الآية على أنَّ القرآن كلام الله.
* يُستفاد من قوله: ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ أيضًا أنَّ الله في السماء، وجه الدلالة أو وجه الفائدة أنَّ النزول يكون من عُلُوٍّ، وإذا كان الله نزَّل الفرقان دلَّ على عُلُوِّ الله تبارك وتعالى.
وقوله: ﴿الْفُرْقَانَ﴾ هو القرآن، وُصِف بذلك لأنَّه يفرق بين الخير والشر، وبين الحقِّ والباطل، وبين أهل الحقِّ وأهل الباطل، وأهل الخير وأهل الشر، فهو فُرقانٌ في كلِّ شيء.
وكما أنَّه فرقانٌ بذاته (...) يفرِّق، فإنَّ مَن كان من أهله أُعطِي هذه الصفة، إنْ كان من أهله ولازَمَه وعَمِل به أُوتِيَ هذه الصفةَ وصار له تفريقٌ بين الحقِّ والباطل؛ لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال ٢٩].
﴿نَزَّلَ الْفُرْقَان﴾ إذا كان القرآنُ فرقانًا بين الحقِّ والباطل وبين الخير والشر لَزِم من ذلك أن يكون بيِّنًا واضحًا ليس فيه إجمال وليس فيه إشكال، ولَّا لا؟
* طالب: بلى.
* الشيخ: كيف يَلْزم ذلك؟ لأنَّه لو كان فيه إجمال أو اشتباه لم يكن فُرقانًا؛ لأنَّ المشتبه كيف يكون فرقانًا؟! فالفرقان يحتاج إلى أن يكون واضحًا موضِّحًا بيِّنًا.
فإذا قال قائل: الله يقول: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ [الزمر ٢٣]، ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾، وهذا يقتضي أن يكون فيه اشتباه.
قلنا: المراد بالمتشابه هنا الموافق بعضُه بعضًا، المشْبه بعضُه لبعضٍ في الكمال والحُسْن، هذا معنى المتشابه؛ كقوله تعالى: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة ٢٥] أي: متوافقًا ومتشاكلًا، هكذا القرآن متشابهٌ؛ بمعنى أنَّ بعضه يُشبه بعضًا في الحُسْن ويوافقه ولا يخالفه.
وأمَّا قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ... وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران ٧] فقد بيَّن الله أنَّ هذه المحكمات إليها المرجع؛ ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران ٧]، وإذا كُنَّ أمَّ الكتاب لَزِمَ أنْ يُرَدَّ المتشابهُ إلى أيِّ شيء؟ إلى المحْكَم، وإذا رُدَّ المتشابه إلى المحْكَم صار الجميع مُحْكمًا، وهذه القاعدة التي ذكرها الله هي التي عليها الراسخون في العلم، وهي التي يستريح بها الإنسانُ من الاحتمالات؛ لأنَّه يجيئنا دائمًا في القرآن وفي السُّنَّة نصوص فيها احتمالات؛ تحتمل كذا وتحتمل كذا، وعندنا نصوص أخرى واضحة صريحة ما فيها إشكال، فما الواجب علينا؟ الواجب علينا أنْ نحمل هذا المشتبه على المحْكَم؛ أي: على ما يوافقه ولا يخالفه ليكون الجميعُ مُحْكمًا.
﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ قلنا: يُستفاد من هذه الآية أيش؟ أنَّ القرآن كلَّه واضحٌ صريحٌ ليس فيه إشكال؛ لأنه لا يمكن أن يكون فرقانًا إلا على هذا الوجه، وأجبْنا عمَّا أوردناه من قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ [الزمر ٢٣]؛ الموافَقة والمشاكَلة في الكمال والحُكْم.
﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾..
* طالب: شيخ، مثال على ردِّ المتشابه للمحكم.
* الشيخ: نعم، مثال ردِّ المتشابه للمحكم قولُ الله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد ٤]؛ فإنَّ هذا قد يشتبه على الإنسان أنَّ الله تعالى معنا بذاته، ولكن عندنا نصوص مُحْكمة وهي تدلُّ على عُلُوِّ الله وأنَّ المعيَّة الذاتية التي يكون الله تعالى معنا في كلِّ مكانٍ هذه مستحيلة. فهذا من المحكم ومن المتشابه؛ ولهذا الذين في قلوبهم زيغٌ اتَّبعوا هذا المتشابه وتركوا المحْكَم وقالوا: إنَّ الله معنا بذاته في كلِّ مكان، هذا مثال في الخبر.
مثال في الحُكم: قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ»[[أخرجه البخاري (١١٦٣) عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه.]]، ودخل رجلٌ يوم الجمعة وهو يخطب فجلس، فقال: «أَصَلَّيْتَ؟»، قال: لا، قال: «قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ»[[أخرجه البخاري (٩٣١) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.]]. هذا محكم واضح (...) على طلب صلاة الركعتين لكلِّ مَن دخل المسجد، ولَّا لا؟ ألَّا يجلس حتى يصلي ركعتين.
وفيه حديث الثلاثة الذين جاؤوا الرسولَ عليه الصلاة والسلام في أصحابه، فأحدُهم جلس، وأحدُهم دخل الحلقة، والثالث انصرف[[ أخرج البخاري (٦٦)، ومسلم (٢١٧٦ / ٢٦)، عن أبي واقدٍ الليثي أنَّ رسول الله ﷺ بينما هو جالسٌ في المسجدِ والناسُ معه إذْ أقبلَ نَفَرٌ ثلاثةٌ، فأقبلَ اثنان إلى رسول الله ﷺ وذهب واحدٌ. قال: فوقفا على رسول الله ﷺ، فأمَّا أحدهما فرأى فُرجةً في الحلقة فجلس فيها، وأمَّا الآخَر فجلس خلفهم، وأمَّا الثالث فأدبر ذاهبًا، فلمَّا فرغ رسول الله ﷺ قال: «ألا أُخبِرُكم عن النَّفَر الثلاثة؟ أمَّا أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأمَّا الآخَر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأمَّا الآخَر فأعرض فأعرض الله عنه».]]، وليس في الحديث ما يدلُّ على أنَّ أحدًا منهم صلَّى ركعتين، فهذا مشتبهٌ؛ لأنه قد يدلُّ على أنها ليست مطلوبة؛ التي هي سُنَّة تحية المسجد، لكنَّنا لا يمكن أن نَدَع الحديثَ المحْكَم من أجْل هذا الاحتمال؛ لاحتمال أنَّ هؤلاء الرجال الثلاثة صلَّوا والرسول يراهم ولم يُنكر عليهم، ولاحتمال أن يكونوا على غير وضوء، ولاحتمالات أخرى، فلهذا لا نَدَع المحْكَم من أجل هذا المتشابه، والأمثلة على هذا كثيرة.
وقوله: ﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾، مَن عَبْدُه؟ محمدٌ ﷺ، وهذه العبودية أخصُّ العبوديَّات التي يوصف بها الناس؛ لأنَّ العبودية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عامَّة، وخاصَّة، وأَخَص.
العامَّة هي التي تشمل جميع الخلْق؛ مثل: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم ٩٣]، كلُّ الخلْق عباد الله، ومنه أيضًا: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ﴾ [الحجر ٤٢]، استثنى مَن اتَّبعه من عباده.
الثاني: خاصَّة؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان ٦٣].
والثالثة: أخَصُّ، وهي عبودية الرسالة؛ كقوله تعالى في نوح: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء ٣]، وقوله في محمد ﷺ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾، هذه أخصُّ من الأولى؛ لأنها عبودية خاصَّة بتكليفٍ خاصٍّ وهو الرسالة.
ووصْف الإنسان بالعبودية لله عز وجل وإضافتُه إلى الله هذا تشريفٌ ولَّا إهانة؟
* الطلبة: تشريف.
* الشيخ: تشريف، لا شكَّ أنَّ له الفخر كلَّ الفخر بأنْ يكون عبدًا لله عز وجل، وحتى الإنسان يحب أن يُنسَب إلى عبودية غيره من بني الإنسان إذا كان يحبُّه، ولهذا يقول الشاعر في معشوقته:
؎لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ∗∗∗ .......................
يعني: لا تقُل: يا محمد، يا بكر، يا خالد، يا علي، لا، هناك اسمٌ أشرفُ عنده وهو أن تقول: يا عَبْد فلانة؛ لأنه يفخر أن يكون عبدًا لها.
فعبودية الله عز وجل لا شكَّ أنها مفخرةٌ للعابد إذا أُضيف إلى الله.
﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾ محمد ﷺ.
يقول: (﴿الْفُرْقَانَ﴾ القرآن؛ لأنَّه فرَّق بين الحقِّ والباطل)، وكذلك بين الخير والشر. (﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾ محمَّدٍ ﷺ ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ﴾ أي: الإنس والجن دون الملائكة).
﴿لِيَكُونَ﴾ الضمير يعود على مَن؟
* طالب: على محمد.
* الشيخ: على محمد، ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ﴾ أي: محمدٌ ﷺ؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ﴾ [الأحزاب ٤٥، ٤٦]، فالنذير محمدٌ ﷺ.
ويحتمل أن يكون الضمير ﴿لِيَكُونَ﴾ أي: الفُرقان ﴿نَذِيرًا﴾ للعالمين؛ لقوله تعالى: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام ١٩]، فجعل الإنذار بالقرآن، ولكن هذا ليس براجح، بل الراجح الأول؛ أولًا: لأنَّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور؛ ﴿لِيَكُونَ﴾ الذي قَبْله مباشرةً ﴿عَبْدِهِ﴾. ثانيًا: أنَّ الله وَصَف النبيَّ ﷺ بذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾.
وقوله: ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ العالَم؛ يقول المؤلف: (الإنس والجن دون الملائكة). أمَّا الإنس فظاهر، وأمَّا الجنُّ فكذلك أيضًا دلَّت النصوص على أنَّ النبيَّ ﷺ مُرْسَلٌ إليهم. وما الدليل على هذا؟
* طالب: قوله تعالى: ولقد صرفنا إليك..
* الشيخ: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ [الأحقاف ٢٩]، ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ [الجن ١]، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: «كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَجِدُونَهُ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا»[[أخرجه مسلم (٤٥٠ / ١٥) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: «لكم كلُّ عظْمٍ ذُكِر اسمُ الله عليه يقع في أيديكم أوفرَ ما يكون لحمًا...» الحديث.]]، فقيَّدهم بأحكام الشريعة.
أمَّا الملائكة فالدليل على أنَّه ليس رسولًا إليهم قول الله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [الإسراء ٩٥] فأفادت الآية أنَّ الملائكة يُرسَل إليهم ملائكة، والنبيُّ ﷺ ليس بِمَلَك، فيقتضي ذلك ألَّا يكون رسولًا إلى الملائكة، لكن على الملائكة أن يصدِّقوا به، ولَّا لا؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: وهم بلا شك مصدِّقون به، لا شك أنهم مصدِّقون بالرسول ﷺ، ولكنَّه ليس مبعوثًا إليهم ولا مكلَّفًا بتبليغهم عليه الصلاة والسلام.
إذَنْ ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ﴾ من باب العامِّ الذي أُريدَ به الخاصُّ؛ لأنَّ الملائكة من العالمين؛ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة ٢]، فكلُّ ما سوى الله عالَمٌ.
وقوله: ﴿نَذِيرًا﴾ النذير هو المعْلِن أو المخْبِر بما يخوِّف، والبشيرُ: المخبِر بما يَسُرُّ، فالنذير: المخْبِر بما يخوِّف، على هذا يكون الرسول عليه الصلاة والسلام مخبِرًا بما يخوِّف، وهذا لا ينافي أيضًا أن يكون بشيرًا، وقد ذكر الله الحالين في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (٢) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾ [الكهف ١ - ٣]. فإذَن الاقتصار على البشارة أو الإنذار في مكانٍ لا يقتضي نَفْي الثاني، الرسول عليه الصلاة والسلام موصوفٌ بهذا وهذا، عليه الصلاة والسلام.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا، هذا على سبيل الإنذار، لكنَّها مقيَّدة مثل: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران ٢١]، بعضهم قال: إنَّ هذا على سبيل التهكُّم بهم، يعني (...) بالعذاب وهو لا يُبَشَّر به عادةً. وبعضهم يقول: لا، إذا قُيِّد بشيءٍ تقيَّدَ به، لكن عند الإطلاق هو في الخير.
قال الله تعالى: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان ١].
* ويستفاد من الآية الكريمة ﴿لِيَكُونَ﴾ * يستفاد منها: إثباتُ الحكمة في أفعال الله؛ لأنَّ اللام في قوله: ﴿لِيَكُونَ﴾ للتعليل، فإذا كانت للتعليل دلَّ هذا على أنها تفيد الحكمة؛ إذ العِلَّة هي الباعثةُ على الشيء أو هي غاية الشيء؛ يعني العِلَّة إمَّا غائيَّة أو باعثة، وكلٌّ منها يدلُّ على الحكمة.
* وقوله: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ﴾ * يستفاد منه: عموم رسالة النبي ﷺ، وأنَّ مَن قال: إنَّه رسولٌ إلى العرب فقط فإنَّه كافرٌ به. خذوا بالكم يا جماعة، الذين قالوا: إنَّه رسولٌ إلى العرب، قالوا: إنَّ الله تعالى يقول: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة ٢]. وهذا يقتضي أنَّه رسولٌ للعرب فقط، وأنَّ بني إسرائيل لا يُكلَّفون باتِّباع الرسول ﷺ، فما هو الجواب عن هذه الشُّبهة؟ هذه من الآيات المشتبهة.
* طلبة: (...).
* الشيخ: إي نعم، لهذا نحن نقول: ﴿فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ ليست (...)، لو كان المراد تخصيصهم لَقال: هو الذي بعث للأميِّين كما في قوله: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا﴾ [النساء ٧٩]، أرسلناك للناس، لكن ﴿فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ صحيح الرسول مبعوثٌ فيهم، بُعِث فيهم لا لهم، بُعِثَ فيهم لهم ولغيرهم؛ ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا﴾.
عندما أقول مثلًا: بُعِثَ فلانٌ في هذا البلد، أو مثلًا: خَلَق الله في هذا البلد رجلًا كريمًا، أو: رجلًا عالمًا، أو ما أشبهَ ذلك، هل هو للبلد فقط؟ لا، مكانُه في البلد صحيح، لكن ما يحصل منه عامٌّ، فالتخصيص بالمكان أو التخصيص بالزمان لا يدلُّ على تخصيص الدعوة. يُستفاد منها عموم رسالة النبي عليه الصلاة والسلام.
* ويستفاد منها أيضًا: فضْل الرسولِ ﷺ؛ حيث كُلِّف الرسالة إلى جميع الخلْق؛ لأن هذا دليلٌ على فضْله وأنه أهلٌ لهذه المهِمَّة العظيمة، ولَّا لا؟ لو أرسلتَ إنسانًا ليُصلح بين شخصين فهذا دليلٌ على فضله، لكن لو أرسلتَ إنسانًا ليُصلح بين طائفتين أو أُمَّتين هذا زاد فضلًا، ولذلك ما يوصل لهذه المهِمَّة الأخيرة إلا مَن هو جديرٌ بها، فكَونُ الرسول عليه الصلاة والسلام أُرسِل لجميع الـ(...) على فضله، حيث حمل الرسالةَ إلى جميع الخلْق.
ثم إنَّ فيه دليلًا على مِنَّة الله عليه أيضًا؛ لأنَّ كلَّ مَن انتفع برسالته ناله -أي: النبي عليه الصلاة والسلام- مِن أجره، أليس كذلك؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ»[[قوله: «مَن دلَّ على خيرٍ فله مثلُ أجر فاعله» أخرجه مسلم (١٨٩٣ / ١٣٣) عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، وأمَّا قوله: «من غير أن ينقص من أجره شيءٌ» فمن حديث آخر أخرجه مسلم (١٠١٧ / ٦٩)، والدارمي (٥٢٩) واللفظ له، من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، ولفظ الدارمي: «مَن سَنَّ سُنَّةً حسنةً عُمِلَ بها بعده كانَ له مِثْل أجر مَن عمل بها من غير أن ينقص من أجره شيءٌ ...» الحديث. ]]، ولهذا لو تُعَلِّم إنسانًا ويعمل بعلمك ويُعَلِّم آخَر ويُعَلِّم آخَر ويُعَلِّم آخَر، فإنَّه يأتيك من الأجر والفضل بقَدْر مَن انتفع به.
﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الفرقان ١، ٢].
(﴿نَذِيرًا﴾ مُخَوِّفًا مِن عذاب الله تعالى).
(﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ مِن شأنه أن يُخلَق ﴿فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان ٢] سَوَّاه تسويةً).
﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ هذه صفةٌ لقوله: ﴿الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾، فذكر الله سبحانه وتعالى إنزال الفرقان وهو تشريع وتنظيم، ثم أعقبه بقوله: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إشارةً إلى أنه يجب العمل بما جاء في هذا الفرقان؛ لأنه جاء مِمَّن؟ من مالك السماوات والأرض، والمالك له حقُّ التصرف بمملوكه بأنْ يشرع له ما شاء وينظِّم له ما شاء، وهذا هو الفائدة في قوله: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾ بعد قوله: ﴿الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾، فأتى بالتشريع أولًا أو بدستور التشريع -كما يقولون- ثم أتى بعد ذلك بعموم الْمُلْك؛ لأنه سبحانه وتعالى إذا كان هو المالك العام للسماوات والأرض لزم أنْ يكون ما شرعه حتمًا على المملوكين.
﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ طيب، هذا الْمُلْك مُلك أعيانٍ فقط أو مُلك أعيانٍ وتصرُّف؟ مُلك أعيانٍ وتصرُّف، ليش؟ لأنَّ الْمُلْك قد يكون ملْكًا للعين دون التصرُّف فيها، وقد يكون ملْكًا للتصرُّف دون العين؛ يعني قد يملك الإنسانُ التصرُّفَ في العين دون ذاتها، أو يملك عين الشيء دون التصرُّف فيه.
المالك للشيء الذي لم يتعلَّق به حقُّ أحدٍ هذا مالكٌ للعين والتصرُّف فيها. والموقوف عليه مالكٌ للعين لكن لا يملك التصرف فيها التصرف المطْلق؛ لا يبيع، ولا يَهَب، ولا تورث عنه. المستأجر مالكٌ للمنفعة، للتصرُّف في المنفعة فقط دون العين.
أمَّا الله عز وجل فإنَّ له مُلك السماوات والأرض أعيانهما والتصرف فيهما.
طيب، ما ذكر مُلك مَن فيهما ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؟
* طالب: (...).
* الشيخ: نعم؛ لأنَّ السماوات والأرض يدخل فيها كلُّ مَن فيها؛ لأنَّ مَن في السماوات والأرض هم من السماوات والأرض، أصلهم من السماوات والأرض؛ فالإنسان خُلِق من طين، والحيوانات الأخرى فيما يبدو والله أعلم -وإنْ كنَّا لا ندري عنها شيئًا- أنها خُلِقت من الأرض، لكنَّنا ما نعلم عنها شيئًا؛ لأن المهِمَّ أنْ نعرف أصْلنا، أمَّا هذه فخلقها الله لنا؛ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة ٢٩] (...).
وقوله تعالى: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾، ﴿وَلَدًا﴾ بمعنى: مولودًا، وكلمة ﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾ أعمُّ من قوله: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ [الإخلاص ٣]، لكن مع ذلك نفى الله عن نفسه اتِّخاذ الولد والولادة، فهو سبحانه وتعالى لم يلد ولم يتَّخذ ولدًا من عباده، وفي هذا إبطالٌ لقول مَن؟
* طالب: النصارى.
* الشيخ: لقول النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، ولقول اليهود الذين قالوا: عُزَير ابن الله، وللمشركين الذين قالوا: الملائكة بنات الله؛ فالله سبحانه وتعالى ما ولد شيئًا، ولم يتَّخذ أحدًا من خلْقه ولدًا؛ ﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾.
طيب، ذكرنا فيما سبق أنَّ الله تعالى إذا نَفَى عن نفسه الصفةَ فليس المراد بذلك نَفْي الصفة فقط، بل نَفْي الصفة وإثبات كمال ضدِّها، فما هو الضدُّ هنا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: إي، كمال قُدرته وغِناه، وأنَّه غير محتاجٍ إلى الولد لكمال غِناه عن غيره، ما يحتاج للولد واتِّخاذ الولد إلَّا مَن كان محتاجًا له، أمَّا مَن كان غنيًّا عنه قادرًا على ما يريد فهذا لا يتَّخذ ولدًا.
﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ نعم، الله سبحانه وتعالى ليس له شريكٌ في الملْك، ما شاركه أحدٌ، لا أحد مِن الملائكة، ولا أحد من الأنبياء، ولا أحد ممن دونهم، الْمُلْك لله وحده لا شريك له فيه.
وفي هذا إبطالٌ للذين أشركوا بالله في الربوبية؛ مثل الذين يقولون: إنَّ بعض الأولياء يتصرَّفون في الكون. هؤلاء لا شك أنهم خاطئون وأنهم كاذبون أيضًا؛ فهُم خاطئون في عقيدتهم، كاذبون فيما أخبروا به؛ فالله سبحانه وتعالى ليس له شريكٌ في مُلكه.
وقوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ إذا قال قائل: ألَسْنا نملك بيوتنا ونملك ثيابنا ونملك مواشينا؟ فهل هذا يقتضي أن يكون لله شريك؟
الجواب: لا؛ لأن ملْكنا لهذه الأشياء ليس ملكًا مطْلقًا، صحيح أنا مالكٌ لبيتي ومالكٌ لثوبي ومالكٌ لسيارتي ومالكٌ لماشيتي، لكن ملْكي لهذه الأشياء ليس ملْكًا مطْلقًا؛ بدليل أنَّني مقيَّد بالشرع في التصرف في هذه الأشياء؛ هل أملك مثلًا أن أقوم عليها فأحرقها ولَّا ما أملك؟
* طالب: حرام.
* الشيخ: لا أملك، حرام عليَّ ذلك، لا أملك مثلًا أن أشقَّ على الحيوان في الحمل والركوب وغير ذلك؛ إذَنْ فكَوْني مالكًا (...) أكون شريكًا لله تعالى في ملْكه؛ لأن ملكي هذا مقيَّد بحسب إذْن الشارع لي، لا أتصرَّف فيه إلا بما أَذِن الله سبحانه وتعالى.
﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ يقول الشارح: (مِن شأنه أن يُخلَق).
﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ تفيد العموم، لكن الشارح قيَّدها بقوله: (مِن شأنه أن يُخلَق)، ليش قيَّدها بقوله: (مِن شأنه أن يُخلَق)؟
* طالب: لكي لا يدخل القرآن.
* الشيخ: نعم، لكي لا يدخل القرآن أو نفسه مثلًا، لو قال الإنسان: هل خَلَق الله نفسَه؟ لأنَّ هذا مستحيل، مستحيلٌ أنْ يخلق نفسَه، لكنه مع ذلك يقول: (مِن شأنه أن يُخلَق)، أمَّا ما ليس من شأنه أن يُخلَق كذات الله وصفات الله فهذا ليس داخلًا من الأصل؛ لأن الله تعالى خالقٌ، والخالق غير المخلوق، وصفات الخالق ليست مخلوقة؛ لأنَّ الصفة تابعةٌ للذات، ولهذا كأن المؤلف لَمَّا يقول: (مِن شأنه أن يُخلَق) ينبِّهك لتَرُدَّ بهذه الكلمة على مَن قالوا: إنَّ القرآن مخلوقٌ، فتقول: القرآن ليس من شأنه أن يُخلَق؛ لأنه من صفات الله سبحانه وتعالى، وصفات الله تعالى غير مخلوقة.
ولكنَّه ينبغي ألَّا نقيِّد الآية بهذا، نقول: هو خَلَق كلَّ شيء. والخالق يمكن أن يكون هو المخلوق ولَّا غير المخلوق؟ لا يمكن، فإذا كان لا يمكن دلَّ ذلك على أنَّ الله تعالى غير مخلوق، وعلى أنَّ صفاته أيضًا غير مخلوقة؛ لأنَّ الصفة تابعةٌ للموصوف، وحينئذٍ لا يحتاج أن نقول: من شأنه أن يُخلق؛ لأنَّنا إذا قلنا: من شأنه أن يُخلَق، قيَّدْنا الآية الكريمة.
ويمكن أن يحتجَّ علينا الذي يقول بخلق القرآن فيقول: مَن قال لك أنَّ الآية مقيدةٌ بهذا؟
فنحن نقول: ﴿خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ على سبيل الإطلاق وعلى سبيل العموم، وهذا لا يقتضي أن يكون القرآنُ مخلوقًا؛ لأنَّ الخالق غير المخلوق، والقرآن من صفات الله، وصفات الخالق قطعًا غير مخلوقة؛ لأنَّ الصفات تابعةٌ للذات.
إذَن الآن لو احتجَّ علينا المعتزلة والجهمية الذين يقولون: إنَّ القرآن مخلوق، فبماذا نُجيبهم؟ نُجيبهم بأحد وجهين:
الوجه الأول: ما أشار إليه المؤلف وهو أن يُقال: إنَّ هذا من باب العامِّ المراد به الخاص؛ يعني كلَّ شيءٍ مِن شأنه أن يُخلق، هذا وجه، وبهذا أجاب كثيرٌ من السلف وقالوا: إذا قال قائل: إنَّ القرآن مخلوقٌ، واستدلَّ بقوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾، فقُل له: إنَّ الله قال عن ريح عاد: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾، ومع ذلك هي ما دمَّرت السماء ولا الأرض ولا المساكن؛ ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف ٢٥].
والبعض الآخر من العلماء يقول: لا، الآية على عمومها، والقرآن غير داخلٍ إطلاقًا حتى نحتاج إلى إخراجه؛ لماذا؟ لأنَّه إذا كان خالقًا فالخالق غير المخلوق، والقرآن كلام الله، وكلام الله من صفاته، وصفات الخالق غير مخلوقة؛ لأن الصفة تابعةٌ لأيِّ شيءٍ؟ للموصوف.
﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ الفاء ويش تدلُّ عليه؟ تدلُّ على الترتيب.
و(قدَّره) بمعنى صوَّره؛ لأنَّ الخلْق قد يوجد لكنْ بدون تسوية، فالله تعالى خَلَق كلَّ شيءٍ فقدَّره؛ أي: سوَّاه.
والدليل على أنَّ التقدير هنا بمعنى التسوية قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ [الأعلى ٢]، وعلى هذا فالترتيب في قوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ﴾ الترتيب حسب الواقع، الترتيب واقعي؛ لأنَّ التسوية تكون بعد الخلْق؛ أنت عندما توجِد بناءً أوَّلًا توجِد الهيكلَ ثم تُدخل التعديلات والتسويات، هكذا الله سبحانه وتعالى خَلَق كلَّ شيءٍ فقدَّره؛ أي: سوَّاهُ تسويةً مناسبةً لِمَا خُلِق له.
وقال بعضهم: إنَّ معنى ﴿قَدَّرَهُ﴾ أي: قضاه، فتدلُّ الآية على القضاء والخلْق. وعلى هذا القول الذي يجعل التقدير بمعنى القضاء يكون في الآية ترتيب غير واقعي؛ والسبب: لأنَّ التقدير بمعنى القضاء سابقٌ للخلْق، ولَّا لا؟ لأنَّ الله يقضي أولًا ثم يخلق ثانيًا.
ولكن أيُّهما الأفضل؟ الأفضل أن الترتيب يكون واقعيًّا وأن الخلْق قبل التقدير، ويدلُّ على ذلك أيضًا الآية الكريمة: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾، فكَوْنه يقول: ﴿خَلَقَ فَسَوَّى﴾ فإن القرآن يفسِّر بعضُه بعضًا، ونجعل التقدير هنا بمعنى التسوية.
وكونه يأتي الترتيب على خلاف الواقع، هذا وإن جاء في اللغة العربية لكنَّه خلاف المعهود، وإلَّا فقد قيل: إنَّ مَن تاب ثم تاب أبوه ثم تاب مِن بعد ذلك جدُّه، فـ(...) الجد هي الأولى، وهي في الترتيب هنا هي الأخيرة، ولكن الأقرب والأَوْلى ما مشى عليه المؤلف وأنَّ التقدير هنا بمعنى التسوية؛ لأنَّ كلام الله تعالى يفسِّر بعضُه بعضًا (...).
{"ayahs_start":1,"ayahs":["تَبَارَكَ ٱلَّذِی نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِیَكُونَ لِلۡعَـٰلَمِینَ نَذِیرًا","ٱلَّذِی لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَمۡ یَتَّخِذۡ وَلَدࣰا وَلَمۡ یَكُن لَّهُۥ شَرِیكࣱ فِی ٱلۡمُلۡكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَیۡءࣲ فَقَدَّرَهُۥ تَقۡدِیرࣰا"],"ayah":"ٱلَّذِی لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَمۡ یَتَّخِذۡ وَلَدࣰا وَلَمۡ یَكُن لَّهُۥ شَرِیكࣱ فِی ٱلۡمُلۡكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَیۡءࣲ فَقَدَّرَهُۥ تَقۡدِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق