الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ والإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وأنْ تَقُولُوا عَلى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أجَلٌ فَإذا جاءَ أجَلُهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ ﴿يا بَنِي آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكم رُسُلٌ مِنكم يَقُصُّونَ عَلَيْكم آياتِي فَمَنِ اتَّقى وأصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واسْتَكْبَرُوا عنها أُولَئِكَ أصْحابُ النارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ لَمّا تَقَدَّمَ إنْكارُ ما حَرَّمَهُ الكُفّارُ بِآرائِهِمْ؛ أتْبَعَهُ ذِكْرُ ما حَرَّمَ اللهُ - عَزَّ وجَلَّ -؛ وتَقْدِيرُهُ. و"اَلْفَواحِشُ"؛ ما فَحُشَ وشَنُعَ؛ وأصْلُهُ مِنَ القُبْحِ في المَنظَرِ؛ ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎ وجِيدٍ كَجِيدِ الرِيمِ لَيْسَ بِفاحِشٍ ∗∗∗ إذا هي نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطَّلِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِيما ساءَ مِنَ الخُلُقِ؛ وألْفاظِ الحَرَجِ؛ والرَفَثِ؛ ومِنهُ الحَدِيثُ: « "لَيْسَ (p-٥٥٣)بِفاحِشٍ"؛» في صِفَةِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ ومِنهُ «قَوْلُهُ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لِسَلَمَةَ بْنِ سَلامَةَ بْنِ وقْشٍ: "أفْحَشْتَ عَلى الرَجُلِ"؛» في حَدِيثِ السِيَرِ؛ ومِنهُ قَوْلُ الحَزِينِ؛ في كُثَيِّرِ عَزَّةَ: ؎ قَصِيرُ القَمِيصِ فاحِشٌ عِنْدَ بَيْتِهِ ∗∗∗ ∗∗∗.................. وكَذَلِكَ اسْتُعْمِلَ فِيما شَنُعَ؛ وقَبُحَ في النُفُوسِ؛ والقُبْحُ؛ والحُسْنُ في المَعانِي إنَّما [يُتَلَقَّيانِ] مِن جِهَةِ الشَرْعِ؛ والفاحِشُ كَذَلِكَ؛ فَقَوْلُهُ تَعالى - هُنا -: ﴿الفَواحِشَ﴾ ؛ إنَّما هو إشارَةٌ إلى ما نَصَّ الشَرْعُ عَلى تَحْرِيمِهِ في مَواضِعَ أُخَرَ؛ فَكُلُّ ما حَرَّمَهُ الشَرْعُ فَهو فاحِشٌ؛ وإنْ كانَ العَقْلُ لا يُنْكِرُهُ؛ كَلِباسِ الحَرِيرِ؛ والذَهَبِ لِلرِّجالِ؛ ونَحْوِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ﴾ ؛ يَجْمَعُ النَوْعَ كُلَّهُ؛ لِأنَّهُ تَقْسِيمٌ لا يَخْرُجُ عنهُ شَيْءٌ؛ وهو لَفْظٌ عامٌّ في جَمِيعِ الفَواحِشِ؛ وذَهَبَ مُجاهِدٌ إلى تَخْصِيصِ ذَلِكَ؛ بِأنْ قالَ: ما ظَهَرَ: اَلطَّوّافُ عُرْيانًا؛ والبَواطِنُ: اَلزِّنا؛ وقِيلَ غَيْرُ هَذا؛ مِمّا يَأْتِي عَلى طَرِيقِ المِثالِ؛ و"ما"؛ بَدَلٌ مِن "اَلْفَواحِشَ"؛ وهو بَدَلُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ؛ ومَجْمُوعُ القِسْمَيْنِ يَأْتِي بَدَلَ الشَيْءِ مِنَ الشَيْءِ؛ وهو هو. و"اَلْإثْمَ"؛ أيْضًا: لَفْظُهُ عامٌّ لِجَمِيعِ الأفْعالِ؛ والأقْوالِ؛ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِمُرْتَكِبِها إثْمٌ؛ هَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ؛ وقالَ بَعْضُ الناسِ: هي الخَمْرُ؛ واحْتُجَّ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِ الشاعِرِ: ؎ شَرِبْتُ الإثْمَ حَتّى طارَ عَقْلِي ∗∗∗ ∗∗∗............... (p-٥٥٤)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا قَوْلٌ مَرْدُودٌ؛ لِأنَّ هَذِهِ السُورَةَ مَكِّيَّةٌ؛ ولَمْ تُعْنَ الشَرِيعَةُ لِتَحْرِيمِ الخَمْرِ إلّا بِالمَدِينَةِ؛ بَعْدَ أُحُدٍ؛ لِأنَّ جَماعَةً مِنَ الصَحابَةِ اصْطَحَبُوها يَوْمَ أُحُدٍ؛ وماتُوا شُهَداءَ وهي في أجْوافِهِمْ؛ وأيْضًا فَبَيْتُ الشِعْرِ يُقالُ: إنَّهُ مَصْنُوعٌ مُخْتَلَقٌ؛ وإنْ صَحَّ فَهو عَلى حَذْفٍ مُضافٍ؛ وكَأنَّ ظاهِرَ القُرْآنِ - عَلى هَذا القَوْلِ - أنَّ تَحْرِيمَ الخَمْرِ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩] ؛ وهو في هَذِهِ الآيَةِ قَدْ حُرِّمَ؛ فَيَأْتِي مِن هَذا أنَّ الخَمْرَ إثْمٌ؛ والإثْمَ مُحَرَّمٌ؛ فالخَمْرُ مُحَرَّمَةٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ولَكِنْ لا يَصِحُّ هَذا؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ "فِيهِما إثْمٌ"؛﴾ [البقرة: ٢١٩] مُحْتَمَلٌ أنْ يُرادَ بِهِ أنَّهُ يَلْحَقُ الخَمْرَ مِن فَسادِ العَقْلِ؛ والِافْتِراءِ؛ وقَتْلِ النَفْسِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ آثامٌ؛ فَكَأنَّهُ قالَ: "فِي الخَمْرِ هَذِهِ الآثامُ"؛ أيْ: هي بِسَبَبِها؛ ومَعَها؛ وهَذِهِ الأشْياءُ مُحَرَّمَةٌ؛ لا مَحالَةَ؛ وخَرَجَتِ الخَمْرُ مِنَ التَحْرِيمِ عَلى هَذا؛ ولَمْ يَتَرَتَّبِ القِياسُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ قائِلُ ما ذَكَرْناهُ؛ ويُعَضِّدُ هَذا أنّا وجَدْنا الصَحابَةَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ فِيهِما إثْمٌ﴾ [البقرة: ٢١٩] ؛ وفي بَعْضِ الأحادِيثِ: "فَتَرَكَها قَوْمٌ لِلْإثْمِ الَّذِي فِيها؛ وشَرِبَها قَوْمٌ لِلْمَنافِعِ؛ وإنَّما حُرِّمَتِ الخَمْرُ بِظَواهِرِ القُرْآنِ؛ ونُصُوصِ الأحادِيثِ؛ والإجْماعِ. و"اَلْبَغْيُ": اَلتَّعَدِّي؛ وتَجاوُزُ الحَدِّ؛ كانَ الإنْسانُ مُبْتَدِيًا بِذَلِكَ أو مُنْتَصِرًا؛ فَإذا جاوَزَ الحَدَّ في الِانْتِصارِ فَهو باغٍ؛ وقَوْلُهُ تَعالى ﴿بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ ؛ زِيادَةُ بَيانٍ؛ ولَيْسَ يُتَصَوَّرُ بَغْيٌ بِحَقٍّ؛ لِأنَّ ما كانَ بِحَقٍّ فَلا يُسَمّى "بَغْيًا". ﴿وَأنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا﴾ ؛ اَلْمُرادُ بِها الأصْنامُ؛ والأوثانُ؛ وكُلُّ ما عُبِدَ مِن دُونِ اللهِ تَعالى ؛ والسُلْطانُ: اَلْبُرْهانُ؛ والحُجَّةُ. ﴿وَأنْ تَقُولُوا عَلى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ ؛ مِن أنَّهُ حَرَّمَ البَحِيرَةَ؛ والسائِبَةَ؛ ونَحْوَهُما. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أجَلٌ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ يَتَضَمَّنُ الوَعِيدَ؛ والتَهْدِيدَ؛ والمَعْنى: "وَلِكُلِّ (p-٥٥٥)أُمَّةٍ - أيْ: فِرْقَةٍ وجَماعَةٍ؛ وهي لَفْظَةٌ تُسْتَعْمَلُ في (اَلْكَثِيرِ مِنَ الناسِ) - أجَلٌ مُؤَقَّتٌ؛ لِمَجِيءِ العَذابِ؛ إذا كَفَرُوا؛ وخالَفُوا أمْرَ رَبِّهِمْ؛ فَأنْتُمْ أيَّتُها الأُمَّةُ كَذَلِكَ"؛ قالَهُ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ. وقَرَأ الحَسَنُ: "فَإذا جاءَ آجالُهُمْ"؛ بِالجَمْعِ؛ وهي قِراءَةُ ابْنِ سِيرِينَ ؛ قالَ أبُو الفَتْحِ: هَذا هو الأظْهَرُ؛ لِأنَّ لِكُلِّ إنْسانٍ أجَلًا؛ فَأمّا الإفْرادُ؛ فَلِأنَّهُ جِنْسٌ؛ وإضافَتُهُ إلى الجَماعَةِ حَسَّنَتِ الإفْرادَ؛ ومِثْلُهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ....................... ∗∗∗ ∗∗∗ في حَلْقِكم عَظْمٌ وقَدْ شَجِينا وقَوْلُهُ تَعالى "ساعَةً"؛ لَفْظٌ عُيِّنَ بِهِ الجُزْءُ القَلِيلُ مِنَ الزَمَنِ؛ والمُرادُ جَمِيعُ أجْزائِهِ؛ أيْ: لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً؛ ولا أقَلَّ مِنها؛ ولا أكْثَرَ؛ وهَذا نَحْوُ قَوْلِهِ - تَبارَكَ وتَعالى -: ﴿إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: ٤٠] ؛ فَإنَّما هي عِبارَةٌ يُقامُ الجُزْءُ فِيها مَقامَ الكُلِّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: كَأنَّهُ يَظْهَرُ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ؛ وبَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى ويُؤَخِّرَكم إلى أجَلٍ مُّسَمًّى ؛ تَعارُضٌ؛ لِأنَّ تِلْكَ تَقْتَضِي الوَعْدَ بِتَأْخِيرٍ إنْ آمَنُوا؛ والوَعِيدَ بِمُعاجَلَةٍ إنْ كَفَرُوا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والحَقُّ مَذْهَبُ أهْلِ السُنَّةِ؛ أنَّ كُلَّ أحَدٍ إنَّما هو بِأجَلٍ واحِدٍ؛ لا يَتَأخَّرُ عنهُ؛ ولا يَتَقَدَّمُ؛ وقَوْمُنُوحٍ كانَ مِنهم مَن سَبَقَ في عِلْمِ اللهِ تَعالى أنَّهُ يَكْفُرُ؛ فَيُعاجَلُ؛ وذَلِكَ هو أجَلُهُ المَحْتُومُ؛ ومِنهم مَن يُؤْمِنُ؛ فَيَتَأخَّرُ إلى أجَلِهِ المَحْتُومِ؛ وغُيِّبَ عن نُوحٍ تَعْيِينُ الطائِفَتَيْنِ؛ فَنَدَبَ الكُلَّ إلى طَرِيقِ النَجاةِ؛ وهو يَعْلَمُ أنَّ الطائِفَةَ إنَّما تُعاجَلُ؛ أو تُؤَخَّرُ بِأجَلِها؛ فَكَأنَّهُ يَقُولُ: "فَإنْ آمَنتُمْ عَلِمْنا أنَّكم مِمَّنْ قَضى اللهُ تَعالى لَهُ بِالإيمانِ؛ والأجَلِ المُؤَخَّرِ؛ وإنْ كَفَرْتُمْ عَلِمْنا أنَّكم مِمَّنْ قُضِيَ لَهُ بِالأجَلِ المُعَجَّلِ؛ والكُفْرِ". (p-٥٥٦)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وعَلى هَذا الحَدِّ هو دُعاءُ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ - إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ؛ وقَدْ عَلِمَ أنَّ مِنهم مَن يَكْفُرُ فَيَدْخُلُ النارَ؛ وكَذَلِكَ هو أمْرُ الأسِيرِ؛ يُقالُ لَهُ: "إمّا أنْ تُؤْمِنَ فَتُتْرَكَ؛ وإلّا قُتِلْتَ". وقَوْلُهُ تَعالى ﴿يا بَنِي آدَمَ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ الخِطابُ في هَذِهِ الآيَةِ لِجَمِيعِ العالَمِ؛ و"إنْ"؛ الشَرْطِيَّةُ دَخَلَتْ عَلَيْها "ما"؛ مُؤَكِّدَةً؛ ولِذَلِكَ جازَ دُخُولُ النُونِ الثَقِيلَةِ عَلى الفِعْلِ؛ وإذا لَمْ تَكُنْ "ما"؛ لَمْ يَجُزْ دُخُولُ النُونِ الثَقِيلَةِ. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ؛ والأعْرَجُ: "تَأْتِيَنَّكُمْ"؛ عَلى لَفْظِ الرُسُلِ؛ وجاءَ "يَقُصُّونَ"؛ عَلى المَعْنى؛ وكانَ هَذا الخِطابُ لِجَمِيعِ الأُمَمِ؛ قَدِيمِها وحَدِيثِها؛ هو مُتَمَكِّنٌ لَهُمْ؛ ومُتَحَصَّلٌ مِنهُ لِحاضِرِي مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ - أنَّ هَذا حُكْمُ اللهِ تَعالى في العالَمِ؛ مُنْذُ أنْشَأهُ؛ و"يَأْتِيَنَّكُمْ"؛ مُسْتَقْبَلٌ وُضِعَ مَوْضِعَ ماضٍ؛ لِيُفْهَمَ أنَّ الإتْيانَ باقٍ وقْتَ الخِطابِ؛ لِتَقْوى الإشارَةُ بِصِحَّةِ النُبُوَّةِ إلى مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وهَذا عَلى مُراعاةِ وقْتِ نُزُولِ الآيَةِ؛ وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ إلى أبِي سَيّارٍ السُلَمِيِّ قالَ: إنَّ اللهَ تَعالى جَعَلَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَلامُ - وذُرِّيَّتَهُ في كَفِّهِ؛ فَقالَ: ﴿يا بَنِي آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكم رُسُلٌ مِنكُمْ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ قالَ: ثُمَّ نَظَرَ إلى الرُسُلِ؛ فَقالَ: ﴿يا أيُّها الرُسُلُ كُلُوا مِنَ الطَيِّباتِ واعْمَلُوا صالِحًا إنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: ٥١] ﴿وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكم أُمَّةً واحِدَةً وأنا رَبُّكم فاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: ٥٢] ؛ ثُمَّ بَثَّهم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ولا مَحالَةَ أنَّ هَذِهِ المُخاطَبَةَ في الأزَلِ؛ وقِيلَ: اَلْمُرادُ بِالرُسُلِ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: مِن حَيْثُ لا نَبِيَّ بَعْدَهُ؛ فَكَأنَّ المُخاطَبِينَ هُمُ المُرادُ بِبَنِي آدَمَ؛ لا غَيْرُ؛ إذْ غَيْرُهم لَمْ يَنَلْهُ الخِطابُ؛ ذَكَرَهُ النَقّاشُ ؛ و"يَقُصُّونَ"؛ مَعْناهُ: يَسْرُدُونَ؛ ويُورِدُونَ؛ و"اَلْآياتُ"؛ لَفْظٌ جامِعٌ لِآياتِ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ؛ ولِلْعَلاماتِ الَّتِي تَقْتَرِنُ بِالأنْبِياءِ؛ وقَوْلُهُ تَعالى ﴿فَمَنِ اتَّقى وأصْلَحَ﴾ ؛ يَصِحُّ أنْ تَكُونَ "مَن"؛ شَرْطِيَّةً؛ وجَوابُهُ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ؛ وهَذِهِ الجُمْلَةُ هي في (p-٥٥٧)جَوابِ الشَرْطِ الأوَّلِ الَّذِي هُوَ: "إمّا يَأْتِيَنَّكُمْ"؛ ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ "مَن"؛ في قَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اتَّقى﴾ ؛ مَوْصُولَةً؛ وكَأنَّهُ قَصَدَ بِالكَلامِ تَقْسِيمَ الناسِ؛ فَجَعَلَ القِسْمَ الأوَّلَ ﴿فَمَنِ اتَّقى﴾ ؛ والقِسْمَ الثانِي: ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ ؛ وجاءَ هَذا التَقْسِيمُ بِجُمْلَتِهِ جَوابًا لِلشَّرْطِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إمّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ ؛ فَكَأنَّهُ قالَ: "إنْ أتَتْكم رُسُلٌ فالمُتَّقُونَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ؛ والمُكَذِّبُونَ أصْحابُ النارِ"؛ أيْ: هَذا هو الثَمَرَةُ وفائِدَةُ الرِسالَةِ. ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللهِ كَذِبًا﴾ [الأعراف: ٣٧] ؛ أيْ: لَيْسَ ثَمَّ نَفْعٌ لِلْمُفْتَرِي؛ ولا غَرَضٌ دُنْيَوِيٌّ؛ فالآيَةٌ تَبْرِيَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - مِنَ الِافْتِراءِ؛ وتَوْبِيخٌ لِلْمُفْتَرِينَ مِنَ الكُفّارِ؛ و"لا"؛ في قَوْلِهِ - تَبارَكَ وتَعالى -: "فَلا خَوْفٌ"؛ بِمَعْنى "لَيْسَ". وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: "فَلا خَوْفُ"؛ دُونَ تَنْوِينٍ؛ ووَجْهُهُ: إمّا أنْ يُحْذَفَ التَنْوِينُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ؛ وإمّا حَمْلًا عَلى حَذْفِهِ مَعَ "لا"؛ وهي تَبْرِيَةٌ ناصِبَةٌ؛ تُشَبِّهُ حالَةَ الرَفْعِ في البِناءِ بِحالَةِ النَصْبِ؛ وقِيلَ: إنَّ المُرادَ: "فَلا الخَوْفُ"؛ ثُمَّ حُذِفَتِ الألِفُ؛ واللامُ؛ وبَقِيَتِ الفاءُ عَلى حالِها؛ لِتَدُلَّ عَلى المَحْذُوفِ؛ ونَفْيُ الخَوْفِ والحُزْنِ يَعُمُّ جَمِيعَ أنْواعِ مَكارِهِ النَفْسِ؛ وأنْكارِها؛ ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ الخَوْفُ لِما يُسْتَقْبَلُ مِنَ الأُمُورِ؛ والحُزْنُ لِما مَضى. ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واسْتَكْبَرُوا﴾ ؛ [هاتانِ حالَتانِ تَعُمّانِ] جَمِيعَ مَن يَصُدُّ عن رِسالَةِ الرَسُولِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ إمّا أنْ يُكَذِّبَ بِحَسَبِ اعْتِقادِهِ؛ وإمّا أنْ يَسْتَكْبِرَ؛ فَيُكَذِّبَ وإنْ كانَ غَيْرَ مُصَمِّمٍ في اعْتِقادِهِ عَلى التَكْذِيبِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا نَحْوُ الكُفْرِ عِنادًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب