الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَسُولِ بَيْنَكم كَدُعاءِ بَعْضِكم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكم لِواذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عن أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهم فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿ألا إنَّ لِلَّهِ ما في السَماواتِ والأرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ ويَوْمَ يُرْجَعُونَ إلَيْهِ فَيُنَبِّئُهم بِما عَمِلُوا واللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ هَذِهِ الآيَةُ مُخاطَبَةٌ لِجَمِيعِ مُعاصِرِي رَسُولِ اللهِ ﷺ، وأمَرَهُمُ اللهُ تَعالى ألّا يَجْعَلُوا مُخاطَبَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ في النِداءِ كَمُخاطَبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَإنَّ سِيرَتَهم كانَتِ التَداعِيَ بِالأسْماءِ، وعَلى غايَةِ البَداوَةِ وقِلَّةِ الِاهْتِبالِ، فَأمَرَهُمُ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ وفي غَيْرِها أنْ يَدْعُوَ رَسُولَ اللهِ ﷺ بِأشْرَفِ أسْمائِهِ، وذَلِكَ هو مُقْتَضى التَوْقِيرِ والتَعْزِيزِ، فالمُبْتَغِي في الدُعاءِ أنْ يَقُولَ: يا رَسُولَ اللهِ، ويَكُونُ ذَلِكَ بِتَوْقِيرٍ وخَفْضِ صَوْتٍ وبِرٍّ، وألّا يَجْرِيَ ذَلِكَ عَلى عادَتِهِمْ بَعْضُهم في بَعْضٍ، قالَهُ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: المَعْنى في هَذِهِ الآيَةِ إنَّما هُوَ: لا تَحْسَبُوا دُعاءَ الرَسُولِ عَلَيْكم كَدُعاءِ بَعْضِكم عَلى بَعْضٍ، أيْ: دُعاؤُهُ عَلَيْكم مُجابٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولَفْظُ الآيَةِ يَدْفَعُ هَذا المَعْنى، والأوَّلُ أصَحُّ. (p-٤١٥)ثُمْ أخْبَرَهُمُ اللهُ تَعالى أنَّ المُتَسَلِّلِينَ مِنهم لِواذًا قَدْ عَلَّمَهُمْ، واللِواذُ: الرَوَغانُ والمُخالَفَةُ، وهو مَصْدَرُ "لاوَذَ" ولَيْسَ بِمَصْدَرِ "لاذَ"؛ لَأنَّهُ كانَ يُقالُ لَهُ: "لِياذًا"، ذَكَرَهُ الزَجاجُ وغَيْرُهُ. ثُمْ أمَرَهم بِالحَذَرِ مِن عَذابِ اللهِ تَعالى ونِقْمَتِهِ إذا خالَفُوهُ عن أمْرِهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُخالِفُونَ عن أمْرِهِ﴾ مَعْناهُ: يَقَعُ خِلافُهم بَعْدَ أمْرِهِ، وهَذا كَما تَقُولُ: كانَ المَطَرُ عن رِيحٍ، و"عن" هي لِما عَدا الشَيْءَ، و"الفِتْنَةُ" في هَذا المَوْضِعِ: الإخْبارُ والرَزايا في الدُنْيا، أو بِالعَذابِ الألِيمِ في الآخِرَةِ، ولا بُدَّ لِلْمُنافِقِينَ مِن أحَدِ هَذَيْنِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "ألا إنَّ" اسْتَفْتَحَ الكَلامَ وأخْبَرَ أنَّ اللهَ تَعالى لَهُ ما في السَمَواتِ والأرْضِ مُلْكًا وخَلَفًا، ثُمْ أخْبَرَهم أنَّهُ قَدْ عَلِمْ ما أهْلُ الأرْضِ والسَماءِ عَلَيْهِ، وخَصَّ بِالذِكْرِ مِنهُمُ المُخاطِبِينَ لَأنَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وهم بِهِ أعْنِي، وقَوْلُهُ: ﴿وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِ: "يَعْلَمُ"، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَقْدِيرُ: والعِلْمُ الظاهِرُ لَكم -أو نَحْوَ هَذا- يَوْمَ، فَيَكُونُ النَصْبُ عَلى الظَرْفِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يَرْجِعُونَ" بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الجِيمِ، وقَرَأ يَحْيى بْنُ يَعْمُرٍ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وأبُو عَمْرٍو: "يَرْجِعُونَ" بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الجِيمِ. وقالَ عَقَبَةُ بْنُ عامِرٍ الجُهَنِيُّ: «رَأيْتُ النَبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ خاتِمَةَ النُورِ فَقالَ: "واللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ"، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ». كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ النُورِ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، وصَلّى اللهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصَحْبِهِ أجْمَعِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب