الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومِن آياتِهِ أنْ خَلَقَكم مِن تُرابٍ ثُمَّ إذا أنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾ لَمّا أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِالتَّسْبِيحِ عَنِ الأسْواءِ وذَكَرَ أنَّ الحَمْدَ لَهُ عَلى خَلْقِ جَمِيعِ الأشْياءِ وبَيَّنَ قُدْرَتَهُ عَلى الإماتَةِ والإحْياءِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ ذَكَرَ ما هو حُجَّةٌ ظاهِرَةٌ وآيَةٌ باهِرَةٌ عَلى ذَلِكَ ومِن جُمْلَتِها خَلْقُ الإنْسانِ مِن تُرابٍ، وتَقْرِيرُهُ هو أنَّ التُّرابَ أبْعَدُ الأشْياءِ عَنْ دَرَجَةِ الأحْياءِ، وذَلِكَ مِن حَيْثُ كَيْفِيَّتُهُ، فَإنَّهُ بارِدٌ يابِسٌ والحَياةُ بِالحَرارَةِ والرُّطُوبَةِ، ومِن حَيْثُ لَوْنُهُ فَإنَّهُ كَدِرٌ والرُّوحُ نَيْرٌ، ومِن حَيْثُ فِعْلُهُ فَإنَّهُ ثَقِيلٌ والأرْواحُ الَّتِي بِها الحَياةُ خَفِيفَةٌ، ومِن حَيْثُ السُّكُونُ فَإنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الحَرَكَةِ، والحَيَوانُ يَتَحَرَّكُ يُمْنَةً ويُسْرَةً وإلى خَلْفٍ وإلى قُدّامٍ وإلى فَوْقٍ وإلى أسْفَلَ، وفي الجُمْلَةِ فالتُّرابُ أبْعَدُ مِن قَبُولِ الحَياةِ عَنْ سائِرِ الأجْسامِ؛ لِأنَّ العَناصِرَ أبْعَدُ مِنَ المُرَكَّباتِ؛ لِأنَّ المُرَكَّبَ بِالتَّرْكِيبِ أقْرَبُ دَرَجَةً مِنَ الحَيَوانِ، والعَناصِرُ أبْعَدُها التُّرابُ؛ لِأنَّ الماءَ فِيهِ الصَّفاءُ والرُّطُوبَةُ والحَرَكَةُ وكُلُّها عَلى طَبْعِ الأرْواحِ والنّارِ أقْرَبُ؛ لِأنَّها كالحَرارَةِ الغَرِيزِيَّةِ مُنْضَجَةٌ جامِعَةٌ مُفَرَّقَةٌ ثُمَّ المُرَكَّباتُ وأوَّلُ مَراتِبِها المَعْدِنُ فَإنَّهُ مُمْتَزِجٌ، ولَهُ مَراتِبُ أعْلاها الذَّهَبُ وهو قَرِيبٌ مِن أدْنى مَراتِبِ النَّباتِ وهي مَرْتَبَةُ النَّباتِ الَّذِي يَنْبُتُ في الأرْضِ، ولا يَبْرُزُ ولا يَرْتَفِعُ، ثُمَّ النَّباتاتُ وأعْلى مَراتِبِها وهي مَرْتَبَةُ الأشْجارِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّعْظِيمَ، ويَكُونُ لِثَمَرِها حَبٌّ يُؤْخَذُ مِنهُ مِثْلُ تِلْكَ الشَّجَرَةِ كالبَيْضَةِ مِنَ الدَّجاجَةِ، والدَّجاجَةُ مِنَ البَيْضَةِ قَرِيبَةٌ مِن أدْنى مَراتِبِ الحَيَواناتِ وهي مَرْتَبَةُ الحَشَراتِ الَّتِي لَيْسَ لَها دَمٌ سائِلٌ، ولا هي إلى المَنافِعِ الجَلِيلَةِ وسائِلُ كالنَّباتاتِ، ثُمَّ الحَيَوانُ وأعْلى مَراتِبِها قَرِيبَةٌ مِن مَرْتَبَةِ الإنْسانِ، فَإنَّ الأنْعامَ ولا سِيَّما الفَرَسُ تُشْبِهُ العَتّالَ والحَمّالَ والسّاعِيَ، ثُمَّ الإنْسانُ، وأعْلى مَراتِبِ الإنْسانِ قَرِيبَةٌ مِن مَرْتَبَةِ المَلائِكَةِ المُسَبِّحِينَ لِلَّهِ الحامِدِينَ لَهُ، فاللَّهُ الَّذِي خَلَقَ مِن أبْعَدِ الأشْياءِ عَنْ مَرْتَبَةِ الأحْياءِ حَيًّا هو في أعْلى المَراتِبِ لا يَكُونُ إلّا مُنَزَّهًا عَنِ العَجْزِ والجَهْلِ، ويَكُونُ لَهُ الحَمْدُ عَلى إنْعامِ الحَياةِ، ويَكُونُ لَهُ كَمالُ القُدْرَةِ ونُفُوذُ الإرادَةِ فَيَجُوزُ مِنهُ الإبْداءُ والإعادَةُ، وفي الآيَةِ لَطِيفَتانِ: إحْداهُما: قَوْلُهُ: ﴿إذا﴾ وهي لِلْمُفاجَأةِ، يُقالُ خَرَجْتُ فَإذا أسَدٌ بِالبابِ وهو إشارَةٌ إلى أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَهُ مِن تُرابٍ بِكُنْ فَكانَ لا أنَّهُ صارَ مَعْدِنًا ثُمَّ نَباتًا ثُمَّ حَيَوانًا ثُمَّ إنْسانًا وهَذا إشارَةٌ إلى مَسْألَةٍ حُكْمِيَّةٍ، وهي أنَّ اللَّهَ تَعالى يَخْلُقُ أوَّلًا إنْسانًا فَيُنَبِّهُهُ أنَّهُ يَحْيا حَيَوانًا ونامِيًا وغَيْرُ ذَلِكَ لا أنَّهُ خُلِقَ أوَّلًا حَيَوانًا، ثُمَّ يَجْعَلُهُ إنْسانًا، فَخَلْقُ الأنْواعِ هو المُرادُ الأوَّلُ، ثُمَّ تَكُونُ الأنْواعُ فِيها الأجْناسُ بِتِلْكَ الإرادَةِ الأُولى، فاللَّهُ تَعالى جَعَلَ المَرْتَبَةَ الأخِيرَةَ في الشَّيْءِ البَعِيدِ عَنْها غايَةً مِن غَيْرِ انْتِقالٍ مِن مَرْتَبَةٍ إلى مَرْتَبَةٍ مِنَ المَراتِبِ الَّتِي ذَكَرْناها. (اللَّطِيفَةُ الثّانِيَةُ): قَوْلُهُ: ﴿بَشَرٌ﴾ إشارَةٌ إلى القُوَّةِ المُدْرِكَةِ؛ لِأنَّ البَشَرَ بَشَرٌ لا بِحَرَكَتِهِ، فَإنَّ غَيْرَهُ مِنَ الحَيَواناتِ أيْضًا كَذَلِكَ، وقَوْلُهُ: ﴿تَنْتَشِرُونَ﴾ إلى القُوَّةِ المُحَرِّكَةِ وكِلاهُما مِنَ التُّرابِ عَجِيبٌ، أمّا الإدْراكُ فَلِكَثافَتِهِ وجُمُودِهِ، وأمّا الحَرَكَةُ فَلِثِقَلِهِ وخُمُودِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿تَنْتَشِرُونَ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ العَجِيبَةَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ (p-٩٦)بِخَلْقِ الإنْسانِ مِنَ التُّرابِ بَلْ خَلْقُ الحَيَوانِ المُنْتَشِرِ مِنَ التُّرابِ السّاكِنِ عَجِيبٌ فَضْلًا عَنْ خَلْقِ البَشَرِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: وهي أنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِن تُرابٍ وخَلَقَنا مِنهُ فَكَيْفَ قالَ: ﴿خَلَقَكم مِن تُرابٍ﴾ نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: ما قِيلَ إنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿خَلَقَكُمْ﴾ أنَّهُ خَلَقَ أصْلَكم. والثّانِي: أنْ نَقُولَ: إنَّ كُلَّ بَشَرٍ مَخْلُوقٍ مِنَ التُّرابِ، أمّا آدَمُ فَظاهِرٌ، وأمّا نَحْنُ فَلِأنّا خُلِقْنا مِن نُطْفَةٍ، والنُّطْفَةُ مِن صالِحِ الغِذاءِ الَّذِي هو بِالقُوَّةِ بَعْضٌ مِنَ الأعْضاءِ، والغِذاءُ إمّا مِن لُحُومِ الحَيَواناتِ وألْبانِها وأسْمانِها، وإمّا مِنَ النَّباتِ، والحَيَوانُ أيْضًا لَهُ غِذاءٌ هو النَّباتُ، لَكِنِ النَّباتُ مِنَ التُّرابِ، فَإنَّ الحَبَّةَ مِنَ الحِنْطَةِ، والنَّواةُ مِنَ الثَّمَرَةِ لا تَصِيرُ شَجَرَةً إلّا بِالتُّرابِ ويَنْضَمُّ إلَيْها أجْزاءٌ مائِيَّةٌ لِيَصِيرَ ذَلِكَ النَّباتُ بِحَيْثُ يَغْذُو. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ تَعالى في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿خَلَقَ مِنَ الماءِ بَشَرًا﴾ [الفرقان: ٥٤] وقالَ: ﴿مِن ماءٍ مَهِينٍ﴾ [السجدة: ٨] وهاهُنا قالَ: ﴿مِن تُرابٍ﴾ فَكَيْفَ الجَمْعُ ؟ قُلْنا: أمّا عَلى الجَوابِ الأوَّلِ: فالسُّؤالُ زائِلٌ، فَإنَّ المُرادَ مِنهُ آدَمُ. وأمّا عَلى الثّانِي: فَنَقُولُ هاهُنا قالَ ما هو أصْلٌ أوَّلٌ، وفي ذَلِكَ المَوْضِعِ قالَ ما هو أصْلٌ ثانٍ؛ لِأنَّ ذَلِكَ التُّرابَ الَّذِي صارَ غِذاءً يَصِيرُ مائِعًا وهو المَنِيُّ، ثُمَّ يَنْعَقِدُ ويَتَكَوَّنُ بِخَلْقِ اللَّهِ مِنهُ إنْسانًا، أوْ نَقُولُ: الإنْسانُ لَهُ أصْلانِ ظاهِرانِ الماءُ والتُّرابُ، فَإنَّ التُّرابَ لا يُنْبِتُ إلّا بِالماءِ، فَفي النَّباتِ الَّذِي هو أصْلُ غِذاءِ الإنْسانِ تُرابٌ وماءٌ، فَإنْ جُعِلَ التُّرابُ أصْلًا والماءُ لِجَمْعِ أجْزائِهِ المُتَفَتِّتَةِ فالأمْرُ كَذَلِكَ، وإنْ جُعِلَ الأصْلُ هو الماءُ والتُّرابُ لِتَثْبِيتِ أجْزائِهِ الرَّطْبَةِ مِنَ السَّيَلانِ فالأمْرُ كَذَلِكَ، فَإنْ قالَ قائِلٌ: اللَّهُ تَعالى يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ فَهو يَعْلَمُ أنَّ الأصْلَ ماذا هو مِنهُما، وإنَّما الأمْرُ عِنْدَنا مُشْتَبَهٌ يَجُوزُ هَذا وذاكَ، فَإنْ كانَ الأصْلُ هو التُّرابُ فَكَيْفَ قالَ: ﴿مِنَ الماءِ بَشَرًا﴾ وإنْ كانَ الماءُ فَكَيْفَ قالَ: ﴿خَلَقَكم مِن تُرابٍ﴾ وإنْ كانا هُما أصْلَيْنِ فَلِمَ لَمْ يَقُلْ خَلَقُكم مِنهُما، فَنَقُولُ: فِيهِ لَطِيفَةٌ، وهي أنَّ كَوْنَ التُّرابِ أصْلًا والماءِ أصْلًا، والماءُ لَيْسَ لِذاتَيْهِما، وإنَّما هو بِجَعْلِ اللَّهِ تَعالى فَإنَّ اللَّهَ نَظَرًا إلى قُدْرَتِهِ كانَ لَهُ أنْ يَخْلُقَ أوَّلَ ما يَخْلُقُ الإنْسانَ ثُمَّ يُفْنِيهِ ويَحْصُلُ مِنهُ التُّرابُ ثُمَّ يُذَوِّبُهُ ويَحْصُلُ مِنهُ الماءُ، لَكِنِ الحِكْمَةُ اقْتَضَتْ أنْ يَكُونَ النّاقِصُ وسِيلَةً إلى الكامِلِ، لا الكامِلُ يَكُونُ وسِيلَةً إلى النّاقِصِ، فَخَلَقَ التُّرابَ والماءَ أوَّلًا، وجَعَلَهُما أصْلَيْنِ لِمَن هو أكْمَلُ مِنهُما بَلْ لِلَّذِي هو أكْمَلُ مِن كُلِّ كائِنٍ وهو الإنْسانُ، فَإنْ كانَ كَوْنُهُما أصْلَيْنِ لَيْسَ أمْرًا ذاتِيًّا لَهُما بَلْ بِجَعْلِ جاعِلٍ، فَتارَةً جَعَلَ الأصْلَ التُّرابَ وتارَةً الماءَ لِيُعْلَمَ أنَّهُ بِإرادَتِهِ واخْتِيارِهِ، فَإنْ شاءَ جَعَلَ هَذا أصْلًا، وإنْ شاءَ جَعَلَ ذَلِكَ أصْلًا، وإنْ شاءَ جَعَلَهُما أصْلَيْنِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الحُكَماءُ: إنَّ الإنْسانَ مُرَكَّبٌ مِنَ العَناصِرِ الأرْبَعَةِ وهي التُّرابُ والماءُ والهَواءُ والنّارُ، وقالُوا: التُّرابُ فِيهِ لِثَباتِهِ، والماءُ لِاسْتِمْساكِهِ، فَإنَّ التُّرابَ يَتَفَتَّتُ بِسُرْعَةٍ، والهَواءُ لِاسْتِقْلالِهِ كالزِّقِّ المَنفُوخِ يَقُومُ بِالهَواءِ، ولَوْلاهُ لَما كانَ فِيهِ اسْتِقْلالٌ ولا انْتِصابٌ، والنّارُ لِلنُّضْجِ والِالتِئامِ بَيْنَ هَذِهِ الأشْياءِ، فَهَلْ هَذا صَحِيحٌ أمْ لا ؟ فَإنْ كانَ صَحِيحًا فَكَيْفَ اعْتَبَرَ الأمْرَيْنِ فَحَسْبُ ولَمْ يَقُلْ في مَوْضِعٍ آخَرَ إنَّهُ خَلَقَكم مِن نارٍ ولا مِن رِيحٍ ؟ فَنَقُولُ أمّا قَوْلُهم فَلا مَفْسَدَةَ فِيهِ مِن حَيْثُ الشَّرْعِ، فَلا نُنازِعُهم فِيهِ إلّا إذا قالُوا بِأنَّهُ بِالطَّبِيعَةِ كَذَلِكَ، وأمّا إنْ قالُوا بِأنَّ اللَّهَ بِحِكْمَتِهِ خَلَقَ الإنْسانَ مِن هَذِهِ الأشْياءِ فَلا نُنازِعُهم فِيهِ، وأمّا الآياتُ فَنَقُولُ ما ذَكَرْتُمْ لا يُخالِفُ هَذا؛ لِأنَّ الهَواءَ جَعَلْتُمُوهُ لِلِاسْتِقْلالِ والنّارَ لِلنُّضْجِ فَهُما يَكُونانِ بَعْدَ امْتِزاجِ الماءِ بِالتُّرابِ، فالأصْلُ المَوْجُودُ أُولاهُما لا غَيْرَ فَلِذَلِكَ خَصَّهُما، ولِأنَّ المَحْسُوسَ مِنَ العَناصِرِ في الغالِبِ هو التُّرابُ والماءُ ولا سِيَّما كَوْنُهُما في الإنْسانِ ظاهِرٌ لِكُلِّ أحَدٍ فَخَصَّ الظّاهِرَ المَحْسُوسَ بِالذِّكْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب