الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهم ولَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ وما تُنْفِقُوا مَن خَيْرٍ فَلأنْفُسِكم وما تُنْفِقُونَ إلا ابْتِغاءَ وجْهِ اللهَ وما تُنْفِقُوا مَن خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكم وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ رُوِيَ عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ في سَبَبِ هَذِهِ الآيَةِ: «أنَّ المُسْلِمِينَ كانُوا يَتَصَدَّقُونَ عَلى فُقَراءِ أهْلِ الذِمَّةِ، فَلَمّا كَثُرَ فُقَراءُ المُسْلِمِينَ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "لا تَتَصَدَّقُوا إلّا عَلى أهْلِ دِينِكُمْ"، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» مُبِيحَةً لِلصَّدَقَةِ عَلى مَن لَيْسَ مِن أهْلِ دِينِ الإسْلامِ. وذَكَرَ النَقّاشُ «أنَّ النَبِيَّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ أتى بِصَدَقاتٍ فَجاءَهُ يَهُودِيٌّ فَقالَ: أعْطِنِي، فَقالَ النَبِيُّ ﷺ: "لَيْسَ لَكَ مِن صَدَقَةِ المُسْلِمِينَ شَيْءٌ" فَذَهَبَ اليَهُودِيُّ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ﴾ فَدَعاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَأعْطاهُ، ثُمَّ نَسَخَ اللهُ ذَلِكَ بِآيَةِ الصَدَقاتِ.» ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ ناسٌ مِنَ الأنْصارِ لَهم قَراباتٌ في بَنِي قُرَيْظَةَ والنَضِيرِ، وكانُوا لا يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِمْ رَغْبَةً مِنهم في أنْ يُسْلِمُوا إذا احْتاجُوا فَنَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وحَكى بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنَّ أسْماءَ بِنْتَ أبِي بَكْرٍ الصِدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُما أرادَتْ أنْ تَصِلَ جَدَّها أبا قُحافَةَ، ثُمَّ امْتَنَعَتْ مِن ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كافِرًا فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ. وذَكَرَ الطَبَرِيُّ أنَّ مَقْصِدَ النَبِيِّ ﷺ بِمَنعِ الصَدَقَةِ إنَّما كانَ لِيُسْلِمُوا ويَدْخُلُوا في الدِينِ، فَقالَ اللهُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ﴾. وهَذِهِ الصَدَقَةُ الَّتِي أُبِيحَتْ عَلَيْهِمْ حَسْبَما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآثارُ إنَّما هي صَدَقَةُ (p-٨٦)التَطَوُّعِ، وأمّا المَفْرُوضَةُ فَلا يَجْزِي دَفْعُها لِكافِرٍ، وهَذا الحُكْمُ مُتَصَوَّرٌ لِلْمُسْلِمِينَ اليَوْمَ مَعَ أهْلِ ذِمَّتِهِمْ ومَعَ المُسْتَرَقِّينَ مِنَ الحَرْبِيِّينَ. قالَ ابْنُ المُنْذِرِ: أجْمَعَ مَن أحْفَظُ عنهُ مِن أهْلِ العِلْمِ أنَّ الذِمِّيَّ لا يُعْطى مِن زَكاةِ الأمْوالِ شَيْئًا، ثُمَّ ذَكَرَ جَماعَةً مِمَّنْ نَصَّ عَلى ذَلِكَ ولَمْ يَذْكُرْ خِلافًا، وقالَ المَهْدَوِيُّ: ورُخِّصَ لِلْمُسْلِمِينَ أنْ يُعْطُوا المُشْرِكِينَ مِن قَراباتِهِمْ مِن صَدَقَةِ الفَرِيضَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ، وهَذا مَرْدُودٌ عِنْدِي. والهُدى الَّذِي لَيْسَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ هو خَلْقُ الإيمانِ في قُلُوبِهِمْ، وأمّا الهُدى الَّذِي هو الدُعاءُ فَهو عَلَيْهِ، ولَيْسَ بِمُرادٍ في هَذِهِ الآيَةِ، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ هُوَ: يَهْدِي مَن يَشاءُ أيْ يُرْشِدُهُ، وفي هَذا رَدٌّ عَلى القَدَرِيَّةِ وطَوائِفِ المُعْتَزِلَةِ. ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ نَفَقَةَ المَرْءِ تَأجُّرًا إنَّما هي لِنَفْسِهِ، فَلا يُراعِي حَيْثُ وقَعَتْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ النَفَقَةَ المُعْتَدَّ بِها المَقْبُولَةَ إنَّما هي ما كانَ ابْتِغاءَ وجْهِ اللهِ، هَذا أحَدُ التَأْوِيلاتِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما تُنْفِقُونَ إلا ابْتِغاءَ وجْهِ اللهِ﴾، وفِيهِ تَأْوِيلٌ آخَرُ، وهو أنَّها شَهادَةٌ مِنَ اللهِ تَعالى لِلصَّحابَةِ أنَّهم إنَّما يُنْفِقُونَ ابْتِغاءَ وجْهِهِ، فَهو خَبَرٌ مِنهُ لَهم فِيهِ تَفْضِيلٌ، وعَلى التَأْوِيلِ الآخَرِ هو اشْتِراطٌ عَلَيْهِمْ، ويَتَناوَلُ الِاشْتِراطُ غَيْرَهم مِنَ الأُمَّةِ. ونَصْبُ قَوْلِهِ: "ابْتِغاءَ" هو عَلى المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّ ثَوابَ الإنْفاقِ يُوَفّى إلى المُنْفِقِينَ، والمَعْنى في الآخِرَةِ ولا يُبْخَسُونَ (p-٨٧)مِنهُ شَيْئًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ البَخْسُ ظُلْمًا لَهُمْ، وهَذا هو بَيانُ قَوْلِهِ: ﴿وَما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ﴾. والخَيْرُ في هَذِهِ الآيَةِ المالُ، لِأنَّهُ اقْتَرَنَ بِذِكْرِ الإنْفاقِ، فَهَذِهِ القَرِينَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ المالُ، ومَتى لَمْ يَقْتَرِنْ بِما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ المالُ فَلا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى المالِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ [الفرقان: ٢٤] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧] إلى غَيْرِ ذَلِكَ. وهَذا الَّذِي قُلْناهُ تَحَرُّزٌ مِن قَوْلِ عِكْرِمَةَ: "كُلُّ خَيْرٍ في كِتابِ اللهِ فَهو المالُ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب