الباحث القرآني
﴿قالَ ألَمْ نُرَبِّكَ فِينا ولِيدًا ولَبِثْتَ فِينا مِن عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ ﴿وفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ .
طُوِيَ مِنَ الكَلامِ ذَهابُ مُوسى وهارُونَ إلى فِرْعَوْنَ واسْتِئْذانُهُما عَلَيْهِ وإبْلاغُهُما ما أمَرَهُما اللَّهُ أنْ يَقُولا لِفِرْعَوْنَ إيجازًا لِلْكَلامِ. ووَجَّهَ فِرْعَوْنُ خِطابَهُ إلى مُوسى وحْدَهُ؛ لِأنَّهُ عَلِمَ مِن تَفْصِيلِ كَلامِ مُوسى وهارُونَ أنَّ مُوسى هو الرَّسُولُ بِالأصالَةِ وأنَّ هارُونَ كانَ عَوْنًا لَهُ عَلى التَّبْلِيغِ فَلَمْ يَشْتَغِلْ بِالكَلامِ مَعَ هارُونَ. وأعْرَضَ فِرْعَوْنُ عَنِ الِاعْتِناءِ بِإبْطالِ دَعْوَةِ مُوسى، فَعَدَلَ إلى تَذْكِيرِهِ بِنِعْمَةِ الفَراعِنَةِ أسْلافِهِ عَلى مُوسى وتَخْوِيفِهِ مِن جِنايَتِهِ حُسْبانا بِأنَّ ذَلِكَ يَقْتَلِعُ الدَّعْوَةَ مِن جَذْمِها، ويَكُفُّ مُوسى عَنْها، وقَصْدُهُ مِن هَذا الخِطابِ إفْحامُ مُوسى كَيْ يَتَلَعْثَمَ مِن خَشْيَةِ فِرْعَوْنَ حَيْثُ أوْجَدَ لَهُ سَبَبًا يَتَذَرَّعُ بِهِ إلى قَتْلِهِ، ويَكُونُ مَعْذُورًا فِيهِ حَيْثُ كَفَرَ نِعْمَةَ الوِلايَةِ بِالتَّرْبِيَةِ، واقْتَرَفَ جُرْمَ الجِنايَةِ عَلى الأنْفُسِ.
(p-١١١)والِاسْتِفْهامُ تَقْرِيرِيٌّ، وجُعِلَ التَّقْرِيرُ عَلى نَفْيِ التَّرْبِيَةِ مَعَ أنَّ المَقْصُودَ الإقْرارُ بِوُقُوعِ التَّرْبِيَةِ مُجاراةً لِحالِ مُوسى في نَظَرِ فِرْعَوْنَ إذْ رَأى في هَذا الكَلامِ جُرْأةً عَلَيْهِ لا تُناسِبُ حالَ مَن هو مَمْنُونٌ لِأُسْرَتِهِ بِالتَّرْبِيَةِ؛ لِأنَّها تَقْتَضِي المَحَبَّةَ والبِرَّ، فَكَأنَّهُ يُرْخِي لَهُ العِنان بِتَلْقِينِ أنْ يَجْحَدَ أنَّهُ مُرَبًّى فِيهِمْ حَتّى إذا أقَرَّ، ولَمْ يُنْكِرْ كانَ الإقْرارُ سالِمًا مِنَ التَّعَلُّلِ بِخَوْفٍ أوْ ضَغْطٍ، فَهَذا وجْهُ تَسْلِيطِ الِاسْتِفْهامِ التَّقْرِيرِيِّ عَلى النَّفْيِ في حِينِ أنَّ المُقَرَّرَ بِهِ ثابِتٌ. وهَذا كَما تَقُولُ لِلرَّجُلِ الَّذِي طالَ عَهْدُكَ بِرُؤْيَتِهِ: ألَسْتَ فُلانًا، ومِثْلُهُ كَثِيرٌ. ومِنهُ قَوْلُ الحَجّاجِ في خُطْبَتِهِ يَوْمَ دَيْرِ الجَماجِمِ يُهَدِّدُ الخَوارِجَ: (ألَسْتُمْ أصْحابِي بِالأهْوازِ) .
والتَّقْرِيرُ مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِهِ وهو أنْ يُقابِلَ المُقَرَّرَ عَلَيْهِ بِالبِرِّ والطّاعَةِ لا بِالجَفاءِ، ويَجُوزُ أنْ يَجْعَلَ الِاسْتِفْهام إنْكارِيًّا عَلَيْهِ؛ لِأنَّ لِسانَ حالِ مُوسى في نَظَرِ فِرْعَوْنَ حالُ مَن يَجْحَدُ أنَّهُ مُرَبًّى فِيهِمْ ومَن يُظَنُّ نِسْيانُهم لِفَعْلَتِهِ فَأنْكَرَ فِرْعَوْنُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وكِلّا الوَجْهَيْنِ لا يَخْلُو مِن تَنْزِيلِ مُوسى مَنزِلَةَ مَن يَجْحَدُ ذَلِكَ.
والتَّرْبِيَةُ: كَفالَةُ الصَّبِيِّ وتَدْبِيرُ شُئُونِهِ. ومَعْنى (﴿فِينا﴾) في عائِلَتِنا، أيْ عائِلَةِ مَلِكِ مِصْرَ. والوَلِيدُ: الطِّفْلُ مِن وقْتِ وِلادَتِهِ وما يُقارِبُها فَإذا نَمى لَمْ يُسَمَّ ولِيدًا وسُمِّي طِفْلًا، ويَعْنِي بِذَلِكَ التِقاطَهُ مِن نَهْرِ النِّيلِ. وذَلِكَ أنَّ مُوسى رُبِّيَ عِنْدَ (رَعَمْسِيسَ الثّانِي) مِن مُلُوكِ العائِلَةِ التّاسِعَةَ عَشْرَةَ مِن عائِلاتِ فَراعِنَةِ مِصْرَ حَسَبَ تَرْتِيبِ المُحَقِّقِينَ مِنَ المُؤَرِّخِينَ. وخَرَجَ مُوسى مِن مِصْرَ بَعْدَ أنْ قَتَلَ القِبْطِيَّ وعُمُرُهُ أرْبَعُونَ سَنَةً لِقَوْلِهِ تَعالى: (﴿ولَمّا بَلَغَ أشُدَّهُ واسْتَوى آتَيْناهُ حُكْمًا﴾ [القصص: ١٤]) إلى قَوْلِهِ: (﴿ودَخَلَ المَدِينَةَ﴾ [القصص: ١٥]) الآيَةَ، وبُعِثَ وعُمُرُهُ ثَمانُونَ سَنَةً حَسْبَما في التَّوْراةِ. وكانَ فِرْعَوْنُ الَّذِي بُعِثَ إلَيْهِ مُوسى هو (مِنفِتاحُ الثّانِي بْنُ رَعْمَسِيسَ الثّانِي) وهو الَّذِي خَلَفَهُ في المُلْكِ بَعْدَ وفاتِهِ أواسِطَ القَرْنِ الخامِسَ عَشَرَ قَبْلَ المَسِيحِ، فَلا جَرَمَ كانَ مُوسى مُرَبّى والِدِهِ، فَلِذَلِكَ قالَ لَهُ: ألَمْ نُرَبِّكَ فِينا ولِيدًا، ولَعَلَّهُ رُبِّيَ مَعَ فِرْعَوْنَ هَذا كالأخِ.
والسِّنُونَ الَّتِي لَبِثَها مُوسى فِيهِمْ هي نَحْوُ أرْبَعِينَ سَنَةً.
(p-١١٢)والفَعْلَةُ: المَرَّةُ الواحِدَةُ مِنَ الفِعْلِ وأرادَ بِها الحاصِلَ بِالمَصْدَرِ كَما اقْتَضَتْهُ إضافَتُها إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِ. وأرادَ بِالفَعْلَةِ قَتْلَهُ القِبْطِيَّ، قِيلَ: هو خَبّازُ فِرْعَوْنَ. وعُبِّرَ عَنْها بِالمَوْصُولِ لِعِلْمِ مُوسى بِها، وفي ذَلِكَ تَهْوِيلٌ لِلْفَعْلَةِ يُكَنّى بِهِ عَنْ تَذْكِيرِهِ بِما يُوجِبُ تَوْبِيخَهُ.
وفِي العُدُولِ عَنْ ذِكْرِ فَعْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ إلى ذِكْرِها مُبْهَمَةً مُضافَةً إلى ضَمِيرِهِ ثُمَّ وصْفِها بِما لا يَزِيدُ عَلى مَعْنى المَوْصُوفِ تَهْوِيلٌ مُرادٌ بِهِ التَّفْظِيعُ وأنَّها مُشْتَهِرَةٌ مَعْلُومَةٌ مَعَ تَحْقِيقِ إلْصاقِ تَبِعَتِها بِهِ حَتّى لا يَجِدَ تَنَصُّلًا مِنها.
وجُمْلَةُ (﴿وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ﴾) حالٌ مِن ضَمِيرِ (﴿فَعَلْتَ﴾) . والمُرادُ بِهِ كُفْرُ نِعْمَةِ فِرْعَوْنَ مِن حَيْثُ اعْتَدى عَلى أحَدِ خاصَّتِهِ ومَوالِي آلِهِ، وكانَ ذَلِكَ انْتِصارًا لِرَجُلٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ الَّذِينَ يَعُدُّونَهم عَبِيدَ فِرْعَوْنَ وعَبِيدَ قَوْمِهِ، فَجَعَلَ فِرْعَوْنُ انْتِصارَ مُوسى لِرَجُلٍ مِن عَشِيرَتِهِ كُفْرانًا لِنِعْمَةِ فِرْعَوْنَ؛ لِأنَّهُ يَرى واجِبَ مُوسى أنْ يَعُدَّ نَفْسَهُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ فَلا يَنْتَصِرُ لِإسْرائِيلَ، وفي هَذا إعْمالُ أحْكامِ التَّبَنِّي وإهْمالُ أحْكامِ النَّسَبِ وهو قَلْبُ حَقائِقَ وفَسادُ وضْعٍ. قالَ تَعالى: (﴿وما جَعَلَ أدْعِياءَكم أبْناءَكم ذَلِكم قَوْلُكم بِأفْواهِكم واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهو يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب: ٤]) . ولَيْسَ المُرادُ الكُفْرَ بِدِيانَةِ فِرْعَوْنَ؛ لِأنَّ مُوسى لَمْ يَكُنْ يَوْمَ قَتَلَ القِبْطِيَّ مُتَظاهِرًا بِأنَّهُ عَلى خِلافِ دِينِهِمْ وإنْ كانَ في باطِنِهِ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ الأنْبِياءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الكُفْرِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ وبَعْدَها.
ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ (﴿وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ﴾) عَطْفًا عَلى الجُمَلِ الَّتِي قَبْلَها الَّتِي هي تَوْبِيخٌ ولَوْمٌ، فَوَبَّخَهُ عَلى تَقَدُّمِ رَعْيِهِ تَرْبِيَتَهم إيّاهُ فِيما مَضى، ثُمَّ وبَّخَهُ عَلى كَوْنِهِ كافِرًا بِدِينِهِمْ في الحالِ، ولِأنَّ قَوْلَهُ: (﴿مِنَ الكافِرِينَ﴾) حَقِيقَةٌ في الحالِ إذْ هو اسْمُ فاعِلٍ واسْمُ الفاعِلِ حَقِيقَةٌ في الحالِ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: وأنْتَ حِينَئِذٍ مِنَ الكافِرِينَ بِدِينِنا، اسْتِنادًا مِنهُ إلى ما بَدا مِن قَرائِنَ دَلَّتْهُ عَلى اسْتِخْفافِ مُوسى بِدِينِهِمْ فِيما مَضى؛ لِأنَّ دِينَهم يَقْتَضِي الإخْلاصَ لِفِرْعَوْنَ وإهانَةَ مَن يُهِينُهم فِرْعَوْنُ. ولَعَلَّ هَذا هو السَّبَبُ في عَزْمِ فِرْعَوْنَ عَلى أنْ يَقْتَصَّ مِن مُوسى لِلْقِبْطِيِّ؛ لِأنَّ الِاعْتِداءَ عَلَيْهِ كانَ مَصْحُوبًا بِاسْتِخْفافٍ بِفِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ.
(p-١١٣)ويُفِيدُ الكَلامُ بِحَذافِرِهِ تَعَجُّبًا مِنِ انْتِصابِ مُوسى مَنصِبَ المُرْشِدِ مَعَ ما اقْتَرَفَهُ مِنَ النَّقائِصِ في نَظَرِ فِرْعَوْنَ المُنافِيَةِ لِدَعْوى كَوْنِهِ رَسُولًا مِنَ الرَّبِّ.
{"ayahs_start":18,"ayahs":["قَالَ أَلَمۡ نُرَبِّكَ فِینَا وَلِیدࣰا وَلَبِثۡتَ فِینَا مِنۡ عُمُرِكَ سِنِینَ","وَفَعَلۡتَ فَعۡلَتَكَ ٱلَّتِی فَعَلۡتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ"],"ayah":"وَفَعَلۡتَ فَعۡلَتَكَ ٱلَّتِی فَعَلۡتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق