الباحث القرآني

﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ الظّاهِرُ عِنْدَ المُنْصِفِ أنَّ السُّؤالَ كانَ عَنْ حَقِيقَةِ الرُّوحِ الَّذِي هو مَدارُ البَدَنِ الإنْسانِيِّ ومَبْدَأُ حَياتِهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مِن أدَقِّ الأُمُورِ الَّتِي لا يَسَعُ أحَدًا إنْكارُها ويَشْرَئِبُّ كُلٌّ إلى مَعْرِفَتِها وتَتَوَفَّرُ دَواعِي العُقَلاءِ إلَيْها وتَكِلُّ الأذْهانُ عَنْها ولا تَكادُ تُعْلَمُ إلّا بِوَحْيٍ، وزَعَمَ ابْنُ القَيِّمِ أنَّ المَسْؤُولَ عَنْهُ الرَّوْحُ (p-152)الَّذِي أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ في كِتابِهِ أنَّهُ يَقُومُ يَوْمَ القِيامَةِ مَعَ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ قالَ: لِأنَّهم إنَّما يَسْألُونَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَنْ أمْرٍ لا يُعْرَفُ إلّا بِالوَحْيِ؛ وذَلِكَ هو الرُّوحُ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ تَعالى لا يَعْلَمُهُ النّاسُ، وأمّا أرْواحُ بَنِي آدَمَ فَلَيْسَتْ مِنَ الغَيْبِ إلى آخِرِ ما قالَ وقَدْ أطالَ، وفي البُحُورِ الزّاخِرَةِ: أنَّ هَذا هو الَّذِي عَلَيْهِ أكْثَرُ السَّلَفِ بَلْ كُلُّهُمْ، والحَقُّ ما ذَكَرْنا وهو الَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ كَما نَصَّ عَلَيْهِ في البَحْرِ وغَيْرِهِ. نَعَمْ ما زَعَمَهُ ابْنُ القَيِّمِ مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فَقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: الرَّوْحُ خَلْقٌ مِن خَلْقِ اللَّهِ تَعالى وصَوَّرَهم عَلى صُورَةِ بَنِي آدَمَ وما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ مَلَكٌ إلّا ومَعَهُ واحِدٌ مِنَ الرُّوحِ ثُمَّ تَلا: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والمَلائِكَةُ﴾ . وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ وغَيْرُهُ مِن طَرِيقِ عَطاءٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ في الرُّوحِ المَسْؤُولِ عَنْهُ: هو مَلِكٌ واحِدٌ لَهُ عَشَرَةُ آلافِ جَناحٍ؛ جَناحانِ مِنها ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ لَهُ ألْفُ وجْهٍ لِكُلِّ وجْهٍ لِسانٌ وعَيْنانِ وشَفَتانِ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعالى بِذَلِكَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وأخْرَجَ هو وغَيْرُهُ أيْضًا عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ قالَ فِيهِ: هو مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ لَهُ سَبْعُونَ ألْفَ وجْهٍ لِكُلِّ وجْهٍ مِنها سَبْعُونَ ألْفَ لِسانٍ لِكُلِّ لِسانٍ مِنها سَبْعُونَ ألْفَ لُغَةٍ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعالى بِتِلْكَ اللُّغاتِ كُلِّها، يَخْلُقُ اللَّهُ تَعالى مِن كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلِكًا يَطِيرُ مَعَ المَلائِكَةِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وتُعُقِّبَ هَذا بِأنَّهُ لا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وطَعَنَ الإمامُ في ذَلِكَ بِما طَعَنَ. وأخْرَجَ ابْنُ الأنْبارِيِّ في كِتابِ الأضْدادِ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: الرُّوحُ خَلْقٌ مِنَ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لا يَراهُمُ المَلائِكَةُ كَما لا تَرَوْنَ أنْتُمُ المَلائِكَةَ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ سَلْمانَ أنَّهُ قالَ: الإنْسُ والجِنُّ عَشَرَةُ أجْزاءٍ فالإنْسُ جُزْءٌ، والجِنُّ تِسْعَةُ أجْزاءٍ، والمَلائِكَةُ والجِنُّ عَشَرَةُ أجْزاءٍ، فالجِنُّ مِن ذَلِكَ جُزْءٌ، والمَلائِكَةُ تِسْعَةٌ، والمَلائِكَةُ والرُّوحُ عَشَرَةُ أجْزاءٍ، فالمَلائِكَةُ مِن ذَلِكَ جُزْءٌ، والرُّوحُ تِسْعَةُ أجْزاءٍ والرُّوحُ والكُرُوبِيُّونَ عَشَرَةُ أجْزاءٍ، فالرُّوحُ مِن ذَلِكَ جُزْءٌ، والكُرُوبِيُّونَ تِسْعَةُ أجْزاءٍ، وقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: الرُّوحُ هو جِبْرائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وقَدْ سُمِّيَ رُوحًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ والسُّؤالُ عَنْ كَيْفِيَّةِ نُزُولِهِ وإلْقائِهِ الوَحْيَ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وقالَ بَعْضُهُمْ: هو القُرْآنُ وقَدْ سُمِّيَ رُوحًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ السُّؤالَ عَنْ حُدُوثِ الرُّوحِ بِالمَعْنى الأوَّلِ وقِدَمِهِ ولَيْسَ بِشَيْءٍ كَما سَتَسْمَعُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. وضَمِيرُ يَسْألُونَ لِلْيَهُودِ؛ فَقَدْ أخْرَجَ الشَّيْخانِ وغَيْرُهُما «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: كُنْتُ أمْشِي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في خِرَبِ المَدِينَةِ وهو مُتَّكِئٌ عَلى عَسِيبٍ فَمَرَّ بِقَوْمٍ مِنَ اليَهُودِ فَقالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. وقالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْألُوهُ. فَسَألُوهُ فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ، ما الرُّوحُ؟ فَما زالَ مُتَوَكِّئًا عَلى العَسِيبِ فَظَنَنْتُ أنَّهُ يُوحى إلَيْهِ، فَلَمّا نَزَلَ الوَحْيُ قالَ: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ الآيَةَ». وقالَ بَعْضُهم لِقُرَيْشٍ لِما أخْرَجَ أحْمَدُ والنَّسائِيُّ والتِّرْمِذِيُّ، والحاكِمُ وصَحَّحاهُ وابْنُ حِبّانَ وجَماعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَتْ قُرَيْشٌ لِلْيَهُودِ: أعْطُونا شَيْئًا نَسْألُ هَذا الرَّجُلَ. فَقالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ فَسَألُوهُ فَنَزَلَتْ: ﴿ويَسْألُونَكَ﴾ إلَخْ. وفِي السِّيَرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ قُرَيْشًا بَعَثَتِ النَّضْرَ بْنَ الحارِثِ. وعُقْبَةَ بْنَ أبِي مُعَيْطٍ إلى أحْبارِ يَهُودَ بِالمَدِينَةِ وقالُوا لَهُمْ: سَلُوهم مُحَمَّدًا فَإنَّهم أهْلُ كِتابٍ عِنْدَهم مِنَ العِلْمِ ما لَيْسَ عِنْدَنا فَخَرَجا حَتّى قَدِما المَدِينَةَ فَسَألُوهم فَقالُوا: سَلُوهُ عَنْ أصْحابِ الكَهْفِ وعَنْ ذِي القَرْنَيْنِ وعَنِ الرُّوحِ فَإنْ أجابَ عَنْها أوْ سَكَتَ (p-153)فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، وإنْ أجابَ عَنْ بَعْضٍ وسَكَتَ عَنْ بَعْضٍ فَهو نَبِيٌّ، فَجاؤُوا وسَألُوهُ فَبَيَّنَ لَهم ﷺ قَضِيَّتَيْنِ وأبْهَمَ أمْرَ الرُّوحِ وهو مُبْهَمٌ في التَّوْراةِ، والآيَةُ عَلى هَذا وما قَبْلَهُ مَكِّيَّةٌ وعَلى خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ مَدَنِيَّةٌ، وجَمَعَ بَعْضُهم بَيْنَ ذَلِكَ بِأنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ فَتَدَبَّرْ، وأيًّا ما كانَ فَوَجْهُ تَعْقِيبِ ما تَقَدَّمَ بِها إنْ فُسِّرَ الرُّوحُ بِالقُرْآنِ ظاهِرٌ مُلائِمٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ﴾ ولِما بَعْدَهُ مِنَ الِامْتِنانِ عَلَيْهِ وعَلى مُتَّبِعِيهِ بِحِفْظِهِ في الصُّدُورِ والبَقاءِ وكَذَلِكَ إنْ فُسِّرَ بِجِبْرائِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وأمّا عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ فَقَدْ ورَدَ مُعْتَرِضًا دَلالَةً عَلى خَسارِ الظّالِمِينَ وضَلالِهِمْ وأنَّهم مُشْتَغِلُونَ عَنْ تَدَبُّرِ الكِتابِ والِانْتِفاعِ بِهِ إلى التَّعَنُّتِ بِسُؤالِ ما اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ سَدَّ طَرِيقَ مَعْرِفَتِهِ، ويُقالُ نَحْوُ هَذا عَلى القَوْلِ المَرْوِيِّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ ﴿قُلِ الرُّوحُ﴾ أُظْهِرَ في مَقامِ الإضْمارِ إظْهارًا لِكَمالِ الِاعْتِناءِ ﴿مِن أمْرِ رَبِّي﴾ كَلِمَةُ «مِن» تَبْعِيضِيَّةٌ، وقِيلَ: بَيانِيَّةٌ، والأمْرُ واحِدُ الأُمُورِ بِمَعْنى الشَّأْنِ، والإضافَةُ لِلِاخْتِصاصِ العِلْمِيِّ لا الإيجادِيِّ؛ إذْ ما مِن شَيْءٍ إلّا وهو مُضافٌ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ بِهَذا المَعْنى، فِيها مِن تَشْرِيفِ المُضافِ ما لا يَخْفى كَما في الإضافَةِ الثّانِيَةِ مِن تَشْرِيفِ المُضافِ إلَيْهِ؛ أيْ: هي مِن جِنْسِ ما اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعالى بِعِلْمِهِ مِنَ الأسْرارِ الخَفِيَّةِ الَّتِي لا تَكادُ تُدْرِكُها عُيُونُ عُقُولِ البَشَرِ. ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَلِيلا﴾ لا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهُ بِأمْثالِ ذَلِكَ، وهَذا عَلى ما قِيلَ: تَرْكٌ لِلْبَيانِ ونَهْيٌ لَهم عَنِ السُّؤالِ. أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ قالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِمَكَّةَ «فَلَمّا هاجَرَ ﷺ إلى المَدِينَةِ أتاهُ أحْبارُ يَهُودَ فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ، ألَمْ يَبْلُغْنا عَنْكَ أنَّكَ تَقُولُ: ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَلِيلا﴾ أفَعَنَيْتَنا أمْ قَوْمَكَ؟ قالَ: «كُلًّا قَدْ عَنَيْتُ». قالُوا: فَإنَّكَ تَتْلُو أنّا أُوتِينا التَّوْراةَ وفِيها تِبْيانُ كُلِّ شَيْءٍ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هِيَ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى قَلِيلٌ، وقَدْ آتاكُمُ اللَّهُ تَعالى ما إنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ». فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولَوْ أنَّما في الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أقْلامٌ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾» وكَأنَّهُ ﷺ أشارَ إلى أنَّ المُرادَ في الآيَةِ - تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ - مِنَ الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، ولا شَكَّ أنَّها أقَلُّ قَلِيلٍ بِالنِّسْبَةِ إلى مَعْلُوماتِ اللَّهِ تَعالى الَّتِي لا نِهايَةَ لَها، وبِهَذا يُرَدُّ عَلى القائِلِ بِالعُمُومِ الحَقِيقِيِّ. وفِي رِوايَةِ النَّسائِيِّ وابْنِ حِبّانَ والتِّرْمِذِيِّ والحاكِمِ وصَحَّحاها أنَّ اليَهُودَ قالُوا حِينَ نَزَلَتِ الآيَةُ: أُوتِينا عِلْمًا كَثِيرًا؛ أُوتِينا التَّوْراةَ ومَن أُوتِيَ التَّوْراةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُلْ لَوْ كانَ البَحْرُ﴾ الآيَةَ. ولا يَخْفى أنَّ هَذا أيْضًا لا يَلْزَمُ مِنهُ التَّناقُضُ؛ لِأنَّ الكَثْرَةَ والقِلَّةَ مِنَ الأُمُورِ الإضافِيَّةِ فالشَّيْءُ يَكُونُ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلى ما فَوْقَهُ وكَثِيرًا بِالنِّسْبَةِ إلى ما تَحْتَهُ فَما في التَّوْراةِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلى ما في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى شَأْنُهُ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلى أمْرٍ آخَرَ. وفِي رِوايَةٍ أخْرَجَها ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عِكْرِمَةَ «أنَّهُ ﷺ لَمّا قالَ ذَلِكَ قالَ اليَهُودُ: نَحْنُ مُخْتَصُّونَ بِهَذا الخِطابِ فَقالَ: بَلْ نَحْنُ وأنْتُمْ فَقالُوا: ما أعْجَبَ شَأْنَكَ ساعَةَ تَقُولُ: ﴿ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ وساعَةَ تَقُولُ هَذا، فَنَزَلَ: ﴿ولَوْ أنَّما في الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أقْلامٌ﴾ إلَخْ». ولا يَلْزَمُ مِنهُ التَّناقُضُ أيْضًا عَلى نَحْوِ ما تَقَدَّمَ بِأنْ يُقالَ: الحِكْمَةُ الإنْسانِيَّةُ أنْ يُعْلَمَ مِنَ الخَيْرِ ما تَسَعُهُ القُوَّةُ البَشَرِيَّةُ بَلْ ما يَنْتَظِمُ بِهِ أمْرُ المَعاشِ والمَعادِ وهو قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلى مَعْلُوماتِهِ تَعالى كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلى غَيْرِها، وإلى تَعْمِيمِ الخِطابِ بِحَيْثُ يَشْمَلُ النّاسَ أجْمَعِينَ ذَهَبَ ابْنُ جُرَيْجٍ كَما أخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلى القَوْلِ بِالعُمُومِ ظاهِرُ (p-154)قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ والأعْمَشِ: «وما أُوتُوا» فَإنَّهُ يَقْتَضِي الِاخْتِصاصَ بِالسّائِلِينَ، والحَدِيثُ الأخِيرُ الَّذِي هو نَصٌّ فِيهِ قالَ العِراقِيُّ: إنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، والحَدِيثُ الأوَّلُ اللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِحالِهِ، وقالَ غَيْرُ واحِدٍ: مَعْنى كَوْنِ الرُّوحِ مِن أمْرِهِ تَعالى أنَّهُ مِنَ الإبْداعِيّاتِ الكائِنَةِ بِالأمْرِ التَّكْوِينِيِّ مِن غَيْرِ تَحَصُّلٍ مِن مادَّةٍ وتَوَلُّدٍ مِن أصْلٍ كالجَسَدِ الإنْسانِيِّ فالمُرادُ مِنَ الأمْرِ واحِدُ الأوامِرِ أعْنِي كُنْ، والسُّؤالُ عَنِ الحَقِيقَةِ والجَوابُ إجْمالِيٌّ، ومَآلُهُ أنَّ الرُّوحَ مِن عالَمِ الأرْضِ مُبْدَعَةٌ مِن غَيْرِ مادَّةٍ لا مِن عالَمِ الخَلْقِ وهو مِنَ الأُسْلُوبِ الحَكِيمِ كَجَوابِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ سُؤالَ فِرْعَوْنَ إيّاهُ ما رَبُّ العالَمِينَ إشارَةً إلى أنَّ كُنْهَ حَقِيقَتِهِ مِمّا لا يُحِيطُ بِهِ دائِرَةُ إدْراكِ البَشَرِ وإنَّما الَّذِي يُعْلَمُ هَذا المِقْدارُ الإجْمالِيُّ المُنْدَرِجُ تَحْتَ ما اسْتُثْنِيَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَلِيلا﴾ أيْ: إلّا عِلْمًا قَلِيلًا تَسْتَفِيدُونَهُ مِن طُرُقِ الحَواسِّ فَإنَّ تَعَقُّلَ المَعارِفِ النَّظَرِيَّةِ إنَّما هو في الأكْثَرِ مِن إحْساسِ الجُزْئِيّاتِ ولِذَلِكَ قِيلَ: مَن فَقَدَ حِسًّا فَقَدْ فَقَدَ عِلْمًا، ولَعَلَّ أكْثَرَ الأشْياءِ لا يُدْرِكُهُ الحِسُّ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَحْسُوسٍ أوْ مَحْسُوسًا مَنَعَ مِن إحْساسِهِ مانِعٌ كالغَيْبَةِ مَثَلًا وكَذا لا يُدْرِكُ شَيْئًا مِن عَرَضِيّاتِهِ لِيَرْسُمَهُ بِها فَضْلًا عَنْ أنْ يَنْتَقِلَ مِنها الفِكْرُ إلى الذّاتِيّاتِ لِيَقِفَ عَلى الحَقِيقَةِ، وظاهِرُ كَلامِ بَعْضِهِمْ أنَّ الوُقُوفَ عَلى كُنْهِ الرُّوحِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الجَوابَيْنِ. وفَرَّقَ الخَفاجِيُّ بِأنَّ بَيانَ كُنْهِ الرُّوحِ مُمْكِنٌ بِخِلافِ كُنْهِ الذّاتِ الأقْدَسِ، وفي الكَشْفِ أنَّ سَبِيلَ مَعْرِفَةِ الرُّوحِ إزالَةُ الغِشاءِ عَنْ أبْصارِ القُلُوبِ بِاجْتِلاءِ كُحْلِ الجَواهِرِ مِن كَلامِ عَلّامِ الغُيُوبِ؛ فَهو عِنْدَ المُكْتَحِلِينَ أجْلى جَلِيٍّ وعِنْدَ المُشْتَغِلِينَ أخْفى خَفِيٍّ، ويُشْكِلُ عَلى هَذا ما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قالَ: لَقَدْ قُبِضَ النَّبِيُّ ﷺ وما يَعْلَمُ الرُّوحَ، ولَعَلَّ عَبْدَ اللَّهِ هَذا يَزْعُمُ أنَّها يَمْتَنِعُ العِلْمُ بِها وإلّا فَلَمْ يُقْبَضْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتّى عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ يُمْكِنُ العِلْمُ بِهِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ ما أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وقالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ وسُئِلَ البُخارِيُّ عَنْهُ فَقالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ مُعاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ««إنِّي قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ ما قُدِّرَ لِي فَنَعَسْتُ في صَلاتِي حَتّى اسْتَثْقَلْتُ فَإذا أنا بِرَبِّي عَزَّ وجَلَّ في أحْسَنِ صُورَةٍ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأعْلى؟ قالَ: يا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأعْلى؟ قُلْتُ: لا أدْرِي رَبِّ، قالَ: يا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأعْلى؟ قُلْتُ: لا أدْرِي رَبِّ، قُلْتُ: لا أدْرِي رَبِّ، فَرَأيْتُهُ وضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفِي حَتّى وجَدْتُ بَرْدَ أنامِلِهِ بَيْنَ صَدْرِي وتَجَلّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وعَرَفْتُ»» الحَدِيثَ. و«رَأيْتُ» يُعْلَمُ في الخَبَرِ السّابِقِ في بَعْضِ الكُتُبِ مَضْبُوطًا بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ والرُّوحُ مَضْبُوطًا بِالرَّفْعِ والإشْكالُ عَلى ذَلِكَ أوْهَنُ إلّا أنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ. ويَفْهَمُ مِن كَلامِ بَعْضِ مُتَأخَّرِي الصُّوفِيَّةِ أنَّهُ يَمْتَنِعُ الوُقُوفُ عَلى حَقِيقَةِ الرُّوحِ بَلْ ذَكَرَ هَذا البَعْضُ أنَّ حَقِيقَةَ جَمِيعِ الأشْياءِ لا يُوقَفُ عَلَيْها وهو مَبْنِيٌّ عَلى ما لا يَخْفى عَلَيْكَ، ورَدُّهُ أوْ قَبُولُهُ مُفَوَّضٌ إلَيْكَ، ثُمَّ إنَّ لِي في هَذا الوَجْهِ وقْفَةً؛ فَإنَّ الظّاهِرَ أنَّ إطْلاقَ عالَمِ الأمْرِ عَلى الكائِنِ مِن غَيْرِ تُحَصُّلٍ مِن مادَّةٍ وتَوَلُّدٍ مِن أصْلٍ وإطْلاقَ عالَمِ الخَلْقِ عَلى خِلافِهِ مَحْضُ اصْطِلاحٍ لا يُعْرَفُ لِلْعَرَبِ ولا يَعْرِفُونَهُ، وفي الِاسْتِدْلالِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ﴾ ما لا يَخْفى عَلى مُنْصِفٍ، هَذا وذَكَرَ الإمامُ أنَّ السُّؤالَ عَنِ الرُّوحِ يَقَعُ عَلى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ولَيْسَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ ما يَدُلُّ عَلى وجْهٍ مِنها إلّا أنَّ الجَوابَ المَذْكُورَ لا يَلِيقُ إلّا بِوَجْهَيْنِ مِنها: الأوَّلُ: كَوْنُهُ سُؤالًا عَنِ الماهِيَّةِ: والثّانِي: كَوْنُهُ سُؤالًا عَنِ القِدَمِ والحُدُوثِ، وحاصِلُ الجَوابِ عَلى الأوَّلِ أنَّها جَوْهَرٌ بَسِيطٌ مُجَرَّدٌ مُحْدَثٌ بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى وتَكْوِينِهِ وتَأْثِيرِهِ إفادَةَ الحَياةِ لِلْجَسَدِ، ولا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ العِلْمِ (p-155)بِحَقِيقَتِهِ المَخْصُوصَةِ فَإنَّ أكْثَرَ حَقائِقِ الأشْياءِ ماهِيّاتُها مَجْهُولَةٌ ولَمْ يَلْزَمْ مِن كَوْنِها مَجْهُولَةً نَفْيُها، ويُشِيرُ إلَيْهِ: ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَلِيلا﴾ ومَبْنى هَذا أيْضًا الفَرْقُ بَيْنَ عالَمِ الأمْرِ وعالَمِ الخَلْقِ وقَدْ سَمِعْتَ ما فِيهِ، وحاصِلُ الجَوابِ عَلى الثّانِي أنَّهُ حادِثٌ حَصَلَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعالى وتَكْوِينِهِ وإيجادِهِ، وجُعِلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَلِيلا﴾ احْتِجاجًا عَلى الحُدُوثِ بِمَعْنى أنَّ الأرْواحَ في مَبْدَأِ الفِطْرَةِ تَكُونُ خالِيَةً عَنِ العُلُومِ والمَعارِفِ ثُمَّ يَحْصُلُ فِيها ذَلِكَ فَلا تَزالُ في تَغَيُّرٍ مِن حالٍ إلى حالٍ وهو مِن أماراتِ الحُدُوثِ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ حَمْلَ السُّؤالِ عَلى ما ذُكِرَ وجَعْلَ الجَوابِ إخْبارًا بِالحُدُوثِ مَعَ عَدَمِ مُلاءَمَتِهِ لِحالِ السّائِلِينَ لا يُساعِدُهُ التَّعَرُّضُ لِبَيانِ قِلَّةِ عِلْمِهِمْ؛ فَإنَّ ما سَألُوا عَنْهُ مِمّا يَفِي بِهِ عِلْمُهم حِينَئِذٍ، وقَدْ أخْبَرَ عَنْهُ، وجَعْلُ ذَلِكَ احْتِجاجًا عَلى الحُدُوثِ مِن أعْجَبِ الحَوادِثِ كَما لا يَخْفى عَلى ذِي رَوْحٍ. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. وهاهُنا أبْحاثٌ لا بَأْسَ بِإيرادِها: * * * البَحْثُ الأوَّلُ في شَرْحِ مَذاهِبِ النّاسِ في حَقِيقَةِ الإنْسانِ، وظاهِرُ كَلامِ الإمامِ أنَّ الِاخْتِلافَ في حَقِيقَتِهِ عَيْنُ الِاخْتِلافِ في حَقِيقَةِ الرُّوحِ، وفي القَلْبِ مِن ذَلِكَ ما فِيهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ المُتَكَلِّمِينَ إلى أنَّهُ عِبارَةٌ عَنْ هَذِهِ البِنْيَةِ المَحْسُوسَةِ والهَيْكَلِ المُجَسَّمِ المَحْسُوسِ وهو الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ الإنْسانُ بِقَوْلِهِ: أنا وأبْطَلَ ذَلِكَ الإمامُ بِسَبْعَ عَشْرَةَ حُجَّةً نَقْلِيَّةً وعَقْلِيَّةً، لَكِنْ لِلْبَحْثِ في بَعْضِها مَجالٌ، مِنها ما تَقَدَّمَ مِن أنَّ أجْزاءَ البِنْيَةِ مُتَغَيِّرَةٌ زِيادَةً ونُقْصانًا وذُبُولًا ونُمُوًّا، والعِلْمُ الضَّرُورِيُّ قاضٍ بِأنَّ الإنْسانَ مِن حَيْثُ هو أمْرٌ باقٍ مِن أوَّلِ العُمْرِ إلى آخِرِهِ، وغَيْرُ الباقِي غَيْرُ الباقِي، ومِنها أنَّ الإنْسانَ قَدْ يَعْتَرِيهِ ما يَشْغَلُهُ عَنِ الِالتِفاتِ إلى أجْزاءِ بِنْيَتِهِ كُلًّا وبَعْضًا ولا يَغْفُلُ عَنْ نَفْسِهِ المُعَيَّنَةِ بِدَلِيلِ أنَّهُ يَقُولُ مَعَ ذَلِكَ الشّاغِلِ: فَعَلْتُ وتَرَكْتُ مَثَلًا وغَيْرُ المَعْلُومِ غَيْرُ المَعْلُومِ. ومِنها أنَّهُ قَدْ تُوجَدُ البِنْيَةُ المَخْصُوصَةُ وحَقِيقَةُ الإنْسانِ غَيْرُ حاصِلَةٍ؛ فَإنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَثِيرًا ما رُؤِيَ في صُورَةِ دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ، وإبْلِيسُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ رُؤِيَ في صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيٍّ وقَدْ تَنْتَفِي البِنْيَةُ مَعَ بَقاءِ حَقِيقَةِ الإنْسانِ فَإنَّ المَمْسُوخَ مَثَلًا قِرْدًا باقِيَةٌ حَقِيقَتُهُ مَعَ انْتِفاءِ البِنْيَةِ المَخْصُوصَةِ وإلّا لَمْ يَتَحَقَّقْ مَسْخٌ بَلْ إماتَةٌ لِذَلِكَ الإنْسانِ وخَلْقِ قِرْدٍ، ومِنها أنَّهُ جاءَ في الخَبَرِ أنَّ المَيِّتَ إذا حُمِلَ عَلى النَّعْشِ رَفْرَفَ رُوحُهُ فَوْقَ النَّعْشِ ويَقُولُ: يا أهْلِي. ويا ولَدِي لا تَلْعَبَنَّ بِكُمُ الدُّنْيا كَما لَعِبَتْ بِي؛ جَمَعْتُ المالَ مِن حِلِّهِ ومِن غَيْرِ حِلِّهِ ثُمَّ تَرَكْتُهُ لِغَيْرِي فالهَناءُ لَهُ والتَّبِعَةُ عَلَيَّ، فاحْذَرُوا مِثْلَ ما حَلَّ بِي، فَصَرَّحَ ﷺ بِأنَّ هُناكَ شَيْئًا يُنادِي غَيْرَ المَحْمُولِ كانَ الأهْلُ أهْلًا لَهُ وكانَ الجامِعُ لِلْمالِ مِنَ الحَلالِ والحَرامِ ولَيْسَ ذَلِكَ إلّا الإنْسانُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا ذَكَرَهُ في تَفْسِيرِهِ، وقِيلَ: إنَّ الإنْسانَ هو الرُّوحُ الَّذِي في القَلْبِ، وقِيلَ: إنَّهُ جُزْءٌ لا يَتَجَزَّأُ في الدِّماغِ، وقِيلَ: إنَّهُ أجْزاءٌ نارِيَّةٌ مُخْتَلِطَةٌ بِالأرْواحِ القَلْبِيَّةِ والدِّماغِيَّةِ وهي المُسَمّاةُ بِالحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ، وقِيلَ: هو الدَّمُ الحالُّ في البَدَنِ، وقِيلَ وقِيلَ إلى نَحْوِ ألْفِ قَوْلٍ، والمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّ الإنْسانَ عِبارَةٌ عَنْ جِسْمٍ نُورانِيٍّ عُلْوِيٍّ حَيٍّ مُتَحَرِّكٍ مُخالِفٍ بِالماهِيَّةِ لِهَذا الجِسْمِ المَحْسُوسِ سارَ فِيهِ سَرَيانَ الماءِ في الوِرْدِ والدُّهْنِ في الزَّيْتُونِ والنّارِ في الفَحْمِ لا يَقْبَلُ التَّحَلُّلَ والتَّبَدُّلَ والتَّفَرُّقَ والتَّمَزُّقَ مُفِيدٌ لِلْجِسْمِ المَحْسُوسِ الحَياةَ وتَوابِعَها ما دامَ صالِحًا لِقَبُولِ الفَيْضِ لِعَدَمِ حُدُوثِ ما يَمْنَعُ مِنَ السَّرَيانِ كالأخْلاطِ الغَلِيظَةِ ومَتى حَدَثَ ذَلِكَ حَصَلَ المَوْتُ لِانْقِطاعِ السَّرَيانِ، والرُّوحُ عِبارَةٌ عَنْ ذَلِكَ الجِسْمِ واسْتَحْسَنَ هَذا الإمامُ فَقالَ: هو مَذْهَبٌ قَوِيٌّ وقَوْلٌ شَرِيفٌ يَجِبُ التَّأمُّلُ فِيهِ فَإنَّهُ شَدِيدُ المُطابَقَةِ لِما ورَدَ في الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ مِن أحْوالِ الحَياةِ والمَوْتِ، وقالَ ابْنُ القَيِّمِ في كِتابِهِ «الرُّوحُ»: إنَّهُ الصَّوابُ ولا يَصِحُّ غَيْرُهُ وعَلَيْهِ دَلَّ الكِتابُ والسُّنَّةُ وإجْماعُ الصَّحابَةِ وأدِلَّةُ العَقْلِ والفِطْرَةُ وذَكَرَ لَهُ مِائَةَ دَلِيلٍ وخَمْسَةَ أدِلَّةٍ فَلْيُراجَعْ. (p-156)الثّانِي: أنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا جُسْمانِيٍّ وهو الرُّوحُ ولَيْسَ بِداخِلِ العالَمِ ولا خارِجِهِ ولا مُتَّصِلٍ بِهِ ولا مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، ولَكِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ والتَّصَرُّفِ وهو قَوْلُ أكْثَرِ الإلَهِيِّينَ مِنَ الفَلاسِفَةِ. وذَهَبَ إلَيْهِ جَماعَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ؛ مِنهُمُ الشَّيْخُ أبُو القاسِمِ الرّاغِبُ الأصْفَهانِيُّ وحُجَّةُ الإسْلامِ أبُو حامِدٍ الغَزالِيُّ ومِنَ المُعْتَزِلَةِ مَعْمَرُ بْنُ عَبّادٍ السُّلَمِيُّ، ومِنَ الشِّيعَةِ الشَّيْخُ المُفِيدُ، ومِنَ الكَرّامِيَّةِ جَماعَةٌ، ومِن أهْلِ المُكاشَفَةِ والرِّياضَةِ أكْثَرُهُمْ، وقَدْ قَدَّمْنا لَكَ الأدِلَّةَ عَلى ذَلِكَ، ومَن أرادَ الإحاطَةَ بِذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إلى كُتُبِ الشَّيْخَيْنِ أبِي عَلِيٍّ وشِهابِ الدِّينِ المَقْتُولِ وإلى كُتُبِ الإمامِ الرّازِيِّ كالمَباحِثِ المَشْرِقِيَّةِ وغَيْرِهِ، ولِلشَّيْخِ الرَّئِيسِ رِسالَةٌ مُفْرَدَةٌ في ذَلِكَ سَمّاها بِالحُجَجِ الغُرِّ أحْكَمَها وأتْقَنَها ما يَبْتَنِي عَلى تَعَقُّلِ النَّفْسِ لِذاتِها، وابْنُ القَيِّمِ زَيَّفَ حُجَجَهُ في كِتابِهِ وهو كِتابٌ مُفِيدٌ جِدًّا يَهَبُ لِلرُّوحِ رُوحًا ويُورِثُ لِلصَّدْرِ شَرْحًا، واسْتَدَلَّ الإمامُ عَلى ذَلِكَ في تَفْسِيرِهِ بِالآيَةِ المَذْكُورَةِ فَقالَ: إنَّ الرُّوحَ لَوْ كانَ جِسْمًا مُنْتَقِلًا مِن حالَةٍ إلى حالَةٍ ومِن صِفَةٍ إلى صِفَةٍ لَكانَ مُساوِيًا لِلْبَدَنِ في كَوْنِهِ مُتَوَلِّدًا مِن أجْسامٍ اتَّصَفَتْ بِصِفاتٍ مَخْصُوصَةٍ بَعْدَ أنْ كانَتْ مَوْصُوفَةً بِصِفاتٍ أُخَرَ فَإذا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْهُ وجَبَ أنْ يُبَيِّنَ أنَّهُ جِسْمٌ كانَ كَذا ثُمَّ صارَ كَذا وكَذا حَتّى صارَ رُوحًا مِثْلَ ما ذُكِرَ في كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ البَدَنِ أنَّهُ كانَ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً فَلَمّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وقالَ: هو مِن أمْرِ رَبِّي بِمَعْنى أنَّهُ لا يَحْدُثُ ولا يَدْخُلُ في الوُجُودِ إلّا لِأجْلِ أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ جَوْهَرٌ لَيْسَ مِن جِنْسِ الأجْسامِ بَلْ هو جَوْهَرٌ قُدْسِيٌّ مُجَرَّدٌ، ولا يَخْفى أنَّ ذَلِكَ مِنَ الإقْناعِيّاتِ الخِطابِيَّةِ وهي كَثِيرَةٌ في هَذا البابِ، مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ﴾ فَإنَّ هَذِهِ الإضافَةَ مِمّا تُنَبِّهُ عَلى شَرَفِ الجَوْهَرِ الإنْسِيِّ وكَوْنِهِ عُرْيًا عَنِ المَلابِسِ الحِسِّيَّةِ. ومِنها قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««أنا النَّذِيرُ العُرْيانُ»». فَفِيهِ إلى تَجَرُّدِ الرُّوحِ عَنْ عَلائِقِ الأجْرامِ. وقَوْلُهُ ﷺ: ««إنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ آدَمَ عَلى صُورَةِ الرَّحْمَنِ». وفِي رِوايَةٍ: «عَلى صُورَتِهِ»». وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««أبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِي»». فَفِي ذَلِكَ إيذانٌ بِشَرَفِ الرُّوحِ وقُرْبِهِ مِن رَبِّهِ قُرْبًا بِالذّاتِ والصِّفاتِ مُجَرَّدًا عَنْ عَلائِقِ الأجْرامِ وعَوائِقِ الأجْسامِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يُحْصى وهو عَلى هَذا المِنوالِ ولِلْبَحْثِ فِيهِ مَجالٌ أيُّ مَجالٍ، وكانَ ثابِتُ بْنُ قُرَّةَ يَقُولُ: إنَّ الرُّوحَ مُتَعَلِّقٌ بِأجْسامٍ سَماوِيَّةٍ نُورانِيَّةٍ لَطِيفَةٍ غَيْرِ قابِلَةٍ لِلْكَوْنِ والفَسادِ والتَّفَرُّقِ والتَّمَزُّقِ وتِلْكَ الأجْسامُ سارِيَةٌ في البَدَنِ وهي ما دامَتْ سارِيَةً كانَ الرُّوحُ مُدَبِّرًا لِلْبَدَنِ وإذا انْفَصَلَتْ عَنْهُ انْقَطَعَ التَّعَلُّقُ، وهو قَوْلٌ مُلَفَّقٌ وأنا لا أسْتَبْعِدُهُ. * * * «البَحْثُ الثّانِي في اخْتِلافِ النّاسِ في حُدُوثِ الرُّوحِ وقِدَمِهِ» أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّهُ حادِثٌ حُدُوثًا زَمانِيًّا كَسائِرِ أجْزاءِ العالَمِ إلّا أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في أنَّهُ: هَلْ هو حادِثٌ قَبْلَ البَدَنِ أمْ بَعْدَهُ؛ فَذَهَبَ طائِفَةٌ إلى الحُدُوثِ، قِيلَ: مِنهم مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ. وأبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ الظّاهِرِيُّ وحَكاهُ إجْماعًا وقَدِ افْتَرى، واسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِما في الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ««الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَما تَعارَفَ مِنها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنها اخْتَلَفَ»». قالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ في تَبْصِرَتِهِ: قالَ أبُو سُلَيْمانَ الخَطّابِيُّ: مَعْنى هَذا الحَدِيثِ الأخْبارُ عَنْ كَوْنِ الأرْواحِ مَخْلُوقَةً قَبْلَ الأجْسادِ، وزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أنَّها في بَرْزَخٍ وهو مُنْقَطِعُ العَناصِرِ، فَإذا اسْتَعَدَّ جَسَدٌ لِشَيْءٍ مِنها هَبَطَ إلَيْهِ وأنَّها تَعُودُ إلى ذَلِكَ البَرْزَخِ بَعْدَ الوَفاةِ ولا دَلِيلَ لِهَذا مِن كِتابٍ أوْ سُنَّةٍ. وبَعْضُهُمُ اسْتَدَلَّ عَلى ذَلِكَ بِخَبَرِ خَلْقِ اللَّهِ تَعالى الأرْواحَ قَبْلَ الأجْسادِ بِألْفَيْ عامٍ، وتَعَقَّبَهُ ابْنُ القَيِّمِ بِأنَّهُ لا يَصِحُّ إسْنادُهُ، وذَهَبَ آخَرُونَ مِنهم حُجَّةُ الإسْلامِ الغَزالِيُّ إلى الحُدُوثِ بَعْدُ، ومِن أدِلَّةِ ذَلِكَ كَما قالَ ابْنُ القَيِّمِ (p-157)لِحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ««إنَّ خَلْقَ ابْنِ آدَمَ يُجْمَعُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا دَمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ»». ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ أنَّ الرُّوحَ لَوْ كانَ مَخْلُوقًا قَبْلُ لَقِيلَ: ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ المَلَكُ بِالرُّوحِ فَيُدْخِلُهُ فِيهِ، وصَرَّحَ في رَوْضَةِ المُحِبِّينَ ونُزْهَةِ المُشْتاقِينَ بِاخْتِيارِ هَذا القَوْلِ فَقالَ: إنَّ القَوْلَ بِأنَّ الأرْواحَ خُلِقَتْ قَبْلَ الأجْسادِ قَوْلٌ فاسِدٌ وخَطَأٌ صَرِيحٌ، والقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ والعَقْلُ أنَّها مَخْلُوقَةٌ مَعَ الأجْسادِ وأنَّ المَلَكَ يَنْفُخُ الرُّوحَ؛ أيْ: يُحْدِثُهُ بِالنَّفْخِ في الجَسَدِ إذا مَضى عَلى النُّطْفَةِ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ ودَخَلَتْ في الخامِسِ، ومَن قالَ: إنَّها مَخْلُوقَةٌ قَبْلُ فَقَدْ غَلِطَ، وأقْبَحُ مِنهُ قَوْلُ مَن قالَ: إنَّها قَدِيمَةٌ. انْتَهى، وفِيهِ تَأمُّلٌ، ويُوافِقُ مَذْهَبُ الحُدُوثِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ فَلْيُفْهَمْ. وذَهَبَ أفْلاطُونُ ومَن تَقَدَّمَهُ مِنَ الفَلاسِفَةِ إلى قِدَمِ الرُّوحِ وذَهَبَ المُعَلِّمُ الأوَّلُ إلى حُدُوثِها مَعَ حُدُوثِ البَدَنِ المُسْتَعِدِّ لَهُ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الإسْلامِيِّينَ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في اسْتِدْلالِ كُلٍّ جَرْحًا وتَعْدِيلًا، ويُقالُ هُنا: إنَّ المُعَلِّمَ الأوَّلَ قائِلٌ كَغَيْرِهِ مِنَ الفَلاسِفَةِ بِتَجَرُّدِ الرُّوحِ المُسَمّاةِ بِالنَّفْسِ النّاطِقَةِ عِنْدَهم عَنِ المادَّةِ فَكَيْفَ يَسَعُهُ القَوْلُ بِحُدُوثِها مَعَ قَوْلِهِمْ: كُلُّ حادِثٍ زَمانِيٍّ يَحْتاجُ إلى مادَّةٍ، وأُجِيبَ بِأنَّ المادَّةَ هاهُنا أعَمُّ مِنَ المَحَلِّ والمُتَعَلِّقُ بِهِ والبَدَنُ مادَّةٌ لِلنَّفْسِ بِهَذا المَعْنى، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ اسْتِعْدادَ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ لا يَكُونُ إلّا فِيما إذا كانَ ذَلِكَ مُقْتَرِنًا بِهِ لا مُبايِنًا عَنْهُ فالأوْلى أنْ يُقالَ: إنَّ البَدَنَ الإنْسانِيَّ لَمّا اسْتُدْعِيَ لِمِزاجِهِ الخاصِّ صُورَةٌ مُدَبِّرَةٌ لَهُ مُتَصَرِّفَةٌ فِيهِ أيْ أمْرًا مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِن حَيْثُ هو كَذَلِكَ وجَبَ عَلى مُقْتَضى جُودِ الواهِبِ الفَيّاضِ وُجُودُ أمْرٍ يَكُونُ مَبْدَأً لِلتَّدابِيرِ الإنْسِيَّةِ والأفاعِيلِ البَشَرِيَّةِ، ومِثْلُ هَذا الأمْرِ لا يُمْكِنُ إلّا أنْ يَكُونَ ذاتًا مُدْرِكَةً لِلْكُلِّيّاتِ مُجَرَّدَةً في ذاتِها فَلا مَحالَةَ قَدْ فاضَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً النَّفْسَ لا مِن حَيْثُ إنَّ البَدَنَ اسْتَدْعاها بَلْ مِن حَيْثُ عَدَمُ انْفِكاكِها عَمّا اسْتَدْعاهُ فالبَدَنُ اسْتَدْعى بِاسْتِعْدادِهِ الخاصِّ أمْرًا مادِّيًّا وُجُودُ المَبْدَأِ الفَيّاضِ أفادَ جَوْهَرًا قُدْسِيًّا، وكَما أنَّ الشَّيْءَ الواحِدَ قَدْ يَكُونُ عَلى ما قَرَّرُوهُ جَوْهَرًا وعَرَضًا بِاعْتِبارَيْنِ كَذَلِكَ يَكُونُ أمْرٌ واحِدٌ مُجَرَّدًا ومادِّيًّا بِاعْتِبارَيْنِ فالنَّفْسُ الإنْسانِيَّةُ مُجَرَّدَةٌ ذاتًا مادِّيَّةً فِعْلًا فَهي مِن حَيْثُ الفِعْلُ مِنَ التَّدْبِيرِ والتَّحْرِيكِ مَسْبُوقَةٌ بِاسْتِعْدادِ البَدَنِ مُقْتَرِنَةً بِهِ، وأمّا مِن حَيْثُ الذّاتُ والحَقِيقَةُ فَمُنْشَأُ وُجُودِها وُجُودُ المَبْدَأِ الواهِبِ لا غَيْرَ، فَلا يَسْبِقُها مِن تِلْكَ الحَيْثِيَّةِ اسْتِعْدادُ البَدَنِ ولا يَلْزَمُها الِاقْتِرانُ في وُجُودِها بِهِ ولا يَلْحَقُها شَيْءٌ مِن مَثالِبِ المادِّيّاتِ إلّا بِالعَرَضِ. ويُمْكِنُ تَأْوِيلُ ما نُقِلَ عَنْ أفْلاطُونَ في بابِ قِدَمِ النَّفْسِ إلى هَذا بِوَجْهٍ لِطَيْفٍ كَذا قالَهُ بَعْضُ صُدُورِ المُتَأخِّرِينَ فَتَأمَّلْهُ. * * * «البَحْثُ الثّالِثُ» اخْتَلَفَ النّاسُ في الرُّوحِ والنَّفْسِ هَلْ هُما شَيْءٌ واحِدٌ أمْ شَيْئانِ، فَحَكى ابْنُ زَيْدٍ عَنْ أكْثَرِ العُلَماءِ أنَّهُما شَيْءٌ واحِدٌ؛ فَقَدْ صَحَّ في الأخْبارِ إطْلاقُ كُلٍّ مِنهُما عَلى الآخَرِ وما أخْرَجَهُ البَزّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: ««أنَّ المُؤْمِنَ يَنْزِلُ بِهِ المَوْتُ ويُعايِنُ ما يُعايِنُ يَوَدُّ لَوْ خَرَجَتْ نَفْسُهُ واللَّهُ تَعالى يُحِبُّ لِقاءَهُ، وأنَّ المُؤْمِنَ تَصْعَدُ رُوحُهُ إلى السَّماءِ فَتَأْتِيهِ أرْواحُ المُؤْمِنِينَ فَيَسْتَخْبِرُونَهُ عَنْ مَعارِفِهِ مِن أهْلِ الدُّنْيا»» الحَدِيثُ ظاهِرٌ في ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ حَبِيبٍ: هُما شَيْئانِ؛ فالرُّوحُ هو النَّفَسُ المُتَرَدِّدُ في الإنْسانِ والنَّفَسُ أمْرٌ غَيْرُ ذَلِكَ لَها يَدانِ ورِجْلانِ ورَأْسٌ وعَيْنانِ وهي الَّتِي تَلْتَذُّ وتَتَألَّمُ وتَفْرَحُ وتَحْزَنُ وإنَّها هي الَّتِي تُتَوَفّى في المَنامِ وتَخْرُجُ وتَسْرَحُ وتَرى الرُّؤْيا ويَبْقى الجَسَدُ دُونَها بِالرُّوحِ فَقَطْ لا يَلْتَذُّ ولا يَفْرَحُ حَتّى تَعُودَ، واحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ﴾ الآيَةَ، وحَكى ابْنُ مَندَهْ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ النَّفْسَ طِينِيَّةٌ نارِيَّةٌ، والرُّوحَ نُورِيَّةٌ رُوحانِيَّةٌ، وعَنْ آخَرَ أنَّ (p-158)النَّفْسَ ناسُوتِيَّةٌ والرُّوحَ لاهُوتِيَّةٌ، وذُكِرَ أنَّ أهْلَ الأثَرِ عَلى المُغايَرَةِ وأنَّ قِوامَ النَّفْسِ بِالرُّوحِ، والنَّفْسُ صُورَةُ العَبْدِ، والهَوى والشَّهْوَةُ والبَلاءُ مَعْجُونٌ فِيها ولا عَدُوَّ أعْدى لِابْنِ آدَمَ مِن نَفْسِهِ لا تُرِيدُ إلّا الدُّنْيا ولا تُحِبُّ إلّا إيّاها، والرُّوحُ تَدْعُو إلى الآخِرَةِ وتُؤْثِرُها، وظاهِرُ كَلامِ بَعْضِ مُحَقِّقِي الصُّوفِيَّةِ القَوْلُ بِالمُغايَرَةِ فَفي مُنْتَهى المَدارِكِ لِلْمُحَقِّقِ الفَرْغانِيِّ أنَّ النَّفْسَ المُضافَةَ إلى الإنْسانِ عِبارَةٌ عَنْ بُخارٍ ضَبابِيٍّ مُنْبَعِثٍ مِن باطِنِ القَلْبِ الصَّنَوْبَرِيِّ حامِلٍ لِقُوَّةِ الحَياةِ مُتَجَنِّسٍ بِأثَرِ الرُّوحِ الرُّوحانِيَّةِ المُرادَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ الثّابِتُ تَعَيُّنُها في عالَمِ الأرْوَحِ، وأثَرُها واصِلٌ إلى هَذا البُخارِ الحامِلِ لِلْحَياةِ، فالنَّفْسُ إذَنْ أمْرٌ مُجْتَمِعٌ مِنَ البُخارِ، ووَصْفُ الحَياةِ وأثَرُ الرُّوحِ الرُّوحانِيَّةِ وهَذِهِ النَّفْسُ بِحُكْمِ تَجَنُّسِها بِأثَرِ الرُّوحِ الرُّوحانِيَّةِ مُتَعَيِّنَةٌ لِتَدْبِيرِ البَدَنِ الإنْسانِيِّ قابِلَةٌ لِمَعالِي الأُمُورِ وسَفاسِفِها كَما قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ والرُّوحُ الرُّوحانِيَّةُ أمْرٌ لا يُكْتَنَهُ، والحَقُّ أنَّهُما قَدْ يَتَّحِدانِ إطْلاقًا وقَدْ يَتَغايَرانِ، وابْنُ القَيِّمِ اعْتَمَدَ ما عَلَيْهِ الأكْثَرُونَ مِنَ الِاتِّحادِ ذاتًا، وذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ أنَّهُ هو الَّذِي عَلَيْهِ الصُّوفِيَّةُ بَيْدَ أنَّهم قالُوا: إنَّ النَّفْسَ هي الأصْلُ في الإنْسانِ فَإذا صُقِلَتْ بِالرِّياضَةِ وأنْواعِ الذِّكْرِ والفِكْرِ صارَتْ رُوحًا ثُمَّ قَدْ تَتَرَقّى إلى أنْ تَصِيرَ سِرًّا مِن أسْرارِ اللَّهِ تَعالى. وتَفْصِيلُ الكَلامِ حِينَئِذٍ في هَذا المَقامِ أنَّ لِلنَّفْسِ مَراتِبَ تَتَرَقّى فِيها، الأُولى تَهْذِيبُ الظّاهِرِ بِاسْتِعْمالِ النَّوامِيسِ الإلَهِيَّةِ مِنَ القِيامِ والصِّيامِ وغَيْرِهِما، الثّانِيَةُ تَهْذِيبُ الباطِنِ عَنِ المَلَكاتِ الرَّدِيَّةِ والأخْلاقِ الدَّنِيَّةِ، الثّالِثَةُ: تَحَلِّي النَّفْسِ بِالصُّوَرِ القُدْسِيَّةِ، الرّابِعَةُ: فَناؤُها عَنْ ذاتِها ومُلاحَظَتُها جَلالَ رَبِّ العالَمِينَ جَلَّ جَلالُهُ، ويُقالُ في كَيْفِيَّةِ التَّرَقِّي في هَذِهِ المَراتِبِ أنَّ الإنْسانَ أوَّلَ ما يُولَدُ فَهو كَباقِي الحَيَواناتِ لا يَعْرِفُ إلّا الأكْلَ والشُّرْبَ ثُمَّ بِالتَّدْرِيجِ يَظْهَرُ لَهُ باقِي صِفاتِ النَّفْسِ مِنَ الشَّهْوَةِ والغَضَبِ والحِرْصِ والحَسَدِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الهَيْئاتِ الَّتِي هي نَتائِجُ الِاحْتِجابِ والبُعْدِ مِن مَعْدِنِ الجُودِ والصِّفاتِ الكَمالِيَّةِ، ثُمَّ إذا تَيَقَّظَ مِن سِنَةِ الغَفْلَةِ وقامَ مِن نَوْمِ الجَهْلِ وبانَ لَهُ أنَّ وراءَ هَذِهِ اللَّذّاتِ البَهِيمِيَّةِ لَذّاتٌ أُخَرُ وفَوْقَ هَذِهِ المَراتِبِ مَراتِبُ أُخَرُ كَمالِيَّةٌ يَتُوبُ عَنِ اشْتِغالِهِ بِالمَنهِيّاتِ الشَّرْعِيَّةِ ويُنِيبُ إلى اللَّهِ تَعالى بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ فَيَشْرَعُ في تَرْكِ الفُضُولِ الدُّنْيَوِيَّةِ طَلَبًا لِلْكَمالاتِ الأُخْرَوِيَّةِ ويَعْزِمُ عَزْمًا تامًّا ويَتَوَجَّهُ إلى السُّلُوكِ إلى مَلِكِ المُلُوكِ مِن مَقامِ نَفْسِهِ فَيُهاجِرُ مِنهُ ويَقَعُ في الغُرْبَةِ ويا طُوبى لِلْغُرَباءِ وإنْ قِيلَ: إنَّما الغُرْبَةُ لِلْأحْرارِ ذُبِحَ ثُمَّ إذا دَخَلَ في الطَّرِيقِ يَزْهَدُ عَنْ كُلِّ ما يَعُوقُهُ عَنْ مَقْصُودِهِ ويَصُدُّهُ عَنْ مَعْبُودِهِ فَيَتَّصِفُ بِالوَرَعِ والتَّقْوى والزُّهْدِ الحَقِيقِيِّ ثُمَّ يُحاسِبُ نَفْسَهُ دائِمًا في أقْوالِهِ وأفْعالِهِ ويَتَّهِمُها في كُلِّ ما تَأْمُرُ بِهِ وإنْ كانَ عِبادَةً فَإنَّها مَجْبُولَةٌ عَلى حُبِّ الشَّهَواتِ ومَطْبُوعَةٌ عَلى الدَّسائِسِ الخَفِيّاتِ فَلا يَنْبَغِي أنْ يَأْمَنَها ويَكُونَ عَلى ثِقَةٍ مِنها. يُحْكى عَنْ بَعْضِ الأكابِرِ أنَّ نَفْسَهُ لَمْ تَزَلْ تَأْمُرُهُ بِالجِهادِ وتَحُثُّهُ عَلَيْهِ فاسْتَغْرَبَ ذَلِكَ ثُمَّ فَطِنَ أنَّها تُرِيدُ أنْ تَسْتَرِيحَ مِن نَصَبِ القِيامِ والصِّيامِ بِالمَوْتِ فَلَمْ يُجِبْها إلى ذَلِكَ، فَإذا خَلَصَ مِنها وصَفا وقْتُهُ وطابَ عَيْشُهُ بِما يَجِدُهُ في طَرِيقِ المَحْبُوبِ يَتَنَوَّرُ باطِنُهُ ويَظْهَرُ لَهُ لَوامِعُ أنْوارِ الغَيْبِ ويَنْفَتِحُ لَهُ بابُ المَلَكُوتِ وتَلُوحُ مِنهُ لَوائِحُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى فَيُشاهِدُ أُمُورًا غَيْبِيَّةً في صُوَرٍ مِثالِيَّةٍ، فَإذا ذاقَ شَيْئًا مِنها يَرْغَبُ في العُزْلَةِ والخَلْوَةِ والذِّكْرِ والمُواظَبَةِ عَلى الطَّهارَةِ والعِبادَةِ والمُراقَبَةِ والمُحاسَبَةِ ويُعْرِضُ عَنِ المَلاذِّ الحِسِّيَّةِ كُلِّها ويَفْرَغُ القَلْبُ عَنْ مَحَبَّتِها فَيَتَوَجَّهُ باطِنُهُ إلى الحَقِّ تَعالى بِالكُلِّيَّةِ فَيَظْهَرُ لَهُ الوَجْدُ والسُّكْرُ والشَّوْقُ والعِشْقُ والهَيَمانُ ويَجْعَلُهُ فانِيًا عَنْ نَفْسِهِ غافِلًا عَنْها فَيُشاهِدُ الحَقائِقَ السِّرِّيَّةَ والأنْوارَ الغَيْبِيَّةَ فَيَتَحَقَّقُ بِالمُشاهَدَةِ والمُعايَنَةِ والمُكاشَفَةِ ويَظْهَرُ لَهُ أنْوارٌ (p-159)حَقِيقِيَّةٌ تارَةً وتَخْتَفِي أُخْرى حَتّى يَتَمَكَّنَ ويَتَخَلَّصَ مِنَ التَّلْوِينِ ويَنْزِلَ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ الرُّوحِيَّةُ والطُّمَأْنِينَةُ الإلَهِيَّةُ ويَصِيرُ وُرُودُ هَذِهِ البَوارِقِ والأحْوالِ لَهُ مَلَكَةً فَيَدْخُلُ في عَوالِمِ الجَبَرُوتِ ويُشاهِدُ العُقُولَ المُجَرَّدَةَ والأنْوارَ القاهِرَةَ مِنَ المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ والمُهَيِّمِينَ ويَتَحَقَّقُ بِأنْوارِهِمْ فَيَظْهَرُ لَهُ أنْوارُ سُلْطانِ الأحَدِيَّةِ وسَواطِعُ العَظَمَةِ والكِبْرِياءِ الإلَهِيَّةِ فَتَجْعَلُهُ هَباءً مَنثُورًا ويَنْدَكُّ حِينَئِذٍ جِبالُ إنِّيَّتِهِ فَيَخِرُّ لِلَّهِ تَعالى خُرُورًا ويَتَلاشى في التَّعَيُّنِ الذّاتِيِّ ويَضْمَحِلُّ وُجُودُهُ في الوُجُودِ الإلَهِيِّ وهَذا مَقامُ الفَناءِ والمَحْوِ وهو غايَةُ السَّفَرِ الأوَّلِ لِلسّالِكِينَ، فَإنْ بَقِيَ في الفَناءِ والمَحْوِ ولَمْ يَجِئْ إلى البَقاءِ والصَّحْوِ صارَ مُسْتَغْرِقًا في عَيْنِ الجَمْعِ مَحْجُوبًا بِالحَقِّ عَنِ الخَلْقِ لا يَزِيغُ بَصَرُهُ عَنْ مُشاهَدَةِ جَمالِهِ عَزَّ شَأْنُهُ وأنْوارِ ذاتِهِ وجَلالِهِ فاضْمَحَلَّتِ الكَثْرَةُ في شُهُودِهِ واحْتَجَبَ التَّفْصِيلُ عَنْ وُجُودِهِ وذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ، وفَوْقَ ذَلِكَ مَرْتَبَةٌ يَرْجِعُ فِيها إلى الصَّحْوِ بَعْدَ المَحْوِ، ويَنْظُرُ إلى التَّفْصِيلِ في عَيْنِ الجَمْعِ ويَسَعُ صَدْرُهُ الحَقَّ والخَلْقَ فَيُشاهِدُ الحَقَّ في كُلِّ شَيْءٍ، ويَرى كُلَّ شَيْءٍ بِالحَقِّ عَلى وجْهٍ لا يُوجِبُ التَّكَثُّرَ والتَّجَسُّمَ وهو طَوْرٌ وراءَ طَوْرِ العَقْلِ. ووَقَعَ في عِبارَةِ بَعْضِهِمْ أنَّهُ قَدْ يَصِيرُ العارِفُ مُتَخَلِّقًا بِأخْلاقِ اللَّهِ تَعالى بِالحَقِيقَةِ لا بِمَعْنى صَيْرُورَةِ صِفاتِهِ تَعالى عَرَضًا قائِمًا بِالنَّفْسِ فَإنَّ هَذا مِمّا لا يُتَصَوَّرُ أبَدًا، والقَوْلُ بِهِ خُرُوجٌ عَنِ الشَّرِيعَةِ والطَّرِيقَةِ والحَقِيقَةِ، بَلْ بِمَعْنى عَلاقَةٍ أُخْرى أتَمَّ مِن عَلاقَتِها مَعَ الصِّفاتِ الكَوْنِيَّةِ البَدَنِيَّةِ وغَيْرِها لا تُعْلَمُ حَقِيقَتُها، ولَعَلَّ مُرادَهم بِالمَرْتَبَةِ الَّتِي تَتَرَقّى إلَيْها النَّفْسُ فَتَكُونُ سِرًّا مِن أسْرارِ اللَّهِ تَعالى هي هَذِهِ المَرْتَبَةُ والِاطِّلاعُ عَلَيْها يَحْتاجُ إلى سُلُوكِ طَرِيقَةِ الأبْرارِ، ولا يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ الأنْظارِ والأفْكارِ، واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ لِلسُّلُوكِ والمُتَفَضِّلُ بِالغِنى عَلى الصُّعْلُوكِ. * * * «البَحْثُ الرّابِعُ» اخْتَلَفَ النّاسُ في الرُّوحِ هَلْ تَمُوتُ أمْ لا؟ فَذَهَبَتْ طائِفَةٌ إلى أنَّها تَمُوتُ لِأنَّها نَفْسٌ، وكُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ، وقَدْ دَلَّ الكِتابُ عَلى أنَّهُ لا يَبْقى إلّا اللَّهُ تَعالى وحْدَهُ وهو يَسْتَدْعِي هَلاكَ الأرْواحِ كَغَيْرِها مِنَ المَخْلُوقاتِ، وإذا كانَتِ المَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ يَمُوتُونَ فالأرْواحُ البَشَرِيَّةُ أوْلى، وأيْضًا أخْبَرَ سُبْحانَهُ عَنْ أهْلِ النّارِ أنَّهم يَقُولُونَ: ﴿أمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ﴾ ولا تُحَقَّقُ الإماتَتانِ إلّا بِإماتَةِ البَدَنِ مَرَّةً وإماتَةِ الرُّوحِ أُخْرى. وقالَتْ طائِفَةٌ: إنَّها تَمُوتُ لِلْأحادِيثِ الدّالَّةِ عَلى نَعِيمِها وعَذابِها بَعْدَ المُفارَقَةِ إلى أنْ يُرْجِعَها اللَّهُ تَعالى إلى الجَسَدِ، وإنْ قُلْنا بِمَوْتِها لَزِمَ انْقِطاعُ النَّعِيمِ والعَذابِ، والصَّوابُ أنْ يُقالَ: مَوْتُ الرُّوحِ هو مُفارَقَتُها الجَسَدَ، فَإنْ أُرِيدَ بِمَوْتِها هَذا القَدْرُ فَهي ذائِقَةُ المَوْتِ، وإنْ أُرِيدَ أنَّها تَعْدَمُ وتَضْمَحِلُّ فَهي لا تَمُوتُ بَلْ تَبْقى مُفارِقَةً ما شاءَ اللَّهُ تَعالى ثُمَّ تَعُودُ إلى الجَسَدِ وتَبْقى مَعَهُ في نَعِيمٍ أوْ عَذابٍ أبَدَ الآبِدِينَ ودَهْرَ الدّاهِرِينَ وهي مُسْتَثْناةٌ مِمَّنْ يُصْعَقُ عِنْدَ النَّفْخِ في الصُّورِ عَلى أنَّ الصَّعْقَ لا يَلْزَمُ مِنهُ المَوْتُ والهَلاكُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالعَدَمِ بَلْ يَتَحَقَّقُ بِخُرُوجِ الشَّيْءِ عَنْ حَدِّ الِانْتِفاعِ بِهِ ونَحْوَ ذَلِكَ، وما ذُكِرَ في تَفْسِيرِ الإماتَتَيْنِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى الكَلامُ فِيهِ. وإلى أنَّها لا تَمُوتُ بِمَوْتِ البَدَنِ ذَهَبَتِ الفَلاسِفَةُ أيْضًا، واحْتَجَّ الشَّيْخُ عَلَيْهِ بِأنْ قالَ: قَدْ ثَبَتَ أنَّ النَّفْسَ يَجِبُ حُدُوثُها عِنْدَ حُدُوثِ البَدَنِ فَلا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونا مَعًا في الوُجُودِ أوْ لِأحَدِهِما تَقَدُّمٌ عَلى الآخَرِ، فَإنْ كانا مَعًا فَلا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونا مَعًا في الماهِيَّةِ أوَّلًا في الماهِيَّةِ، والأوَّلُ باطِلٌ، وإلّا لَكانَتِ النَّفْسُ والبَدَنُ مُتَضايِفَيْنِ لَكِنَّهُما جَوْهَرانِ هَذا خَلْفٌ، وإنْ كانَتِ المَعِيَّةُ في الوُجُودِ فَقَطْ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ لِأحَدِهِما حاجَةٌ في ذَلِكَ الوُجُودِ إلى الآخَرِ فَعَدَمُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما يُوجِبُ عَدَمَ تِلْكَ المَعِيَّةِ، إمّا لا يُوجِبُ عَدَمَ الآخَرِ، وإمّا إنْ كانَ لِأحَدِهِما حاجَةٌ في الوُجُودِ إلى الآخَرِ فَلا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ المُقَدَّمُ هو النَّفْسَ أوِ البَدَنَ، فَإنْ كانَ المُقَدَّمُ في الوُجُودِ هو النَّفْسَ فَذَلِكَ التَّقَدُّمُ إمّا أنْ يَكُونَ زَمانِيًّا أوْ ذاتِيًّا، والأوَّلُ باطِلٌ لِما ثَبَتَ أنَّ (p-160)النَّفْسَ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ البَدَنِ، وأمّا الثّانِي فَباطِلٌ أيْضًا لِأنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَكُونُ وُجُودُهُ مَعْلُولَ شَيْءٍ كانَ عَدَمُهُ مَعْلُولَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ؛ إذْ لَوِ انْعَدَمَ ذَلِكَ المَعْلُولُ مَعَ بَقاءِ العِلَّةِ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ العِلَّةُ كافِيَةً في إيجابِها فَلا تَكُونُ العِلَّةُ عِلَّةً بَلْ جُزْءٌ مِنَ العِلَّةِ هَذا خَلْفٌ، فَإذا لَوْ كانَ البَدَنُ مَعْلُولًا لامْتَنَعَ عَدَمُ البَدَنِ إلّا لِعَدَمِ النَّفْسِ، والتّالِي بُطْلانُ البَدَنِ قَدْ يَنْعَدِمُ لِأسْبابٍ أُخَرَ مِثْلَ سُوءِ المِزاجِ أوْ سُوءِ التَّرْكِيبِ أوْ تَفَرُّقِ الِاتِّصالِ فَبَطَلَ أنْ تَكُونَ النَّفْسُ عِلَّةً لِلْبَدَنِ، وباطِلٌ أيْضًا أنْ يَكُونَ البَدَنُ عِلَّةً لِلنَّفْسِ لِأنَّ العِلَلَ كَما عُرِفَ أرْبَعٌ، ومُحالٌ أنْ يَكُونَ البَدَنُ عِلَّةً فاعِلِيَّةً لِلنَّفْسِ، فَإنَّهُ لا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ عِلَّةً فاعِلِيَّةً لِوُجُودِ النَّفْسِ بِمُجَرَّدِ جِسْمِيَّتِهِ أوْ لِأمْرٍ زائِدٍ عَلى جِسْمِيَّتِهِ، والأوَّلُ باطِلٌ وإلّا لَكانَ كُلُّ جِسْمٍ كَذَلِكَ، والثّانِي باطِلٌ، أمّا أوَّلًا فَلِما ثَبَتَ أنَّ الصُّوَرَ المادِّيَّةَ إنَّما تَفْعَلُ بِواسِطَةِ الوَضْعِ، وكُلُّ ما لا يَفْعَلُ إلّا بِواسِطَةِ الوَضْعِ اسْتَحالَ أنْ يَفْعَلَ أفْعالًا مُجَرَّدَةً عَنِ الحَيِّزِ والوَضْعِ، وأمّا ثانِيًا فَلِأنَّ الصُّوَرَ المادِّيَّةَ أضْعَفُ مِنَ المُجَرَّدِ القائِمِ بِنَفْسِهِ، والأضْعَفُ لا يَكُونُ سَبَبًا لِلْأقْوى، ومُحالٌ أنْ يَكُونَ البَدَنُ عِلَّةً قابِلِيَّةً لِما ثَبَتَ أنَّ النَّفْسَ مُجَرَّدَةٌ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنِ المادَّةِ، ومُحالٌ أنْ يَكُونَ عِلَّةً صُورِيَّةً لِلنَّفْسِ أوْ تَمامِيَّةً؛ فَإنَّ الأمْرَ أوْلى أنْ يَكُونَ بِالعَكْسِ فَإذًا لَيْسَ بَيْنَ البَدَنِ والنَّفْسِ عَلاقَةٌ واجِبَةُ الثُّبُوتِ أصْلًا فَلا يَكُونُ عَدَمُ أحَدِهِما عِلَّةً لِعَدَمِ الآخَرِ. فَإنْ قِيلَ: ألَسْتُمْ جَعَلْتُمُ البَدَنَ عِلَّةً لِحُدُوثِ النَّفْسِ؟ فَنَقُولُ: قَدْ بُيِّنَ أنَّ الفاعِلَ إذا كانَ مُنَزَّهًا عَنِ التَّغَيُّرِ ثُمَّ صَدَرَ عَنْهُ الفِعْلُ بَعْدَ أنْ كانَ غَيْرَ صادِرٍ فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لِأجْلِ أنَّ شَرْطَ الحُدُوثِ قَدْ حَصَلَ في ذَلِكَ الوَقْتِ دُونَ ما قَبْلَهُ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ لَمّا كانَ شَرْطًا لِلْحُدُوثِ فَقَطْ وكانَ غَنِيًّا في وُجُودِهِ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ اسْتَحالَ أنْ يَكُونَ عَدَمُ ذَلِكَ الشَّرْطِ مُؤَثِّرًا في عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، ثُمَّ لَمّا اتَّفَقَ أنْ كانَ ذَلِكَ الشَّرْطُ مُسْتَعِدًّا لِأنْ يَكُونَ آلَةً لِلنَّفْسِ في تَحْصِيلِ الكَمالاتِ والنَّفْسُ لِذاتِها مُشْتاقَةٌ إلى الكَمالِ لا جَرَمَ حَصَلَ لِلنَّفْسِ شَوْقٌ طَبِيعِيٌّ إلى التَّصَرُّفِ في ذَلِكَ البَدَنِ والتَّدْبِيرِ فِيهِ عَلى الوَجْهِ الأصْلَحِ، ومِثْلُ ذَلِكَ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ عَدَمُهُ عِلَّةً لِعَدَمِ ذَلِكَ الحادِثِ بَلْ ذَهَبَ الفَلاسِفَةُ إلى اسْتِحالَةِ انْعِدامِ النَّفْسِ وبَرْهَنُوا عَلى ذَلِكَ بِما بَرْهَنُوا، وعِنْدَنا لا اسْتِحالَةَ في ذَلِكَ. * * * «البَحْثُ الخامِسُ في تَمايُزِ الأرْواحِ بَعْدَ مُفارَقَتِها الأبْدانَ» نَصَّ ابْنُ القَيِّمِ عَلى أنَّ كُلَّ رُوحٍ تَأْخُذُ مِن بَدَنِها صُورَةً تَتَمَيَّزُ بِها عَنْ غَيْرِها، وأنَّ تَمايُزَ الأرْواحِ أعْظَمُ مِن تَمايُزِ الأبْدانِ إلّا أنَّهُ زَعَمَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ التَّمايُزُ بَيْنَها عَلى القَوْلِ بِأنَّها جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ عَنِ المادَّةِ وفِيهِ نَظَرٌ؛ فَإنَّ القائِلِينَ بِذَلِكَ قائِلُونَ بِالتَّمايُزِ أيْضًا بِاعْتِبارِ ما يَحْصُلُ لَها مِنَ التَّعَلُّقِ بِالبَدَنِ أوْ بِنَحْوٍ آخَرَ مِنَ التَّمايُزِ، وذَكَرَ الشَّيْخُ إبْراهِيمُ الكُورانِيُّ في بَعْضِ رَسائِلِهِ أنَّ الأرْواحَ بَعْدَ مُفارَقَتِها أبْدانَها المَخْصُوصَةَ تَتَعَلَّقُ بِأبْدانٍ أُخَرَ مِثالِيَّةً حَسْبَما يَلِيقُ بِها وإلى ذَلِكَ الإشارَةُ بِالطَّيْرِ الخُضْرِ في حَدِيثِ الشُّهَداءِ فَفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ أرْواحَ الشُّهَداءِ في أجْوافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّ ذَرّارِيَّ المُؤْمِنِينَ أرْواحُهم في عَصافِيرَ في شَجَرٍ في الجَنَّةِ». أيْ إنَّها تَكُونُ في أبْدانٍ عَلى تِلْكَ الصُّوَرِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ رِوايَةُ ابْنِ ماجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ««أرْواحُ الشُّهَداءِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى كَطَيْرٍ خُضْرٍ»». وفِي لَفْظٍ عَنْ كَعْبٍ: ««أرْواحُ الشُّهَداءِ طَيْرٌ خُضْرٌ»». ولَفْظُ ابْنِ عُمَرَ: ««فِي صُورَةِ طَيْرٍ بِيضٍ»». وفِي رِوايَةِ عَلِيِّ بْنِ عُثْمانَ اللّاحِقِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ «أنَّ ذَرّارِيَّ المُؤْمِنِينَ أرْواحُهم عَصافِيرُ في الجَنَّةِ». وعَلى هَذا يَكُونُ إنْكارُ قَوْمٍ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ خَبَرَ في أجْوافِ طَيْرٍ، وكَذا خَبَرُ: في عَصافِيرَ؛ لِما في ذَلِكَ مِن تَعَلُّقِ رُوحَيْنِ في بَدَنٍ واحِدٍ وقَدْ قالُوا بِاسْتِحالَتِهِ ناشِئًا مِن عَدَمِ التَّأمُّلِ والتَّثَبُّتِ؛ لِأنَّهُ عَلى ما قَرَّرْنا لا يَكُونُ لِلطّائِرِ رُوحٌ غَيْرُ رُوحِ الشَّهِيدِ عَلى أنَّهُ لَوْ بَقِيَ الخَبَرُ عَلى ظاهِرِهِ لَمْ يَلْزَمْ مُحالٌ؛ لِجَوازِ أنْ تَكُونَ الرُّوحُ في جَوْفِ الطَّيْرِ عَلى نَحْوِ كَوْنِ الجَنِينِ في بَطْنِ أُمِّهِ فَتَدَبَّرْ. * * * (p-161)«البَحْثُ السّادِسُ في مُسْتَقَرِّ الأرْواحِ بَعْدَ مُفارَقَةِ الأبْدانِ» الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الأخْبارُ أنَّ مُسْتَقَرَّ الأرْواحِ بَعْدَ المُفارَقَةِ مُخْتَلِفٌ؛ فَمُسْتَقَرُّ أرْواحِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ في أعْلى عِلِّيِّينَ، وصَحَّ أنَّ «آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِها ﷺ: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأعْلى»» وهو يُؤَيِّدُ ما ذُكِرَ، ومُسْتَقَرُّ أرْواحِ الشُّهَداءِ في الجَنَّةِ تَرِدُ مِن أنْهارِها وتَأْكُلُ مِن ثِمارِها وتَأْوِي إلى قَنادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالعَرْشِ، ورُوِيَ في أرْواحِ أطْفالِ المُؤْمِنِينَ ما هو قَرِيبٌ مِن ذَلِكَ. ورَوى ابْنُ المُبارَكِ عَنْ كَعْبٍ قالَ: جَنَّةُ المَأْوى جَنَّةٌ فِيها طَيْرٌ خُضْرٌ تَرْعى فِيها أرْواحُ الشُّهَداءِ عَلى بارِقِ نَهْرٍ بِبابِ الجَنَّةِ في قُبَّةٍ خَضْراءَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهم مِنَ الجَنَّةِ بُكْرَةً وعَشِيًّا. ولَعَلَّ هَذا كَما قالَ ابْنُ رَجَبٍ في عَوامِّ الشُّهَداءِ وما تَقَدَّمَ في خَواصِّهِمْ أوْ لَعَلَّ هَذا في شُهَداءِ الآخِرَةِ كالغَرِيقِ والمَبْطُونِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ، وأمّا مُسْتَقَرُّ أرْواحِ سائِرِ المُؤْمِنِينَ فَقِيلَ في الجَنَّةِ أيْضًا، وهو نَصُّ الإمامِ الشّافِعِيِّ. وقَدْ أخْرَجَ الإمامُ مالِكٌ عَنْ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ مَرْفُوعًا: ««إنَّما نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طائِرٌ يُعَلَّقُ في شَجَرِ الجَنَّةِ حَتّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ تَعالى في جَسَدِهِ حِينَ يَبْعَثُهُ»». ورَواهُ الإمامُ أحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وخَرَّجَهُ النَّسائِيُّ مِن طَرِيقِ مالِكٍ وخَرَّجَهُ ابْنُ ماجَهْ ورَواهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. ورَوى ابْنُ مَندَهْ مِن حَدِيثِ أُمِّ بِشْرٍ مَرْفُوعًا ما هو نَصٌّ في أنَّ مُسْتَقِرَّ أرْواحِ المُؤْمِنِينَ نَحْوَ مُسْتَقَرِّ أرْواحِ الشُّهَداءِ. وقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إنَّ لِلَّهِ تَعالى في السَّماءِ السّابِعَةِ دارًا يُقالُ لَها البَيْضاءُ، يَجْتَمِعُ فِيها أرْواحُ المُؤْمِنِينَ ومُسْتَقَرُّ أرْواحِ الكُفّارِ في سِجِّينٍ. وفِي حَدِيثِ أُمِّ بِشْرٍ «أنَّ أرْواحَ الكُفّارِ في حَواصِلِ طَيْرٍ سُودٍ تَأْكُلُ مِنَ النّارِ، وتَشْرَبُ مِنَ النّارِ، وتَأْوِي إلى جُحْرٍ في النّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنا لا تُلْحِقْ بِنا إخْوانَنا، ولا تُؤْتِنا ما وعَدَتْنا». وقِيلَ: مُسْتَقَرُّ أرْواحِ المَوْتى أفْنِيَةُ قُبُورِهِمْ، وحَكى هَذا ابْنُ حَزْمٍ عَنْ عامَّةِ أهْلِ الحَدِيثِ، واسْتَدَلَّ لَهُ بَعْضُهم بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ««إذا ماتَ أحَدُكم عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالغَداةِ والعَشِيِّ، إنْ كانَ مِن أهْلِ الجَنَّةِ فَمِن أهْلِ الجَنَّةِ، وإنْ كانَ مِن أهْلِ النّارِ فَمِن أهْلِ النّارِ، يُقالُ: هَذا مَقْعَدُكَ حَتّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ تَعالى»». وبِأنَّهُ ﷺ حِينَ زارَ المَوْتى قالَ: ««السَّلامُ عَلَيْكم دارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ»». ورَجَّحَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ أنَّ مُسْتَقَرُّ أرْواحِ ما عَدا الشُّهَداءَ بِأفْنِيَةِ القُبُورِ، وفِيهِ أنَّهُ إنْ أُرِيدَ أنَّ الأرْواحَ لا تُفارِقُ الأفْنِيَةَ فَهو خَطَأٌ يَرُدُّهُ نُصُوصُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وإنْ أُرِيدَ أنَّها تَكُونُ هُناكَ وقْتًا مِنَ الأوْقاتِ كَما رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ: الأرْواحُ عَلى القُبُورِ سَبْعَةُ أيّامٍ مِن يَوْمِ دَفْنِ المَيِّتِ؛ أوَّلُها إشْراقٌ عَلى قُبُورِها، وهي في مَقَرِّها. فَهو حَقٌّ لَكِنْ لا يُقالُ: مُسْتَقَرُّها أقْنِيَةُ القُبُورِ، وعَوَّلَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ عَلى أنَّ الأرْواحَ حَيْثُ كانَتْ لَها اتِّصالٌ لا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ إلّا اللَّهُ تَعالى، وبِذَلِكَ تَرُدُّ السَّلامَ وتَعْرِفُ المُسَلِّمَ، ويُعْرَضُ عَلَيْها مَقْعَدُها مِنَ الجَنَّةِ أوِ النّارِ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لا مانِعَ مِنَ انْتِقالِها مِن مُسْتَقَرِّها وُعَوْدِها إلَيْهِ في أسْرَعِ وقْتٍ حَيْثُ يَشاءُ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ، نَعَمْ جاءَ في حَدِيثِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ أرْواحَ المُؤْمِنِينَ تَسْتَقِرُّ في الأرْضِ ولا تَعُودُ إلى السَّماءِ بَعْدَ عَرْضِها حَيْثُ قالَ فِيهِ في صِفَةِ قَبْضِ رُوحِ المُؤْمِنِ: فَإذا انْتَهى إلى العَرْشِ كُتِبَ كِتابُهُ في عِلِّيِّينَ، ويَقُولُ الرَّبُّ تَعالى شَأْنُهُ: رُدُّوا عَبْدِي إلى مَضْجَعِهِ؛ فَإنِّي وعَدْتُهم أنِّي مِنها خَلَقْتُهُمْ، وفِيها أُعِيدُهُمْ، ومِنها أُخْرِجُهم تارَةً أُخْرى. وفِي لَفْظٍ: رُدُّوا رُوحَ عَبْدِي إلى الأرْضِ، فَإنِّي وعَدْتُهم أنْ أرُدَّهم فِيها، ثُمَّ قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿مِنها خَلَقْناكُمْ﴾ الآيَةَ. لَكِنْ قالَ الحافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: إنَّ حَدِيثَ البَراءِ وحْدَهُ لا يُعارِضُ الأحادِيثَ الكَثِيرَةَ المُصَرِّحَةَ بِأنَّ الأرْواحَ في الجَنَّةِ لا سِيَّما الشُّهَداءُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنها خَلَقْناكُمْ﴾ إلَخْ بِاعْتِبارِ الأبْدانِ، وقالَتْ طائِفَةٌ: مُسْتَقَرُّ الأرْواحِ مُطْلَقًا في السَّماءِ الدُّنْيا عَنْ يَمِينِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وعَنْ شِمالِهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبِي ذَرٍّ مِن حَدِيثِ المِعْراجِ فَفِيهِ: «لَمّا فُتِحَ عَلَوْنا السَّماءَ الدُّنْيا (p-162)فَإذا رَجُلٌ قاعِدٌ عَلى يَمِينِهِ أسْوِدَةٌ وعَلى يَسارِهِ أسْوِدَةٌ، فَإذا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وإذا نَظَرَ قِبَلَ شَمالِهِ بَكى، فَقالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصّالِحِ والِابْنِ الصّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَن هَذا؟ قالَ: آدَمُ، وهَذِهِ الأسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وشِمالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، وأهْلُ اليَمِينِ هم أهْلُ الجَنَّةِ، والأسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمالِهِ أهْلُ النّارِ». ويُجابُ بِأنَّ المُرادَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَرى هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مِن جِهَةِ يَمِينِهِ وجِهَةِ شِمالِهِ وهو يُجامِعُ كَوْنَ أرْواحِ كُلِّ فَرِيقٍ في مُسْتَقَرِّها مِنَ الجَنَّةِ والنّارِ؛ فَقَدْ رَأى النَّبِيُّ ﷺ الجَنَّةَ والنّارَ في صَلاةِ الكُسُوفِ وهو في الأرْضِ، والجَنَّةُ لَيْسَتْ فِيها، ورَآهُما وهو في السَّماءِ، والنّارُ لَيْسَتْ فِيها، وفي حَدِيثٍ لِأبِي هُرَيْرَةَ في الإسْراءِ ما يُؤَيِّدُ ما قُلْنا. والنَّسَفِيُّ في بَحْرِ الكَلامِ جَعَلَ الأرْواحَ عَلى أرْبَعَةِ أقْسامٍ: أرْواحُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ تَخْرُجُ مِن جَسَدِها ويَصِيرُ مِثْلُ صُورَتِها مِثْلَ المِسْكِ والكافُورِ وتَكُونُ في الجَنَّةِ تَأْكُلُ وتَشْرَبُ وتَتَنَعَّمُ وتَأْوِي بِاللَّيْلِ إلى قَنادِيلَ مُعَلَّقَةٍ تَحْتَ العَرْشِ، وأرْواحُ الشُّهَداءِ تَخْرُجُ مِن جَسَدِها وتَكُونُ في أجْوافِ طَيْرٍ خُضْرٍ في الجَنَّةِ تَأْكُلُ وتَتَنَعَّمُ وتَأْوِي إلى قَنادِيلَ كَأرْواحِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وأرْواحُ المُطِيعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِرَبَضِ الجَنَّةِ لا تَأْكُلُ ولا تَتَمَتَّعُ ولَكِنْ تَنْظُرُ إلى الجَنَّةِ، وأرْواحُ العُصاةِ مِنهم تَكُونُ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ في الهَواءِ، وأمّا أرْواحُ الكُفّارِ فَفي سِجِّينٍ؛ في جَوْفِ طَيْرٍ سُودٍ تَحْتَ الأرْضِ السّابِعَةِ وهي مُتَّصِلَةٌ بِأجْسادِها فَتُعَذَّبُ الأرْواحُ وتَتَألَّمُ مِن ذَلِكَ الأجْسادُ اه. وما ذَكَرَهُ في أرْواحِ المُطِيعِينَ مُخالِفٌ لِما صَحَّ مِن أنَّها تَتَمَتَّعُ في الجَنَّةِ، وفي الإفْصاحِ أنَّ المُنَعَّمَ مِنَ الأرْواحِ عَلى جِهاتٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ مِنها ما هو طائِرٌ في شَجَرِ الجَنَّةِ ومِنها ما هو في حَواصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ ومِنها ما يَأْوِي إلى قَنادِيلَ تَحْتَ العَرْشِ ومِنها ما هو في حَواصِلِ طَيْرٍ بِيضٍ ومِنها ما هو في حَواصِلِ طَيْرٍ كالزَّرازِيرِ، ومِنها ما هو في أشْخاصِ صُوَرٍ مِن صُوَرِ الجَنَّةِ، ومِنها ما هو في صُورَةٍ تُخْلَقُ مِن ثَوابِ أعْمالِهِمْ، ومِنها ما تَسْرَحُ وتَتَرَدَّدُ إلى جُثَّتِها وتَزُورُها، ومِنها ما تَتَلَقّى أرْواحَ المَقْبُوضِينَ ومِمَّنْ سِوى ذَلِكَ ما هو في كَفالَةِ مِيكائِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ومِنها ما هو في كَفالَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ومِنها ما هو في كَفالَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ اه، قالَ القُرْطُبِيُّ: وهَذا قَوْلٌ حَسَنٌ يَجْمَعُ الأخْبارَ حَتّى لا تَتَدافَعَ وارْتَضاهُ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا عَنْ مالِكٍ قالَ: بَلَغَنِي أنَّ الرُّوحَ مُرْسَلَةٌ تَذْهَبُ حَيْثُ شاءَتْ وهو إنْ صَحَّ لَيْسَ عَلى إطْلاقِهِ. وقِيلَ في مُسْتَقَرِّ الأرْواحِ غَيْرُ ذَلِكَ حَتّى زَعَمَ بَعْضُهم أنَّ مُسْتَقَرَّها لِعَدَمِ المَحْضِ وهو مَبْنِيٌّ عَلى أنَّها مِنَ الإعْراضِ وهي الحَياةُ وهو قَوْلٌ باطِلٌ عاطِلٌ فاسِدٌ كاسِدٌ يَرُدُّهُ الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجْماعُ والعَقْلُ السَّلِيمُ، ويُعْجِبُنِي في هَذا الفَصْلِ ما ذَكَرَهُ الإمامُ العارِفُ ابْنُ بُرْجانَ في شَرْحِ أسْماءِ اللَّهِ تَعالى الحُسْنى حَيْثُ قالَ: والنَّفْسُ مُبْراةٌ مِن باطِنِ ما خَلَقَ مِنهُ الجِسْمَ وهي رُوحُ الجِسْمِ، وأوْجَدَ تَبارَكَ وتَعالى الرُّوحُ مِن باطِنِ ما بَرَأ مِنهُ النَّفْسَ، وهو لِلنَّفْسِ بِمَنزِلَةِ النَّفْسِ لِلْجِسْمِ والنَّفْسُ حِجابُهُ، والرَّوْحُ يُوصَفُ بِالحَياةِ بِإحْياءِ اللَّهِ تَعالى شَأْنُهُ لَهُ، ومَوْتُهُ خُمُودٌ إلّا ما شاءَ اللَّهُ تَعالى يَوْمَ خُمُودِ الأرْواحِ، والجِسْمُ يُوصَفُ بِالمَوْتِ حَتّى يُحْيا بِالرُّوحِ، ومَوْتُهُ مُفارَقَةُ الرُّوحِ إيّاهُ، وإذا فارَقَ هَذا العَبْدُ الرُّوحانِيُّ الجِسْمَ صُعِدَ بِهِ فَإنْ كانَ مُؤْمِنًا فُتِحَتْ لَهُ أبْوابُ السَّماءِ حَتّى يَصْعَدَ إلى رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ فَيُؤْمَرُ بِالسُّجُودِ فَيَسْجُدُ ثُمَّ يَجْعَلُ حَقِيقَتَهُ النَّفْسانِيَّةَ تَعْمُرُ السُّفْلَ مِن قَبْرِهِ إلى حَيْثُ شاءَ اللَّهُ تَعالى مِنَ الجَوِّ، وحَقِيقَتُهُ الرُّوحانِيَّةُ تَعْمُرُ العُلُوَّ مِنَ السَّماءِ الدُّنْيا إلى السّابِعَةِ في سُرُورٍ ونَعِيمٍ، ولِذَلِكَ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قائِمًا في قَبْرِهِ يُصَلِّي وإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قَبْلَ صُعُودِهِ إلى السَّماءِ الدُّنْيا ولَقِيَهُما في السَّمَواتِ العُلى، فَتِلْكَ أرْواحُهُما وهَذِهِ نُفُوسُهُما وأجْسادُهُما في قُبُورِهِما، وإنْ كانَ شَقِيًّا لَمْ يُفْتَحْ لَهُ فَرُمِيَ مِن عُلُوٍّ إلى الأرْضِ اه. وفِيهِ القَوْلُ (p-163)بِالمُغايَرَةِ بَيْنَ الرُّوحِ والنَّفْسِ، وبِهَذا التَّحْقِيقِ تَنْدَفِعُ مُعارَضاتٌ كَثِيرَةٌ واعْتِراضاتٌ وفِيرَةٌ، ويُعْلَمُ أنَّ حَدِيثَ ما مِن أحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أخِيهِ المُؤْمِنِ كانَ يَعْرِفُهُ في الدُّنْيا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ إلّا عَرَفَهُ ورَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ لَيْسَ نَصًّا في أنَّ الرُّوحَ عَلى القَبْرِ إذْ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ الَّذِي في القَبْرِ حَقِيقَتُهُ النَّفْسانِيَّةُ المُتَّصِلَةُ بِالرُّوحِ اتِّصالًا لا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إلّا اللَّهُ تَعالى. ولِلرُّوحِ مَعَ ذَلِكَ أحْوالًا وأطْوارًا لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ تَعالى؛ فَقَدْ تَكُونُ مُسْتَغْرِقَةً بِمُشاهَدَةِ جَمالِ اللَّهَ تَعالى وجَلالِهِ سُبْحانَهُ ونَحْوِ ذَلِكَ وقَدْ تَصْحُو عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِغْراقِ وهو المُرادُ بِرَدِّ الرُّوحِ في خَبَرِ: ««ما مِن أحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلّا رَدَّ اللَّهُ تَعالى رُوحِي فَأرُدُّ عَلَيْهِ السَّلامَ»». والَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ مَعَ ما ذُكِرَ أنَّ الأرْواحَ وإنِ اخْتَلَفَ مُسْتَقَرُّها بِمَعْنى مَحَلِّها الَّذِي أُعْطِيَتَهُ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعالى جَزاءَ عَمَلِها لَكِنْ لَها جَوَلانًا في مُلْكِ اللَّهِ تَعالى حَيْثُ شاءَ جَلَّ جَلالُهُ ولا يَكُونُ إلّا بَعْدَ الإذْنِ وهي مُتَفاوِتَةٌ في ذَلِكَ حَسْبَ تَفاوُتِها في القُرْبِ والزُّلْفى مِنَ اللَّهِ تَعالى حَتّى إنَّ بَعْضَ الأرْواحِ الطّاهِرَةِ لَتَظْهَرُ فَيَراها مَن شاءَ اللَّهُ تَعالى مِنَ الأحْياءِ يَقَظَةً، وأنَّ أرْواحَ المَوْتى تَتَلاقى وتَتَزاوَرُ وتَتَذاكَرُ وقَدْ تَتَلاقى أرْواحُ الأمْواتِ والأحْياءِ مَنامًا ولا يُنْكِرُ ذَلِكَ إلّا مَن يَجْعَلُ الرُّؤْيا خَيالاتٍ لا أصْلَ لَها، وذَلِكَ لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ لَكِنْ لا يَنْبَغِي أنْ يُبْنى عَلى ذَلِكَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لِاحْتِمالِ عَدَمِ الصِّحَّةِ وإنْ قامَتْ قَرِينَةٌ عَلَيْها، وما صَحَّ مِن أنَّ ثابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ خَرَجَ مَعَ خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ إلى حَرْبِ مُسَيْلِمَةَ فاسْتُشْهِدَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وكانَ عَلَيْهِ دِرْعٌ نَفِيسَةٌ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ فَأخَذَها فَبَيْنا رَجُلٌ مِنَ الجُنْدِ نائِمٌ إذْ أتاهُ ثابِتٌ في مَنامِهِ فَقالَ لَهُ: أُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ فَإيّاكَ أنْ تَقُولَ: هَذا حُلْمٌ فَتُضَيِّعَهُ؛ إنِّي لَمّا قُتِلْتُ أمْسِ مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ فَأخَذَ دِرْعِي ومَنزِلُهُ في أقْصى النّاسِ وعِنْدَ خِبائِهِ فَرَسٌ يَسْتَنُّ في طُولِهِ وقَدْ كَفى عَلى الدِّرْعِ بُرْمَةً وفَوْقَ البُرْمَةِ رَحْلٌ فَأْتِ خالِدًا فَمُرْهُ أنْ يَبْعَثَ إلَيَّ دِرْعِي فَيَأْخُذَها وإذا قَدِمْتَ المَدِينَةَ عَلى خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُلْ لَهُ: إنَّ عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ كَذا وكَذا، وفُلانٌ مِن رَقِيقِي عَتِيقٌ، فَأتى الرَّجُلُ خالِدًا فَأخْبَرَهُ فَبَعَثَ إلى الدِّرْعِ وأتى بِها وحَدَّثَ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِرُؤْياهُ فَأجازَ وصِيَّتَهُ، وقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ وغَيْرُهُ مُجابٌ عَنْهُ بِأنَّ ذَلِكَ كانَ بِإجازَةِ الوارِثِ وهي بِنْتُهُ لِغَلَبَةِ ظَنِّ صِدْقِ الرُّؤْيا بِما قامَ مِنَ القَرِينَةِ ولَوْ لَمْ تُجِزْ لَمْ يَسُغْ لِأبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيا، وقِيلَ: إنَّ أبا بَكْرٍ لَمْ يَرَ الرَّدَّ فَفَعَلَ ذَلِكَ مِن حِصَّةِ بَيْتِ المالِ، ومِثْلُ هَذِهِ القِصَّةِ قِصَّةُ مُصْعَبِ بْنِ جَثّامَةَ وعَوْفِ بْنِ مالِكٍ، وقَدْ ذَكَرَها ابْنُ القَيِّمِ في كِتابِ الرُّوحِ وهي أغْرَبُ مِمّا ذُكِرَ بِكَثِيرٍ، ورُبَّما يُؤْذَنُ لِأرْواحِ بَعْضِ النّاسِ في زِيارَةِ أهْلِيهِمْ كَما ورَدَ في بَعْضِ الآثارِ، وبَعْضُ الأرْواحِ تُحْبَسُ في قَبْرِها أوْ حَيْثُ شاءَ اللَّهُ تَعالى عَنْ مَقامِها كَرُوحِ مَن يَمُوتُ وعَلَيْهِ دَيْنٌ اسْتَدانَهُ في مُحَرَّمٍ لا مُطْلَقًا كَما هو المَشْهُورُ، وتَحْقِيقُهُ في شَرْحِ الشَّمائِلِ لِلْعَلّامَةِ ابْنِ حَجَرٍ. ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ اتِّصالَ الرُّوحِ بِالبَدَنِ لا يَخْتَصُّ بِجُزْءٍ دُونَ جُزْءٍ، بَلْ هي مُتَّصِلَةٌ مُشْرِقَةٌ عَلى سائِرِ أجْزائِهِ، وإنْ تَفَرَّقَتْ وكانَ جُزْءٌ بِالمَشْرِقِ وجُزْءٌ بِالمَغْرِبِ، ولَعَلَّ هَذا الإشْراقَ عَلى الأجْزاءِ الأصْلِيَّةِ لِأنَّها الَّتِي يَقُومُ بِها الإنْسانُ مِن قَبْرِهِ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى ما اخْتارَهُ جَمْعٌ، واعْلَمْ أيْضًا أنَّ الرُّوحَ عَلى القَوْلِ بِتَجَرُّدِها لا مُسْتَقَرَّ لَها بَلْ لا يُقالُ إنَّها داخِلَ العالَمِ أوْ خارِجَهُ كَما سَمِعْتَ وإنَّما المُسْتَقَرُّ حِينَئِذٍ لِلْبَدَنِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ، وقَدْ نَصَّ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ عَلى أنَّهُ لا مانِعَ مِن أنْ تَتَعَلَّقَ نَفْسٌ بِبَدَنَيْنِ فَأكْثَرَ، بَلْ هو واقِعٌ عِنْدَهُمْ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ أحَدَ البَدَنَيْنِ هو البَدَنُ الأصْلِيُّ والآخَرُ مِثالِيٌّ يَظْهَرُ لِلْعِيانِ عَلى وجْهِ خَرْقِ العادَةِ، وقالَ آخَرُ: إنَّ الآخَرَ مِن بابِ تَطَوُّرِ الرُّوحِ وظُهُورِها بِصُورَةٍ عَلى نَحْوِ ظُهُورِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِصُورَةِ دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ، وظُهُورِ القُرْآنِ لِحافِظِهِ بِصُورَةِ الرَّجُلِ الشّاحِبِ (p-164)يَوْمَ القِيامَةِ، والفَلاسِفَةُ قالُوا: لا يَجُوزُ أنْ تَتَعَلَّقَ نَفْسٌ واحِدَةٌ بِأبْدانٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ مَعْلُومُ أحَدِها مَعْلُومُ الآخَرِ، ومَجْهُولُ أحَدِها مَجْهُولُ الآخَرِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الأمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، ولا يَخْفى أنَّ هَذا الدَّلِيلَ يَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ إنْسانَيْنِ يَعْلَمُ أحَدُهُما ما لا يَعْلَمُ الآخَرُ فَإنَّ نَفْسَهُما مُتَغايِرَتانِ فَلِمَ لا يَجُوزُ وُجُودُ إنْسانَيْنِ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِما نَفْسٌ واحِدَةٌ، ويَكُونُ كُلُّ ما عَلِمَهُ أحَدُهُما عَلِمَهُ الآخَرُ لا مَحالَةَ، وما يَجْهَلُهُ أحَدُهُما يَكُونُ مَجْهُولًا لِلْآخَرِ لا بُدَّ لِعَدَمِ الجَوازِ مِن دَلِيلٍ، وعَلى ما ذَكَرَهُ هَؤُلاءِ الصُّوفِيَّةُ يَجُوزُ أنْ تَتَعَلَّقَ الرُّوحُ بِبَدَنٍ في الجَنَّةِ وبِبَدَنٍ آخَرَ حَيْثُ شاءَ اللَّهُ تَعالى بَلْ يَجُوزُ أنْ تَظْهَرَ في صُوَرٍ شَتّى في أماكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ عَلى حَدِّ ما قالُوهُ في جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ في حالِ ظُهُورِهِ في صُورَةِ دِحْيَةَ أوْ أعْرابِيٍّ غَيْرِهِ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يُفارِقْ سِدْرَةَ المُنْتَهى، وأنْتَ تَعْلَمُ ما يَقُولُونَ في تَجَلِّي اللَّهِ تَعالى في الصُّوَرِ وسَمِعْتَ خَبَرَ: ««إنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ آدَمَ عَلى صُورَتِهِ»». ومِن هُنا قالُوا: مَن عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ فافْهَمِ الإشارَةَ، ولَعَمْرِي هي عِبارَةٌ، ثُمَّ إنَّ أرْواحَ سائِرِ الحَيَواناتِ مِنَ البَهائِمِ ونَحْوِها قِيلَ: تَكُونُ بَعْدَ المُفارَقَةِ في الهَواءِ ولا اتِّصالَ لَها بِالأبْدانِ، وقِيلَ: تُعْدَمُ ولا يُعْجِزُ اللَّهَ تَعالى شَيْءٌ، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: إنْ كانَ لِلْحَيَواناتِ حَشْرٌ يَوْمَ القِيامَةِ كَما هو المَشْهُورُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ ظَواهِرُ الآياتِ والأخْبارِ فالأوْلى أنْ يُقالَ بِبَقاءِ أرْواحِها في الهَواءِ أوْ حَيْثُ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَها حَشْرٌ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الغَزالِيُّ وأوَّلَ الظَّواهِرَ فالأوْلى أنْ يُقالَ بِانْعِدامِها، هَذا وبَقِيَتْ أبْحاثٌ كَثِيرَةٌ تَرَكْناها لِضِيقِ القَفَصِ واتِّساعِ دائِرَةِ الغُصَصِ، ولَعَلَّ فِيما ذَكَرْناهُ هُنا مَعَ ما ذَكَرْناهُ فِيما قَبْلُ كِفايَةً لِأهْلِ البِدايَةِ وهِدايَةً لِمَن ساعَدَتْهُ العِنايَةُ، واللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ولِيُّ الكَرَمِ والجُودِ، ومِنهُ سُبْحانُهُ بَدْءُ كُلِّ شَيْءٍ وإلَيْهِ جَلَّ وعَلا يَعُودُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب