قوله عزّ وجلّ:
﴿يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيَّ ويُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ ﴿وَمِن آياتِهِ أنْ خَلَقَكم مِن تُرابٍ ثُمَّ إذا أنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾ ﴿وَمِن آياتِهِ أنْ خَلَقَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكم مَوَدَّةً ورَحْمَةً إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿وَمِن آياتِهِ خَلْقُ السَماواتِ والأرْضِ واخْتِلافُ ألْسِنَتِكم وألْوانِكم إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعالِمِينَ﴾
"الحَيُّ والمَيِّتُ" في هَذِهِ الآيَةِ يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً ويُسْتَعْمَلُ مَجازًا، فالحَقِيقَةُ: المَنِيُّ يَخْرُجُ مِنهُ الإنْسانُ، والبَيْضَةُ يَخْرُجُ مِنها الطائِرُ، وهَذِهِ بِعَيْنِها مَيِّتَةٌ تَخْرُجُ مِن حَيٍّ، وما جَرى هَذا المَجْرى، وبِهَذا المَعْنى فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهم. وقالَ الحَسَنُ: المَعْنى: المُؤْمِنَ مِنَ الكافِرِ والكافِرَ مِنَ المُؤْمِنِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ورُوِيَ هَذا المَعْنى «عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ عِنْدَما كَلَّمَتْهُ بِالإسْلامِ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَقَبَةَ بْنِ أبِي مُعَيْطٍ». والمَجازُ إخْراجُ النَباتِ الأخْضَرِ مِنَ الأرْضِ، وإخْراجُ الطُعْمِ مِنَ النَباتِ، وما جَرى هَذا المَجْرى. ومَثَّلَ بَعْدَ إحْياءِ الأرْضِ بَعْدَ مَوْتِها بِالمَطَرِ.
ثُمَّ بَعْدَ هَذَهِ الأمْثِلَةِ القاضِيَةِ بِتَجْوِيزِ بَعْثِ الأجْسادِ عَقْلًا ساقَ الخَبَرَ بِأنَّ كَذَلِكَ خُرُوجَنا مِنَ القُبُورِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "يُخْرَجُونَ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ، وقَرَأ عامَّةُ القُرّاءِ: "تُخْرَجُونَ" بِالتاءِ المَضْمُومَةِ، وقَرَأ الحَسَنُ، وابْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ، وطَلْحَةُ بِفَتْحِ التاءِ وضَمِّ الراءِ.
و"مِن" في قَوْلِهِ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿وَمِن آياتِهِ أنْ خَلَقَكُمْ﴾ لِلتَّبْعِيضِ، وقالَ: ﴿ "خَلَقَكُمْ"﴾ مِن حَيْثُ خَلَقَ أباهم آدَمَ، قالَهُ قَتادَةُ. و"تَنْتَشِرُونَ" مَعْناهُ: تَتَصَرَّفُونَ وتَتَفَرَّقُونَ في الأعْراضِ والأسْفارِ.
(p-١٧)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن أنْفُسِكُمْ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ خَلْقَهُ حَوّاءَ مِن ضِلْعِ آدَمَ، فَحَمَلَ ذَلِكَ عَلى جَمِيعِ النِساءِ مِن حَيْثُ أُمُّهم مَخْلُوقَةٌ مِن نَفْسِ آدَمَ، أيْ: مِن ذاتِ شَخْصِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: مِن نَوْعِكم ومِن جِنْسِكم. و"المَوَدَّةُ والرَحْمَةُ" عَلى بابِهِما المَشْهُورِ مِنَ التَوادِّ والتَراحُمِ، هَذا هو البَلِيغُ، وقالَ مُجاهِدٌ والحَسَنُ وعِكْرِمَةُ: عَنى بِالمَوَدَّةِ الجِماعَ وبِالرَحْمَةِ الوَلَدَ.
ثُمَّ نَبَّهَ تَعالى عَلى خَلْقِ السَماواتِ والأرْضِ، واخْتِلافِ اللُغاتِ والألْوانِ، وهَذِهِ: البَياضُ والسَوادُ وغَيْرُهُما، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ ضُرُوبَ بَنِي آدَمَ وأنْواعَهُمْ، فَتَعُمُّ شُخُوصَ البَشَرِ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ بِالألْوانِ، وتَعُمُّ الألْسِنَةَ. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "لِلْعالَمِينَ" بِفَتْحِ اللامِ، وقَرَأ حَفْصٌ عن عاصِمٍ: "لِلْعالِمِينَ" بِكَسْرِ اللامِ، فالأُولى عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ هي نَفْسَها مَنصُوبَةٌ لِجَمِيعِ العالَمِ، والثانِيَةُ عَلى مَعْنى أنَّ أهْلَ الِانْتِفاعِ بِالنَظَرِ فِيها إنَّما هم أهْلُ العِلْمِ.
{"ayahs_start":19,"ayahs":["یُخۡرِجُ ٱلۡحَیَّ مِنَ ٱلۡمَیِّتِ وَیُخۡرِجُ ٱلۡمَیِّتَ مِنَ ٱلۡحَیِّ وَیُحۡیِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ وَكَذَ ٰلِكَ تُخۡرَجُونَ","وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦۤ أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابࣲ ثُمَّ إِذَاۤ أَنتُم بَشَرࣱ تَنتَشِرُونَ","وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦۤ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَ ٰجࣰا لِّتَسۡكُنُوۤا۟ إِلَیۡهَا وَجَعَلَ بَیۡنَكُم مَّوَدَّةࣰ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ","وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَ ٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّلۡعَـٰلِمِینَ"],"ayah":"وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦۤ أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابࣲ ثُمَّ إِذَاۤ أَنتُم بَشَرࣱ تَنتَشِرُونَ"}