قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَرْثٍ فِي الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مُتَوَكِّئٌ عَلَى عَسِيب، فَمَرَّ بِقَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ. قَالَ: فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ فَقَالُوا [[في ت: "فقال بعضهم".]] يَا مُحَمَّدُ، مَا الرُّوحُ؟ فَمَا زَالَ مُتَوَكِّئًا عَلَى الْعَسِيبِ، قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَالَ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَدْ قُلْنَا لَكُمْ لَا تَسْأَلُوهُ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، بِهِ [[المسند (١/٣٨٩) وصحيح البخاري برقم (١٢٥، ٧٤٦٢) وصحيح مسلم برقم (٢٧٩٤) .]] . وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ [[في ف: "مع رسول الله".]] ﷺ فِي حَرْث، وَهُوَ مُتَوَكِّئٌ [[في ت، ف: "متكئ".]] عَلَى عَسِيبٍ، إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ [[في ت، ف: "باليهود".]] فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَقَالَ: مَا رَابَكُمْ [[في ت، ف: "ما رأيكم".]] إِلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْتَقْبِلَنَّكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ. فَقَالُوا سَلُوهُ فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فلم يرد عليه شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ [[في ت، ف: "يسألونك".]] عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ الْآيَةَ [[صحيح البخاري برقم (٤٧٢١) .]] .
وَهَذَا السِّيَاقُ يَقْتَضِي [[في ت: "تقضي".]] فِيمَا يَظْهَرُ بَادِيَ الرَّأْيِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَأَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ حِينَ سَأَلَهُ الْيَهُودُ، عَنْ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ، مَعَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ نَزَلَتْ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً كَمَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِأَنَّهُ يُجِيبُهُمْ عَمَّا سَأَلُوا بِالْآيَةِ الْمُتَقَدَّمِ إِنْزَالُهَا عَلَيْهِ، وَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَكَّةَ مَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِيَهُودَ: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ عَنْهُ هَذَا الرَّجُلَ. فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. فَسَأَلُوهُ، فَنَزَلَتْ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾ قَالُوا: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا، أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَ: وَأَنَزْلَ اللَّهُ: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الْكَهْفِ: ١٠٩] [[المسند (١/٢٥٥) .]] .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سَأَلَ أهلُ الْكِتَابِ رسولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الرُّوحِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾ فَقَالُوا يَزْعُمُ [[في ت، ف: "تزعم".]] أَنَّا لَمْ نُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَقَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَهِيَ الْحِكْمَةُ ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ ؟ [الْبَقَرَةِ: ٢٦٩] قَالَ: فَنَزَلَتْ: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لُقْمَانَ: ٢٧] . قَالَ: مَا أُوتِيتُمْ مِنْ عِلْمٍ، فَنَجَّاكُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَهُوَ كَثِيرٌ طَيِّبٌ وَهُوَ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ [[تفسير الطبري (١٥/١٠٤) .]] .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾ فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَتَاهُ أَحْبَارُ يَهُودَ. وَقَالُوا يا محمد، ألم يَبْلُغْنَا عَنْكَ أَنَّكَ تَقُولُ: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾ أفَعَنَيْتَنَا أَمْ عَنَيْتَ قَوْمَكَ؟ فَقَالَ: "كُلًّا قَدْ عَنَيْتُ". قَالُوا: إِنَّكَ تَتْلُو أَنَّا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَفِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وَقَدْ آتَاكُمْ مَا إِنْ عَمِلْتُمْ بِهِ اسْتَقَمْتُمْ"، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [لُقْمَانَ: ٢٧] .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالرُّوحِ هَاهُنَا عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ [بِالرُّوحِ] [[زيادة من ت، ف، أ.]] : أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ.
قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَخْبِرْنَا عَنِ [[في ت، ف، أ: "ما".]] الرُّوحِ؟ وَكَيْفَ تَعَذَّبُ الرُّوحُ الَّتِي فِي الْجَسَدِ، وَإِنَّمَا الرُّوحُ مِنَ اللَّهِ؟ وَلَمْ يَكُنْ نَزَلَ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ، فَلَمْ يُحِرْ إِلَيْهِمْ شَيْئًا. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾ فَأَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ، فَقَالُوا: مَنْ جَاءَكَ بِهَذَا؟ فَقَالَ: "جَاءَنِي بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ " فَقَالُوا لَهُ: وَاللَّهِ مَا قَالَهُ لَكَ إِلَّا عَدُوٌّ لَنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ] [[زيادة من ف، أ.]] ﴾ الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: ٩٧] .
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالرُّوحِ هَاهُنَا: جِبْرِيلُ. قَالَهُ قَتَادَةُ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْتُمُهُ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا: مَلَكٌ عَظِيمٌ بِقَدْرِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا. قَالَ [[في ت، ف: "قاله".]] عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ يَقُولُ: الرُّوحُ: مَلَكٌ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْس [[في ت: "ابن عباس".]] الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ رِزْقٍ أَبُو هُرَيْرَةَ [[في هـ، ف، أ: "روق أبو هبيرة"، والمثبت من الطبراني.]] حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا، لَوْ قِيلَ لَهُ: الْتَقِمِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ [[في ف: "والأرض".]] بِلَقْمَةٍ وَاحِدَةٍ، لَفَعَلَ، تَسْبِيحُهُ: سُبْحَانَكَ حَيْثُ كُنْتَ" [[المعجم الكبير (١١/١٩٥) وقال الهيثمي في المجمع (١/٨٠) : "وهب بن رزق لم أر من ذكر له ترجمة".]] .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، بَلْ مُنْكَرٌ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَبُو نِمْران يَزِيدُ بْنُ سَمُرَة صَاحِبُ قَيْسَارِيَةَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ قَالَ: هُوَ مَلَك مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ وَجْهٍ، لِكُلِّ وَجْهٍ مِنْهَا سَبْعُونَ أَلْفَ لِسَانٍ، لِكُلِّ لِسَانٍ مِنْهَا [سَبْعُونَ] [[زيادة من ت، ف، أ، والطبري.]] أَلْفَ لُغَةٍ، يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى بِتِلْكَ اللُّغَاتِ كُلِّهَا، يَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكًا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة [[تفسير الطبري (١٥/١٠٥) .]] .
وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مَلَكٌ، لَهُ مِائَةُ أَلْفِ رَأْسٍ، لِكُلِّ رَأْسٍ مِائَةُ أَلْفِ وَجْهٍ، فِي كُلِّ وَجْهٍ مِائَةُ أَلْفِ فَمٍ، فِي كُلِّ فَمٍ مِائَةُ أَلْفِ لِسَانٍ، يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى بِلُغَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ: طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُوَرِ بَنِي آدَمَ.
وَقِيلَ: طَائِفَةٌ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ وَلَا تَرَاهُمْ [[في أ: "ولا تراهم الملائكة".]] فَهُمْ لِلْمَلَائِكَةِ كَالْمَلَائِكَةِ لِبَنِي آدَمَ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ أَيْ: مِنْ شَأْنِهِ، وَمِمَّا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ دُونَكُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾ أَيْ: وَمَا أَطْلَعَكُمْ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا عَلَى الْقَلِيلِ، فَإِنَّهُ لَا يُحِيطَ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ عِلْمَكُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وَهَذَا الَّذِي تَسْأَلُونَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرُّوحِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُطْلِعْكُمْ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُطْلِعْكُمْ إِلَّا عَلَى الْقَلِيلِ مِنْ عِلْمِهِ تَعَالَى. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ: أَنَّ الْخَضِرَ نَظَرَ إِلَى عُصْفُورٍ وَقَعَ عَلَى حَافَّةِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً، أَيْ: شَرِبَ مِنْهُ بِمِنْقَارِهِ، فَقَالَ: يَا مُوسَى، مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ وَعِلْمُ الْخَلَائِقِ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ. أَوْ كَمَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَمْ يُجِبْهُمْ عَمَّا سَأَلُوا؛ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ. وَقِيلَ: أَجَابَهُمْ، وَعَوَّلَ السُّهَيْلِيُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ أَيْ: مِنْ شَرْعِهِ، أَيْ: فَادْخُلُوا فِيهِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا مِنْ طَبْعٍ وَلَا فَلْسَفَةٍ، وَإِنَّمَا يَنَالُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ. وَفِي هَذَا الْمَسْلَكِ الَّذِي طَرَقَهُ وَسَلَكَهُ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الرُّوحَ هِيَ النَّفْسُ، أَوْ غَيْرُهَا، وَقَرَّرَ أَنَّهَا ذَاتٌ لَطِيفَةٌ كَالْهَوَاءِ، سَارِيَةٌ فِي الْجَسَدِ كَسَرَيَانِ الْمَاءِ فِي عُرُوقِ الشَّجَرِ. وَقَرَّرَ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي يَنْفُخُهَا الْمَلَكُ فِي الْجَنِينِ هِيَ النَّفْسُ بِشَرْطِ اتِّصَالِهَا بِالْبَدَنِ، وَاكْتِسَابِهَا بِسَبَبِهِ صِفَاتِ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ، فَهِيَ إِمَّا نَفْسٌ مُطَمْئِنَةٌ أَوْ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ. قَالَ: كَمَا أَنَّ الْمَاءَ هُوَ حَيَاةُ الشَّجَرِ، ثُمَّ يَكْسِبُ [[في ت، ف: "يكتسب".]] بِسَبَبِ اخْتِلَاطِهِ مَعَهَا اسْمًا خَاصًّا، فَإِذَا اتَّصَلَ بِالْعِنَبَةِ وَعُصِرَ مِنْهَا صَارَ إِمَّا مُصْطَارًا أَوْ خَمْرًا، وَلَا يُقَالُ لَهُ: "مَاءٌ" حِينَئِذٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَهَكَذَا لَا يُقَالُ لِلنَّفْسِ: "رُوحٌ" إِلَّا عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ لِلرُّوحِ: نَفْسٌ [[في ت، ف: "نفسا" وهو خطأ.]] إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا تَئُولُ إِلَيْهِ. فَحَاصِلُ مَا يَقُولُ أَنَّ الرُّوحَ أَصْلُ النَّفْسِ وَمَادَّتُهَا، وَالنَّفْسُ مُرَكَّبَةٌ مِنْهَا وَمِنَ اتِّصَالِهَا بِالْبَدَنِ، فَهِيَ هِيَ مَنْ وَجْهٍ لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ [[الروض الأنف (١/ ١٩٨، ١٩٩) .]] وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي مَاهِيَةِ الرُّوحِ وَأَحْكَامِهَا وَصَنَّفُوا فِي ذَلِكَ كُتُبًا. وَمِنْ أَحْسَنِ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ مَنْدَهْ، فِي كِتَابٍ سَمِعْنَاهُ فِي: الروح [[وللإمام ابن القيم، رحمه الله، كتاب الروح مطبوع بتحقيق بسام العموش، أكثر النقل فيه عن كتاب ابن مندة هذا وذكر خلاصته فيه.]] .
{"ayah":"وَیَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّی وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِیلࣰا"}