الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أيْمانُكم والَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكم ثَلاثَ مَرّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكم مِن الظَهِيرَةِ ومِن بَعْدِ صَلاةِ العِشاءِ ثَلاثَ عَوْراتٍ لَكم لَيْسَ عَلَيْكم ولا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَيْكم بَعْضُكم عَلى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكم الآياتِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ قالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما: ﴿الَّذِينَ مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ يُرادُ بِهِ الرِجالُ خاصَّةً، وقالَ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ السُلَمِيُّ: يُرادُ بِهِ النِساءُ خاصَّةً، وسَبِيلُ الرِجالِ أنْ يَسْتَأْذِنُوا في كُلِّ وقْتٍ، وحَكى الزَهْراوِيُّ عن أبِي عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما ونَحْوَهُ، وقِيلَ: الرِجالُ والنِساءُ (p-٤٠٧)كُلُّهم مُرادٌ، ورَجَّحَهُ الطَبَرِيُّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ الناسُ: "الحُلُمْ" بِضَمِّ اللامِ، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "الحُلْمَ" بِسُكُونِ اللامِ، وكانَ أبُو عَمْرٍو يَسْتَحْسِنُها. وهَذِهِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: تَرَكَها الناسُ، وكَذَلِكَ تَرَكَ الناسُ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ أكْرَمَكم عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣]، فَأبى الناسُ إلّا أنَّ الأكْرَمَ هو الأنْسَبُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ العِبارَةُ بِتَرْكِ [الناسِ] إغْلاظٌ وزَجْرٌ، إذْ لَمْ تُلْتَزَمْ حَقَّ الِالتِزامِ، وإلّا فَما قالَ اللهُ تَعالى هو المُعْتَقَدُ في ذَلِكَ عِنْدَ العُلَماءِ المَكْتُوبُ في تَوالِيفِهِمْ، أعْنِي أنَّ الكَرَمَ التَقْوى، وأمّا أمْرُ الِاسْتِئْذانِ فَإنَّ تَغْيِيرَ المَبانِي والحُجُبِ أغْنَتْ عن كَثِيرٍ مِنَ الِاسْتِئْذانِ، وصَيَّرَتْهُ عَلى حَدٍّ آخَرَ، وأيْنَ أبْوابُ المَنازِلِ اليَوْمَ مِن مَواضِعِ النَوْمِ؟ وقَدْ ذَكَرَ المَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّهُ قالَ: كانَ العَمَلُ بِهَذِهِ الآيَةِ واجِبًا إذْ كانُوا لا غَلْقَ ولا أبْوابَ، ولَوْ عادَتِ الحالُ لِعادَ الوُجُوبُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَهِيَ الآنُ واجِبَةٌ في كَثِيرٍ مِن مَساكِنِ المُسْلِمِينَ في البَوادِي والصَحارى ونَحْوَها. ومَعْنى الآيَةِ عِنْدَ جَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ أنَّ اللهَ تَعالى أدَّبَ عِبادَهُ بِأنْ يَكُونَ العَبِيدُ -إذْ لا بالَ لَهُمْ- والأطْفالُ الَّذِينَ لَمَّ يَبْلُغُوا الحُلُمْ إلّا أنَّهم عَقَلُوا مَعانِيَ الكَشَفَةِ ونَحْوَها، يَسْتَأْذِنُونَ عَلى أهْلِيهِمْ في هَذِهِ الأوقاتِ الثَلاثَةِ، وهي الأوقاتُ الَّتِي تَقْتَضِي عادَةُ الناسِ الِانْكِشافَ فِيها ومُلازِمَةَ التَعَرِّي في المَضاجِعِ، وهِيَ: عِنْدَ الصَباحِ لَأنَّ الناسَ في ذَلِكَ الوَقْتِ عُراةٌ في مَضاجِعِهِمْ، وقَدْ يَنْكَشِفُ النائِمْ فَمَن مَشى ودَخَلَ وخَرَجَ فَحُكْمُهُ أنْ يَسْتَأْذِنَ لِئَلّا يَطَّلِعَ عَلى ما يَجِبُ سِتْرُهُ، وكَذَلِكَ في وقْتِ القائِلَةِ -وَهِيَ الظَهِيرَةُ- لَأنَّ النَهارَ يَظْهَرُ فِيها إذا عَلا واشْتَدَّ حَرُّهُ، وبَعْدَ العَشاءِ لَأنَّهُ وقْتَ التَعَرِّي لِلنَّوْمِ والتَبَدُّلِ لِلْفِراشِ، وأمّا غَيْرُ هَذِهِ الأوقاتِ الَّتِي هي عُرْوَةٌ، أيْ ذاتُ انْكِشافٍ، فالعُرْفُ مِنَ (p-٤٠٨)الناسِ التَحَفُّظُ والتَحَرُّزُ، فَلا حَرَجَ في دُخُولٍ هَذِهِ الصَنِيفَةِ بِغَيْرِ إذْنٍ؛ إذْ هم طَوّافُونَ يَمْضُونَ ويَجِيئُونَ لا يَجِدُ الناسُ بُدًّا مِن ذَلِكَ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "طَوّافِينَ" بِالياءِ، وقالَ الحَسَنُ: إذا أباتَ الرَجُلُ خادِمَهُ مَعَهُ فَلا اسْتِئْذانَ عَلَيْهِ حَتّى في هَذِهِ الأوقاتِ الثَلاثَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَعْضُكم عَلى بَعْضٍ﴾ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: "طَوّافُونَ" و ﴿ثَلاثُ عَوْراتٍ﴾ نُصِبَ عَلى الظَرْفِ لَأنَّهم لَمْ يُؤَمَرُوا بِالِاسْتِئْذانِ ثَلاثًا، إنَّما أُمِرُوا بِالِاسْتِئْذانِ ثَلاثَةَ مَواطِنَ، فالظَرْفَيْنِ في "ثَلاثُ" بَيِّنَةٌ. قَرَأ جُمْهُورُ السَبْعَةِ: "ثَلاثُ عَوْراتٍ" بِرَفْعِ "ثَلاثُ"، وكَذا عَلى الِابْتِداءِ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ عن عاصِمْ: "ثَلاثَ عَوْراتٍ" بِنَصْبِ "ثَلاثَ"، وهَذِهِ عَلى البَدَلِ مِنَ الظَرْفِ في قَوْلِهِ: "ثَلاثَ مَرّاتٍ"، وهَذا البَدَلُ إنَّما يَصِحُّ مَعْناهُ بِتَقْدِيرِ: أوقاتٍ ثَلاثَ عَوْراتٍ، فَحُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ، و"عَوْراتٍ" جَمْعُ عَوْرَةٍ، وبابُهُ في الصَحِيحِ أنْ يَجِيءَ عَلى "فَعَلاتٍ" بِفَتْحِ العَيْنِ، كَجَفْنَةٍ وجَفَناتٍ ونَحْوَ ذَلِكَ، وسَكَّنُوا العَيْنَ في المُعْتَلِّ كَبَيْضَةٍ وبَيْضاتٍ وجَوْبَةٍ وجَوْباتٍ ونَحْوَهُ، لَأنَّ فَتْحَهُ داعٍ إلى اعْتِلالِهِ فَلَمْ يُفْتَحْ لِذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب