الباحث القرآني

﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهم ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ . اسْتِئْنافٌ مُعْتَرَضٌ بِهِ بَيْنَ قَوْلِهِ ﴿إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ﴾ [البقرة: ٢٧١] وبَيْنَ قَوْلِهِ ﴿وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ فَلِأنْفُسِكُمْ﴾ ومُناسَبَتُهُ هُنا أنَّ الآياتِ المُتَقَدِّمَةَ يَلُوحُ مِن خِلالِها أصْنافٌ مِنَ النّاسِ، مِنهُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم رِئاءَ النّاسِ ولا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ، ومِنهُمُ الَّذِينَ يُبْطِلُونَ صَدَقاتِهِمْ بِالمَنِّ والأذى، ومِنهُمُ الَّذِينَ يَتَيَمَّمُونَ الخَبِيثَ مِنهُ يُنْفِقُونَ، ومِنهم مَن يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ الفَقْرَ ويَأْمُرُهم بِالفَحْشاءِ، وكانَ وُجُودُ هَذِهِ الفِرَقِ مِمّا يَثْقُلُ عَلى النَّبِيءِ ﷺ فَعَقَّبَ اللَّهُ ذَلِكَ بِتَسْكِينِ نَفْسِ رَسُولِهِ والتَّهْوِينِ عَلَيْهِ بِأنْ لَيْسَ عَلَيْهِ هُداهم ولَكِنْ عَلَيْهِ البَلاغُ، فالهُدى هُنا بِمَعْنى الإلْجاءِ لِحُصُولِ الهُدى في قُلُوبِهِمْ، وأمّا الهُدى بِمَعْنى التَّبْلِيغِ والإرْشادِ فَهو عَلى النَّبِيءِ، ونَظائِرُ هَذا في القُرْآنِ كَثِيرَةٌ، فالضَّمِيرُ راجِعٌ إلى جَمِيعِ مَن بَقِيَ فِيهِمْ شَيْءٌ مِن عَدَمِ الهُدى وأشَدُّهُمُ المُشْرِكُونَ والمُنافِقُونَ، وقِيلَ الضَّمِيرُ راجِعٌ إلى ناسٍ مَعْرُوفِينَ، رُوِيَ أنَّهُ كانَ لِأسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ أُمٌّ كافِرَةٌ وجَدٌّ كافِرٌ فَأرادَتْ أسْماءُ - عامَ عُمْرَةِ القَضِيَّةِ - أنْ تُواسِيَهُما بِمالٍ، وأنَّهُ أرادَ بَعْضُ الأنْصارِ الصَّدَقَةَ عَلى قَرابَتِهِمْ وأصْهارِهِمْ في بَنِي النَّضِيرِ وقُرَيْظَةَ، فَنَهى (p-٧٠)النَّبِيءُ ﷺ المُسْلِمِينَ عَنِ الصَّدَقَةِ عَلى الكُفّارِ، إلْجاءً لِأُولَئِكَ الكُفّارِ عَلى الدُّخُولِ في الإسْلامِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ﴾ الآياتِ، أيْ هُدى الكُفّارِ إلى الإسْلامِ، أيْ فَرَخِّصْ لِلْمُسْلِمِينَ الصَّدَقَةَ عَلى أُولَئِكَ الكُفّارِ. فالضَّمِيرُ عائِدٌ إلى مَعْلُومٍ لِلْمُخاطَبِ، فَيَكُونُ نُزُولُ الآيَةِ لِذَلِكَ السَّبَبِ ناشِئًا عَنْ نُزُولِ آياتِ الأمْرِ بِالإنْفاقِ والصَّدَقَةِ، فَتَكُونُ الآياتُ المُتَقَدِّمَةُ سَبَبَ السَّبَبِ لِنُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ. والمَعْنى أنْ لَيْسَ عَلَيْكَ أنْ تَهْدِيَهم بِأكْثَرَ مِنَ الدَّعْوَةِ والإرْشادِ، دُونَ هُداهم بِالفِعْلِ أوِ الإلْجاءِ، إذْ لا هادِيَ لِمَن يُضْلِلُ اللَّهُ، ولَيْسَ مِثْلُ هَذا بِمُيَسَّرٍ لِلْهُدى. والخِطابُ في ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ﴾ ظاهِرُهُ أنَّهُ خِطابٌ لِلرَّسُولِ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ الَّذِي ذَكَرْناهُ في مُعادِ ضَمِيرِ (هُداهم) ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِمَن يَسْمَعُ عَلى الوَجْهِ الآتِي في الضَّمِيرِ إذا اعْتَبَرْنا ما ذَكَرُوهُ في سَبَبِ النُّزُولِ، أيْ لَيْسَ عَلَيْكَ أيُّها المُتَرَدِّدُ في إعْطاءِ قَرِيبِكَ. و(عَلى) في قَوْلِهِ: (عَلَيْكَ) لِلِاسْتِعْلاءِ المَجازِيِّ، أيْ طَلَبِ فِعْلٍ عَلى وجْهِ الوُجُوبِ. والمَعْنى: لَيْسَ ذَلِكَ بِواجِبٍ عَلى الرَّسُولِ، فَلا يَحْزَنُ عَلى عَدَمِ حُصُولِ هُداهم لِأنَّهُ أدّى واجِبَ التَّبْلِيغِ، أوِ المَعْنى: لَيْسَ ذَلِكَ بِواجِبٍ عَلَيْكم أيُّها المُعالِجِينَ لِإسْلامِهِمْ بِالحِرْمانِ مِنَ الإنْفاقِ حَتّى تَسْعَوْا إلى هُداهم بِطُرُقِ الإلْجاءِ. وتَقْدِيمُ الظَّرْفِ وهو ”عَلَيْكَ“ عَلى المُسْنَدِ إلَيْهِ وهو ”هُداهم“ إذا أُجْرِيَ عَلى ما تَقَرَّرَ في عِلْمِ المَعانِي مِن أنَّ تَقْدِيمَ المُسْنَدِ الَّذِي حَقُّهُ التَّأْخِيرُ يُفِيدُ قَصْرَ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى المُسْنَدِ وكانَ ذَلِكَ في الإثْباتِ بَيِّنًا لا غُبارَ عَلَيْهِ نَحْوَ ﴿لَكم دِينُكم ولِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: ٦] وقَوْلِهِ ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: ٢٨٦] - فَهو إذا وقَعَ في سِياقِ النَّفْيِ غَيْرُ بَيِّنٍ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ التَّقْدِيمُ في صُورَةِ الإثْباتِ مُفِيدًا لِلْحَصْرِ اقْتَضى أنَّهُ إذا نُفِيَ فَقَدْ نُفِيَ ذَلِكَ الِانْحِصارُ، لِأنَّ الجُمْلَةَ المُكَيَّفَةَ بِالقَصْرِ في حالَةِ الإثْباتِ هي جُمْلَةٌ مُقَيَّدَةٌ نِسْبَتُها بِقَيْدِ الِانْحِصارِ؛ أيْ بِقَيْدِ انْحِصارِ مَوْضُوعِها في مَعْنى مَحْمُولِها، فَإذا دَخَلَ عَلَيْها النَّفْيُ كانَ مُقْتَضِيًا نَفْيَ النِّسْبَةِ المُقَيَّدَةِ أيْ نَفْيَ ذَلِكَ الِانْحِصارِ، لِأنَّ شَأْنَ النَّفْيِ إذا تَوَجَّهَ إلى كَلامٍ مُقَيَّدٍ أنْ يَنْصَبَّ عَلى ذَلِكَ القَيْدِ. (p-٧١)لَكِنَّ أئِمَّةَ الفَنِّ حِينَ ذَكَرُوا أمْثِلَةَ تَقْدِيمِ المُسْنَدِ عَلى المُسْنَدِ إلَيْهِ سَوَّوْا فِيها بَيْنَ الإثْباتِ - كَما ذَكَرْنا - وبَيْنَ النَّفْيِ نَحْوَ ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ [الصافات: ٤٧] فَقَدْ مَثَّلَ بِهِ في الكَشّافِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] فَقالَ: قَصَدَ تَفْضِيلَ خَمْرِ الجَنَّةِ عَلى خُمُورِ الدُّنْيا، وقالَ السَّيِّدُ في شَرْحِهِ هُنالِكَ: عُدَّ قَصْرًا لِلْمَوْصُوفِ عَلى الصِّفَةِ؛ أيِ الغَوْلُ مَقْصُورٌ عَلى عَدَمِ الحُصُولِ في خُمُورِ الجَنَّةِ لا يَتَعَدّاهُ إلى عَدَمِ الحُصُولِ فِيما يُقابِلُها، أوْ عَدَمُ الغُولِ مَقْصُورٌ عَلى الحُصُولِ فِيها لا يَتَجاوَزُهُ إلى الحُصُولِ في هَذِهِ الخُمُورِ. وقَدْ أحَلْتُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] عَلى هَذِهِ الآيَةِ هُنا، فَبِنا أنْ نُبَيِّنَ طَرِيقَةَ القَصْرِ بِالتَّقْدِيمِ في النَّفْيِ، وهي أنَّ القَصْرَ لَمّا كانَ كَيْفِيَّةً عارِضَةً لِلتَّرْكِيبِ ولَمْ يَكُنْ قَيْدًا لَفْظِيًّا بِحَيْثُ يَتَوَجَّهُ النَّفْيُ إلَيْهِ كانَتْ تِلْكَ الكَيْفِيَّةُ مُسْتَصْحَبَةً مَعَ النَّفْيِ، فَنَحْوُ ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ [الصافات: ٤٧] يُفِيدُ قَصْرَ الغَوْلِ عَلى الِانْتِفاءِ عَنْ خُمُورِ الدُّنْيا ولا يُفِيدُ نَفْيَ قَصْرِ الغَوْلِ عَلى الكَوْنِ في خُمُورِ الجَنَّةِ، وإلى هَذا أشارَ السَّيِّدُ في شَرْحِ الكَشّافِ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] إذْ قالَ: وبِالجُمْلَةِ يُجْعَلُ حَرْفُ النَّفْيِ جُزْءًا أوْ حَرْفًا مِن حُرُوفِ المُسْنَدِ أوِ المُسْنَدِ إلَيْهِ، وعَلى هَذا بَنى صاحِبُ الكَشّافِ؛ فَجَعَلَ وجْهَ أنْ لَمْ يُقَدَّمِ الظَّرْفُ في قَوْلِهِ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] كَما قُدِّمَ الظَّرْفُ في قَوْلِهِ: ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ [الصافات: ٤٧] لِأنَّهُ لَوْ أُوِّلَ لَقُصِدَ أنَّ كِتابًا آخَرَ فِيهِ الرَّيْبُ، لا في القُرْآنِ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِمُرادٍ. فَإذا تَقَرَّرَ هَذا فَقَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ﴾ إذا أُجْرِيَ عَلى هَذا المِنوالِ كانَ مُفادُهُ: هُداهم مَقْصُورٌ عَلى انْتِفاءِ كَوْنِهِ عَلَيْكَ، فَيَلْزَمُ مِنهُ اسْتِفادَةُ إبْطالِ انْتِفاءِ كَوْنِهِ عَلى غَيْرِ المُخاطَبِ، أيْ إبْطالُ انْتِفاءِ كَوْنِهِ عَلى اللَّهِ، وكِلا المُفادَيْنِ غَيْرُ مُرادٍ إذْ لا يُعْقَدُ الأوَّلُ ولا الثّانِي، فالوَجْهُ: إمّا أنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ هُنا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ كَتَقْدِيمِ يَوْمِ النَّدى في قَوْلِ الحَرِيرِيِّ: ؎ما فِيهِ مِن عَيْبٍ سِوى أنَّهُ يَوْمَ النَّدى قِسْمَتُهُ ضِيزى بِنَفْيِ كَوْنِ هُداهم حَقًّا عَلى الرَّسُولِ تَهْوِينًا لِلْأمْرِ عَلَيْهِ، فَأمّا الدَّلالَةُ عَلى كَوْنِ ذَلِكَ مُفَوَّضًا إلى اللَّهِ فَمِن قَوْلِهِ ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ وإمّا أنْ يَكُونَ جَرى عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ بِتَنْزِيلِ السّامِعِينَ مَنزِلَةَ مَن يَعْتَقِدُ أنَّ إيجادَ الإيمانِ في الكُفّارِ يَكُونُ بِتَكْوِينِ اللَّهِ وبِالإلْجاءِ مِنَ المَخْلُوقِ، فَقَصَرَ هُداهم عَلى عَدَمِ الكَوْنِ في إلْجاءِ المَخْلُوقِينَ إيّاهم لا عَلى عَدَمِ الكَوْنِ في أنَّهُ عَلى اللَّهِ، فَيَلْزَمُ مِن ذَلِكَ أنَّهُ عَلى اللَّهِ، أيْ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ. (p-٧٢)وقَوْلُهُ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ جِيءَ فِيهِ بِحَرْفِ الِاسْتِدْراكِ لِما في الكَلامِ المَنفِيِّ مِن تَوَهُّمِ إمْكانِ هَدْيِهِمْ بِالحِرْصِ أوْ بِالإلْجاءِ، فَمَصَبُّ الِاسْتِدْراكِ هو الصِّلَةُ، أعْنِي مَن يَشاءُ أيْ: فَلا فائِدَةَ في إلْجاءِ مَن لَمْ يَشَأِ اللَّهُ هَدْيَهُ. والتَّقْدِيرُ: ولَكِنَّ هُداهم بِيَدِ اللَّهِ، وهو يَهْدِي مَن يَشاءُ، فَإذا شاءَ أنْ يَهْدِيَهم هَداهم. * * * ﴿وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ فَلِأنْفُسِكم وما تُنْفِقُونَ إلّا ابْتِغاءَ وجْهِ اللَّهِ وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكم وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ . عُطِفَ عَلى جُمْلَةِ ﴿إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ﴾ [البقرة: ٢٧١] ومَوْقِعُها زِيادَةُ فَضْلِ الصَّدَقاتِ كُلِّها، وأنَّها لَمّا كانَتْ مَنفَعَتُها لِنَفْسِ المُتَصَدِّقِ فَلْيَخْتَرْ لِنَفْسِهِ ما هو خَيْرٌ، وعَلَيْهِ أنْ يُكْثِرَ مِنها بِنَبْذِ كُلِّ ما يَدْعُو لِتَرْكِ بَعْضِها. وقَوْلُهُ: ﴿وما تُنْفِقُونَ إلّا ابْتِغاءَ وجْهِ اللَّهِ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، وهو خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى الأمْرِ أيْ: إنَّما تَكُونُ مَنفَعَةُ الصَّدَقاتِ لِأنْفُسِكم إنْ كُنْتُمْ ما تُنْفِقُونَ إلّا ابْتِغاءَ وجْهِ اللَّهِ لا لِلرِّياءِ ولا لِمُراعاةِ حالِ مُسْلِمٍ وكافِرٍ، وهَذا المَعْنى صالِحٌ لِكِلا المَعْنَيَيْنِ المُحْتَمَلَيْنِ في الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها ويَجُوزُ كَوْنُها مَعْطُوفَةً عَلَيْها إذا كانَ الخَبَرُ بِمَعْنى النَّهْيِ، أيْ: لا تُنْفِقُوا إلّا ابْتِغاءَ وجْهِ اللَّهِ، وهَذا الكَلامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في الطَّلَبِ لِقَصْدِ التَّحْقِيقِ والتَّأْكِيدِ، ولِذَلِكَ خُولِفَ فِيهِ أُسْلُوبُ ما حُفَّ بِهِ مِن جُمْلَةِ: ﴿وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ فَلِأنْفُسِكُمْ﴾ وجُمْلَةِ: ﴿وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكُمْ﴾ . وقَوْلُهُ: ﴿وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكم وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ عَطْفٌ عَلى الَّتِي قَبْلَها لِبَيانِ أنَّ جَزاءَ النَّفَقاتِ بِمِقْدارِها وأنَّ مَن نُقِصَ لَهُ مِنَ الأجْرِ فَهو السّاعِي في نَقْصِهِ، وكَرَّرَ فِعْلَ (تُنْفِقُونَ) ثَلاثَ مَرّاتٍ في الآيَةِ لِمَزِيدِ الِاهْتِمامِ بِمَدْلُولِهِ، وجِيءَ بِهِ مَرَّتَيْنِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ عِنْدَ قَصْدِ بَيانِ المُلازَمَةِ بَيْنَ الإنْفاقِ والثَّوابِ، وجِيءَ بِهِ مَرَّةً في صِيغَةِ النَّفْيِ والِاسْتِثْناءِ لِأنَّهُ قَصَدَ الخَبَرَ بِمَعْنى الإنْشاءِ، أيِ: النَّهْيِ عَنْ أنْ يُنْفِقُوا إلّا لِابْتِغاءِ وجْهِ اللَّهِ. (p-٧٣)وتَقَدَّمَ ”وأنْتُمْ“ عَلى الخَبَرِ الفِعْلِيِّ لِمُجَرَّدِ التَّقَوِّي وزِيادَةِ التَّنْبِيهِ عَلى أنَّهم لا يُظْلَمُونَ وإنَّما يَظْلِمُونَ أنْفُسَهم. وإنَّما جُعِلَتْ هاتِهِ الأحْكامُ جُمَلًا مُسْتَقِلًّا بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ ولَمْ تُجْعَلْ جُمْلَةً واحِدَةً مُقَيَّدَةً فائِدَتُها بِقُيُودِ جَمِيعِ الجُمَلِ، وأُعِيدَ لَفْظُ الإنْفاقِ في جَمِيعِها بِصِيَغٍ مُخْتَلِفَةٍ تَكْرِيرًا لِلِاهْتِمامِ بِشَأْنِهِ، لِتَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةً بِمَعْناها قَصِيرَةَ الألْفاظِ كَثِيرَةَ المَعانِي، فَتَجْرِي مَجْرى الأمْثالِ وتَتَناقَلُها الأجْيالُ. وقَدْ أُخِذَ مِنَ الآياتِ الأخِيرَةِ - عَلى أحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ - جَوازُ الصَّدَقَةِ عَلى الكُفّارِ، والمُرادُ الكُفّارُ الَّذِينَ يَخْتَلِطُونَ بِالمُسْلِمِينَ غَيْرَ مُؤْذِينَ لَهم، وهم أهْلُ العَهْدِ وأهْلُ الذِّمَّةِ والجِيرانُ، واتَّفَقَ فُقَهاءُ الإسْلامِ عَلى جَوازِ إعْطاءِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِلْكافِرِينَ، وحِكْمَةُ ذَلِكَ أنَّ الصَّدَقَةَ مِن إغاثَةِ المَلْهُوفِ، والكافِرُ مِن عِبادِ اللَّهِ، ونَحْنُ قَدْ أُمِرْنا بِالإحْسانِ إلى الحَيَوانِ، فَفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: قالُوا: «يا رَسُولَ اللَّهِ، وإنَّ لَنا في البَهائِمِ لَأجْرًا ؟ فَقالَ: في كُلِّ ذِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ» . واتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلى أنَّ الصَّدَقَةَ المَفْرُوضَةَ - أعْنِي الزَّكاةَ - لا تُعْطى لِلْكُفّارِ، وحِكْمَةُ ذَلِكَ أنَّها إنَّما فُرِضَتْ لِإقامَةِ أوَدِ المُسْلِمِينَ ومُواساتِهِمْ، فَهي مالُ الجامِعَةِ الإسْلامِيَّةِ يُؤْخَذُ بِمَقادِيرَ مُعَيَّنَةٍ، فَفِيهِ غِنى المُسْلِمِينَ بِخِلافِ ما يُعْطِيهِ المَرْءُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لِأجْلِ الرَّأْفَةِ والشَّفَقَةِ، واخْتَلَفُوا في صَدَقَةِ الفِطْرِ، فالجُمْهُورُ ألْحَقُوها بِالصَّدَقاتِ المَفْرُوضَةِ، وأبُو حَنِيفَةَ ألْحَقَها بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فَأجازَ إعْطاءَها إلى الكُفّارِ، ولَوْ قِيلَ ذَلِكَ في غَيْرِ زَكاةِ الفِطْرِ كانَ أشْبَهَ، فَإنَّ العِيدَ عِيدُ المُسْلِمِينَ، ولَعَلَّهُ رَآها صَدَقَةَ شُكْرٍ عَلى القُدْرَةِ عَلى الصِّيامِ، فَكانَ المَنظُورُ فِيها حالَ المُتَصَدِّقِ لا حالَ المُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ، وقَوْلُ الجُمْهُورِ أصَحُّ لِأنَّ مَشْرُوعِيَّتَها لِكِفايَةِ فُقَراءِ المُسْلِمِينَ عَنِ المَسْألَةِ في يَوْمِ عِيدِهِمْ، ولِيَكُونُوا في ذَلِكَ اليَوْمِ أوْسَعَ حالًا مِنهم في سائِرِ المُدَّةِ، وهَذا القَدْرُ لا تَظْهَرُ حِكْمَتُهُ في فُقَراءِ الكافِرِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب