قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ كَلّا فاذْهَبا بِآياتِنا إنّا مَعَكم مُسْتَمِعُونَ﴾ ﴿فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إنّا رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿أنْ أرْسِلْ مَعَنا بَنِي إسْرائِيلَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ طَلَبَ أمْرَيْنِ:
الأوَّلُ: أنْ يَدْفَعَ عَنْهُ شَرَّهم.
والثّانِي: أنْ يُرْسِلَ مَعَهُ هارُونَ.
فَأجابَهُ اللَّهُ تَعالى إلى الأوَّلِ بِقَوْلِهِ: ”كَلّا“ ومَعْناهُ ارْتَدِعْ يا مُوسى عَمّا تَظُنُّ وأجابَهُ إلى الثّانِي بِقَوْلِهِ: ﴿فاذْهَبا﴾ أيِ اذْهَبْ أنْتَ والَّذِي طَلَبْتَهُ وهو هارُونُ فَإنْ قِيلَ: عَلامَ عَطَفَ قَوْلَهُ: ﴿فاذْهَبا﴾ ؟ قُلْنا: عَلى الفِعْلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ”كَلّا“ كَأنَّهُ قالَ: ارْتَدِعْ يا مُوسى عَمّا تَظُنُّ فاذْهَبْ أنْتَ وهارُونُ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿إنّا مَعَكم مُسْتَمِعُونَ﴾ فَمِن مَجازِ الكَلامِ يُرِيدُ أنا لَكُما ولِعَدُوِّكُما كالنّاصِرِ الظَّهِيرِ لَكُما عَلَيْهِ، إذًا أحْضُرَ وأسْتَمِعَ ما يَجْرِي بَيْنَكُما فَأُظْهِرَكُما عَلَيْهِ وأُعْلِيكُما وأكْسِرُ شَوْكَتَهُ عَنْكُما، وإنَّما جَعَلْنا الِاسْتِماعَ مَجازًا لِأنَّ الِاسْتِماعَ عِبارَةٌ عَنِ الإصْغاءِ وذَلِكَ عَلى اللَّهِ تَعالى مُحالٌ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿إنّا رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ فَفِيهِ سُؤالٌ وهو أنَّهُ هَلّا ثُنِّيَ الرَّسُولُ كَما ثُنِّيَ في قَوْلِهِ: ﴿إنّا رَسُولا رَبِّكَ﴾ [طه: ٤٠] جَوابُهُ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الرَّسُولَ اسْمٌ لِلْماهِيَّةِ مِن غَيْرِ بَيانِ أنَّ تِلْكَ الماهِيَّةَ واحِدَةٌ أوْ كَثِيرَةٌ والألِفُ واللّامُ لا يُفِيدانِ إلّا الوَحْدَةَ لا الِاسْتِغْراقَ، بِدَلِيلِ أنَّكَ تَقُولُ: الإنْسانُ هو الضَّحّاكُ ولا تَقُولُ: كُلُّ إنْسانٍ هو الضَّحّاكُ، ولا أيْضًا هَذا الإنْسانُ هو الضَّحّاكُ، وإذا ثَبَتَ أنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ لا يُفِيدُ إلّا الماهِيَّةَ وثَبَتَ أنَّ الماهِيَّةَ مَحْمُولَةٌ عَلى الواحِدِ وعَلى الِاثْنَيْنِ ثَبَتَ صِحَّةُ قَوْلِهِ: ﴿إنّا رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ .
وثانِيها: أنَّ الرَّسُولَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنى الرِّسالَةَ قالَ الشّاعِرُ:
؎لَقَدْ كَذَبَ الواشُونَ ما فُهْتُ عِنْدَهم بِسِرٍّ ولا أرْسَلْتُهم بِرَسُولِ
فَيَكُونُ المَعْنى: إنّا ذُو رِسالَةِ رَبِّ العالَمِينَ.
وثالِثُها: أنَّهُما لِاتِّفاقِهِما عَلى شَرِيعَةٍ واحِدَةٍ واتِّحادِهِما بِسَبَبِ الأُخُوَّةِ كَأنَّهُما رَسُولٌ واحِدٌ.
ورابِعُها: المُرادُ كُلُّ واحِدٍ مِنّا رَسُولٌ.
وخامِسُها: ما قالَهُ بَعْضُهم إنَّهُ إنَّما قالَ ذَلِكَ لا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لِكَوْنِهِ هو الرَّسُولُ خاصَّةً، وقَوْلُهُ: ﴿إنّا﴾ فَكَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا أنْزَلْناهُ﴾ وهو ضَعِيفٌ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿أنْ أرْسِلْ مَعَنا بَنِي إسْرائِيلَ﴾ فالمُرادُ مِن هَذا الإرْسالِ التَّخْلِيَةُ والإطْلاقُ كَقَوْلِكَ: أرْسِلِ البازِيَّ، يُرِيدُ خَلِّهِمْ يَذْهَبُوا مَعَنا.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ ألَمْ نُرَبِّكَ فِينا ولِيدًا ولَبِثْتَ فِينا مِن عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ ﴿وفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ في الكَلامِ حَذْفًا وهو أنَّهُما أتَياهُ وقالا ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ فِرْعَوْنُ ما قالَ، يُرْوى أنَّهُما انْطَلَقا إلى بابِ فِرْعَوْنَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُما سَنَةً حَتّى قالَ البَوّابُ: إنَّ هَهُنا إنْسانًا يَزْعُمُ أنَّهُ رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ، (p-١٠٩)فَقالَ: ائْذَنْ لَهُ لَعَلَّنا نَضْحَكُ مِنهُ، فَأدَّيا إلَيْهِ الرِّسالَةَ فَعَرَفَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ أوَّلًا، ثُمَّ إساءَةَ مُوسى إلَيْهِ ثانِيًا، أمّا النِّعَمُ فَهي قَوْلُهُ: ﴿ألَمْ نُرَبِّكَ فِينا ولِيدًا﴾ والوَلِيدُ: الصَّبِيُّ لِقُرْبِ عَهْدِهِ مِنَ الوِلادَةِ. ﴿ولَبِثْتَ فِينا مِن عُمُرِكَ﴾ وعَنْ أبِي عَمْرٍو بِسُكُونِ المِيمِ، ﴿سِنِينَ﴾ قِيلَ: لَبِثَ عِنْدَهم ثَلاثِينَ سَنَةً، وقِيلَ: وكَزَ القِبْطِيَّ وهو ابْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وفَرَّ مِنهم واللَّهُ أعْلَمُ بِصَحِيحِ ذَلِكَ، وعَنِ الشَّعْبِيِّ ”فِعْلَتَكَ“ بِالكَسْرِ وهي قَتْلُهُ القِبْطِيَّ لِأنَّهُ قَتَلَهُ بِالوَكْزِ وهو ضَرْبٌ مِنَ القَتْلِ، وأمّا الفَعْلَةُ فَلِأنَّها وكْزَةٌ واحِدَةٌ عَدَّدَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ مِن تَرْبِيَتِهِ وتَبْلِيغِهِ مَبْلَغَ الرِّجالِ ووَبَّخَهُ بِما جَرى عَلى يَدِهِ مِن قَتْلِ خَبّازِهِ وعَظَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ﴾ .
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا أيْ قَتَلْتَهُ وأنْتَ بِذاكَ مِنَ الكافِرِينَ بِنِعْمَتِي.
وثانِيها: وأنْتَ إذْ ذاكَ مِمَّنْ تَكْفُرُهُمُ السّاعَةُ وقَدِ افْتَرى عَلَيْهِ أوْ جَهِلَ أمْرَهُ لِأنَّهُ كانَ يُعاشِرُهم بِالتَّقِيَّةِ فَإنَّ الكُفْرَ غَيْرُ جائِزٍ عَلى الأنْبِياءِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ.
وثالِثُها: ﴿وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ بِفِرْعَوْنَ وإلَهِيَّتِهِ أوْ مِنَ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ في دِينِهِمْ فَقَدْ كانَتْ لَهم آلِهَةٌ يَعْبُدُونَها، يَشْهَدُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَذَرَكَ وآلِهَتَكَ﴾ [الأعراف: ١٢٧] .
{"ayahs_start":15,"ayahs":["قَالَ كَلَّاۖ فَٱذۡهَبَا بِـَٔایَـٰتِنَاۤۖ إِنَّا مَعَكُم مُّسۡتَمِعُونَ","فَأۡتِیَا فِرۡعَوۡنَ فَقُولَاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","أَنۡ أَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ","قَالَ أَلَمۡ نُرَبِّكَ فِینَا وَلِیدࣰا وَلَبِثۡتَ فِینَا مِنۡ عُمُرِكَ سِنِینَ","وَفَعَلۡتَ فَعۡلَتَكَ ٱلَّتِی فَعَلۡتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ","قَالَ فَعَلۡتُهَاۤ إِذࣰا وَأَنَا۠ مِنَ ٱلضَّاۤلِّینَ"],"ayah":"وَفَعَلۡتَ فَعۡلَتَكَ ٱلَّتِی فَعَلۡتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ"}