الباحث القرآني

﴿ألا إنَّ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ مِنَ المَوْجُوداتِ بِأسْرِها خَلْقًا ومُلْكًا وتَصَرُّفًا إيجادًا وإعْدامًا بَدْءًا وإعادَةً لا لِأحَدٍ غَيْرِهِ شَرِكَةٍ أوِ اسْتِقْلالًا ﴿قَدْ يَعْلَمُ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ أيُّها المُكَلَّفُونَ مِنَ الأحْوالِ والأوْضاعِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها المُوافِقَةُ والمُخالِفَةُ والإخْلاصُ والنِّفاقُ ودُخُولُ المُنافِقِينَ مَعَ أنَّ الخِطابَ فِيما قَبْلُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَوْمَ يُرْجَعُونَ إلَيْهِ﴾ خاصٌّ بِالمُنافِقِينَ وهو مَفْعُولٌ بِهِ عُطِفَ عَلى ما ﴿أنْتُمْ﴾ أيْ يَعْلَمُ يَوْمَ يَرْجِعُ المُنافِقُونَ المُخالِفُونَ لِلْأمْرِ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ لِلْجَزاءِ والعِقابِ. وتَعْلِيقُ عِلْمِهِ بِيَوْمِ رَجْعِهِمْ لا بِرَجْعِهِمْ لِزِيادَةِ تَحْقِيقِ عِلْمِهِ سُبْحانَهُ بِذَلِكَ وغايَةُ تَقْرِيرِهِ لِما أنَّ العِلْمَ بِوَقْتِ وُقُوعِ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ وآكَدَهُ، وفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ عِلْمَهُ جَعَلَ وعَلا بِنَفْسِ رَجْعِهِمْ مِنَ الظُّهُورِ بِحَيْثُ لا يَحْتاجُ إلى البَيانِ قَطْعًا. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ السّابِقُ خاصًّا بِهِمْ أيْضًا فَيَتَحَقَّقُ التِفاتانِ التِفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ في ﴿أنْتُمْ﴾ والتِفاتٌ مِنَ الخِطابِ إلى الغَيْبَةِ في ﴿يُرْجَعُونَ﴾ والعَطْفُ عَلى حالِهِ. وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ عَلى مُقَدَّرٍ أيْ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ الآنَ ويَوْمَ إلَخْ فَإنَّ الجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ تَدُلُّ عَلى الحالِ في ضِمْنِ الدَّوامِ والثُّبُوتِ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ( يَوْمَ ) ظَرْفًا لِمَحْذُوفٍ يُعْطَفُ عَلى ما قَبْلِهِ أيْ وسَيُحاسِبُهم يَوْمَ أوْ نَحْوَ ذَلِكَ ولا أرى اخْتِصاصَهُ بِالوَجْهِ الثّانِي في الخِطابِ. وفِي البَحْرِ بَعْدَ ذِكْرِ الوَجْهَيْنِ فِيهِ والظَّهْرُ عَطْفٌ ( يَوْمَ ) عَلى ﴿ما أنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ والعِلْمُ يَظْهَرُ لَكم أوْ نَحْوَ هَذا يَوْمَ فَيَكُونُ ( يَوْمَ ) نَصْبًا عَلى الظَّرْفِيَّةِ بِمَحْذُوفٍ وقَدْ لِلتَّحْقِيقِ وفَيا الِاحْتِمالانِ المُتَقَدِّمانِ آنِفًا، وقَدْ مَرَّ غَيْرُ مَرَّةٍ ما يُرادُ بِمِثْلِ هَذِهِ الجُمْلَةِ مِنَ الوَعِيدِ أوِ الوَعْدِ. ولا يَخْفى المُناسِبُ لِكُلٍّ مِنَ (p-229)الِاحْتِمالاتِ في ( أنْتُمْ ويُرْجَعُونَ ) وقَرَأ ابْنُ يَعْمُرَ وابْنُ أبِي إسْحاقٍ وأبُو عَمْرٍو «يُرْجَعُونَ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ ﴿فَيُنَبِّئُهم بِما عَمِلُوا﴾ أيْ بِعَمَلِهِمْ أوْ بِالَّذِي عَمِلُوهُ مِنَ الأعْمالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها مُخالَفَةُ الأمْرِ فَيُرَتِّبُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِ ما يَلِيقُ بِهِ مِنَ التَّوْبِيخِ والجَزاءِ أوْ فَيُنْبِئُهم بِما عَمِلُوا خَيْرًا أوْ شَرًّا فَيُرَتِّبُ سُبْحانَهُ عَلى ذَلِكَ ما يَلِيقُ بِهِ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وإنَّ شَرًّا فَشَرٌّ ﴿واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لا يُخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الأشْياءِ. والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُقَرَّرٌ لِما قَبْلِهِ، وإظْهارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ في مَقامِ الإضْمارِ لِتَأْكِيدِ اسْتِقْلالِ الجُمْلَةِ والإشْعارُ بِعِلَّةِ الحُكْمِ، وتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِرِعايَةِ رُؤُوسِ الآيِ. وقِيلَ وفِيهِ بَحْثٌ: إنَّهُ لِلْحَصْرِ عَلى مَعْنى واللَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ لا بِبَعْضِ الأشْياءِ كَما يَزْعُمُهُ بَعْضُ جَهَلَةِ الفَلاسِفَةِ ومَن حَذا حَذْوَهم حَفِظَنا اللَّهُ تَعالى والمُسْلِمِينَ مِمّا هم عَلَيْهِ مِنَ الضَّلالاتِ لَنا نُورًا نَهْتَدِي بِهِ إذا أدَلَّهم لَيْلُ الجَهالاتِ هَذا. * * * ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ ما قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحابًا﴾ إلى آخِرِهِ أنَّهُ إشارَةٌ إلى جَمْعِ العَناصِرِ الأرْبَعَةِ وتَرْكِيبُ الإنْسانِ مِنها ثُمَّ خُرُوجِ مَطَرِ الإحْساسِ مِن عَيْنَيْهِ وأُذُنَيْهِ مَثَلًا ويَنْزِلُ مِن سَماءِ العَقْلِ الفَيّاضِ بِرَدِّ حَقائِقِ العُلُومِ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشاءُ فَتَظْهَرُ آثارُهُ عَلَيْهِ ويَصْرِفُهُ عَمَّنْ يَشاءُ حَسْبَما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ الإلَهِيَّةُ ﴿يَكادُ سَنا بَرْقِهِ﴾ نُورُ تَجَلِّيهِ ﴿يَذْهَبُ بِالأبْصارِ﴾ بِأنْ يُعَطِّلَها عَنِ الإبْصارِ ويُفْنِيَ أصْحابَها عَنْها لِما أنَّ الإدْراكَ بِنُورِهِ فَوْقَ الإدْراكِ بِنُورِ الإبْصارِ ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ والنَّهارَ﴾ إشارَةٌ إلى لَيْلِ المَحْوِ ونَهارِ الصَّحْوِ أوْ لَيْلِ القَبْضِ ونَهارِ البَسْطِ أوْ لَيْلِ الجَلالِ ونَهارِ الجَمالِ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وقِيلَ: يُزْجِي سَحابَ المَعاصِي إلى أنْ يَتَراكَمَ فَتَرى مَطَرَ التَّوْبَةِ يَخْرُجُ مِن خِلالِهِ كَما خَرَجَ مِن سَحابِ ﴿وعَصى آدَمُ﴾ مَطَرٌ ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ﴾ رَبُّهُ ويَنْزِلُ مِن سَماءِ القُلُوبِ مِن جِبالِ القَسْوَةِ فِيها مِن بَرْدِ القَهْرِ يُقَلِّبُ اللَّهُ لَيْلَ المَعْصِيَةِ لِمَن يَشاءُ إلى نَهارِ الطّاعَةِ وبِالعَكْسِ ﴿واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةٍ مِن ماءٍ﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ في الماءِ ﴿فَمِنهم مَن يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ﴾ يَعْتَمَّدُ في سَيْرِهِ عَلى الباطِنِ وهم أهْلُ الجَذْبَةِ المَغْمُورُونَ في بِحارِ المَحَبَّةِ ﴿ومِنهم مَن يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ﴾ يَعْتَمِدُ في سَيْرِهِ الشَّرِيعَةِ والطَّرِيقَةِ لَكِنَّ فِيما يَتَعَلَّقُ بِهِ خاصَّةً مِنهُما وهم صِنْفٌ مِنَ الكامِلِينَ سَكَنُوا زَوايا الخُمُولِ ولَمْ يُخالِطُوا النّاسَ ولَمْ يَشْتَغِلُوا بِالإرْشادِ ﴿ومِنهم مَن يَمْشِي عَلى أرْبَعٍ﴾ يَعْتَمِدُ في سَيْرِهِ الشَّرِيعَةِ والطَّرِيقَةِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِهِ وبِغَيْرِهِ مِنهُما وهم صِنْفٌ آخَرُ مِنَ الكامِلِينَ بَرَزُوا لِلنّاسِ وخالَطُوهم واشْتَغَلُوا بِالإرْشادِ وعَمِلُوا في أنْفُسِهِمْ بِما تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ والطَّرِيقَةُ وعامَلُوا النّاسَ والمُرِيدِينَ بِذَلِكَ أيْضًا ﴿يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ﴾ فَلا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ في خَلْقِهِ مَن يَمْشِي عَلى أكْثَرِ كالكامِلِينَ الَّذِينَ أوْقَفَهُمُ اللَّهُ تَعالى عَلى أسْرارِ المُلْكِ والمَلَكُوتِ وما حَدَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ ونَوْعٍ مِن أنْواعِ المَخْلُوقاتِ فَعامَلُوا بَعْدَ أنْ عَمِلُوا في أنْفُسِهِمْ ما يَلِيقُ بِهِمْ كُلِّ أُمَّةِ وكُلِّ نَوْعٍ بِما حَدَّ لَهُ ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ . وفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَقُولُونَ آمَنّا بِاللَّهِ وبِالرَّسُولِ﴾ الآياتُ إشارَةٌ إلى أحْوالِ المُنْكِرِينَ في القَلْبِ عَلى المَشايِخِ وأحْوالِ المُصَدِّقِينَ بِهِمْ قَلْبًا وقالِبًا وفي قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وإنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ طاعَةَ الرَّسُولِ سَبَبٌ لِحُصُولِ المُكاشَفاتِ ونَحْوِها، وقالَ أبُو عُثْمانَ: مَن أمَرَ السُّنَّةَ عَلى نَفْسِهِ قَوْلًا وفِعْلًا نَطَقَ بِالحِكْمَةِ ومَن أمَرَ الهَوى عَلى نَفْسِهِ نَطَقَ بِالبِدْعَةِ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ: ﴿وإنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وإذا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لا يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ الِاسْتِبْدادُ بِشَيْءٍ قالَ عَبْدُ اللَّهِ الرّازِيُّ: قالَ قَوْمٌ مِن أصْحابِ أبِي عُثْمانَ لِأبِي عُثْمانَ أوْصِنا فَقالَ: عَلَيْكم بِالِاجْتِماعِ عَلى الدِّينِ وإيّاكم (p-230)ومُخالَفَةَ الأكابِرِ والدُّخُولَ في شَيْءٍ مِنَ الطّاعاتِ إلّا بِإذْنِهِمْ ومَشُورَتِهِمْ وواسَوُا المُحْتاجِينَ بِما أمْكَنَكم فَإذا فَعَلْتُمْ أرْجُو أنْ لا يُضَيِّعَ اللَّهُ تَعالى لَكم سَعْيًا ﴿لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكم كَدُعاءِ بَعْضِكم بَعْضًا﴾ فِيهِ مِن تَعْظِيمِ أمْرِ الرَّسُولِ ﷺ ما فِيهِ، وذَكَرَ أنَّ الشَّيْخَ في جَماعَتِهِ كالنَّبِيِّ في أُمَّتِهِ فَيَنْبَغِي أنْ يَحْتَرِمَ في مُخاطَبَتِهِ ويُمَيِّزَ عَلى غَيْرِهِ ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهم فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ قالَ أبُو سَعِيدٍ الخَرّازُ: الفِتْنَةُ إسْباغُ النِّعَمِ مَعَ الِاسْتِدْراجِ، وقالَ الجُنَيْدُ قَدَّسَ سِرَّهُ: قَسْوَةُ القَلْبِ عَنْ مَعْرِفَةِ المَعْرُوفِ والمُنْكِرِ، وقالَ بَعْضُهُمْ: طَبْعٌ عَلى القُلُوبِ والعَذابُ الألِيمُ هو عَذابُ البُعْدِ والحِجابُ عَنِ الحَضْرَةِ نَعُوذُ بِاللَّهِ تَعالى مِن ذَلِكَ ونَسْألُهُ سُبْحانَهُ التَّوْفِيقَ إلى أقْوَمِ المَسالِكِ فَلا رَبَّ غَيْرِهِ ولا يُرْجى إلّا خَيْرَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب