الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا خَتَمَ الآيَةَ المُتَقَدِّمَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ﴾ وذَكَرْنا أنَّ المُرادَ مِنهُ مُشاكَلَةُ الأرْواحِ لِلْأفْعالِ الصّادِرَةِ عَنْها وجَبَ البَحْثُ هَهُنا عَنْ ماهِيَّةِ الرُّوحِ وحَقِيقَتِهِ فَلِذَلِكَ سَألُوا عَنِ الرُّوحِ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: لِلْمُفَسِّرِينَ في الرُّوحِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ أقْوالٌ أظْهَرُها أنَّ المُرادَ مِنهُ الرُّوحُ الَّذِي (p-٣١)هُوَ سَبَبُ الحَياةِ، رُوِيَ «أنَّ اليَهُودَ قالُوا لِقُرَيْشٍ: اسْألُوا مُحَمَّدًا عَنْ ثَلاثٍ فَإنْ أخْبَرَكم بِاثْنَتَيْنِ وأمْسَكَ عَنِ الثّالِثَةِ فَهو نَبِيٌّ: اسْألُوهُ عَنْ أصْحابِ الكَهْفِ وعَنْ ذِي القَرْنَيْنِ وعَنِ الرَّوْحِ فَسَألُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ فَقالَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: غَدًا أُخْبِرُكم ولَمْ يَقُلْ إنْ شاءَ اللَّهُ فانْقَطَعَ عَنْهُ الوَحْيُ أرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ نَزَلَ الوَحْيُ بَعْدَهُ: ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ ( الكَهْفِ: ٢٣ - ٢٤) ثُمَّ فَسَّرَ لَهم قِصَّةَ أصْحابِ الكَهْفِ وقِصَّةَ ذِي القَرْنَيْنِ وأبْهَمَ قِصَّةَ الرُّوحِ ونَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي»﴾ وبَيَّنَ أنَّ عُقُولَ الخَلْقِ قاصِرَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ فَقالَ: ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا﴾ ومِنَ النّاسِ مَن طَعَنَ في هَذِهِ الرِّوايَةِ مِن وُجُوهٍ: أوَّلُها: أنَّ الرُّوحَ لَيْسَ أعْظَمَ شَأْنًا ولا أعْلى مَكانًا مِنَ اللَّهِ تَعالى فَإذا كانَتْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعالى مُمْكِنَةً بَلْ حاصِلَةً فَأيُّ مانِعٍ يَمْنَعُ مِن مَعْرِفَةِ الرُّوحِ. وثانِيها: أنَّ اليَهُودَ قالُوا: إنْ أجابَ عَنْ قِصَّةِ أصْحابِ الكَهْفِ وقِصَّةِ ذِي القَرْنَيْنِ ولَمْ يُجِبْ عَنِ الرُّوحِ فَهو نَبِيٌّ، وهَذا كَلامٌ بَعِيدٌ عَنِ العَقْلِ لِأنَّ قِصَّةَ أصْحابِ الكَهْفِ وقِصَّةِ ذِي القَرْنَيْنِ لَيْسَتْ إلّا حِكايَةً مِنَ الحِكاياتِ وذِكْرُ الحِكايَةِ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلى النُّبُوَّةِ، وأيْضًا فالحِكايَةُ الَّتِي يَذْكُرُها إمّا أنْ تُعْتَبَرَ قَبْلَ العِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ أوْ بَعْدَ العِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ، فَإنْ كانَ قَبْلَ العِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ كَذَّبُوهُ فِيها وإنْ كانَ بَعْدَ العِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ فَحِينَئِذٍ صارَتْ نُبُوَّتُهُ مَعْلُومَةً قَبْلَ ذَلِكَ فَلا فائِدَةَ في ذِكْرِ هَذِهِ الحِكايَةِ، وأمّا عَدَمُ الجَوابِ عَنْ حَقِيقَةِ الرُّوحِ فَهَذا يَبْعُدُ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ. وثالِثُها: أنَّ مَسْألَةَ الرُّوحِ يَعْرِفُها أصاغِرُ الفَلاسِفَةِ وأراذِلُ المُتَكَلِّمِينَ فَلَوْ قالَ الرَّسُولُ ﷺ إنِّي لا أعْرِفُها لَأوْرَثَ ذَلِكَ ما يُوجِبُ التَّحْقِيرَ والتَّنْفِيرَ فَإنَّ الجَهْلَ بِمِثْلِ هَذِهِ المَسْألَةِ يُفِيدُ تَحْقِيرَ أيِّ إنْسانٍ كانَ فَكَيْفَ الرَّسُولُ الَّذِي هو أعْلَمُ العُلَماءِ وأفْضَلُ الفُضَلاءِ. ورابِعُها: أنَّهُ تَعالى قالَ في حَقِّهِ: ﴿الرَّحْمَنُ﴾ ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ (الرَّحْمَنِ: ١) ﴿وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ (النِّساءِ: ١١٣) وقالَ: ﴿وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه: ١١٤) وقالَ في صِفَةِ القُرْآنِ: ﴿ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ (الأنْعامِ: ٥٩)، وكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ: ”«أرِنا الأشْياءَ كَما هي» “ فَمَن كانَ هَذا حالُهُ وصِفَتُهُ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أنَّ يَقُولَ أنا لا أعْرِفُ هَذِهِ المَسْألَةَ مَعَ أنَّها مِنَ المَسائِلِ المَشْهُورَةِ المَذْكُورَةِ بَيْنَ جُمْهُورِ الخَلْقِ، بَلِ المُخْتارُ عِنْدَنا أنَّهم سَألُوهُ عَنِ الرُّوحِ وأنَّهُ ﷺ أجابَ عَنْهُ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ، وتَقْرِيرُهُ أنَّ المَذْكُورَ في الآيَةِ أنَّهم سَألُوهُ عَنِ الرُّوحِ، والسُّؤالُ عَنِ الرُّوحِ يَقَعُ عَلى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: أحَدُها: أنْ يُقالَ ماهِيَّةُ الرُّوحِ أهْوَ مُتَحَيَّزٌ أوْ حالٌّ في المُتَحَيَّزِ أوْ مَوْجُودٌ غَيْرُ مُتَحَيَّزٍ ولا حالٌّ في التَّحَيُّزِ. وثانِيها: أنْ يُقالَ الرُّوحُ قَدِيمَةٌ أوْ حادِثَةٌ. وثالِثُها: أنْ يُقالَ الأرْواحُ هَلْ تَبْقى بَعْدَ مَوْتِ الأجْسامِ أوْ تَفْنى. ورابِعُها: أنْ يُقالَ ما حَقِيقَةُ سَعادَةِ الأرْواحِ وشَقاوَتِها، وبِالجُمْلَةِ فالمَباحِثُ المُتَعَلِّقَةُ بِالرُّوحِ كَثِيرَةٌ، وقَوْلُهُ: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ لَيْسَ فِيهِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهم عَنْ هَذِهِ المَسائِلِ سَألُوا أوْ عَنْ غَيْرِها إلّا أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ لَهُ في الجَوابِ عَنْ هَذا السُّؤالِ قَوْلَهُ: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ وهَذا الجَوابُ لا يَلِيقُ إلّا بِمَسْألَتَيْنِ مِنَ المَسائِلِ الَّتِي ذَكَرْناها: إحْداهُما: السُّؤالُ عَنْ ماهِيَّةِ الرُّوحِ والثّانِيَةُ عَنْ قِدَمِها وحُدُوثِها. أمّا البَحْثُ الأوَّلُ: فَهم قالُوا ما حَقِيقَةُ الرُّوحِ وماهِيَّتُهُ ؟ أهْوَ عِبارَةٌ عَنْ أجْسامٍ مَوْجُودَةٍ في داخِلِ هَذا البَدَنِ مُتَوَلِّدَةٍ مِنَ امْتِزاجِ الطَّبائِعِ والأخْلاطِ، أوْ هو عِبارَةٌ عَنْ نَفْسِ هَذا المِزاجِ والتَّرْكِيبِ أوْ هو عِبارَةٌ عَنْ عَرَضٍ آخَرَ قائِمٍ بِهَذِهِ الأجْسامِ، أوْ هو عِبارَةٌ عَنْ مَوْجُودٍ يُغايِرُ هَذِهِ الأجْسامَ والأعْراضَ ؟ فَأجابَ اللَّهُ عَنْهُ بِأنَّهُ مَوْجُودٌ مُغايِرٌ لِهَذِهِ الأجْسامِ ولِهَذِهِ الأعْراضِ وذَلِكَ لِأنَّ هَذِهِ الأجْسامَ أشْياءُ تَحْدُثُ مِنَ امْتِزاجِ الأخْلاطِ والعَناصِرِ، وأمّا الرُّوحُ فَإنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هو جَوْهَرٌ بَسِيطٌ مُجَرَّدٌ لا يَحْدُثُ إلّا بِمُحْدَثِ قَوْلِهِ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ (النَّحْلِ: ٤٠) (p-٣٢)فَقالُوا لِمَ كانَ شَيْئًا مُغايِرًا لِهَذِهِ الأجْسامِ ولِهَذِهِ الأعْراضِ، فَأجابَ اللَّهُ عَنْهُ بِأنَّهُ مَوْجُودٌ يَحْدُثُ بِأمْرِ اللَّهِ وتَكْوِينِهِ وتَأْثِيرِهِ في إفادَةِ الحَياةِ لِهَذا الجَسَدِ، ولا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ العِلْمِ بِحَقِيقَتِهِ المَخْصُوصَةِ نَفْيُهُ فَإنَّ أكْثَرَ حَقائِقِ الأشْياءِ وماهِيّاتِها مَجْهُولَةٌ، فَإنّا نَعْلَمُ أنَّ السَّكَنْجَبِينَ لَهُ خاصِّيَّةٌ تَقْتَضِي قَطْعَ الصَّفْراءِ، فَأمّا إذا أرَدْنا أنْ نَعْرِفَ ماهِيَّةَ تِلْكَ الخاصِّيَّةِ وحَقِيقَتَها المَخْصُوصَةَ فَذاكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَثَبَتَ أنَّ أكْثَرَ الماهِيّاتِ والحَقائِقِ مَجْهُولَةٌ، ولَمْ يَلْزَمْ مِن كَوْنِها مَجْهُولَةً نَفْيُها فَكَذَلِكَ هَهُنا وهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا﴾ . وأمّا البَحْثُ الثّانِي: فَهو أنَّ لَفْظَ الأمْرِ قَدْ جاءَ بِمَعْنى الفِعْلِ قالَ تَعالى: ﴿وما أمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ (هُودٍ: ٩٧) وقالَ: ﴿فَلَمّا جاءَ أمْرُنا﴾ (هُودٍ: ٨٢) أيْ فِعْلُنا، فَقَوْلُهُ: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ أيْ مِن فِعْلِ رَبِّي، وهَذا الجَوابُ يَدُلُّ عَلى أنَّهم سَألُوهُ أنَّ الرُّوحَ قَدِيمَةٌ أوْ حادِثَةٌ فَقالَ بَلْ هي حادِثَةٌ وإنَّما حَصَلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ وتَكْوِينِهِ وإيجادِهِ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلى حُدُوثِ الرُّوحِ بِقَوْلِهِ: ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا﴾ يَعْنِي أنَّ الأرْواحَ في مَبْدَأِ الفِطْرَةِ تَكُونُ خالِيَةً عَنِ العُلُومِ والمَعارِفِ ثُمَّ يَحْصُلُ فِيها العُلُومُ والمَعارِفُ فَهي لا تَزالُ تَكُونُ في التَّغْيِيرِ مِن حالٍ إلى حالٍ وفي التَّبْدِيلِ مِن نُقْصانٍ إلى كَمالٍ، والتَّغْيِيرُ والتَّبْدِيلُ مِن أماراتِ الحُدُوثِ فَقَوْلُهُ: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهم سَألُوهُ أنَّ الرُّوحَ هَلْ هي حادِثَةٌ فَأجابَ بِأنَّها حادِثَةٌ واقِعَةٌ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ وتَكْوِينِهِ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلى حُدُوثِ الأرْواحِ بِتَغَيُّرِها مِن حالٍ إلى حالٍ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا﴾ فَهَذا ما نَقُولُهُ في هَذا البابِ واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في ذَكَرِ سائِرِ الأقْوالِ المَقُولَةِ في نَفْسِ الرُّوحِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ، اعْلَمْ أنَّ النّاسَ ذَكَرُوا أقْوالًا أُخْرى سِوى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ: فالقَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِن هَذا الرُّوحِ هو القُرْآنُ قالُوا وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى سَمّى القُرْآنَ في كَثِيرٍ مِنَ الآياتِ رُوحًا واللّائِقُ بِالرُّوحِ المَسْئُولِ عَنْهُ في هَذا المَوْضِعِ لَيْسَ إلّا القُرْآنَ فَلا بُدَّ مِن تَقْرِيرِ مَقامَيْنِ: المَقامُ الأوَّلُ: تَسْمِيَةُ اللَّهِ القُرْآنَ بِالرُّوحِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ (الشُّورى: ٥٢) وقَوْلُهُ: ﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أمْرِهِ﴾ (النَّحْلِ: ٢) وأيْضًا السَّبَبُ في تَسْمِيَةِ القُرْآنِ بِالرُّوحِ أنَّ بِالقُرْآنِ تَحْصُلُ حَياةَ الأرْواحِ والعُقُولِ؛ لِأنَّ بِهِ تَحْصُلُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعالى ومَعْرِفَةُ مَلائِكَتِهِ ومَعْرِفَةُ كُتُبِهِ ورُسُلِهِ والأرْواحُ إنَّما تَحْيا بِهَذِهِ المَعارِفِ، وتَمامُ تَقْرِيرِ هَذا المَوْضِعِ ذَكَرْناهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أمْرِهِ﴾ (النَّحْلِ: ٢)، وأمّا بَيانُ المَقامِ الثّانِي وهو أنَّ الرُّوحَ اللّائِقَ بِهَذا المَوْضِعِ هو القُرْآنُ لِأنَّهُ تَقَدَّمَهُ قَوْلُهُ: ﴿ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الإسْراءِ: ٨٢) والَّذِي تَأخَّرَ عَنْهُ قَوْلُهُ: ﴿ولَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾ (الإسْراءِ: ٨٦) إلى قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسْراءِ: ٨٨) فَلَمّا كانَ ما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ في وصْفِ القُرْآنِ وما بَعْدَها كَذَلِكَ وجَبَ أيْضًا أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن هَذا الرُّوحِ القُرْآنَ حَتّى تَكُونَ آياتُ القُرْآنِ كُلُّها مُتَناسِبَةً مُتَناسِقَةً، وذَلِكَ لِأنَّ القَوْمَ اسْتَعْظَمُوا أمْرَ القُرْآنِ فَسَألُوا أنَّهُ مِن جِنْسِ الشِّعْرِ أوْ مِن جِنْسِ الكَهانَةِ فَأجابَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهُ لَيْسَ مِن جِنْسِ كَلامِ البَشَرِ وإنَّما هو كَلامٌ ظَهَرَ بِأمْرِ اللَّهِ ووَحْيِهِ وتَنْزِيلِهِ فَقالَ: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ أيِ القُرْآنُ ظَهَرَ بِأمْرِ رَبِّي، ولَيْسَ مِن جِنْسِ كَلامِ البَشَرِ، القَوْلُ الثّانِي: أنَّ الرُّوحَ المَسْئُولَ عَنْهُ في هَذِهِ الآيَةِ مَلَكٌ مِن مَلائِكَةِ السَّماواتِ وهو أعْظَمُهم قَدْرًا وقُوَّةً وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والمَلائِكَةُ صَفًّا﴾ (النَّبَأِ: ٣٨) ونَقَلُوا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ: هو مَلَكٌ لَهُ سَبْعُونَ ألْفَ وجْهٍ، لِكُلِّ وجْهٍ سَبْعُونَ ألْفَ وجْهٍ، لِكُلِّ وجْهٍ سَبْعُونَ ألْفَ لِسانٍ، لِكُلِّ لِسانٍ سَبْعُونَ ألْفَ لُغَةٍ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعالى بِتِلْكَ اللُّغاتِ كُلِّها ويَخْلُقُ (p-٣٣)اللَّهُ مِن كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكًا يَطِيرُ مَعَ المَلائِكَةِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، قالُوا: ولَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ تَعالى خَلْقًا أعْظَمَ مِنَ الرُّوحِ غَيْرَ العَرْشِ ولَوْ شاءَ أنْ يَبْتَلِعَ السَّماواتِ السَّبْعَ والأرْضِينَ السَّبْعَ ومَن فِيهِنَّ بِلُقْمَةٍ واحِدَةٍ لِفَعَلَ، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ هَذا القَوْلُ ضَعِيفٌ وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا التَّفْصِيلَ لَمّا عَرَفَهُ عَلِيٌّ، فالنَّبِيُّ أوْلى أنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهُ فَلِمَ لَمْ يُخْبِرْهم بِهِ، وأيْضًا أنَّ عَلِيًّا ما كانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الوَحْيُ، فَهَذا التَّفْصِيلُ ما عَرَفَهُ إلّا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فَلِمَ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ الشَّرْحَ والبَيانَ لِعَلِيٍّ ولَمْ يَذْكُرْهُ لِغَيْرِهِ. الثّانِي: أنَّ ذَلِكَ المَلَكَ إنْ كانَ حَيَوانًا واحِدًا وعاقِلًا واحِدًا لَمْ يَكُنْ في تَكْثِيرِ تِلْكَ اللُّغاتِ فائِدَةٌ وإنْ كانَ المُتَكَلِّمُ بِكُلِّ واحِدَةٍ مِن تِلْكَ اللُّغاتِ حَيَوانًا آخَرَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَلَكًا واحِدًا بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَجْمُوعَ مَلائِكَةٍ. والثّالِثُ: أنَّ هَذا شَيْءٌ مَجْهُولُ الوُجُودِ فَكَيْفَ يُسْألُ عَنْهُ، أمّا الرُّوحُ الَّذِي هو سَبَبُ الحَياةِ فَهو شَيْءٌ تَتَوَفَّرُ دَواعِي العُقَلاءِ عَلى مَعْرِفَتِهِ فَصَرْفُ هَذا السُّؤالِ إلَيْهِ أوْلى. والقَوْلُ الرّابِعُ: وهو قَوْلُ الحَسَنِ وقَتادَةَ أنَّ هَذا الرُّوحَ جِبْرِيلُ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ تَعالى سَمّى جِبْرِيلَ بِالرُّوحِ في قَوْلِهِ: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ (الشُّعَراءِ: ١٩٣ - ١٩٤) وفي قَوْلِهِ: ﴿فَأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا﴾ ( مَرْيَمَ: ١٧) ويُؤَكِّدُ هَذا أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ (في جِبْرِيلَ) وقالَ (حِكايَةً عَنْ) جِبْرِيلَ: ﴿وما نَتَنَزَّلُ إلّا بِأمْرِ رَبِّكَ﴾ (مَرْيَمَ: ٦٤) فَسَألُوا الرَّسُولَ كَيْفَ جِبْرِيلُ في نَفْسِهِ وكَيْفَ قِيامُهُ بِتَبْلِيغِ الوَحْيِ إلَيْهِ. والقَوْلُ الخامِسُ: قالَ مُجاهِدٌ: الرُّوحُ خَلْقٌ لَيْسُوا مِنَ المَلائِكَةِ عَلى صُورَةِ بَنِي آدَمَ يَأْكُلُونَ ولَهم أيْدٍ وأرْجُلٍ ورُءُوسٍ، وقالَ أبُو صالِحٍ: يُشْبِهُونَ النّاسَ ولَيْسُوا بِالنّاسِ، ولَمْ أجِدْ في القُرْآنِ ولا في الأخْبارِ الصَّحِيحَةِ شَيْئًا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ في إثْباتِ هَذا القَوْلِ وأيْضًا فَهَذا شَيْءٌ مَجْهُولٌ فَيَبْعُدُ صَرْفُ هَذا السُّؤالِ إلَيْهِ، فَحاصِلُ ما ذَكَرْناهُ في تَفْسِيرِ الرُّوحِ المَذْكُورِ في هَذِهِ الآيَةِ هَذِهِ الأقْوالُ الخَمْسَةُ واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في شَرْحِ مَذاهِبِ النّاسِ في حَقِيقَةِ الإنْسانِ، اعْلَمْ أنَّ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ حاصِلٌ بِأنَّ هَهُنا شَيْئًا إلَيْهِ يُشِيرُ الإنْسانُ بِقَوْلِهِ أنا، وإذا قالَ الإنْسانُ: عَلِمْتُ وفَهِمْتُ وأبْصَرْتُ وسَمِعْتُ وذُقْتُ وشَمَمْتُ ولَمَسْتُ وغَضِبْتُ فالمُشارُ إلَيْهِ لِكُلِّ أحَدٍ بِقُولِهِ أنا إمّا أنْ يَكُونَ جِسْمًا أوْ عَرَضًا أوْ مَجْمُوعَ الجِسْمِ والعَرَضِ أوْ شَيْئًا مُغايِرًا لِلْجِسْمِ والعَرَضِ أوْ مِن ذَلِكَ الشَّيْءِ الثّالِثِ فَهَذا ضَبْطٌ مَعْقُولٌ. أمّا القِسْمُ الأوَّلُ: وهو أنْ يُقالَ: إنَّ الإنْسانَ جِسْمٌ فَذَلِكَ الجِسْمُ إمّا أنْ يَكُونَ هو هَذِهِ البِنْيَةَ أوْ جِسْمًا داخِلًا في هَذِهِ البِنْيَةِ أوْ جِسْمًا خارِجًا عَنْها، أمّا القائِلُونَ بِأنَّ الإنْسانَ عِبارَةٌ عَنْ هَذِهِ البِنْيَةِ المَحْسُوسَةِ وعَنْ هَذا الجِسْمِ المَحْسُوسِ فَهم جُمْهُورُ المُتَكَلِّمِينَ وهَؤُلاءِ يَقُولُونَ: الإنْسانُ لا يَحْتاجُ تَعْرِيفُهُ إلى ذِكْرِ حَدٍّ أوْ رَسْمٍ، بَلِ الواجِبُ أنْ يُقالَ: الإنْسانُ هو الجِسْمُ المَبْنِيُّ بِهَذِهِ البِنْيَةِ المَحْسُوسَةِ، واعْلَمْ أنَّ هَذا القَوْلَ عِنْدَنا باطِلٌ وتَقْرِيرُهُ أنَّهم قالُوا: الإنْسانُ هو هَذا الجِسْمُ المَحْسُوسُ، فَإذا أبْطَلْنا كَوْنَ الإنْسانِ عِبارَةً عَنْ هَذا الجِسْمِ وأبْطَلْنا كَوْنَ الإنْسانِ مَحْسُوسًا فَقَدْ بَطَلَ كَلامُهم بِالكُلِّيَّةِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الإنْسانُ عِبارَةً [ عَنْ ] هَذا الجِسْمِ وُجُوهٌ: الحُجَّةُ الأُولى: أنَّ العِلْمَ البَدِيهِيَّ حاصِلٌ بِأنَّ أجْزاءَ هَذِهِ الجُثَّةِ مُتَبَدِّلَةٌ بِالزِّيادَةِ والنُّقْصانِ تارَةً بِحَسَبِ النُّمُوِ والذُّبُولِ، وتارَةً بِحَسَبِ السِّمَنِ والهُزالِ، والعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حاصِلٌ بِأنَّ المُتَبَدِّلَ المُتَغَيِّرَ مُغايِرٌ لِلثّابِتِ الباقِي، ويَحْصُلُ مِن مَجْمُوعِ هَذِهِ المُقَدِّماتِ الثَّلاثَةِ العِلْمُ القَطْعِيُّ بِأنَّ الإنْسانَ لَيْسَ عِبارَةً عَنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الجُثَّةِ. الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّ الإنْسانَ حالَ ما يَكُونُ مُشْتَغِلَ الفِكْرِ مُتَوَجِّهَ الهِمَّةِ نَحْوَ أمْرٍ مُعَيَّنٍ مَخْصُوصٍ فَإنَّهُ في تِلْكَ الحالَةِ يَكُونُ غافِلًا عَنْ جَمِيعِ أجْزاءِ بَدَنِهِ وعَنْ أعْضائِهِ وأبْعاضِهِ مَجْمُوعِها ومُفَصَّلِها وهو في تِلْكَ الحالَةِ (p-٣٤)غَيْرُ غافِلٍ عَنْ نَفْسِهِ المُعَيَّنَةِ بِدَلِيلِ أنَّهُ في تِلْكَ الحالَةِ قَدْ يَقُولُ: غَضِبْتُ واشْتَهَيْتُ وسَمِعْتُ كَلامَكُ وأبْصَرْتُ وجْهَكَ، وتاءُ الضَّمِيرِ كِنايَةٌ عَنْ نَفْسِهِ فَهو في تِلْكَ الحالَةِ عالِمٌ بِنَفْسِهِ المَخْصُوصَةِ وغافِلٌ عَنْ جُمْلَةِ بَدَنِهِ وعَنْ كُلِّ واحِدٍ مِن أعْضائِهِ وأبْعاضِهِ و[ يَكُونُ ] المَعْلُومُ غَيْرَ مَعْلُومٍ، فالإنْسانُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُغايِرًا لِجُمْلَةِ هَذا البَدَنِ ولِكُلِّ واحِدٍ مِن أعْضائِهِ وأبْعاضِهِ. الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّ كُلَّ أحَدٍ يُحَكِّمُ عَقْلَهُ بِإضافَةِ كُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأعْضاءِ إلى نَفْسِهِ فَيَقُولُ رَأْسِي وعَيْنِي ويَدِي ورِجْلِي ولِسانِي وقَلْبِي، والمُضافُ غَيْرُ المُضافِ إلَيْهِ فَوَجَبَ أنَّ يَكُونَ الشَّيْءُ الَّذِي هو الإنْسانُ مُغايِرًا لِجُمْلَةِ هَذا البَدَنِ ولِكُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأعْضاءِ، فَإنْ قالُوا: قَدْ يَقُولُ نَفْسِي وذاتِي فَيُضِيفُ النَّفْسَ والذّاتَ إلى نَفْسِهِ فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وذاتُهُ مُغايِرَةً لِنَفْسِهِ وهو مُحالٌ، قُلْنا: قَدْ يُرادُ بِهِ هَذا البَدَنُ المَخْصُوصُ وقَدْ يُرادُ بِنَفْسِ الشَّيْءِ وذاتِهِ الحَقِيقَةُ المَخْصُوصَةُ الَّتِي يُشِيرُ إلَيْها كُلُّ أحَدٍ بُقُولِهِ أنا، فَإذا قالَ نَفْسِي وذاتِي فَإنْ كانَ المُرادُ البَدَنَ فَعِنْدَنا أنَّهُ مُغايِرٌ لِجَوْهَرِ الإنْسانِ، أمّا إذا أُرِيدَ بِالنَّفْسِ والذّاتِ المَخْصُوصَةِ المُشارُ إلَيْها بِقَوْلِهِ: أنا، فَلا نُسَلِّمُ أنَّ الإنْسانَ يُمْكِنُهُ أنْ يُضِيفَ ذَلِكَ الشَّيْءَ إلى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ إنْسانِي وذَلِكَ لِأنَّ عَيْنَ الإنْسانِ ذاتُهُ فَكَيْفَ يُضِيفُهُ مَرَّةً أُخْرى إلى ذاتِهِ. الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: أنَّ كُلَّ دَلِيلٍ عَلى أنَّ الإنْسانَ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ جِسْمًا فَهو أيْضًا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ عِبارَةً عَنْ هَذا الجِسْمِ وسَيَأْتِي تَقْرِيرُ تِلْكَ الدَّلائِلِ. الحُجَّةُ الخامِسَةُ: أنَّ الإنْسانَ قَدْ يَكُونُ حَيًّا حالَ ما يَكُونُ البَدَنُ مَيِّتًا فَوَجَبَ كَوْنُ الإنْسانِ مُغايِرًا لِهَذا البَدَنِ والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ ما ذَكَرْناهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتًا بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آلِ عِمْرانَ: ١٦٩) فَهَذا النَّصُّ صَرِيحٌ في أنَّ أُولَئِكَ المَقْتُولِينَ أحْياءٌ والحِسُّ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا الجَسَدَ مَيِّتٌ. الحُجَّةُ السّادِسَةُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا﴾ (غافِرٍ: ٤٦) وقَوْلَهُ: ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا﴾ (نُوحٍ: ٢٥) يَدُلُّ عَلى أنَّ الإنْسانَ يَحْيا بَعْدَ المَوْتِ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«أنْبِياءُ اللَّهِ لا يَمُوتُونَ ولَكِنْ يُنْقَلُونَ مِن دارٍ إلى دارٍ» “ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ”«القَبْرُ رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الجَنَّةِ أوْ حُفْرَةٌ مِن حُفَرِ النّارِ» “ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن ماتَ فَقَدْ قامَتْ قِيامَتُهُ» “ كُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ تَدُلُّ عَلى أنَّ الإنْسانَ يَبْقى بَعْدَ مَوْتِ الجَسَدِ، وبَدِيهَةُ العَقْلِ والفِطْرَةِ شاهِدانِ بِأنَّ هَذا الجَسَدَ مَيِّتٌ، ولَوْ جَوَّزْنا كَوْنَهُ حَيًّا جازَ مِثْلُهُ في جَمِيعِ الجَماداتِ، وذَلِكَ عَيْنُ السَّفْسَطَةِ، وإذا ثَبَتَ أنَّ الإنْسانَ شَيْءٌ وكانَ الجَسَدُ مَيِّتًا لَزِمَ أنَّ الإنْسانَ شَيْءٌ غَيْرُ هَذا الجَسَدِ. الحُجَّةُ السّابِعَةُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في خُطْبَةٍ طَوِيلَةٍ لَهُ ”«حَتّى إذا حُمِلَ المَيِّتُ عَلى نَعْشِهِ رَفْرَفَ رُوحُهُ فَوْقَ النَّعْشِ، ويَقُولُ يا أهْلِي ويا ولَدِي لا تَلْعَبَّنَ بِكُمُ الدُّنْيا كَما لَعِبَتْ بِي، جَمَعْتُ المالَ مِن حِلِّهِ وغَيْرِ حِلِّهِ فالغِنى لِغَيْرِي والتَّبِعَةُ عَلَيَّ فاحْذَرُوا مِثْلَ ما حَلَّ بِي» “ وجْهُ الِاسْتِدْلالِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَرَّحَ بِأنَّ حالَ ما يَكُونُ الجَسَدُ مَحْمُولًا عَلى النَّعْشِ بَقِيَ هُناكَ شَيْءٌ يُنادِي ويَقُولُ: يا أهْلِي ويا ولَدِي جَمَعْتُ المالَ مِن حِلِّهِ وغَيْرِ حِلِّهِ ومَعْلُومٌ أنَّ الَّذِي كانَ الأهْلُ أهْلًا لَهُ وكانَ جامِعًا لِلْمالِ مِنَ الحَرامِ والحَلالِ والَّذِي بَقِيَ في رَقَبَتِهِ الوَبالُ لَيْسَ إلّا ذَلِكَ الإنْسانُ فَهَذا تَصْرِيحٌ بِأنَّ في الوَقْتِ الَّذِي كانَ فِيهِ الجَسَدُ مَيِّتًا مَحْمُولًا كانَ ذَلِكَ الإنْسانُ حَيًّا باقِيًا (p-٣٥)فاهِمًا، وذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأنَّ الإنْسانَ شَيْءٌ مُغايِرٌ لِهَذا الجَسَدِ ولِهَذا الهَيْكَلِ. الحُجَّةُ الثّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ (الفَجْرِ: ٢٨) والخِطابُ بِقَوْلِهِ ارْجِعِي إنَّما هو مُتَوَجِّهٌ عَلَيْها حالَ المَوْتُ فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَرْجِعُ إلى اللَّهِ بَعْدَ مَوْتِ الجَسَدِ يَكُونُ حَيًّا راضِيًا عَنِ اللَّهِ ويَكُونُ راضِيًا عَنْهُ اللَّهُ، والَّذِي يَكُونُ راضِيًا لَيْسَ إلّا الإنْسانُ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الإنْسانَ بَقِيَ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ الجَسَدِ والحَيُّ غَيْرُ المَيِّتِ فالإنْسانُ مُغايِرٌ لِهَذا الجَسَدِ. الحُجَّةُ التّاسِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى إذا جاءَ أحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وهم لا يُفَرِّطُونَ﴾ (الأنْعامِ: ٦١)، ﴿ثُمَّ رُدُّوا إلى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ﴾ (الأنْعامِ: ٦٢) أثْبَتَ كَوْنَهم مَرْدُودِينَ إلى اللَّهِ الَّذِي هو مَوْلاهم حالَ كَوْنِ الجَسَدِ مَيِّتًا فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ المَرْدُودُ إلى اللَّهِ مُغايِرًا لِذَلِكَ الجَسَدِ المَيِّتِ. الحُجَّةُ العاشِرَةُ: نَرى جَمِيعَ فِرَقِ الدُّنْيا مِنَ الهِنْدِ والرُّومِ والعَرَبِ والعَجَمِ وجَمِيعِ أرْبابِ المِلَلِ والنِّحَلِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى والمَجُوسِ والمُسْلِمِينَ وسائِرِ فِرَقِ العالَمِ وطَوائِفِهِمْ يَتَصَدَّقُونَ عَنْ مَوْتاهم ويَدْعُونَ لَهم بِالخَيْرِ ويَذْهَبُونَ إلى زِياراتِهِمْ، ولَوْلا أنَّهم بَعْدَ مَوْتِ الجَسَدِ بَقُوا أحْياءً لَكانَ التَّصَدُّقُ عَنْهم عَبَثًا، والدُّعاءُ لَهم عَبَثًا، ولَكانَ الذَّهابُ إلى زِيارَتِهِمْ عَبَثًا، فالإطْباقُ عَلى هَذِهِ الصَّدَقَةِ وعَلى هَذا الدُّعاءِ وعَلى هَذِهِ الزِّيارَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ فِطْرَتَهُمُ الأصْلِيَّةَ السَّلِيمَةَ شاهِدَةٌ بِأنَّ الإنْسانَ شَيْءٌ غَيْرَ هَذا الجَسَدِ، وأنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لا يَمُوتُ، بَلِ [ الَّذِي ] يَمُوتُ هَذا الجَسَدُ. الحُجَّةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ يَرى أباهُ أوِ ابْنَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ في المَنامِ ويَقُولُ لَهُ اذْهَبْ إلى المَوْضِعِ الفُلانِيِّ فَإنَّ فِيهِ ذَهَبًا دَفَنْتُهُ لَكَ وقَدْ يَراهُ فَيُوصِيهِ بِقَضاءِ دَيْنٍ عَنْهُ ثُمَّ عِنْدَ اليَقَظَةِ إذا فَتَّشَ كانَ كَما رَآهُ في النَّوْمِ مِن غَيْرِ تَفاوُتٍ، ولَوْلا أنَّ الإنْسانَ يَبْقى بَعْدَ المَوْتِ لَما كانَ كَذَلِكَ، ولَمّا دَلَّ هَذا الدَّلِيلُ عَلى أنَّ الإنْسانَ يَبْقى بَعْدَ المَوْتِ ودَلَّ الحِسُّ عَلى أنَّ الجَسَدَ مَيِّتٌ كانَ الإنْسانُ مُغايِرًا لِهَذا الجَسَدِ المَيِّتِ. الحُجَّةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ الإنْسانَ إذا ضاعَ عُضْوٌ مِن أعْضائِهِ مِثْلَ أنْ تُقْطَعَ يَداهُ أوْ رِجْلاهُ أوْ تُقْلَعَ عَيْناهُ أوْ تُقْطَعُ أُذُناهُ إلى غَيْرِها مِنَ الأعْضاءِ فَإنَّ ذَلِكَ الإنْسانَ يَجِدُ مِن قَلْبِهِ وعَقْلِهِ أنَّهُ هو عَيْنُ ذَلِكَ الإنْسانِ ولَمْ يَقَعْ في عَيْنِ ذَلِكَ الإنْسانِ تَفاوُتٌ حَتّى أنَّهُ يَقُولُ أنا ذَلِكَ الإنْسانُ الَّذِي كُنْتُ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ إلّا أنَّهُ يَقُولُ إنَّهم قَطَعُوا يَدِي ورِجْلِي، وذَلِكَ بُرْهانٌ يَقِينِيٌّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الإنْسانَ شَيْءٌ مُغايِرٌ لِهَذِهِ الأعْضاءِ والأبْعاضِ وذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَن يَقُولُ الإنْسانُ عِبارَةٌ عَنْ هَذِهِ البِنْيَةِ المَخْصُوصَةِ. الحُجَّةُ الثّالِثَةَ عَشْرَةَ: أنَّ القُرْآنَ والأحادِيثَ يَدُلّانِ عَلى أنَّ جَماعَةً مِنَ اليَهُودِ قَدْ مَسَخَهُمُ اللَّهُ وجَعَلَهم في صُورَةِ القِرَدَةِ والخَنازِيرِ فَنَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ الإنْسانَ هَلْ بَقِيَ حالَ ذَلِكَ المَسْخِ أوْ لَمْ يَبْقَ ؟ فَإنْ لَمْ يَبْقَ كانَ هَذا إماتَةً لِذَلِكَ الإنْسانِ وخَلْقًا لِذَلِكَ الخِنْزِيرِ ولَيْسَ هَذا مِنَ المَسْخِ في شَيْءٍ، وإنْ قُلْنا إنَّ ذَلِكَ الإنْسانَ بَقِيَ حالَ حُصُولِ ذَلِكَ المَسْخِ فَنَقُولُ عَلى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ: ذَلِكَ الإنْسانُ باقٍ وتِلْكَ البِنْيَةُ وذَلِكَ الهَيْكَلُ غَيْرُ باقٍ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الإنْسانُ شَيْئًا مُغايِرًا لِتِلْكَ البِنْيَةِ. الحُجَّةُ الرّابِعَةَ عَشْرَةَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يَرى جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - في صُورَةِ دَحْيَةَ الكَلْبِيِّ وكانَ يَرى إبْلِيسَ في صُورَةِ الشَّيْخِ النَّجْدِيِّ فَهَهُنا بِنْيَةُ الإنْسانِ وهَيْكَلُهُ وشَكْلُهُ حاصِلٌ مَعَ أنَّ حَقِيقَةَ الإنْسانِ (p-٣٦)غَيْرُ حاصِلَةٍ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الإنْسانَ لَيْسَ عِبارَةً عَنْ هَذِهِ البِنْيَةِ وهَذا الهَيْكَلِ، والفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الحُجَّةِ والَّتِي قَبْلَها أنَّهُ حَصَلَتْ صُورَةُ هَذِهِ البِنْيَةِ مَعَ عَدَمِ هَذِهِ البِنْيَةِ وهَذا الهَيْكَلِ. الحُجَّةُ الخامِسَةَ عَشْرَةَ: أنَّ الزّانِي يَزْنِي بِفَرْجِهِ فَيُضْرَبُ عَلى ظَهْرِهِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الإنْسانُ شَيْئًا آخَرَ سِوى الفَرْجِ وسِوى الظَّهْرِ، ويُقالُ إنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ يَسْتَعْمِلُ الفَرْجَ في عَمَلٍ والظَّهْرَ في عَمَلٍ آخَرَ، فَيَكُونُ المُتَلَذِّذُ والمُتَألِّمُ هو ذَلِكَ الشَّيْءُ إلّا أنَّهُ تَحْصُلَ تِلْكَ اللَّذَّةُ بِواسِطَةِ ذَلِكَ العُضْوِ ويَتَألَّمُ بِواسِطَةِ الضَّرْبِ عَلى هَذا العُضْوِ. الحُجَّةُ السّادِسَةَ عَشْرَةَ: أنِّي إذا تَكَلَّمْتُ مَعَ زَيْدٍ وقُلْتُ لَهُ افْعَلْ كَذا أوْ لا تَفْعَلْ كَذا فالمُخاطَبُ بِهَذا الخِطابِ والمَأْمُورُ والمَنهِيُّ لَيْسَ هو جَبْهَةَ زَيْدٍ ولا حَدَقَتَهُ ولا أنْفَهُ ولا فَمَهُ ولا شَيْئًا مِن أعْضائِهِ بِعَيْنِهِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المَأْمُورُ والمَنهِيُّ والمُخاطَبُ شَيْئًا مُغايِرًا لِهَذِهِ الأعْضاءِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ المَأْمُورَ والمَنهِيَّ غَيْرُ هَذا الجَسَدِ فَإنْ قالُوا: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ المَأْمُورُ والمَنهِيُّ جُمْلَةُ هَذا البَدَنِ لا شَيْءٌ مِن أعْضائِهِ وأبْعاضِهِ ؟ قُلْنا: بِوَجْهِ التَّكْلِيفِ عَلى الجُمْلَةِ إنَّما يَصِحُّ لَوْ كانَتِ الجُمْلَةُ فاهِمَةً عالِمَةً فَنَقُولُ لَوْ كانَتِ الجُمْلَةُ فاهِمَةً عالِمَةً فَإمّا أنْ يَقُومَ بِمَجْمُوعِ البَدَنِ عِلْمٌ واحِدٌ أوْ يَقُومَ بِكُلِّ واحِدٍ مِن أجْزاءِ البَدَنِ عِلْمٌ عَلى حِدَةٍ، والأوَّلُ يَقْتَضِي قِيامَ العَرَضِ بِالمَحالِّ الكَثِيرَةِ وهو مُحالٌ، والثّانِي يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِن أجْزاءِ البَدَنِ عالِمًا فاهِمًا مُدْرِكًا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِقْلالِ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ حاصِلٌ بِأنَّ الجُزْءَ المُعَيَّنَ مِنَ البَدَنِ لَيْسَ عالِمًا فاهِمًا مُدْرِكًا بِالِاسْتِقْلالِ فَسَقَطَ هَذا السُّؤالُ. الحُجَّةُ السّابِعَةَ عَشْرَةَ: أنَّ الإنْسانَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ عالِمًا، والعِلْمُ لا يَحْصُلُ إلّا في القَلْبِ فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ الإنْسانُ عِبارَةً عَنِ الشَّيْءِ المَوْجُودِ في القَلْبِ وإذا ثَبَتَ هَذا بَطَلَ القَوْلُ بِأنَّ الإنْسانَ عِبارَةٌ عَنْ هَذا الهَيْكَلِ، وهَذِهِ الجُثَّةِ إنَّما قُلْنا إنَّ الإنْسانَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ عالِمًا لِأنَّهُ فاعِلٌ مُخْتارٌ، والفاعِلُ المُخْتارُ هو الَّذِي يَفْعَلُ بِواسِطَةِ القَلْبِ والِاخْتِيارِ وهُما مَشْرُوطانِ بِالعِلْمِ لِأنَّ ما لا يَكُونُ مَقْصُودًا امْتَنَعَ القَصْدُ إلى تَكْوِينِهِ فَثَبَتَ أنَّ الإنْسانَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ عالِمًا بِالأشْياءِ، وإنَّما قُلْنا إنَّ العِلْمَ لا يُوجَدُ إلّا في القَلْبِ لِلْبُرْهانِ والقُرْآنِ، أمّا البُرْهانُ فَلِأنّا نَجِدُ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأنّا نَجِدُ عُلُومَنا مِن ناحِيَةِ القَلْبِ، وأمّا القُرْآنُ فَآياتٌ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَهم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها﴾ (الأعْرافِ: ١٧٩) وقَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ﴾ (المُجادَلَةِ: ٢٢) وقَوْلِهِ: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ ( الشُّعَراءِ: ١٩٣ - ١٩٤) وإذا ثَبَتَ أنَّ الإنْسانَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ عالِمًا، وثَبَتَ أنَّ العِلْمَ لَيْسَ إلّا في القَلْبِ أوْ شَيْءٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالقَلْبِ وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَإنَّهُ يُبْطِلُ قَوْلَ مَن يَقُولُ: الإنْسانُ هو هَذا الجَسَدُ وهَذا الهَيْكَلُ. وأمّا البَحْثُ الثّانِي: وهو بَيانُ أنَّ الإنْسانَ غَيْرُ مَحْسُوسٍ، وهو أنَّ حَقِيقَةَ الإنْسانِ شَيْءٌ مُغايِرٌ لِلسَّطْحِ واللَّوْنِ وكُلِّ ما هو مَرْئِيٌّ، فَهو إمّا السَّطْحُ وإمّا اللَّوْنُ وهُما مُقَدِّمَتانِ قَطْعِيَّتانِ ويُنْتِجُ هَذا القِياسُ أنَّ حَقِيقَةَ الإنْسانِ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ ولا مَحْسُوسَةٍ وهَذا بُرْهانٌ يَقِينِيٌّ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في شَرْحِ مَذاهِبِ القائِلِينَ بِأنَّ الإنْسانَ جِسْمٌ مَوْجُودٌ في داخِلِ البَدَنِ، اعْلَمْ أنَّ الأجْسامَ المَوْجُودَةَ في هَذا العالَمِ السُّفْلِيِّ إمّا أنْ تَكُونَ أحَدَ العَناصِرِ الأرْبَعَةِ أوْ ما يَكُونُ مُتَوَلِّدًا مِنَ امْتِزاجِها، ويَمْتَنِعُ أنْ يَحْصُلَ في البَدَنِ الإنْسانِيِّ جِسْمٌ عُنْصُرِيٌّ خالِصٌ بَلْ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ الحاصِلُ جِسْمًا مُتَوَلِّدًا مِنَ (p-٣٧)امْتِزاجاتِ هَذِهِ الأرْبَعَةِ فَنَقُولُ: أمّا الجِسْمُ الَّذِي تَغْلِبُ عَلَيْهِ الأرْضِيَّةُ فَهو الأعْضاءُ الصُّلْبَةُ الكَثِيفَةُ كالعَظْمِ والغُضْرُوفِ والعَصَبِ والوَتَرِ والرِّباطِ والشَّحْمِ واللَّحْمِ والجِلْدِ ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِنَ العُقَلاءِ الَّذِينَ قالُوا: الإنْسانُ شَيْءٌ مُغايِرٌ لِهَذا الجَسَدِ بِأنَّهُ عِبارَةٌ عَنْ عُضْوٍ مُعَيَّنٍ مِن هَذِهِ الأعْضاءِ، وذَلِكَ لِأنَّ هَذِهِ الأعْضاءَ كَثِيفَةٌ ثَقِيلَةٌ ظُلْمانِيَّةٌ فَلا جَرَمَ لَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِنَ العُقَلاءِ بِأنَّ الإنْسانَ عِبارَةٌ عَنْ أحَدِ هَذِهِ الأعْضاءِ، وأمّا الجِسْمُ الَّذِي تَغْلِبُ عَلَيْهِ المائِيَّةُ فَهو الأخْلاطُ الأرْبَعَةُ ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ في شَيْءٍ مِنها إنَّهُ الإنْسانُ إلّا في الدَّمِ، فَإنَّ مِنهم مَن قالَ إنَّهُ هو الرُّوحُ بِدَلِيلِ أنَّهُ إذا خَرَجَ لَزِمَ المَوْتُ، أمّا الجِسْمُ الَّذِي تَغْلِبُ عَلَيْهِ الهَوائِيَّةُ والنّارِيَّةُ فَهو الأرْواحُ وهي نَوْعانِ: أحَدُهُما: أجْسامٌ هَوائِيَّةٌ مَخْلُوطَةٌ بِالحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ مُتَوَلِّدَةٌ إمّا في القَلْبِ أوْ في الدِّماغِ، وقالُوا إنَّها هي الرُّوحُ وإنَّها هي الإنْسانُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنهم مَن يَقُولُ: الإنْسانُ هو الرُّوحُ الَّذِي في القَلْبِ، ومِنهم مَن يَقُولُ إنَّهُ جُزْءٌ لا يَتَجَزَّأُ في الدِّماغِ، ومِنهم مَن يَقُولُ: الرُّوحُ عِبارَةٌ عَنْ أجْزاءٍ نارِيَّةٍ مُخْتَلِطَةٍ بِهَذِهِ الأرْواحِ القَلْبِيَّةِ والدِّماغِيَّةِ وتِلْكَ الأجْزاءُ النّارِيَّةُ وهي المُسَمّاةُ بِالحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ وهي الإنْسانُ، ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: الرُّوحُ عِبارَةٌ عَنْ أجْسامٍ نُورانِيَّةٍ سَماوِيَّةٍ لَطِيفَةٍ، والجَوْهَرُ عَلى طَبِيعَةِ ضَوْءِ الشَّمْسِ، وهي لا تَقْبَلُ التَّحَلُّلَ والتَّبَدُّلَ ولا التَّفَرُّقَ ولا التَّمَزُّقَ فَإذا تَكَوَّنَ البَدَنُ وتَمَّ اسْتِعْدادُهُ وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ﴾ [الحجر: ٢٩] نَفَذَتْ تِلْكَ الأجْسامُ الشَّرِيفَةُ السَّماوِيَّةُ الإلَهِيَّةُ في داخِلِ أعْضاءِ البَدَنِ نَفاذَ النّارِ في الفَحْمِ ونَفاذَ دُهْنِ السِّمْسِمِ في السِّمْسِمِ، ونَفاذَ ماءِ الوَرْدِ في جِسْمِ الوَرْدِ، ونَفاذُ تِلْكَ الأجْسامِ السَّماوِيَّةِ في جَوْهَرِ البَدَنِ هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ (الحِجْرِ: ٢٩) ثُمَّ إنَّ البَدَنَ ما دامَ يَبْقى سَلِيمًا قابِلًا لِنَفاذِ تِلْكَ الأجْسامِ الشَّرِيفَةِ بَقِيَ حَيًّا، فَإذا تَوَلَّدَتْ في البَدَنِ أخْلاطٌ غَلِيظَةٌ مَنَعَتْ تِلْكَ الأخْلاطُ الغَلِيظَةُ مِن سَرَيانِ تِلْكَ الأجْسامِ الشَّرِيفَةِ فِيها فانْفَصَلَتْ عَنْ هَذا البَدَنِ فَحِينَئِذٍ يَعْرِضُ المَوْتُ، فَهَذا مَذْهَبٌ قَوِيٌّ شَرِيفٌ يَجِبُ التَّأمُّلُ فِيهِ فَإنَّهُ شَدِيدُ المُطابَقَةِ لِما ورَدَ في الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ مِن أحْوالِ الحَياةِ والمَوْتِ، فَهَذا تَفْصِيلُ مَذاهِبِ القائِلِينَ بِأنَّ الإنْسانَ جِسْمٌ مَوْجُودٌ في داخِلِ البَدَنِ، وأمّا أنَّ الإنْسانَ جِسْمٌ مَوْجُودٌ خارِجَ البَدَنِ فَلا أعْرِفُ أحَدًا ذَهَبَ إلى هَذا القَوْلِ. أمّا القِسْمُ الثّانِي: وهو أنْ يُقالَ: الإنْسانُ عَرَضٌ حالٌّ في البَدَنِ، فَهَذا لا يَقُولُ بِهِ عاقِلٌ لِأنَّ مِنَ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أنَّ الإنْسانَ جَوْهَرٌ لِأنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالعِلْمِ والقُدْرَةِ والتَّدَبُّرِ والتَّصَرُّفِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ كانَ جَوْهَرًا والجَوْهَرُ لا يَكُونُ عَرَضًا بَلِ الَّذِي يُمْكِنُ أنْ يَقُولَ بِهِ كُلُّ عاقِلٍ هو أنَّ الإنْسانَ يُشْتَرَطُ أنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِأعْراضٍ مَخْصُوصَةٍ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَلِلنّاسِ فِيهِ أقْوالٌ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ العَناصِرَ الأرْبَعَةَ إذا امْتَزَجَتْ وانْكَسَرَتْ سَوْرَةُ كُلِّ واحِدَةٍ مِنها بِسَوْرَةِ الآخَرِ حَصَلَتْ كَيْفِيَّةٌ مُعْتَدِلَةٌ هي المِزاجُ، ومَراتِبُ هَذا المَزْجِ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ فَبَعْضُها هي الإنْسانِيَّةُ وبَعْضُها هي الفَرَسِيَّةُ، فالإنْسانِيَّةُ عِبارَةٌ عَنْ أجْسامٍ مَوْصُوفَةٍ مُتَوَلِّدَةٍ عَنِ امْتِزاجاتِ أجْزاءِ العَناصِرِ بِمِقْدارٍ مَخْصُوصٍ، هَذا قَوْلُ جُمْهُورِ الأطِبّاءِ ومُنْكِرِي بَقاءِ النَّفْسِ وقَوْلُ أبِي الحُسَيْنِ البَصْرِيِّ مِنَ المُعْتَزِلَةِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ الإنْسانَ عِبارَةٌ عَنْ أجْسامٍ مَخْصُوصَةٍ بِشَرْطِ كَوْنِها مَوْصُوفَةً بِصِفَةِ الحَياةِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ، والحَياةُ عَرَضٌ قائِمٌ بِالجِسْمِ، وهَؤُلاءِ أنْكَرُوا الرُّوحَ والنَّفْسَ وقالُوا لَيْسَ هَهُنا إلّا أجْسامٌ مُؤْتَلِفَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الأعْراضِ المَخْصُوصَةِ وهي الحَياةُ والعِلْمُ والقُدْرَةُ، وهَذا مَذْهَبُ أكْثَرِ شُيُوخِ المُعْتَزِلَةِ. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ الإنْسانَ عِبارَةٌ عَنْ أجْسامٍ مَوْصُوفَةٍ بِالحَياةِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ، والإنْسانُ إنَّما يَمْتازُ عَنْ سائِرِ الحَيَواناتِ بِشَكْلِ جَسَدِهِ وهَيْئَةِ أعْضائِهِ وأجْزائِهِ إلّا أنَّ هَذا مُشْكِلٌ فَإنَّ المَلائِكَةَ قَدْ يَتَشَبَّهُونَ بِصُوَرِ النّاسِ فَهَهُنا صُورَةُ الإنْسانِ حاصِلَةٌ مَعَ عَدَمِ الإنْسانِيَّةِ، وفي صُورَةِ المَسْخِ مَعْنى الإنْسانِيَّةِ حاصِلٌ مَعَ أنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ غَيْرُ حاصِلَةٍ (p-٣٨)فَقَدْ بَطَلَ اعْتِبارُ هَذا الشَّكْلِ في حُصُولِ مَعْنى الإنْسانِيَّةِ طَرْدًا وعَكْسًا. (أمّا القِسْمُ الثّالِثُ): وهو أنْ يُقالَ الإنْسانُ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا جُسْمانِيَّةٍ فَهو قَوْلُ أكْثَرِ الإلَهِيِّينَ مِنَ الفَلاسِفَةِ القائِلِينَ بِبَقاءِ النَّفْسِ المُثْبِتِينَ لِلنَّفْسِ مَعادًا رُوحانِيًّا وثَوابًا وعِقابًا وحِسابًا رُوحانِيًّا، وذَهَبَ إلَيْهِ جَماعَةٌ عَظِيمَةٌ مِن عُلَماءِ المُسْلِمِينَ مِثْلُ الشَّيْخِ أبِي القاسِمِ الرّاغِبِ الأصْفَهانِيِّ والشَّيْخِ أبِي حامِدٍ الغَزالِيِّ - رَحِمَهُما اللَّهُ -، ومِن قُدَماءِ المُعْتَزِلَةِ مَعْمَرُ بْنُ عَبّادٍ السُّلَمِيُّ، ومِنَ الشِّيعَةِ المُلَقَّبُ عِنْدَهم بِالشَّيْخِ المُفِيدِ، ومِنَ الكَرامِيَّةِ جَماعَةٌ، واعْلَمْ أنَّ القائِلِينَ بِإثْباتِ النَّفْسِ فَرِيقانِ: الأوَّلُ: وهُمُ المُحَقِّقُونَ مِنهم مَن قالَ: الإنْسانُ عِبارَةٌ عَنْ هَذا الجَوْهَرِ المَخْصُوصِ، وهَذا البَدَنِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالإنْسانُ غَيْرُ مَوْجُودٍ في داخِلِ العالَمِ ولا في خارِجِهِ، وغَيْرُ مُتَّصِلٍ في داخِلِ العالَمِ ولا في خارِجِهِ، وغَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالعالَمِ ولا مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، ولَكِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ والتَّصَرُّفِ، كَما أنَّ إلَهَ العالَمِ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِالعالَمِ إلّا عَلى سَبِيلِ التَّصَرُّفِ والتَّدْبِيرِ. والفَرِيقُ الثّانِي: الَّذِينَ قالُوا: النَّفْسُ إذا تَعَلَّقَتْ بِالبَدَنِ اتَّحَدَتْ بِالبَدَنِ فَصارَتِ النَّفْسُ عَيْنَ البَدَنِ والبَدَنُ عَيْنَ النَّفْسِ، ومَجْمُوعُهُما عِنْدَ الِاتِّحادِ هو الإنْسانُ فَإذا جاءَ وقْتُ المَوْتِ بَطَلَ هَذا الِاتِّحادُ وبَقِيَتِ النَّفْسُ وفَسَدَ البَدَنُ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَذاهِبِ النّاسِ في الإنْسانِ، وكانَ ثابِتُ بْنُ قُرَّةَ يُثْبِتُ النَّفْسَ ويَقُولُ إنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِأجْسامٍ سَماوِيَّةٍ نُورانِيَّةٍ لَطِيفَةٍ غَيْرِ قابِلَةٍ لِلْكَوْنِ والفَسادِ والتَّفَرُّقِ والتَّمَزُّقِ وأنْ تِلْكَ الأجْسامَ تَكُونُ سارِيَةً في البَدَنِ وما دامَ يَبْقى ذَلِكَ السَّرَيانُ بَقِيَتِ النَّفْسُ مُدَبِّرَةً لِلْبَدَنِ فَإذا انْفَصَلَتْ تِلْكَ الأجْسامُ اللَّطِيفَةُ عَنْ جَوْهَرِ البَدَنِ انْقَطَعَ تَعَلُّقُ النَّفْسِ عَنِ البَدَنِ. * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: في دَلائِلِ مُثْبِتِي النَّفْسِ مِن ناحِيَةِ العَقْلِ، احْتَجَّ القَوْمُ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ بَعْضُها قَوِيٌ وبَعْضُها ضَعِيفٌ، والوُجُوهُ القَوِيَّةُ بَعْضُها قَطْعِيَّةٌ وبَعْضُها إقْناعِيَّةٌ، فَلْنَذْكُرِ الوُجُوهَ القَطْعِيَّةَ. الحُجَّةُ الأُولى: لا شَكَّ أنَّ الإنْسانَ جَوْهَرٌ فَإمّا أنْ يَكُونَ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا أوْ غَيْرَ مُتَحَيِّزٍ، والأوَّلُ باطِلٌ فَتَعَيَّنَ الثّانِي، والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا أنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ كَوْنُهُ مُتَحَيِّزًا غَيْرَ تِلْكَ الذّاتِ ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ كُلُّ ما عَلِمَ الإنْسانُ ذاتَهُ المَخْصُوصَةَ وجَبَ أنْ يَعْلَمَ كَوْنَهُ مُتَحَيِّزًا بِمِقْدارٍ مَخْصُوصٍ ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ الإنْسانُ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا فَنَفْتَقِرُ في تَقْرِيرِ هَذا الدَّلِيلِ إلى مُقَدِّماتٍ ثَلاثَةٍ: المُقَدِّمَةُ الأُولى: لَوْ كانَ الإنْسانُ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا لَكانَ كَوْنُهُ مُتَحَيِّزًا عَيْنَ ذاتِهِ المَخْصُوصَةِ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ لَوْ كانَ تَحَيُّزُهُ صِفَةً قائِمَةً لَكانَ ذَلِكَ المَحَلُّ مِن حَيْثُ هو مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، إمّا أنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا أوْ لا يَكُونَ والقِسْمانِ باطِلانِ، فَبَطَلَ القَوْلُ بِكَوْنِ التَّحَيُّزِ صِفَةً قائِمَةً بِالمَحَلِّ إنَّما قُلْنا إنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ مَحَلَّ التَّحَيُّزِ لِأنَّهُ يَلْزَمُ كَوْنُ الشَّيْءِ الواحِدِ مُتَحَيِّزًا مَرَّتَيْنِ ولِأنَّهُ يَلْزَمُ اجْتِماعُ المِثْلَيْنِ، ولِأنَّهُ لَيْسَ جَعْلُ أحَدِهِما ذاتًا والآخِرِ صِفَةً أوْلى مِنَ العَكْسِ ولِأنَّ التَّحَيُّزَ الثّانِيَ إنْ كانَ عَيْنَ الذّاتِ فَهو المَقْصُودُ وإنْ كانَ صِفَةً لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وهو مُحالٌ، وإنَّما قُلْنا إنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ مَحَلُّ التَّحَيُّزِ غَيْرَ مُتَحَيِّزٍ لِأنَّ حَقِيقَةَ التَّحَيُّزِ هو الذَّهابُ في الجِهاتِ والِامْتِدادُ فِيها، والشَّيْءُ الَّذِي لا يَكُونُ مُتَحَيِّزًا لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِصاصٌ بِالجِهاتِ وحُصُولُهُ فِيها لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ مُحالٌ، فَثَبَتَ بِهَذا أنَّهُ لَوْ كانَ الإنْسانُ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا لَكانَ تَحَيُّزُهُ غَيْرَ ذاتِهِ المَخْصُوصَةِ. المُقَدِّمَةُ الثّانِيَةُ: لَوْ كانَ تَحَيُّزُ ذاتِهِ المَخْصُوصَةِ عَيْنَ ذاتِهِ المَخْصُوصَةِ لَكانَ مَتى عَرَفَ ذاتَهُ المَخْصُوصَةَ فَقَدْ عَرَفَ كَوْنَها مُتَحَيِّزَةً، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ لَوْ صارَتْ ذاتُهُ المَخْصُوصَةُ مَعْلُومَةً وصارَ تَحَيُّزُهُ مَجْهُولًا لَزِمَ اجْتِماعُ النَّفْيِ والإثْباتِ في الشَّيْءِ الواحِدِ وهو مُحالٌ. (p-٣٩)المُقَدِّمَةُ الثّالِثَةُ: أنّا قَدْ نَعْرِفُ ذاتَنا حالَ كَوْنِنا جاهِلِينَ بِالتَّحَيُّزِ والِامْتِدادِ في الجِهاتِ الثَّلاثَةِ وذَلِكَ ظاهِرٌ عِنْدَ الِاخْتِبارِ والِامْتِحانِ فَإنَّ الإنْسانَ حالَ كَوْنِهِ مُشْتَغِلًا بِشَيْءٍ مِنَ المُهِمّاتِ مِثْلَ أنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ لِمَ فَعَلْتَ كَذا ولِمَ خالَفْتَ أمْرِي وإنِّي أُبالِغُ في تَأْدِيبِكَ وضَرْبِكَ، فَعِنْدَما يَقُولُ لِمَ خالَفْتَ أمْرِي يَكُونُ عالِمًا بِذاتِهِ المَخْصُوصَةِ إذْ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذاتَهُ المَخْصُوصَةَ لامْتَنَعَ أنْ يَعْلَمَ أنَّ ذَلِكَ الإنْسانَ خالَفَهُ ولامْتَنَعَ أنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأنَّهُ عَلى عَزْمِ أنْ يُؤَدِّبَهُ ويَضْرِبَهُ فَفي هَذِهِ الحالَةِ يَعْلَمُ ذاتَهُ المَخْصُوصَةَ مَعَ أنَّهُ في تِلْكَ الحالَةِ لا يَخْطُرُ بِبالِهِ حَقِيقَةُ التَّحَيُّزِ والِامْتِدادِ في الجِهاتِ والحُصُولِ في الحَيِّزِ فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّهُ لَوْ كانَ ذاتُ الإنْسانِ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا لَكانَ تَحَيُّزُهُ عَيْنَ ذاتِهِ المَخْصُوصَةِ ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ كُلُّ ما عُلِمَ ذاتُهُ المَخْصُوصَةُ فَقَدْ عُلِمَ التَّحَيُّزُ وثَبَتَ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَيَلْزَمُ أنْ يُقالَ ذاتُ الإنْسانِ لَيْسَ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا وذَلِكَ هو المَطْلُوبُ، فَإنْ قالُوا هَذا مُعارَضٌ بِأنَّهُ لَوْ كانَ جَوْهَرًا مُجَرَّدًا لَكانَ كُلُّ مَن عَرَفَ ذاتَ نَفْسِهِ عَرَفَ كَوْنَهُ جَوْهَرًا مُجَرَّدًا ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ، قُلْنا الفَرْقُ ظاهِرٌ لِأنَّ كَوْنَهُ مُجَرَّدًا مَعْناهُ أنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ ولا حالًّا في المُتَحَيِّزِ وهَذا السَّلْبُ لَيْسَ عَيْنَ تِلْكَ الذّاتِ المَخْصُوصَةِ لِأنَّ السَّلْبَ لَيْسَ عَيْنَ الثُّبُوتِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ أنْ تَكُونَ تِلْكَ الذّاتُ المَخْصُوصَةُ مَعْلُومَةً وأنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ السَّلْبُ مَعْلُومًا بِخِلافِ كَوْنِهِ مُتَحَيِّزًا فَإنّا قَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّ تَقْدِيرَ كَوْنِ الإنْسانِ جَوْهَرًا مُتَحَيِّزًا يَكُونُ تَحَيُّزُهُ عَيْنَ ذاتِهِ المَخْصُوصَةِ وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَمْتَنِعُ أنْ تَكُونَ ذاتُهُ مَعْلُومَةً ويَكُونُ تَحَيُّزُهُ مَجْهُولًا فَظَهَرَ الفَرْقُ. الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: النَّفْسُ واحِدَةٌ ومَتى كانَتْ واحِدَةً وجَبَ أنْ تَكُونَ مُغايِرَةً لِهَذا البَدَنِ ولِكُلِّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ فَهَذِهِ الحُجَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلى مُقَدِّماتٍ: المُقَدِّمَةُ الأُولى: هي قَوْلُنا النَّفْسُ واحِدَةٌ ولَنا هَهُنا مَقامانِ تارَةً نَدَّعِي العِلْمَ البَدِيهِيَّ فِيهِ وأُخْرى نُقِيمُ البُرْهانَ عَلى صِحَّتِهِ. أمّا المَقامُ الأوَّلُ: وهو ادِّعاءُ البَدِيهِيَّةِ فَنَقُولُ المُرادُ مِنَ النَّفْسِ هو الشَّيْءُ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ كُلُّ أحَدٍ بِقُولِهِ أنا، وكُلُّ أحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّهُ إذا أشارَ إلى ذاتِهِ المَخْصُوصَةِ بِقَوْلِهِ أنا كانَ ذَلِكَ المُشارُ إلَيْهِ واحِدًا غَيْرَ مُتَعَدِّدٍ فَإنْ قِيلَ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُشارُ إلَيْهِ لِكُلِّ أحَدٍ بِقَوْلِهِ أنا وإنْ كانَ واحِدًا إلّا أنَّ ذَلِكَ الواحِدُ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِن أشْياءَ كَثِيرَةٍ قُلْنا إنَّهُ لا حاجَةَ لَنا في هَذا المَقامِ إلى دَفْعِ هَذا السُّؤالِ بَلْ نَقُولُ المُشارُ إلَيْهِ بِقَوْلِ أنا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أنَّهُ شَيْءٌ واحِدٌ فَأمّا أنَّ ذَلِكَ الواحِدَ هَلْ هو واحِدٌ مُرَكَّبٌ مِن أشْياءَ كَثِيرَةٍ أوْ هو واحِدٌ في نَفْسِهِ واحِدٌ في حَقِيقَتِهِ فَهَذا لا حاجَةَ إلَيْهِ في هَذا المَقامِ. أمّا المَقامُ الثّانِي: وهو مَقامُ الِاسْتِدْلالِ. فالَّذِي يَدُلُّ عَلى وحْدَةِ النَّفْسِ وُجُوهٌ: الحُجَّةُ الأُولى: أنَّ الغَضَبَ حالَةٌ نَفْسانِيَّةٌ تَحْدُثُ عِنْدَ إرادَةِ دَفْعِ المُنافِرِ، والشَّهْوَةُ حالَةٌ نَفْسانِيَّةٌ تَحْدُثُ عِنْدَ طَلَبِ المُلايِمِ مَشْرُوطًا بِالشُّعُورِ بِكَوْنِ الشَّيْءِ مُلايِمًا ومُنافِرًا، فالقُوَّةُ الغَضَبِيَّةُ الَّتِي هي قُوَّةٌ دافِعَةٌ لِلْمُنافِرِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَها شُعُورٌ بِكَوْنِهِ مُنافِرًا امْتَنَعَ انْبِعاثُها لِدَفْعِ ذَلِكَ المُنافِرِ عَلى سَبِيلِ القَصْدِ والِاخْتِيارِ لِأنَّ القَصْدَ إلى الجَذْبِ تارَةً وإلى الدَّفْعِ أُخْرى مَشْرُوطٌ بِالشُّعُورِ بِالشَّيْءِ، فالشَّيْءُ المَحْكُومُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ دافِعًا لِلْمُنافِرِ عَلى سَبِيلِ الِاخْتِيارِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لَهُ شُعُورٌ بِكَوْنِهِ مُنافِرًا فالَّذِي يَغْضَبُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ هو بِعَيْنِهِ مُدْرِكًا، فَثَبَتَ بِهَذا البُرْهانِ اليَقِينِيِّ مُبايَنَةٌ حاصِلَةٌ في ذَواتٍ مُتَبايِنَةٍ. الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنّا إذا فَرَضْنا جَوْهَرَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ يَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُسْتَقِلًّا بِفِعْلِهِ الخاصِّ امْتَنَعَ أنْ يَصِيرَ اشْتِغالُ أحَدِهِما بِفِعْلِهِ الخاصِّ مانِعًا لِلْآخَرِ مِنَ اشْتِغالِهِ بِفِعْلِهِ الخاصِّ بِهِ، وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ لَوْ كانَ مَحَلُّ الإدْراكِ والفِكْرِ جَوْهَرًا ومَحَلُّ الغَضَبِ جَوْهَرًا آخَرَ ومَحَلُّ الشَّهْوَةِ جَوْهَرًا ثالِثًا وجَبَ أنْ لا يَكُونَ اشْتِغالُ (p-٤٠)القُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ بِفِعْلِها مانِعًا لِلْقُوَّةِ الشَّهْوانِيَّةِ مِنَ الِاشْتِغالِ بِفِعْلِها ولا بِالعَكْسِ لَكِنَّ الثّانِيَ باطِلٌ فَإنَّ اشْتِغالَ الإنْسانِ بِالشَّهْوَةِ وانْصِبابَهُ إلَيْها يَمْنَعُهُ مِنَ الِاشْتِغالِ بِالغَضَبِ وانْصِبابِهِ إلَيْهِ وبِالعَكْسِ، فَعَلِمْنا أنَّ هَذِهِ الأُمُورَ الثَّلاثَةَ لَيْسَتْ مَبادِئَ مُسْتَقِلَّةً بَلْ هي صِفاتٌ مُخْتَلِفَةٌ بِجَوْهَرٍ واحِدٍ فَلا جَرَمَ كانَ اشْتِغالُ ذَلِكَ الجَوْهَرِ بِأحَدِ هَذِهِ الأفْعالِ عائِقًا لَهُ عَنِ الِاشْتِغالِ بِالفِعْلِ الآخَرِ. الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنّا إذا أدْرَكْنا أشْياءَ فَقَدْ يَكُونُ الإدْراكُ سَبَبًا لِحُصُولِ الشَّهْوَةِ وقَدْ يَصِيرُ سَبَبًا لِحُصُولِ الغَضَبِ فَلَوْ كانَ الجَوْهَرُ المُدْرَكُ مُغايِرًا لِلَّذِي يَغْضَبُ والَّذِي يَشْتَهِي فَحِينَ أدْرَكَ الجَوْهَرَ المُدْرَكَ لَمْ يَحْصُلْ عِنْدَ الجَوْهَرِ المُشْتَهى مِن ذَلِكَ الإدْراكِ أثَرٌ ولا خَبَرٌ فَوَجَبَ أنْ لا يَتَرَتَّبَ عَلى ذَلِكَ الإدْراكِ لا حُصُولُ الشَّهْوَةِ ولا حُصُولُ الغَضَبِ وحَيْثُ حَصَلَ هَذا التَّرْتِيبُ والِاسْتِلْزامُ عَلِمْنا أنَّ صاحِبَ الإدْراكِ بِعَيْنِهِ هو صاحِبُ الشَّهْوَةِ بِعَيْنِها وصاحِبُ الغَضَبِ بِعَيْنِهِ. الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: أنَّ حَقِيقَةَ الحَيَوانِ أنَّهُ جِسْمٌ ذُو نَفْسٍ حَسّاسَةٍ مُتَحَرِّكَةٍ بِالإرادَةِ فالنَّفْسُ لا يُمْكِنُها أنْ تَتَحَرَّكَ بِالإرادَةِ إلّا عِنْدَ حُصُولِ الدّاعِي ولا مَعْنى لِلدّاعِي إلّا الشُّعُورُ بِخَيْرٍ يَرْغَبُ في جَذْبِهِ أوْ بِشَرٍّ يَرْغَبُ في دَفْعِهِ، وهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ المُتَحَرِّكُ بِالإرادَةِ هو بِعَيْنِهِ مُدْرِكًا لِلْخَيْرِ والشَّرِّ والمَلَذِّ والمُؤْذِي والنّافِعِ والضّارِّ فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ النَّفْسَ الإنْسانِيَّةَ شَيْءٌ واحِدٌ، وثَبَتَ أنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ هو المُبْصِرُ والسّامِعُ والشّامُّ والذّائِقُ واللّامِسُ والمُتَخَيِّلُ والمُتَفَكِّرُ والمُتَذَكِّرُ والمُشْتَهِي والغاضِبُ وهو المَوْصُوفُ بِجَمِيعِ الإدْراكاتِ وهو المَوْصُوفُ بِجَمِيعِ الأفْعالِ الِاخْتِيارِيَّةِ والحَرَكاتِ الإرادِيَّةِ. وأمّا المُقَدِّمَةُ الثّانِيَةُ: في بَيانِ أنَّهُ لَمّا كانَتِ النَّفْسُ شَيْئًا واحِدًا وجَبَ أنْ لا تَكُونَ النَّفْسُ في هَذا البَدَنِ ولا شَيْئًا مِن أجْزائِهِ فَنَقُولُ: أمّا بَيانُ أنَّهُ مَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُ النَّفْسِ عِبارَةً عَنْ جُمْلَةِ هَذا البَدَنِ، وكَذا القُوَّةُ السّامِعَةُ وكَذا سائِرُ القُوى كالتَّخَيُّلِ والتَّذَكُّرِ والتَّفَكُّرِ، والعِلْمُ بِأنَّ هَذِهِ القُوى غَيْرُ سارِيَةٍ في جُمْلَةِ أجْزاءِ البَدَنِ عِلْمٌ بَدِيهِيٌّ بَلْ هو مِن أقْوى العُلُومِ البَدِيهِيَّةِ، وأمّا بَيانُ أنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ تَكُونَ النَّفْسُ جُزْءًا مِن أجْزاءِ هَذا البَدَنِ فَإنّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّهُ لَيْسَ في البَدَنِ جُزْءٌ واحِدٌ وهو بِعَيْنِهِ مَوْصُوفٌ بِالإبْصارِ والسَّماعِ والفِكْرِ والذِّكْرِ بَلِ الَّذِي يَتَبادَرُ إلى الخاطِرِ أنَّ الإبْصارَ مَخْصُوصٌ بِالعَيْنِ لا بِسائِرِ الأعْضاءِ، والسَّماعَ مَخْصُوصٌ بِالأُذُنِ لا بِسائِرِ الأعْضاءِ، والصَّوْتَ مَخْصُوصٌ بِالحَلْقِ لا بِسائِرِ الأعْضاءِ، وكَذَلِكَ القَوْلُ في سائِرِ الإدْراكاتِ وسائِرِ الأفْعالِ فَأمّا أنْ يُقالَ إنَّهُ حَصَلَ في البَدَنِ جُزْءٌ واحِدٌ مَوْصُوفٌ بِكُلِّ هَذِهِ الإدْراكاتِ وبِكُلِّ هَذِهِ الأفْعالِ فالعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حاصِلٌ بِأنَّهُ لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ النَّفْسَ الإنْسانِيَّةَ شَيْءٌ واحِدٌ مَوْصُوفٌ بِجُمْلَةِ هَذِهِ الإدْراكاتِ وبِجُمْلَةِ هَذِهِ الأفْعالِ، وثَبَتَ بِالبَدِيهِيَّةِ أنَّ جُمْلَةَ البَدَنِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وثَبَتَ أيْضًا أنَّ شَيْئًا مِن أجْزاءِ البَدَنِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ اليَقِينُ بِأنَّ النَّفْسَ شَيْءٌ مُغايِرٌ لِهَذا البَدَنِ ولِكُلِّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ وهو المَطْلُوبُ، ولْنُقَرِّرْ هَذا البُرْهانَ بِعِبارَةٍ أُخْرى فَنَقُولُ: إنّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنّا إذا أبْصَرْنا شَيْئًا عَرَفْناهُ وإذا عَرَفْناهُ اشْتَهَيْناهُ وإذا اشْتَهَيْناهُ حَرَّكْنا أبْدانَنا إلى القُرْبِ مِنهُ، فَوَجَبَ القَطْعُ بِأنَّ الَّذِي أبْصَرَ هو الَّذِي عَرَفَ وأنَّ الَّذِي عَرَفَ هو الَّذِي اشْتَهى وأنَّ الَّذِي اشْتَهى هو الَّذِي حَرَّكَ إلى القُرْبِ مِنهُ فَيَلْزَمُ القَطْعُ بِأنَّ المُبْصِرَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ والعارِفَ بِهِ والمُشْتَهِيَ والمُتَحَرِّكَ إلى القُرْبِ مِنهُ شَيْءٌ واحِدٌ إذْ لَوْ كانَ المُبْصِرُ شَيْئًا والعارِفُ شَيْئًا ثانِيًا والمُشْتَهِي شَيْئًا ثالِثًا والمُتَحَرِّكُ شَيْئًا رابِعًا لَكانَ الَّذِي أبْصَرَ لَمْ يَعْرِفْ، والَّذِي عَرَفَ لَمْ يَشْتَهِ، والَّذِي اشْتَهى لَمْ يَتَحَرَّكْ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مُبْصِرًا لِشَيْءٍ لا يَقْتَضِي (p-٤١)صَيْرُورَةَ شَيْءٍ آخَرَ عالِمًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وكَذَلِكَ القَوْلُ في سائِرِ المَراتِبِ وأيْضًا فَإنّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّ الرّائِيَ لِلْمَرْئِيّاتِ لَمّا كانَ رَآها فَقَدْ عَرَفَها ولَمّا عَرَفَها فَقَدِ اشْتَهاها ولَمّا اشْتَهاها طَلَبَها وحَرَّكَ الأعْضاءَ إلى القُرْبِ مِنها، ونَعْلَمُ أيْضًا بِالضَّرُورَةِ أنَّ المَوْصُوفَ بِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ وبِهَذا العِلْمِ وبِهَذِهِ الشَّهْوَةِ وبِهَذا التَّحَرُّكِ هو لا غَيْرُهُ، وأيْضًا العُقَلاءُ قالُوا: الحَيَوانُ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ حَسّاسًا مُتَحَرِّكًا بِالإرادَةِ فَإنَّهُ إنْ لَمْ يُحِسَّ بِشَيْءٍ لَمْ يَشْعُرْ بِكَوْنِهِ مُلائِمًا أوْ بِكَوْنِهِ مُنافِرًا، وإذا لَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مُرِيدًا لِلْجَذْبِ أوِ الدَّفْعِ فَثَبَتَ أنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَكُونُ مُتَحَرِّكًا بِالإرادَةِ فَإنَّهُ بِعَيْنِهِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ حَسّاسًا، فَثَبَتَ أنَّ المُدْرِكَ لِجَمِيعِ المُدْرَكاتِ يُدْرِكُ بِجَمِيعِ أصْنافِ الإدْراكاتِ، وأنَّ المُباشِرَ لِجَمِيعِ التَّحْرِيكاتِ الِاخْتِيارِيَّةِ شَيْءٌ واحِدٌ، وأيْضًا فَلِأنّا إذا تَكَلَّمْنا بِكَلامٍ نَقْصِدُ مِنهُ تَفْهِيمَ الغَيْرِ (عَقَلْنا) مَعانِي تِلْكَ الكَلَمّاتِ ثُمَّ لَمّا عَقَلْناها أرَدْنا تَعْرِيفَ غَيْرِنا تِلْكَ المَعانِيَ ولَمّا حَصَلَتْ هَذِهِ الإرادَةُ في قُلُوبِنا حاوَلْنا إدْخالَ تِلْكَ الحُرُوفِ والأصْواتِ في الوُجُودِ لِنَتَوَسَّلَ بِها إلى تَعْرِيفِ غَيْرِنا تِلْكَ المَعانِيَ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنْ كانَ مَحْمَلُ العِلْمِ والإرادَةِ ومَحَلُّ تِلْكَ الحُرُوفِ والأصْواتِ جِسْمًا واحِدًا لَزِمَ أنْ يُقالَ إنَّ مَحَلَّ العُلُومِ والإراداتِ هو الحَنْجَرَةُ واللَّهاةُ واللِّسانُ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وإنْ قُلْنا: مَحَلُّ العُلُومِ والإراداتِ هو القَلْبُ لَزِمَ أيْضًا أنْ يَكُونَ مَحَلُّ الصَّوْتِ هو القَلْبَ وذَلِكَ أيْضًا باطِلٌ بِالضَّرُورَةِ، وإنْ قُلْنا مَحَلُّ الكَلامِ هو الحَنْجَرَةُ واللَّهاةُ واللِّسانُ، ومَحَلُّ العُلُومِ والإراداتِ هو القَلْبُ، ومَحَلُّ القُدْرَةِ هو الأعْصابُ والأوْتارُ والعَضَلاتُ، كُنّا قَدْ وُزَّعْنا هَذِهِ الأُمُورَ عَلى هَذِهِ الأعْضاءِ المُخْتَلِفَةِ لَكِنّا أبْطَلْنا ذَلِكَ، وبَيَّنّا أنَّ المُدْرِكَ لِجَمِيعِ المُدْرَكاتِ والمُحَرِّكَ لِجَمِيعِ الأعْضاءِ بِكُلِّ أنْواعِ التَّحْرِيكاتِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ شَيْئًا واحِدًا، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقالَ في الإدْراكِ والقُدْرَةِ عَلى التَّحْرِيكِ [ أنَّهُ ] شَيْءٌ سِوى هَذا البَدَنِ وسِوى أجْزاءِ هَذا البَدَنِ وأنَّ هَذِهِ الأعْضاءَ جارِيَةٌ مَجْرى الآلاتِ والأدَواتِ فَكَما أنَّ الإنْسانَ يَعْقِلُ أفْعالًا مُخْتَلِفَةً بِواسِطَةِ آلاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَكَذَلِكَ النَّفْسُ تُبْصِرُ بِالعَيْنِ وتَسْمَعُ بِالأُذُنِ وتَتَفَكَّرُ بِالدِّماغِ وتَعْقِلُ بِالقَلْبِ، فَهَذِهِ الأعْضاءُ آلاتُ النَّفْسِ وأدَواتٌ لَها، والنَّفْسُ جَوْهَرٌ مُغايِرٌ لَها مُفارِقٌ عَنْها بِالذّاتِ مُتَعَلِّقٌ بِها تَعَلُّقَ التَّصَرُّفِ والتَّدْبِيرِ وهَذا البُرْهانُ بُرْهانٌ شَرِيفٌ يَقِينِيٌّ في ثُبُوتِ هَذا المَطْلُوبِ واللَّهُ أعْلَمُ. المُقَدِّمَةُ الثّالِثَةُ: لَوْ كانَ الإنْسانُ عِبارَةً عَنْ هَذا الجَسَدِ لَكانَ إمّا أنْ يَقُومَ بِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الأجْزاءِ حَياةٌ وعِلْمٌ وقُدْرَةٌ عَلى حِدَةٍ، وإمّا أنْ يَقُومَ بِمَجْمُوعِ الأجْزاءِ حَياةٌ وعِلْمٌ وقُدْرَةٌ، والقَسَمانِ باطِلانِ فَبَطَلَ القَوْلُ بِكَوْنِ الإنْسانِ عِبارَةً عَنْ هَذا الجَسَدِ، وأمّا بُطْلانُ القِسْمِ الأوَّلِ فَلِأنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ واحِدٍ مِن أجْزاءِ الجَسَدِ حَيًّا عالِمًا قادِرًا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِقْلالِ فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ الإنْسانُ الواحِدُ حَيَوانًا واحِدًا بَلْ أحْياءً عالِمِينَ قادِرِينَ وحِينَئِذٍ لا يَبْقى فَرْقٌ بَيْنَ الإنْسانِ الواحِدِ وبَيْنَ أشْخاصٍ كَثِيرِينَ مِنَ النّاسِ ورَبْطِ بَعْضِهِمْ بِالبَعْضِ بِالتَّسَلْسُلِ لَكِنّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ فَسادَ هَذا الكَلامِ لِأنِّي أجِدُ ذاتِي ذاتًا واحِدَةً لا حَيَواناتٍ كَثِيرِينَ، وأيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِن أجْزاءِ هَذا الجَسَدِ حَيَوانًا واحِدًا عَلى حِدَةٍ فَحِينَئِذٍ لا يَكُونُ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما خَبَرٌ عَنْ حالِ صاحِبِهِ فَلا يَمْتَنِعُ أنْ يُرِيدَ هَذا أنْ يَتَحَرَّكَ إلى هَذا الجانِبِ ويُرِيدَ الجُزْءُ الأخَرُ أنْ يَتَحَرَّكَ إلى الجانِبِ الآخَرِ فَحِينَئِذٍ يَقَعُ التَّدافُعُ بَيْنَ أجْزاءِ بَدَنِ الإنْسانِ الواحِدِ كَما يَقَعُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ، وفَسادُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالبَدِيهَةِ، وأمّا بُطْلانُ القِسْمِ الثّانِي فَلِأنَّهُ يَقْتَضِي قِيامَ الصِّفَةِ الواحِدَةِ بِالمَحالِّ الكَثِيرَةِ، وذَلِكَ مَعْلُومُ البُطْلانِ بِالضَّرُورَةِ ولِأنَّهُ لَوْ جازَ حُلُولُ الصِّفَةِ الواحِدَةِ في المَحالِّ الكَثِيرَةِ لَمْ يَبْعُدْ أيْضًا حُصُولُ الجِسْمِ الواحِدِ في الأحْيازِ الكَثِيرَةِ ولِأنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ تَحْصُلَ الصِّفَةُ الواحِدَةُ في المَحالِّ المُتَعَدِّدَةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأجْزاءِ حَيًّا عاقِلًا (p-٤٢)عالِمًا فَيَتَجَرَّدُ الأمْرُ إلى كَوْنِ هَذِهِ الجُثَّةِ الواحِدَةِ أُناسًا كَثِيرِينَ، ولَمّا ظَهَرَ فَسادُ القِسْمَيْنِ ثَبَتَ أنَّ الإنْسانَ لَيْسَ هو هَذِهِ الجُثَّةَ، فَإنْ قالُوا: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ تَقُومَ الحَياةُ الواحِدَةُ بِالجُزْءِ الواحِدِ، ثُمَّ إنَّ تِلْكَ الحَياةَ تَقْتَضِي صَيْرُورَةَ جُمْلَةِ الأجْزاءِ أحْياءً قُلْنا هَذا باطِلٌ لِأنَّهُ لا مَعْنى لِلْحَياةِ إلّا الحَيِيَّةُ، ولا مَعْنى لِلْعِلْمِ إلّا العالِمِيَّةُ، وبِتَقْدِيرِ أنْ نُساعِدَ عَلى أنَّ الحَياةَ مَعْنى يُوجِبُ الحَيِيَّةَ والعِلْمَ مَعْنى يُوجِبُ العالِمِيَّةَ إلّا أنّا نَقُولُ إنْ حَصَلَ في مَجْمُوعِ جُثَّةٍ مَجْمُوعُ حَياةٍ واحِدَةٍ وعالِمِيَّةٍ واحِدَةٍ فَقَدْ حَصَلَتِ الصِّفَةُ الواحِدَةُ في المَحالِّ الكَثِيرَةِ وهو مُحالٌ، وإنْ حَصَلَ في كُلِّ جُزْءٍ وجُثَّةٍ حَياةٌ عَلى حِدَةٍ وعالِمِيَّةٌ عَلى حِدَةٍ عادَ ما ذَكَرْنا مِن كَوْنِ الإنْسانِ الواحِدِ أُناسًا كَثِيرِينَ وهو مُحالٌ. المُقَدِّمَةُ الرّابِعَةُ: أنّا لَمّا تَأمَّلْنا في أحْوالِ النَّفْسِ رَأيْنا أحْوالَها بِالضِّدِّ مِن أحْوالِ الجِسْمِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ جِسْمًا، وتَقْرِيرُ هَذِهِ المُنافاةِ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ كُلَّ جِسْمٍ حَصَلَتْ فِيهِ صُورَةٌ فَإنَّهُ لا يَقْبَلُ صُورَةً أُخْرى مِن جِنْسِ الصُّورَةِ الأُولى إلّا بَعْدَ زَوالِ الصُّورَةِ الأُولى زَوالًا تامًّا مِثالُهُ: أنَّ الشَّمْعَ إذا حَصَلَ فِيهِ شَكْلُ التَّثْلِيثِ امْتَنَعَ أنْ يَحْصُلَ فِيهِ شَكْلُ التَّرْبِيعِ والتَّدْوِيرِ إلّا بَعْدَ زَوالِ الشَّكْلِ الأوَّلِ عَنْهُ، نَعَمْ إنّا وجَدْنا الحالَ في تَصَوُّرِ النَّفْسِ بِصُوَرِ المَعْقُولاتِ بِالضِّدِّ مِن ذَلِكَ فَإنَّ النَّفْسَ الَّتِي لَمْ تَقْبَلْ صُورَةً عَقْلِيَّةً البَتَّةَ يَبْعُدُ قَبُولُها شَيْئًا مِنَ الصُّوَرِ العَقْلِيَّةِ فَإذا قَبِلَتْ صُورَةً واحِدَةً صارَ قَبُولُها لِلصُّورَةِ الثّانِيَةِ أسْهَلَ، ثُمَّ إنَّ النَّفْسَ لا تَزالُ تَقْبَلُ صُورَةً بَعْدَ صُورَةٍ مِن غَيْرِ أنْ تَضْعُفَ البَتَّةَ بَلْ كُلَّما كانَ قَبُولُها لِلصُّوَرِ أكْثَرَ صارَ قَبُولُها لِلصُّوَرِ الآتِيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أسْهَلَ وأسْرَعَ، ولِهَذا السَّبَبِ يَزْدادُ الإنْسانُ فَهْمًا وإدْراكًا كُلَّما ازْدادَ تَخَرُّجًا وارْتِباطًا في العُلُومِ فَثَبَتَ أنَّ قَبُولَ النَّفْسِ لِلصُّوَرِ العَقْلِيَّةِ عَلى خِلافِ قَبُولِ الجِسْمِ لِلصُّورَةِ وذَلِكَ يُوهِمُ أنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ. والثّانِي: أنَّ المُواظَبَةَ عَلى الأفْكارِ الدَّقِيقَةِ لَها أثَرٌ في النَّفْسِ وأثَرٌ في البَدَنِ، أمّا أثَرُها في النَّفْسِ فَهو تَأْثِيرُها في إخْراجِ النَّفْسِ مِنَ القُوَّةِ إلى الفِعْلِ في التَّعَقُّلاتِ والإدْراكاتِ وكُلَّما كانَتِ الأفْكارُ أكْثَرَ كانَ حُصُولُ هَذِهِ الأحْوالِ أكْمَلَ وذَلِكَ غايَةُ كَمالِها ونِهايَةُ شَرَفِها وجَلالَتِها، وأمّا أثَرُها في البَدَنِ فَهو أنَّها تُوجِبُ اسْتِيلاءَ اليُبْسِ عَلى البَدَنِ واسْتِيلاءَ الذُّبُولِ عَلَيْهِ، وهَذِهِ الحالَةُ لَوِ اسْتَمَرَّتْ لانْتَقَلَتْ إلى المالِيخُولِيا وسَوْقِ المَوْتِ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ هَذِهِ الأفْكارَ تُوجِبُ حَياةَ النَّفْسِ وشَرَفَها وتُوجِبُ نُقْصانَ البَدَنِ ومَوْتِهِ، فَلَوْ كانَتِ النَّفْسُ هي البَدَنَ لَصارَ الشَّيْءُ الواحِدُ سَبَبًا لِكَمالِهِ ونُقْصانِهِ مَعًا ولِحَياتِهِ ومَوْتِهِ مَعًا، وأنَّهُ مُحالٌ. والثّالِثُ: أنّا إذا شاهَدْنا أنَّهُ رُبَّما كانَ بَدَنُ الإنْسانِ ضَعِيفًا نَحِيفًا، فَإذا لاحَ لَهُ نُورٌ مِنَ الأنْوارِ القُدْسِيَّةِ وتُجْلى لَهُ سِرٌّ مِن أسْرارِ عالَمِ الغَيْبِ حَصَلَ لِذَلِكَ الإنْسانِ جَراءَةٌ عَظِيمَةٌ وسَلْطَنَةٌ قَوِيَّةٌ، ولَمْ يَعْبَأْ بِحُضُورِ أكابِرِ السَّلاطِينِ ولَمْ يُقِمْ لَهم وزْنًا ولَوْلا أنَّ النَّفْسَ شَيْءٌ سِوى البَدَنِ لَما كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ. الرّابِعُ: أنَّ أصْحابَ الرِّياضاتِ والمُجاهَداتِ كُلَّما أمْعَنُوا في قَهْرِ القُوى البَدَنِيَّةِ وتَجْوِيعِ الجَسَدِ قَوِيَتْ قُواهُمُ الرُّوحانِيَّةُ وأشْرَقَتْ أسْرارُهم بِالمَعارِفِ الإلَهِيَّةِ وكُلَّما أمْعَنَ الإنْسانُ في الأكْلِ والشُّرْبِ وقَضاءِ الشَّهْوَةِ الجَسَدانِيَّةِ صارَ كالبَهِيمَةِ وبَقِيَ مَحْرُومًا عَنْ آثارِ النُّطْقِ والعَقْلِ والمَعْرِفَةِ ولَوْلا أنَّ النَّفْسَ غَيْرُ البَدَنِ لَما كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ. الخامِسُ: أنّا نَرى أنَّ النَّفْسَ تَفْعَلُ أفاعِيلَها بِآلاتٍ بَدَنِيَّةٍ فَإنَّها تُبْصِرُ بِالعَيْنِ وتَسْمَعُ بِالأُذُنِ وتَأْخُذُ بِاليَدِ وتَمْشِي بِالرِّجِلِ، أمّا إذا آلَ الأمْرُ إلى العَقْلِ والإدْراكِ فَإنَّها مُسْتَقِلَّةٌ بِذاتِها في هَذا الفِعْلِ مِن غَيْرِ إعانَةِ شَيْءٍ مِنَ الآلاتِ، ولِذَلِكَ فَإنَّ الإنْسانَ لا يُمْكِنُهُ أنْ يُبْصِرَ شَيْئًا إذا أغْمَضَ عَيْنَيْهِ وأنْ لا يَسْمَعَ صَوْتًا إذا سَدَّ أُذُنَيْهِ، كَما لا يُمْكِنُهُ البَتَّةَ أنْ يُزِيلَ عَنْ قَلْبِهِ العِلْمَ بِما كانَ عالِمًا بِهِ فَعَلِمْنا أنَّ النَّفْسَ غَنِيَّةٌ بِذاتِها في العُلُومِ والمَعارِفِ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الآلاتِ البَدَنِيَّةِ، فَهَذِهِ الوُجُوهُ الخَمْسَةُ أماراتٌ قَوِيَّةٌ في أنَّ النَّفْسَ (p-٤٣)لَيْسَتْ بِجِسْمٍ، وفي المَسْألَةِ الأُولى كَثِيرٌ مِن دَلائِلِ المُتَقَدِّمِينَ ذَكَرْناها في كُتُبِنا الحِكْمِيَّةِ فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ. * * * المَسْألَةُ السّادِسَةُ: في إثْباتِ أنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ مِنَ الدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ. الحُجَّةُ الأُولى: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأنْساهم أنْفُسَهُمْ﴾ (الحَشْرِ: ١٩) ومَعْلُومٌ أنَّ أحَدًا مِنَ العُقَلاءِ لا يَنْسى هَذا الهَيْكَلَ المُشاهَدَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ النَّفْسَ الَّتِي يَنْساها الإنْسانُ عِنْدَ فَرْطِ الجَهْلِ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ هَذا البَدَنِ. الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أخْرِجُوا أنْفُسَكُمُ﴾ (الأنْعامِ: ٩٣) وهَذا صَرِيحٌ أنَّ النَّفْسَ غَيْرُ البَدَنِ وقَدِ اسْتَقْصَيْنا في تَفْسِيرِ هَذِهِ فَلْيُرْجَعْ إلَيْهِ. الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ مَراتِبَ الخِلْقَةِ الجُسْمانِيَّةِ فَقالَ: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ﴾ ﴿ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكِينٍ﴾ (المُؤْمِنُونَ: ١٢) إلى قَوْلِهِ: ﴿فَكَسَوْنا العِظامَ لَحْمًا﴾ (المُؤْمِنُونَ: ١٤) ولا شَكَّ أنَّ جَمِيعَ هَذِهِ المَراتِبِ اخْتِلافاتٌ واقِعَةٌ في الأحْوالِ الجُسْمانِيَّةِ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا أرادَ أنْ يَذْكُرَ نَفْخَ الرُّوحِ قالَ: ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤] وهَذا تَصْرِيحٌ بِأنَّ ما يَتَعَلَّقُ بِالرُّوحِ جِنْسٌ مُغايِرٌ لِما سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّغَيُّراتِ الواقِعَةِ في الأحْوالِ الجُسْمانِيَّةِ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الرُّوحَ شَيْءٌ مُغايِرٌ لِلْبَدَنِ فَإنْ قالُوا: هَذِهِ الآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكم لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] وكَلِمَةُ مِن لِلتَّبْعِيضِ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الإنْسانَ بَعْضٌ مِن أبْعاضِ الطِّينِ، قُلْنا: كَلِمَةُ ”مِن“ أصْلُها لِابْتِداءِ الغايَةِ كَقَوْلِكَ خَرَجْتُ مِنَ البَصْرَةِ إلى الكُوفَةِ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ ابْتِداءُ تَخْلِيقِ الإنْسانِ حاصِلًا مِن هَذِهِ السُّلالَةِ ونَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ لِأنَّهُ تَعالى يُسَوِّي المِزاجَ أوَّلًا ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ فَيَكُونُ ابْتِداءُ تَخْلِيقِهِ مِنَ السُّلالَةِ. الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ (الحِجْرِ: ٢٩) مَيَّزَ تَعالى بَيْنَ البَشَرِيَّةِ وبَيْنَ نَفْخِ الرُّوحِ فالتَّسْوِيَةُ عِبارَةٌ عَنْ تَخْلِيقِ الأبْعاضِ والأعْضاءِ وتَعْدِيلِ المِزاجِ والأشْباحِ، فَلَمّا مَيَّزَ نَفْخَ الرُّوحِ عَنْ تَسْوِيَةِ الأعْضاءِ ثُمَّ أضافَ الرُّوحَ إلى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن رُوحِي﴾ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ مَعْنًى مُغايِرٌ لِجَوْهَرِ الجَسَدِ. الحُجَّةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونَفْسٍ وما سَوّاها﴾ ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ (الشَّمْسِ: ٨) وهَذِهِ الآيَةُ صَرِيحَةٌ في وُجُودِ شَيْءٍ مَوْصُوفٍ بِالإدْراكِ والتَّحْرِيكِ حَقًّا لِأنَّ الإلْهامَ عِبارَةٌ عَنِ الإدْراكِ، وأمّا الفُجُورُ والتَّقْوى فَهو فِعْلٌ، وهَذِهِ الآيَةُ صَرِيحَةٌ في أنَّ الإنْسانَ شَيْءٌ واحِدٌ وهو مَوْصُوفٌ أيْضًا بِالإدْراكِ والتَّحْرِيكِ ومَوْصُوفٌ أيْضًا بِفِعْلِ الفُجُورِ تارَةً وفِعْلِ التَّقْوى تارَةً أُخْرى، ومَعْلُومٌ أنَّ جُمْلَةَ البَدَنِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِهَذَيْنَ الوَصْفَيْنِ فَلا بُدَّ مِن إثْباتِ جَوْهَرٍ آخَرَ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِكُلِّ هَذِهِ الأُمُورِ. الحُجَّةُ السّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا خَلَقْنا الإنْسانَ مِن نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ (الإنْسانِ: ٢) فَهَذا تَصْرِيحٌ بِأنَّ الإنْسانَ شَيْءٌ واحِدٌ وذَلِكَ الشَّيْءُ هو المُبْتَلى بِالتَّكالِيفِ الإلَهِيَّةِ والأُمُورِ الرَّبّانِيَّةِ وهو المَوْصُوفُ بِالسَّمْعِ والبَصَرِ، ومَجْمُوعُ البَدَنِ لَيْسَ كَذَلِكَ، ولَيْسَ عُضْوًا مِن أعْضاءِ البَدَنِ كَذَلِكَ، فالنَّفْسُ شَيْءٌ مُغايِرٌ لِجُمْلَةِ البَدَنِ ومُغايِرٌ لِأجْزاءِ البَدَنِ وهو مَوْصُوفٌ بِكُلِّ هَذِهِ الصِّفاتِ، واعْلَمْ أنَّ الأحادِيثَ (p-٤٤)الوارِدَةَ في صِفَةِ الأرْواحِ قَبْلَ تَعَلُّقِها بِالأجْسادِ وبَعْدَ انْفِصالِها مِنَ الأجْسادِ كَثِيرَةٌ، وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّفْسَ شَيْءٌ غَيْرُ هَذا الجَسَدِ، والعَجَبُ مِمَّنْ يَقْرَأُ هَذِهِ الآياتِ الكَثِيرَةَ ويَرْوِي هَذِهِ الأخْبارَ الكَثِيرَةَ ثُمَّ يَقُولُ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وما كانَ يَعْرِفُ الرُّوحَ وهَذا مِنَ العَجائِبِ واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ السّابِعَةُ: في دَلالَةِ الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ في تَفْسِيرِها عَلى صِحَّةِ ما ذَكَرْناهُ أنَّ الرُّوحَ لَوْ كانَ جِسْمًا مُنْتَقِلًا مِن حالَةٍ إلى حالَةٍ ومِن صِفَةٍ إلى صِفَةٍ لَكانَ مُساوِيًا لِلْبَدَنِ في كَوْنِهِ مُتَوَلِّدًا مِن أجْسامٍ اتَّصَفَتْ بِصِفاتٍ مَخْصُوصَةٍ بَعْدَ أنْ كانَتْ مَوْصُوفَةً بِصِفاتٍ أُخْرى فَإذا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الرُّوحِ وجَبَ أنْ يُبَيِّنَ أنَّهُ جِسْمٌ كانَ كَذا ثُمَّ صارَ كَذا حَتّى صارَ رُوحًا مِثْلَ ما ذَكَرَ في كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ البَدَنِ أنَّهُ كانَ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً فَلَمّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ قالَ: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: ٨٥] بِمَعْنى أنَّهُ لا يَحْدُثُ ولا يَدْخُلُ في الوُجُودِ إلّا لِأجْلِ أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ لَهُ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ (النَّحْلِ: ٤٠) دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ جَوْهَرٌ لَيْسَ مِن جِنْسِ الأجْسامِ بَلْ هو جَوْهَرٌ قُدْسِيٌّ مُجَرَّدٌ، واعْلَمْ أنَّ أكْثَرَ العارِفِينَ المُكاشِفِينَ مِن أصْحابِ الرِّياضِيّاتِ وأرْبابِ المُكاشَفاتِ والمُشاهَداتِ مُصِرُّونَ عَلى هَذا القَوْلِ جازِمُونَ بِهَذا المَذْهَبِ، قالَ الواسِطِيُّ: خَلَقَ اللَّهُ الأرْواحَ مِن بَيْنِ الجَمالِ والبَهاءِ فَلَوْلا أنَّهُ سَتَرَها لَسَجَدَ لَها كُلُّ كافِرٍ، وأمّا بَيانُ أنَّ تَعَلُّقَهُ الأوَّلَ بِالقَلْبِ ثُمَّ بِواسِطَتِهِ يَصِلُ تَأْثِيرُهُ إلى جُمْلَةِ الأعْضاءِ فَقَدْ شَرَحْناهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ ﴿عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ﴾ (الشُّعَراءِ: ١٩٣) واحْتَجَّ المُنْكِرُونَ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: لَوْ كانَتْ مُساوِيَةً لِذاتِ اللَّهِ في كَوْنِهِ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا عَرَضٍ لَكانَتْ مُساوِيَةً لَهُ في تَمامِ الماهِيَّةِ وذَلِكَ مُحالٌ. الثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ﴾ ﴿مِن أيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ ﴿مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ ﴿ثُمَّ أماتَهُ فَأقْبَرَهُ﴾ ﴿ثُمَّ إذا شاءَ أنْشَرَهُ﴾ (عَبَسَ: ٢١) وهَذا تَصْرِيحٌ بِأنَّ الإنْسانَ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ مِنَ النُّطْفَةِ، وأنَّهُ يَمُوتُ ويَدْخُلُ القَبْرَ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى يُخْرِجُهُ مِنَ القَبْرِ، ولَوْ لَمْ يَكُنِ الإنْسانُ عِبارَةً عَنْ هَذِهِ الجُثَّةِ لَمْ تَكُنِ الأحْوالُ المَذْكُورَةُ في هَذِهِ الآيَةِ صَحِيحَةً. الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (آلِ عِمْرانَ: ١٦٩) إلى قَوْلِهِ: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ ﴿فَرِحِينَ﴾ (آلِ عِمْرانَ: ١٧٠) وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ لِأنَّ الأرْزاقَ والفَرَحَ مِن صِفاتِ الأجْسامِ. الجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ المُساواةَ في أنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ ولا حالٍّ في المُتَحَيِّزِ مُساواةٌ في صِفَةٍ سَلْبِيَّةٍ، والمُساواةُ في الصِّفَةِ السَّلْبِيَّةِ لا تُوجِبُ المُماثَلَةَ، واعْلَمْ أنَّ جَماعَةً مِنَ الجُهّالِ يَظُنُّونَ أنَّهُ لَمّا كانَ الرُّوحُ مَوْجُودًا لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ ولا حالٍّ في المُتَحَيِّزِ وجَبَ أنْ يَكُونَ مَثَلًا لِلْإلَهِ أوْ جُزْءًا لِلْإلَهِ وذَلِكَ جَهْلٌ فاحِشٌ وغَلَطٌ قَبِيحٌ، وتَحْقِيقُهُ ما ذَكَرْناهُ مِن أنَّ المُساواةَ في السُّلُوبِ لَوْ أوْجَبَتِ المُماثَلَةَ لَوَجَبَ القَوْلُ بِاسْتِواءِ كُلِّ المُخْتَلِفاتِ وأنَّ كُلَّ ماهِيَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَلا بُدَّ أنْ يَشْتَرِكا في سَلْبِ كُلِّ ما عَداهُما، فَلْتَكُنْ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ مَعْلُومَةً فَإنَّها مَغْلَطَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْجُهّالِ. والجَوابُ عَنِ الثّانِي: أنَّهُ لَمّا كانَ الإنْسانُ في العُرْفِ والظّاهِرِ عِبارَةً عَنْ هَذِهِ الجُثَّةِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الإنْسانِ في العُرْفِ. والجَوابُ عَنِ الثّالِثِ: أنَّ الرِّزْقَ المَذْكُورَ في الآيَةِ مَحْمُولٌ عَلى ما يُقَوِّي حالَهم ويُكْمِلُ كَمالَهم وهو مَعْرِفَةُ اللَّهِ ومَحَبَّتُهُ بَلْ نَقُولُ هَذا مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا؛ لِأنَّ أبْدانَهم قَدْ بَلِيَتْ تَحْتَ التُّرابِ واللَّهُ تَعالى يَقُولُ إنَّ أرْواحَهم تَأْوِي إلى قَنادِيلَ مُعَلَّقَةٍ تَحْتَ العَرْشِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الرُّوحَ غَيْرُ البَدَنِ ولْيَكُنْ هَذا آخِرَ كَلامِنا في هَذا البابِ ولْنَرْجِعْ إلى عِلْمِ التَّفْسِيرِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا﴾ وعَلى قَوْلِنا قَدْ ذَكَرْنا فِيهِ احْتِمالَيْنِ، أمّا المُفَسِّرُونَ فَقالُوا إنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا قالَ لَهم ذَلِكَ قالُوا نَحْنُ مُخْتَصُّونَ بِهَذا الخِطابِ أمْ أنْتَ مَعَنا ؟ فَقالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«بَلْ نَحْنُ وأنْتُمْ لَمْ نُؤْتَ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا» “ فَقالُوا: ما أعْجَبَ شَأْنَكَ يا مُحَمَّدُ ساعَةً تَقُولُ: (p-٤٥)﴿ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩] وساعَةً تَقُولُ هَذا، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ أنَّما في الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أقْلامٌ﴾ (لُقْمانَ: ٢٧) إلى آخِرِهِ وما ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِلازِمٍ لِأنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلى شَيْءٍ، كَثِيرًا بِالنِّسْبَةِ إلى شَيْءٍ آخَرَ، فالعُلُومُ الحاصِلَةُ عِنْدَ النّاسِ قَلِيلَةٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِ اللَّهِ وبِالنِّسْبَةِ إلى حَقائِقِ الأشْياءِ، ولَكِنَّها كَثِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلى الشَّهَواتِ الجُسْمانِيَّةِ واللَّذّاتِ الجَسَدانِيَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب