الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يابَنِي آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكم رُسُلٌ مِنكم يَقُصُّونَ عَلَيْكم آياتِي فَمَنِ اتَّقى وأصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أحْوالَ التَّكْلِيفِ وبَيَّنَ أنَّ لِكُلِّ أحَدٍ أجَلًا مُعَيَّنًا لا يَتَقَدَّمُ ولا يَتَأخَّرُ بَيَّنَ أنَّهم بَعْدَ المَوْتِ كانُوا مُطِيعِينَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا حُزْنٌ، وإنْ كانُوا مُتَمَرِّدِينَ وقَعُوا في أشَدِّ العَذابِ. وقَوْلُهُ: ﴿إمّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ هي إنِ الشَّرْطِيَّةُ ضُمَّتْ إلَيْها ما مُؤَكِّدَةً لِمَعْنى الشَّرْطِ، ولِذَلِكَ لَزِمَتْ فِعْلَها النُّونُ الثَّقِيلَةُ، وجَزاءُ هَذا الشَّرْطِ هو الفاءُ وما بَعْدَهُ مِنَ الشَّرْطِ والجَزاءِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَمَنِ اتَّقى وأصْلَحَ﴾ وإنَّما قالَ: ”رُسُلٌ“ - وإنْ كانَ خِطابًا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو خاتَمُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمُ السَّلامُ - لِأنَّهُ تَعالى أجْرى الكَلامَ عَلى ما يَقْتَضِيهِ سُنَّتُهُ في الأُمَمِ، وإنَّما قالَ: (مِنكم) لِأنَّ كَوْنَ الرَّسُولِ مِنهم أقْطَعُ لِعُذْرِهِمْ وأبْيَنُ لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ مِن جِهاتٍ: أحَدُها: أنَّ مَعْرِفَتَهم بِأحْوالِهِ وبِطَهارَتِهِ تَكُونُ مُتَقَدِّمَةً. وثانِيها: أنَّ مَعْرِفَتَهم بِما يَلِيقُ بِقُدْرَتِهِ تَكُونُ مُتَقَدِّمَةً، فَلا جَرَمَ لا يَقَعُ في المُعْجِزاتِ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَيْهِ شَكٌّ وشُبْهَةٌ في أنَّها حَصَلَتْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى لا بِقُدْرَتِهِ، فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا﴾ [الأنْعامِ: ٩] . وثالِثُها: ما يَحْصُلُ مِنَ الأُلْفَةِ وسُكُونِ القَلْبِ إلى أبْناءِ الجِنْسِ، بِخِلافِ ما لا يَكُونُ مِنَ الجِنْسِ، فَإنَّهُ لا يَحْصُلُ مَعَهُ الأُلْفَةُ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكم آياتِي﴾ فَقِيلَ: تِلْكَ الآياتُ هي القُرْآنُ. وقِيلَ: الدَّلائِلُ، وقِيلَ: الأحْكامُ والشَّرائِعُ. والأوْلى دُخُولُ الكُلِّ فِيهِ؛ لِأنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الأشْياءِ آياتُ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ الرُّسُلَ إذا جاءُوا فَلا بُدَّ وأنْ يَذْكُرُوا جَمِيعَ هَذِهِ الأقْسامِ. ثُمَّ قَسَّمَ تَعالى حالَ الأُمَّةِ فَقالَ: ﴿فَمَنِ اتَّقى وأصْلَحَ﴾ وجَمْعُ هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ مِمّا يُوجِبُ الثَّوابَ؛ لِأنَّ المُتَّقِيَ هو الَّذِي يَتَّقِي كُلَّ ما نَهى اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، ودَخَلَ في قَوْلِهِ: (وأصْلَحَ) أنَّهُ أتى بِكُلِّ ما أُمِرَ بِهِ. ثُمَّ قالَ تَعالى في صِفَتِهِ: ﴿فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ أيْ: بِسَبَبِ الأحْوالِ المُسْتَقْبَلَةِ ﴿ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ أيْ: بِسَبَبِ الأحْوالِ الماضِيَةِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ إذا جُوِّزَ وُصُولُ المَضَرَّةِ إلَيْهِ في الزَّمانِ المُسْتَقْبَلِ خافَ، وإذا تَفَكَّرَ فَعَلِمَ (p-٥٨)أنَّهُ وصَلَ إلَيْهِ بَعْضُ ما لا يَنْبَغِي في الزَّمانِ الماضِي؛ حَصَلَ الحُزْنُ في قَلْبِهِ لِهَذا السَّبَبِ، والأوْلى في نَفْيِ الحُزْنِ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنْ لا يَحْزَنَ عَلى ما فاتَهُ في الدُّنْيا؛ لِأنَّ حُزْنَهُ عَلى عِقابِ الآخِرَةِ يَجِبُ أنْ يَرْتَفِعَ بِما حَصَلَ لَهُ مِن زَوالِ الخَوْفِ فَيَكُونُ كالمَعادِ، وحَمْلُهُ عَلى الفائِدَةِ الزّائِدَةِ أوْلى، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ حالَهُ في الآخِرَةِ تُفارِقُ حالَهُ في الدُّنْيا، فَإنَّهُ في الآخِرَةِ لا يَحْصُلُ في قَلْبِهِ خَوْفٌ ولا حُزْنٌ البَتَّةَ. واخْتَلَفَ العُلَماءُ في أنَّ المُؤْمِنِينَ مِن أهْلِ الطّاعاتِ هَلْ يَلْحَقُهم خَوْفٌ وحُزْنٌ عِنْدَ أهْوالِ يَوْمِ القِيامَةِ. فَذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّهُ لا يَلْحَقُهم ذَلِكَ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ، وأيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ﴾ [الأنبياء: ١٠٣] وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّهُ يَلْحَقُهم ذَلِكَ الفَزَعُ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ وتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وتَرى النّاسَ سُكارى وما هم بِسُكارى﴾ [الحج: ٢] أيْ: مِن شِدَّةِ الخَوْفِ. وأجابَ هَؤُلاءِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: بِأنَّ مَعْناهُ أنَّ أمْرَهم يَؤُولُ إلى الأمْنِ والسُّرُورِ، كَقَوْلِ الطَّبِيبِ لِلْمَرِيضِ: لا بَأْسَ عَلَيْكَ، أيْ: أمْرُكَ يَؤُولُ إلى العافِيَةِ والسَّلامَةِ، وإنْ كانَ في الوَقْتِ في بَأْسٍ مِن عِلَّتِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِهَذِهِ الآياتِ الَّتِي يَجِيءُ بِها الرُّسُلُ ﴿واسْتَكْبَرُوا﴾ أيْ: أنِفُوا مِن قَبُولِها وتَمَرَّدُوا عَنِ التِزامِها ﴿أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ وقَدْ تَمَسَّكَ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الفاسِقَ مِن أهْلِ الصَّلاةِ لا يَبْقى مُخَلَّدًا في النّارِ؛ لِأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ المُكَذِّبِينَ بِآياتِ اللَّهِ والمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ قَبُولِها، هُمُ الَّذِينَ يَبْقُونَ مُخَلَّدِينَ في النّارِ، وكَلِمَةُ ”هم“ تُفِيدُ الحَصْرَ، فَذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ مَن لا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ التَّكْذِيبِ والِاسْتِكْبارِ، لا يَبْقى مُخَلَّدًا في النّارِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب