الباحث القرآني

﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ ﴿ولَهُ الحَمْدُ في السَّماواتِ والأرْضِ وعَشِيًّا وحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ ﴿يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ويُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ ﴿ومِن آياتِهِ أنْ خَلَقَكم مِن تُرابٍ ثُمَّ إذا أنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾ ﴿ومِن آياتِهِ أنْ خَلَقَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكم مَوَدَّةً ورَحْمَةً إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿ومِن آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافُ ألْسِنَتِكم وألْوانِكم إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ﴾ ﴿ومِن آياتِهِ مَنامُكم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وابْتِغاؤُكم مِن فَضْلِهِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ ﴿ومِن آياتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وطَمَعًا ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ﴿ومِن آياتِهِ أنْ تَقُومَ السَّماءُ والأرْضُ بِأمْرِهِ ثُمَّ إذا دَعاكم دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إذا أنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ . (p-١٦٦)لَمّا بَيَّنَ تَعالى عَظِيمَ قُدْرَتِهِ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ بِالحَقِّ، وهو حالَةُ ابْتِداءِ العالَمِ، وفي مَصِيرِهِمْ إلى الجَنَّةِ والنّارِ، وهي حالَةُ الِانْتِهاءِ، أمَرَ تَعالى بِتَنْزِيهِهِ مِن كُلِّ سُوءٍ. والظّاهِرُ أنَّهُ أمَرَ عِبادَهُ بِتَنْزِيهِهِ في هَذِهِ الأوْقاتِ، لِما يَتَجَدَّدُ فِيها مِنَ النِّعَمِ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ كِنايَةً عَنِ اسْتِغْراقِ زَمانِ العَبْدِ، وهو أنْ يَكُونَ ذاكِرًا رَبَّهُ، واصِفَهُ بِما يَجِبُ لَهُ عَلى كُلِّ حالٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمّا ذَكَرَ الوَعْدَ والوَعِيدَ، أتْبَعَهُ ذِكْرَ ما يُوصِلُ إلى الوَعْدِ ويُنْجِي مِنَ الوَعِيدِ. وقِيلَ: المُرادُ هُنا بِالتَّسْبِيحِ: الصَّلاةُ. فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ: المَغْرِبُ والصُّبْحُ والعَصْرُ والظُّهْرُ، وأمّا العِشاءُ فَفي قَوْلِهِ: ﴿وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: ١١٤] . وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: الخَمْسُ، وجَعَلَ ﴿حِينَ تُمْسُونَ﴾ شامِلًا لِلْمَغْرِبِ والعَشاءِ. ﴿ولَهُ الحَمْدُ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ الوَقْتَيْنِ، ومَعْناهُ: أنَّ الحَمْدَ واجِبٌ عَلى أهْلِ السَّماواتِ وأهْلِ الأرْضِ، وكانَ الحَسَنُ يَذْهَبُ إلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَدَنِيَّةٌ؛ لِأنَّهُ كانَ يَقُولُ: فُرِضَتِ الخَمْسُ بِالمَدِينَةِ. وقالَ الأكْثَرُونَ: بَلْ فُرِضَتْ بِمَكَّةَ؛ وفي التَّحْرِيرِ، اتَّفَقَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ الخَمْسَ داخِلَةٌ في هَذِهِ الآيَةِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ما ذُكِرَتِ الخَمْسُ إلّا فِيها، وقَدَّمَ الإمْساءَ عَلى الإصْباحِ، كَما قُدِّمَ في قَوْلِهِ (يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ) والظُّلُماتِ عَلى النُّورِ، وقابَلَ بِالعَشِيِّ الإمْساءَ، وبِالإظْهارِ الإصْباحَ؛ لِأنَّ كُلًّا مِنهُما يُعْقَبُ بِما يُقابِلُهُ؛ فالعَشِيُّ يَعْقُبُهُ الإمْساءُ، والإصْباحُ يَعْقُبُهُ الإظْهارُ. ولَمّا لَمْ يَتَصَرَّفْ مِنَ العَشِيِّ فِعْلٌ، لا يُقالُ: أعْشى، كَما يُقالُ: أمْسى وأصْبَحَ وأظْهَرَ، جاءَ التَّرْكِيبُ (وعَشِيًّا) . وقَرَأ عِكْرِمَةُ: ”حِينًا تُمْسُونَ وحِينًا تُصْبِحُونَ“، بِتَنْوِينِ حِينٍ، والجُمْلَةُ صِفَةٌ حُذِفَ مِنها العائِدُ تَقْدِيرُهُ: تُمْسُونَ فِيهِ وتُصْبِحُونَ فِيهِ. ولَمّا ذَكَرَ الإبْداءَ والإعادَةَ، ناسَبَ ذِكْرَهُ: (يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ) وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذِهِ الآيَةِ في آلِ عِمْرانَ. (وكَذَلِكَ) أيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الإخْراجِ، والمَعْنى: تَساوى الإبْداءُ والإعادَةُ في حَقِّهِ تَعالى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (تُخْرَجُونَ) بِالتّاءِ المَضْمُومَةِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ؛ وابْنُ وثّابٍ وطَلْحَةُ والأعْمَشُ: بِفَتْحِ تاءِ الخِطابِ وضَمِّ الرّاءِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى آياتِهِ مِن بَدْءِ خَلْقِ الإنْسانِ، آيَةً آيَةً، إلى حِينِ بَعْثِهِ مِنَ القَبْرِ فَقالَ: ﴿ومِن آياتِهِ أنْ خَلَقَكم مِن تُرابٍ﴾ جَعَلَ خَلْقَهم مِن تُرابٍ، حَيْثُ كانَ خَلَقَ أباهم آدَمَ مِن تُرابٍ. و﴿تَنْتَشِرُونَ﴾ تَتَصَرَّفُونَ في أغْراضِكم بِـ: ”ثُمَّ“ المُقْتَضِيَةِ المُهْلَةَ والتَّراخِيَ. ونَبَّهَ تَعالى عَلى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِخَلْقِ الإنْسانِ مِن تُرابٍ، وهو أبْعَدُ الأشْياءِ عَنْ دَرَجَةِ الإحْياءِ؛ لِأنَّهُ بارِدٌ يابِسٌ، والحَياةُ بِالحَرارَةِ والرُّطُوبَةِ، وكَذا الرُّوحُ نَيِّرٌ وثَقِيلٌ، والرُّوحُ خَفِيفٌ وساكِنٌ، والحَيَوانُ مُتَحَرِّكٌ إلى الجِهاتِ السِّتِّ، فالتُّرابُ أبْعَدُ مِن قَبُولِ الحَياةِ مِن سائِرِ الأجْسامِ. (مِن أنْفُسِكم) فِيها قَوْلٌ ﴿وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ [النساء: ١] إمّا كَوْنُ حَوّاءَ خُلِقَتْ مِن ضِلْعِ آدَمَ، وإمّا مِن جِنْسِكم ونَوْعِكم. وعَلَّلَ خَلْقَ الأزْواجِ بِالسُّكُونِ إلَيْها، وهو الإلْفُ. فَمَتى كانَ مِنَ الجِنْسِ، كانَ بَيْنَهُما تَألُّفٌ، بِخِلافِ الجِنْسَيْنِ، فَإنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُما التَّنافُرُ، وهَذِهِ الحِكْمَةُ في بَعْثِ الرُّسُلِ مِن جِنْسِ بَنِي آدَمَ. ويُقالُ: سَكَنَ إلَيْهِ: مالَ، ومِنهُ السَّكَنُ: فِعْلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ. ﴿مَوَدَّةً ورَحْمَةً﴾ أيْ: بِالأزْواجِ، بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ سابِقَةُ تَعارُفٍ يُوجِبُ التَّوادَّ. وقالَ مُجاهِدٌ والحَسَنُ وعِكْرِمَةُ: المَوَدَّةُ: النِّكاحُ، والرَّحْمَةُ: الوَلَدُ، كَنّى بِذَلِكَ (p-١٦٧)عَنْهُما. وقِيلَ: مَوَدَّةً لِلشّابَّةِ، ورَحْمَةً لِلْعَجُوزِ. وقِيلَ: مَوَدَّةً لِلْكَبِيرِ، ورَحْمَةً لِلصَّغِيرِ. وقِيلَ: هَمّا اشْتِباكُ الرَّحِمِ. وقِيلَ: المَوَدَّةُ مِنَ اللَّهِ، والبُغْضُ مِنَ الشَّيْطانِ. ﴿واخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ﴾ أيْ: لُغاتِكم، فَمَنِ اطَّلَعَ عَلى لُغاتٍ رَأى مِنَ اخْتِلافِ تَراكِيبِها أوْ قَوانِينِها، مَعَ اتِّحادِ المَدْلُولِ، عَجائِبَ وغَرائِبَ في المُفْرَداتِ والمُرَكَّباتِ. وعَنْ وهْبٍ: أنَّ الألْسِنَةَ اثْنانِ وسَبْعُونَ لِسانًا، في ولَدِ حامٍ سَبْعَةَ عَشَرَ، وفي ولَدِ سامٍ تِسْعَةَ عَشَرَ، وفي ولَدِ يافِثٍ سِتَّةٌ وثَلاثُونَ. وقِيلَ: المُرادُ بِاللُّغاتِ: الأصْواتُ والنَّغَمُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الألْسِنَةُ: اللَّذّاتُ وأجْناسُ النُّطَفِ وأشْكالُهُ. خالَفَ عَزَّ وجَلَّ بَيْنَ هَذِهِ الأشْياءِ حَتّى لا تَكادَ تَسْمَعُ مَنطِقَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ في هَمْسٍ واحِدٍ، ولا جَهارَةٍ، ولا حِدَّةٍ، ولا رَخاوَةٍ، ولا فَصاحَةٍ، ولا لُكْنَةٍ، ولا نَظْمٍ، ولا أُسْلُوبٍ، ولا غَيْرِ ذَلِكَ مِن صِفاتِ النُّطْقِ وأحْوالِهِ. انْتَهى. ﴿وألْوانِكُمْ﴾ السَّوادُ والبَياضُ وغَيْرُهُما، والأنْواعُ والضُّرُوبُ بِتَخْطِيطِ الصُّوَرِ، ولَوْلا ذَلِكَ الِاخْتِلافُ، لَوَقَعَ الِالتِباسُ وتَعَطَّلَتْ مَصالِحُ كَثِيرَةٌ مِنَ المُعامَلاتِ وغَيْرِها. وفِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ، حَيْثُ فَرَّعُوا مِن أصْلٍ واحِدٍ، وتَبايَنُوا في الأشْكالِ عَلى كَثْرَتِهِمْ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (لِلْعالَمِينَ) بِفَتْحِ اللّامِ؛ لِأنَّها في نَفْسِها آيَةٌ مَنصُوبَةٌ لِلْعالَمِ. وقَرَأ حَفْصٌ وحَمّادُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أبِي بَكْرٍ، وعَلْقَمَةُ عَنْ عاصِمٍ، ويُونُسُ عَنْ أبِي عَمْرٍو: بِكَسْرِ اللّامِ، إذِ المُنْتَفِعُ بِها إنَّما هم أهْلُ العِلْمِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وما يَعْقِلُها إلّا العالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٣] . والظّاهِرُ أنَّ ﴿بِاللَّيْلِ والنَّهارِ﴾ مُتَعَلِّقٌ (بِمَنامِكم) فامْتَنَّ تَعالى بِذَلِكَ؛ لِأنَّ النَّهارَ قَدْ يُقامُ فِيهِ، وخُصُوصًا مَن كانَ مُشْتَغِلًا في حَوائِجِهِ بِاللَّيْلِ. ﴿وابْتِغاؤُكم مِن فَضْلِهِ﴾ أيْ: فِيهِما، أيْ: في اللَّيْلِ والنَّهارِ مَعًا؛ لِأنَّ بَعْضَ النّاسِ قَدْ يَبْتَغِي الفِعْلَ بِاللَّيْلِ، كالمُسافِرِينَ والحُرّاسِ بِاللَّيْلِ وغَيْرِهِمْ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذا مِن بابِ اللَّفِّ، وتَرْتِيبُهُ: ﴿ومِن آياتِهِ مَنامُكم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وابْتِغاؤُكُمْ﴾ ولِأنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ الأوَّلَيْنِ بِالقَرِينَيْنِ الآخَرَيْنِ لِأنَّهُما زَمانانِ، والزَّمانُ والواقِعُ فِيهِ كَشَيْءٍ واحِدٍ مَعَ إعانَةِ اللَّفِّ عَلى ذَلِكَ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ ﴿مَنامُكُمْ﴾ في الزَّمانَيْنِ ﴿وابْتِغاؤُكم مِن فَضْلِهِ﴾ فِيهِما. والظّاهِرُ هو الأوَّلُ لِتَكَرُّرِهِ في القُرْآنِ، وأسَدُّ المَعانِي ما دَلَّ عَلَيْهِ القُرْآنُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، وهَذا ضَعِيفٌ، وإنَّما أرادَ أنَّ تَرَتُّبَ النَّوْمِ في اللَّيْلِ والِابْتِغاءَ لِلنَّهارِ، ولَفْظُ الآيَةِ لا يُعْطِي ذَلِكَ. ﴿ومِن آياتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا﴾ إمّا أنْ يَتَعَلَّقَ مِن آياتِهِ بِـ: (يُرِيكم)، فَيَكُونُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، و(مِن) لِابْتِداءِ الغايَةِ، أوْ يَكُونُ (يُرِيكم) عَلى إضْمارِ ”أنْ“، كَما قالَ: ؎ألا أيُّهَذا الزّاجِرِي أحْضُرُ الوَغى بِرَفْعِ أحْضُرُ، والتَّقْدِيرُ أنْ أحْضُرَ، فَلَمّا حَذَفَ أنْ، ارْتَفَعَ الفِعْلُ، ولَيْسَ هَذا مِنَ المَواضِعِ الَّتِي يُحْذَفُ مِنها أنْ قِياسًا، أوْ عَلى إنْزالِ الفِعْلِ مَنزِلَةَ المَصْدَرِ مِن غَيْرِ ما يَسْبِكُهُ لَهُ، كَما قالَ الخَلِيلُ في قَوْلٍ: ؎أُرِيدُ لِأنْسى حُبَّها أيْ أرادَنِي لِأنْسى حُبَّها، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ في هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ: ومِن آياتِهِ إراءَتُهُ إيّاكُمُ البَرْقَ، فَمِن آياتِهِ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى أنَّهُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ. وقالَ الرُّمّانِيُّ: يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: ومِن آياتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ بِها، وحُذِفَ لِدَلالَةِ مِن عَلَيْها، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎وما الدَّهْرُ إلّا تارَتانِ فَمِنهُما ∗∗∗ أمُوتُ وأُخْرى أبْتَغِي العَيْشَ أكْدَحُ أيْ: فَمِنهُما تارَةً أمُوتُ، ومِن عَلى هَذِهِ الأوْجُهِ الثَّلاثَةِ لِلتَّبْعِيضِ. وانْتَصَبَ ﴿خَوْفًا وطَمَعًا﴾ عَلى أنَّهُما مَصْدَرانِ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: خائِفِينَ وطامِعِينَ. وقِيلَ: مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ. وقالَ الزَّجّاجُ: وأجازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلى تَقْدِيرِ إرادَةِ خَوْفٍ وطَمَعٍ، فَيَتَّحِدُ الفاعِلُ في العامِلِ والمَحْذُوفِ، ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ العامِلُ (يُرِيكم)، لِاخْتِلافِ الفاعِلِ في العامِلِ والمَصْدَرِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المَفْعُولُونَ فاعِلُونَ في المَعْنى؛ لِأنَّهم راءُونَ مَكانَهُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لَجَعَلَكم رائِينَ البَرْقَ خَوْفًا وطَمَعًا. انْتَهى. وكَوْنُهُ فاعِلًا، قِيلَ: هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ لا تُثْبِتُ لَهُ حُكْمَهُ بَعْدَها، عَلى أنَّ المَسْألَةَ فِيها خِلافٌ. مَذْهَبُ الجُمْهُورِ: اشْتِراطُ اتِّحادِ (p-١٦٨)الفاعِلِ، ومِنَ النَّحْوِيِّينَ مَن لا يَشْتَرِطُهُ. ولَوْ قِيلَ: عَلى مَذْهَبِ مَن يَشْتَرِطُهُ أنَّ التَّقْدِيرَ: يُرِيكُمُ البَرْقَ فَتَرَوْنَهُ خَوْفًا وطَمَعًا، فَحُذِفَ العامِلُ لِلدَّلالَةِ، لَكانَ إعْرابًا سائِغًا واتَّحَدَ فِيها الفاعِلُ. وقالَ الضَّحّاكُ: خَوْفًا مِن صَواعِقِهِ، وطَمَعًا في مَطَرِهِ. وقالَ قَتادَةُ: خَوْفًا لِلْمُسافِرِ، وطَمَعًا لِلْمُقِيمِ. وقِيلَ: خَوْفًا أنْ يَكُونَ خُلَّبًا، وطَمَعًا أنْ يَكُونَ ماطِرًا. وقالَ الشّاعِرُ: ؎لا يَكُنْ بَرْقُكَ بَرْقًا خُلَّبًا ∗∗∗ إنَّ خَيْرَ البَرْقِ ما الغَيْثُ مَعَهْ وقالَ ابْنُ سَلامٍ: خَوْفًا مِنَ البَرْدِ أنْ يُهْلِكَ الزَّرْعَ، وطَمَعًا في المَطَرِ أنْ يُحْيِيَهُ. ﴿ومِن آياتِهِ أنْ تَقُومَ﴾ أنْ تَثْبُتَ وتُمْسَكَ، مِثْلُ: وإذا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا: أيْ: ثَبَتُوا بِأمْرِهِ، أيْ: بِإرادَتِهِ. وإذا الأُولى لِلشَّرْطِ، والثّانِيَةُ لِلْمُفاجَأةِ جَوابُ الشَّرْطِ، والمَعْنى: أنَّهُ لا يَتَأخَّرُ طَرْفَةَ عَيْنٍ خُرُوجُكم عَنْ دُعائِهِ، كَما يُجِيبُ الدّاعِي المُطاعَ مَدْعُوَّهُ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎دَعَوْتُ كُلَيْبًا دَعْوَةً فَكَأنَّما ∗∗∗ دَعَوْتُ قَرِينَ الطَّوْدِ أوْ هو أسْرَعُ قَرِينَ الطَّوْدِ: الصَّدى، أوِ الحَجَرُ إذا تَدَهْدَهَ. والطَّوْدُ: الجَبَلُ. والدَّعْوَةُ البَعْثُ مِنَ القُبُورِ، و(مِنَ الأرْضِ) يَتَعَلَّقُ بِـ: (دَعاكم)، و(دَعْوَةً) أيْ: مَرَّةً، فَلا يَحْتاجُ إلى تَكْرِيرِ دُعائِكم لِسُرْعَةِ الإجابَةِ. وقِيلَ: (مِنَ الأرْضِ) صِفَةٌ لِـ: (دَعْوَةً) . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: و”مِن“ عِنْدِي هُنا لِانْتِهاءِ الغايَةِ، كَما يَقُولُ: دَعْوَتُكَ مِنَ الجَبَلِ إذا كانَ المَدْعُوُّ في الجَبَلِ. انْتَهى. وكَوْنُ ”مِن“ لِانْتِهاءِ الغايَةِ قَوْلٌ مَرْدُودٌ عِنْدَ أصْحابِنا. وعَنْ نافِعٍ ويَعْقُوبَ: أنَّهُما وقَفا عَلى دَعْوَةٍ، وابْتَدَآ مِنَ الأرْضِ. ﴿إذا أنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ عَلَقًا مِنَ الأرْضِ بِـ: (تَخْرُجُونَ)، وهَذا لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ فِيهِ الفَصْلَ بَيْنَ الشَّرْطِ وجَوابِهِ، بِالوَقْفِ عَلى (دَعْوَةً) فِيهِ إعْمالُ ما بَعْدَ إذا الفُجائِيَّةِ فِيما قَبْلَها، وهو لا يَجُوزُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَوْلُهُ: (إذا دَعاكم) بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: (يُرِيكم) في إيقاعِ الجُمْلَةِ مَوْقِعَ المُفْرَدِ عَلى المَعْنى، كَأنَّهُ قالَ: ومِن آياتِهِ قِيامُ السَّماواتِ والأرْضِ، ثُمَّ خُرُوجُ المَوْتى مِنَ القُبُورِ إذا دَعاهم دَعْوَةً واحِدَةً: يا أهْلَ القُبُورِ اخْرُجُوا، وإنَّما عَطَفَ هَذا عَلى قِيامِ السَّماواتِ والأرْضِ بِـ: ”ثُمَّ“، بَيانًا لِعَظِيمِ ما يَكُونُ مِن ذَلِكَ الأمْرِ واقْتِدارِهِ عَلى مِثْلِهِ، وهو أنْ يَقُولَ: يا أهْلَ القُبُورِ قُومُوا، فَلا تَبْقى نَسَمَةٌ مِنَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ إلّا قامَتْ تَنْظُرُ. انْتَهى. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: (تَخْرُجُونَ)، بِفَتْحِ التّاءِ وضَمِّ الرّاءِ؛ وباقِي السَّبْعَةِ: بِضَمِّها وفَتْحِ الرّاءِ. وبَدَأ أوَّلًا مِنَ الآياتِ بِالنَّشْأةِ الأُولى، وهي خَلْقُ الإنْسانِ مِنَ التُّرابِ، ثُمَّ كَوْنُهُ بَشَرًا مُنْتَشِرًا، وهو خَلْقٌ حَيٌّ مِن جَمادٍ، ثُمَّ أتْبَعَهُ بِأنْ خَلَقَ لَهُ مِن نَفْسِهِ زَوْجًا، وجُعِلَ بَيْنَهُما تَوادٌّ، وذَلِكَ خَلْقٌ حَيٌّ مِن عُضْوٍ حَيٍّ. وقالَ: (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لِأنَّ ذَلِكَ لا يُدْرَكُ إلّا بِالفِكْرِ في تَأْلِيفٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُما تَعارُفٌ، ثُمَّ أتْبَعَهُ بِما هو مُشاهَدٌ لِلْعالَمِ كُلِّهِمْ، وهو خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ، واخْتِلافُ اللُّغاتِ والألْوانِ، والِاخْتِلافُ مِن لَوازِمِ الإنْسانِ لا يُفارِقُهُ. وقالَ: (لِلْعالَمِينَ) لِأنَّها آيَةٌ مَكْشُوفَةٌ لِلْعالَمِ، ثُمَّ أتْبَعَهُ بِالمَنامِ والِابْتِغاءِ، وهُما مِنَ الأُمُورِ المُفارَقَةِ في بَعْضِ الأوْقاتِ، بِخِلافِ اخْتِلافِ الألْسِنَةِ والألْوانِ. وقالَ: ﴿لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ لِأنَّهُ لَمّا كانَ مِن أفْعالِ العِبادَةِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أنَّهُ لا يَحْتاجُ إلى مُرْشِدٍ، فَنَبَّهَ عَلى السَّماعِ، وجَعَلَ البالَ مِن كَلامِ المُرْشِدِ. ولَمّا ذَكَرَ عَرَضِيّاتِ الأنْفُسِ اللّازِمَةَ والمُفارِقَةَ، ذَكَرَ عَرَضِيّاتِ الآفاقِ المُفارِقَةَ مِن إراءَةِ البَرْقِ وإنْزالِ المَطَرِ، وقَدَّمَها عَلى ما هو مِنَ الأرْضِ، وهو الإتْيانُ والإحْياءُ، كَما قَدَّمَ السَّماواتِ عَلى الأرْضِ، وقَدَّمَ البَرْقَ عَلى الإنْزالِ؛ لِأنَّهُ كالمُبَشِّرِ يَجِيءُ بَيْنَ يَدَيِ القادِمِ. والأعْرابُ لا يَعْلَمُونَ البِلادَ المُعْشِبَةَ، إنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ رَأوُا البُرُوقَ اللّائِحَةَ مِن جانِبٍ إلى جانِبٍ. وقالَ: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ لِأنَّ البَرْقَ والإنْزالَ لَيْسَ أمْرًا عادِيًّا فَيَتَوَهَّمُ أنَّهُ طَبِيعَةٌ، إذْ يَقَعُ ذَلِكَ بِبَلْدَةٍ دُونَ أُخْرى، ووَقْتًا دُونَ وقْتٍ، وقَوِيًّا وضَعِيفًا، فَهو أظْهَرُ في العَقْلِ دَلالَةً عَلى الفاعِلِ المُخْتارِ، فَقالَ: هو آيَةٌ لِمَن عَقَلَ بِأنْ لَمْ يَتَفَكَّرْ تَفَكُّرًا تامًّا. (p-١٦٩)ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الآياتِ بِقِيامِ السَّماواتِ والأرْضِ، وذَلِكَ مِنَ العَوارِضِ اللّازِمَةِ، فَإنَّ كُلًّا مِنَ السَّماءِ والأرْضِ لا يَخْرُجُ عَنْ مَكانِهِ، فَيُتَعَجَّبُ مِن وُقُوفِ الأرْضِ وعَدَمِ نُزُولِها، ومِن عُلُوِّ السَّماءِ وثَباتِها مِن غَيْرِ عَمَدٍ. ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ بِالنَّشْأةِ الأُخْرى، وهي الخُرُوجُ مِنَ الأرْضِ، وذَكَرَ تَعالى مِن كُلِّ بابٍ أمْرَيْنِ: مِنَ الأنْفُسِ خَلَقَكم وخَلَقَ لَكم، ومِنَ الآفاقِ السَّماءَ والأرْضَ، ومِن لَوازِمِ الإنْسانِ اخْتِلافَ الألْسِنَةِ واخْتِلافَ الألْوانِ، ومِن خَواصِّهِ المَنامَ والِابْتِغاءَ، ومِن عَوارِضِ الآفاقِ البَرْقَ والمَطَرَ، ومِن لَوازِمِهِ قِيامَ السَّماءِ وقِيامَ الأرْضِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب