الباحث القرآني

(p-٤٧٢)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أنِ ائْتِ القَوْمَ الظالِمِينَ﴾ ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ ألا يَتَّقُونَ﴾ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي أخافُ أنْ يُكَذِّبُونِ﴾ ﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي ولا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأرْسِلْ إلى هارُونَ﴾ ﴿وَلَهم عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأخافُ أنْ يَقْتُلُونِ﴾ ﴿قالَ كَلا فاذْهَبا بِآياتِنا إنّا مَعَكم مُسْتَمِعُونَ﴾ ﴿فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إنّا رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿أنْ أرْسِلْ مَعَنا بَنِي إسْرائِيلَ﴾ ﴿قالَ ألَمْ نُرَبِّكَ فِينا ولِيدًا ولَبِثْتَ فِينا مِن عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ التَقْدِيرُ: واذْكُرْ إذْ نادى رَبُّكَ مُوسى. وسَوْقُ هَذِهِ القِصَّةِ تَمْثِيلٌ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ لِتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا ﷺ، و "أنِ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنِ ائْتِ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، بِمَنزِلَةِ "أيْ"، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ غَيْرَها، وهي في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وقَوْلُهُ: ﴿ألا يَتَّقُونَ﴾، أيْ: قُلْ لَهُمْ، فَجَمَعَ في هَذِهِ العِبارَةِ مِنَ المَعانِي نَفْيَ التَقْوى عنهم وأمْرَهم بِالتَقْوى، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يَتَّقُونَ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ، وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمْ، وحَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وأبُو قُلابَةَ: "تَتَّقُونَ" بِالتاءِ مِن فَوْقِ، وعَلى مَعْنى: قُلْ لَهم. ولِعِظَمِ قُوَّةِ فِرْعَوْنَ وتَألُّهِهِ وطُولِ مُدَّتِهِ وما أُشْرِبَتِ القُلُوبُ مِن مَهابَتِهِ، قالَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿رَبِّ إنِّي أخافُ أنْ يُكَذِّبُونِ﴾، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "وَيَضِيقُ" بِالرَفْعِ، و "يَنْطَلِقُ" كَذَلِكَ. وقَرَأ الأعْرَجُ، وطَلْحَةُ، وعِيسى ذَلِكَ بِالنَصْبِ فِيهِما، فَقِراءَةُ الرَفْعِ هي إخْبارٌ مِن مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ بِوُقُوعِ ضِيقِ صَدْرِهِ، وعَدَمِ انْطِلاقِ لِسانِهِ، ولِهَذا رَجَّحَ أبُو حاتِمْ هَذِهِ القِراءَةَ، وقِراءَةُ النَصْبِ تَقْتَضِي أنَّ ذَلِكَ داخِلٌ تَحْتَ خَوْفِهِ، وهو عَطْفٌ عَلى "يُكَذِّبُونِ". وكانَ في خُلُقِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ حِدَّةٌ، وكانَتْ في لِسانِهِ حَبْسَةٌ بِسَبَبِ الجَمْرَةِ في طُفُولَتِهِ، وحَكى أبُو عَمْرٍو عَنِ الأعْرَجِ أنَّهُ قَرَأ بِنَصْبِ "وَيَضِيقَ" وبِرَفْعِ "يَنْطَلِقُ"، وقَدْ يَكُونُ عَدَمُ انْطِلاقِ اللِسانِ بِالقَوْلِ لِغُمُوضِ المَعانِي الَّتِي تَطَلَّبُ ألْفاظًا مُحَرَّرَةً، فَإذا كانَ هَذا في وقْتِ ضِيقِ صَدْرٍ لَمْ يَنْطَلِقِ اللِسانُ، وقَدْ قالَ عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿واحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسانِي﴾ [طه: ٢٧]، فالراجِحُ قِراءَةُ الرَفْعِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأرْسِلْ إلى هارُونَ﴾ (p-٤٧٣)مَعْناهُ: يُعِينُنِي ويُؤازِرُنِي، وكانَ هارُونُ عَلَيْهِ السَلامُ وزِيرًا فَصِيحًا واسِعَ الصَدْرِ، فَحَذَفَ بَعْضَ المُرادِ مِنَ القَوْلِ، إذْ باقِيهِ دالٌّ عَلَيْهِ. ثُمْ ذَكَرَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ خَوْفَهُ القِبْطَ مِن أجْلِ ذَنْبِهِ، وهو قَتْلُهُ الرَجُلَ الَّذِي وكَزَهُ، قالَ قَتادَةُ ومُجاهِدٌ والناسُ: فَخَشِيَ أنْ يُسْتَقادَ مِنهُ، فَقالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ لَهُ: ﴿كَلا﴾ رَدًّا لِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي أخافُ﴾، أيْ: لا تَخَفْ رَدًّا لِذَلِكَ فَإنِّي لَمْ أُحَمِّلْكَ ما حُمِّلْتَ إلّا وقَدْ قَضَيْتُ بِظُهُورِكَ ونَصْرِكَ. وأمَرَ مُوسى وهارُونَ بِخِطابِ مُوسى فَقَطْ، لِأنَّ هارُونَ لَيْسَ بِمُكَلَّمٍ بِإجْماعٍ، ولَكِنْ قالَ لِمُوسى: "اذْهَبا" أيْ أنْتَ وأخُوكَ، و"الآياتُ" تَعُمُّ جَمِيعَ ما بَعَثَهُما اللهُ تَعالى بِهِ، وأعْظَمُ ذَلِكَ العَصا، بِها وقَعَ العَجْزُ، [واليَدُ البَيْضاءُ]، وبِالآيَتَيْنِ تَحَدّى مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ فِرْعَوْنَ، ولا خِلافَ في أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ هو الَّذِي حَمَّلَهُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى أمْرَ النُبُوَّةِ كُلِّها، وأنَّ هارُونَ عَلَيْهِ السَلامُ كانَ نَبِيًّا رَسُولًا مُعِينًا وزِيرًا. وقَوْلُهُ: ﴿إنّا مَعَكُمْ﴾ إمّا أنْ يَجْعَلَ الِاثْنَيْنِ جَمْعًا، وإمّا أنْ يُرِيدَهُما والمَبْعُوثَ إلَيْهِمْ وبَنِي إسْرائِيلَ، وقَوْلُهُ: ﴿مُسْتَمِعُونَ﴾ عَلى نَحْوِ التَعْظِيمِ والجَبَرُوتِ الَّذِي لِلَّهِ تَبارَكَ وتَعالى، وصِيغَةُ "مُسْتَمِعُونَ" تُعْطِي اهْتِبالًا بِالأمْرِ لَيْسَ في صِيغَةِ "سامِعُونَ"، وإلّا فَلَيْسَ يُوصَفُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى بِطَلَبِ الِاسْتِماعِ، وإنَّما المَقْصِدُ إظْهارُ التَهَمُّمْ لِيَعْظُمْ أُنْسُ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، أو تَكُونُ المَلائِكَةُ -بِأمْرِ اللهِ إيّاها- تَسْتَمِعُ. وقَوْلُهُ: ﴿إنّا رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ هو أنَّ العَرَبَ أجْرَتِ "الرَسُولَ" مُجْرى المَصْدَرِ في أنْ وصَفَتْ بِهِ الجَمْعَ والواحِدَ والمُؤَنَّثَ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الهُذَلِيِّ: ؎ ألِكْنِي إلَيْها وخَيْرُ الرَسُو لِ أعْلَمَهم بِنَواحِي الخَبَرْ (p-٤٧٤)وَمِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ وإنْ كانَ مُوَلَّدًا: ؎ إنَّ الَّتِي أبْصَرْتُها ∗∗∗ سَحَرًا تُكَلِّمُنِي رَسُولُ وقَوْلُهُ: ﴿أنْ أرْسِلْ مَعَنا بَنِي إسْرائِيلَ﴾ مَعْناهُ: سَرِّحْ، فَهو بِمَعْنى الإرْسالِ الَّذِي هو بِمَعْنى الإطْلاقِ، كَما تَقُولُ: أرْسَلْتُ الحَجَرَ مِن يَدِي. وكانَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ مَبْعُوثًا إلى فِرْعَوْنَ في أمْرَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يُرْسِلَ بَنِي إسْرائِيلَ ويُزِيلَ عنهم ذُلَّ العُبُودِيَّةِ والغَلَبَةِ. والثانِي أنْ يُؤْمِنَ ويَهْتَدِيَ. وأُمِرَ بِمُكافَحَتِهِ ومُقاوَمَتِهِ في الأوَّلِ، ولَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ في الثانِي عَلى ما بَلَغَ مِن أمْرِهِ، وبُعِثَ بِالعِباداتِ والشَرْعِ إلى بَنِي إسْرائِيلَ فَقَطْ، هَذا قَوْلُ بَعْضِ العُلَماءِ. وقَوْلُ فِرْعَوْنَ لِمُوسى: ﴿ألَمْ نُرَبِّكَ﴾ هَذا عَلى جِهَةِ المَنِّ عَلَيْهِ والِاحْتِقارِ، أيْ: رَبَّيْناكَ صَغِيرًا، أو لَمْ نَقْتُلْكَ في جُمْلَةِ مَن قَتَلْنا فَلَبِثْتَ فِينا سِنِينَ، فَمَتى كانَ هَذا الَّذِي تَدَّعِيهِ؟ وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "مِن عُمُرِكَ" بِضَمِّ المِيمِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: "عُمْرِكَ" بِسُكُونِها. ثُمْ قَرَّرَهُ عَلى قَتْلِ القِبْطِيِّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ﴾ والفَعْلَةُ -بِفَتْحِ الفاءِ- المَرَّةُ مِنَ الفِعْلِ، وقَرَأ الشَعْبِيُّ: "فِعْلَتَكَ" بِكَسْرِ الفاءِ، وهي هَيْئَةُ الفِعْلِ، وقَوْلُهُ: ﴿وَأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ﴾، يَحْتَمِلُ ثَلاثَةَ أوجُهٍ: أحَدُهُما أنْ يُرِيدَ: وقَتَلْتَ القِبْطِيَّ وأنْتَ في قَتْلِكَ إيّاهُ مِنَ الكافِرِينَ؛ إذْ هو نَفْسٌ ولا يَحِلُّ قَتْلُهُ، قالَهُ الضَحّاكُ. أو يُرِيدُ: وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ بِنِعْمَتِي في قَتْلِكَ إيّاهُ، قالَ ابْنُ زَيْدٍ: وهَذانَ بِمَعْنًى واحِدٍ في حَقِّ اللَفْظِ، وإنَّما اخْتَلَفا بِاشْتِراكِ لَفْظِ الكُفْرِ، والثانِي أنْ يَكُونَ بِمَعْنى الهُزُؤِ، أيْ: وأنْتَ عَلى هَذا الدِينِ وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ بِزَعْمِكَ. قالَهُ السُدِّيُّ. والثالِثُ -هُوَ قَوْلُ الحَسَنِ - أنْ يُرِيدَ: وأنْتَ (p-٤٧٥)مِنَ الكافِرِينَ الآنَ، يَعْنِي فِرْعَوْنُ: بِالعَقِيدَةِ الَّتِي كانَ بَيْنَها، فَيَكُونُ الكَلامُ مَقْطُوعًا مِن قَوْلِهِ: ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ﴾، وإنَّما هو إخْبارٌ مُبْتَدَأٌ أنَّهُ كانَ مِنَ الكافِرِينَ، وهَذا التَأْوِيلُ أيْضًا يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ كُفْرَ النِعْمَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وكانَ بَيْنَ خُرُوجِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ حِينَ قَتَلَ القِبْطِيَّ وبَيْنَ رُجُوعِهِ إلى فِرْعَوْنَ نَبِيًّا، أحَدَ عَشَرَ عامًا غَيْرُ أشْهُرٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب