الباحث القرآني

﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهم ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ اخْتَلَفَ النَّقْلُ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، ومَضْمُونُها أنَّ مَن أسْلَمَ كَرِهَ أنْ يَتَصَدَّقَ عَلى قَرِيبِهِ المُشْرِكِ، أوْ عَلى المُشْرِكِينَ، أوْ نَهاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ، أوِ امْتَنَعَ هو مِن ذَلِكَ، وقَدْ سَألَهُ يَهُودِيٌّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وظاهِرُ الهُدى أنَّهُ مُقابِلُ الضَّلالِ، وهو مَصْدَرٌ مُضافٌ لِلْمَفْعُولِ، أيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ أنْ تَهْدِيَهم، أيْ: خَلْقَ الهُدى في قُلُوبِهِمْ، وأمّا الهُدى بِمَعْنى الدُّعاءِ فَهو عَلَيْهِ، ولَيْسَ بِمُرادٍ هُنا، وفي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ وهو نَظِيرُ: ﴿إنْ عَلَيْكَ إلّا البَلاغُ﴾ [الشورى: ٤٨] فالمَعْنى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدى مَن خالَفَكَ حَتّى تَمْنَعَهُ الصَّدَقَةَ لِأجْلِ أنْ يَدْخُلُوا في الإسْلامِ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، (هُداهم) لَيْسَ إلَيْكَ. وجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنا الهُدى لَيْسَ مُقابِلًا لِلضَّلالِ الَّذِي يُرادُ بِهِ الكُفْرُ، فَقالَ: لا يَجِبُ عَلَيْكَ أنْ تَجْعَلَهم مَهْدِيِّينَ إلى الِانْتِهاءِ عَمّا نُهُوا عَنْهُ مِنَ المَنِّ والأذى والإنْفاقِ مِنَ الخَبِيثِ وغَيْرِهِ، وما عَلَيْكَ إلّا أنْ تُبَلِّغَهُمُ النَّواهِيَ فَحَسْبُ، ويُبْعِدُ ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُهُ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ فَظاهِرُهُ أنَّهُ يُرادُ بِهِ هُدى الإيمانِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْلُهُ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ تَلَطُفٌ بِمَن يَعْلَمُ أنَّ اللُّطْفَ يَنْفَعُ فِيهِ، فَيَنْتَهِي عَمّا نُهِيَ عَنْهُ، انْتَهى، فَلَمْ يَحْمِلِ الهُدى في المَوْضِعَيْنِ عَلى الإيمانِ المُقابِلِ لِلضَّلالِ، وإنَّما حَمَلَهُ عَلى هُدًى خاصٍّ، وهو خِلافُ الظّاهِرِ، كَما قُلْنا. وقِيلَ: الهِدايَةُ هُنا الغِنى أيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ أنْ تُغْنِيَهم، وإنَّما عَلَيْكَ أنْ تُواسِيَهم، فَإنَّ اللَّهَ يُغْنِي مَن يَشاءُ. وتَسْمِيَةُ الغِنى هِدايَةٌ، عَلى طَرِيقَةِ العَرَبِ مِن نَحْوِ قَوْلِهِمْ: رَشَدْتُ واهْتَدَيْتُ، لِمَن ظَفِرَ، وغَوَيْتُ لِمَن خابَ وخَسِرَ، وعَلى هَذا قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَمَن يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ النّاسُ أمْرَهُ ومَن يَغْوِ لا يَعْدَمُ عَلى الغَيِّ لائِمًا وتَفْسِيرُ الهُدى بِالغِنى أبْعَدُ مِن تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وفي قَوْلِهِ: (هُداهم) طِباقٌ مَعْنَوِيٌّ، إذِ المَعْنى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدى الضّالِّينَ، وظاهِرُ الخِطابِ في: لَيْسَ عَلَيْكَ، أنَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ، وفي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَهُ ﷺ . ومُناسَبَةُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الجُمْلَةِ بِما قَبْلَها أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ تَعالى قَوْلَهُ: ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشاءُ﴾ [البقرة: ٢٦٩] الآيَةَ اقْتَضى أنْهُ لَيْسَ كُلُّ أحَدٍ آتاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ، فانْقَسَمَ النّاسُ مِن مَفْهُومِ هَذا إلى قِسْمَيْنِ: مَن آتاهُ (p-٣٢٧)اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهو يَعْمَلُ بِها، ومَن لَمْ يُؤْتِهِ إيّاها فَهو يَخْبِطُ عَشْواءً في الضَّلالِ، فَنَبَّهَ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّ هَذا القِسْمَ لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهم، بَلِ الهِدايَةُ وإيتاءُ الحِكْمَةِ إنَّما ذَلِكَ إلى اللَّهِ تَعالى، لِيَتَسَلّى بِذَلِكَ في كَوْنِ هَذا القِسْمِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ السَّعادَةُ الأبَدِيَّةُ، ولِيُنَبِّهَ عَلى أنَّهم وإنْ لَمْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ، تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ، وقِيلَ: المَعْنى في: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ﴾ هو لَيْسَ عَلَيْكَ أنْ تُلْجِئَهم إلى الهُدى بِواسِطَةِ أنْ تَقِفَ صَدَقَتَكَ عَلى إيمانِهِمْ، فَإنَّ مِثْلَ هَذا الإيمانِ لا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، بَلِ المَطْلُوبُ مِنهُمُ الإيمانُ عَلى سَبِيلِ الطَّوْعِ والِاخْتِيارِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ رَدٌّ عَلى القَدَرِيَّةِ، وتَجْنِيسٌ مُغايِرٌ إذْ: هُداهُمُ اسْمٌ، ويَهْدِي فِعْلٌ. ﴿وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ فَلِأنْفُسِكُمْ﴾ أيْ: فَهو لِأنْفُسِكم، لا يَعُودُ نَفْعُهُ ولا جَدْواهُ إلّا عَلَيْكم، فَلا تَمَنُّوا بِهِ، ولا تُؤْذُوا الفُقَراءَ، ولا تُبالُوا بِمَن صادَفْتُمْ مِن مُسْلِمٍ أوْ كافِرٍ، فَإنَّ ثَوابَهُ إنَّما هو لَكم، وقالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَعْنى فَلِأنْفُسِكم، فَلِأهْلِ دِينِكم، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١] ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] أيْ: أهْلُ دِينِكم، نَبَّهَ عَلى أنَّ حُكْمَ الفَرْضِ مِنَ الصَّدَقَةِ بِخِلافِ حُكْمِ التَّطَوُّعِ، فَإنَّ الفَرْضَ لِأهْلِ دِينِكم دُونَ الكُفّارِ، وحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ أنَّهُ كانَ يَصْنَعُ كَثِيرًا مِنَ المَعْرُوفِ، ثُمَّ يَحْلِفُ أنَّهُ ما فَعَلَ مَعَ أحَدٍ خَيْرًا قَطُّ، فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ، فَقالَ: إنَّما فَعَلْتُ مَعَ نَفْسِي، ويَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ - أنَّهُ كانَ يَقُولُ: ما أحْسَنْتُ إلى أحَدٍ قَطُّ، ولا أسَأْتُ لَهُ ثُمَّ يَتْلُو: ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأنْفُسِكم وإنْ أسَأْتُمْ فَلَها﴾ [الإسراء: ٧] . ﴿وما تُنْفِقُونَ إلّا ابْتِغاءَ وجْهِ اللَّهِ﴾ أيْ: وما تُنْفِقُونَ النَّفَقَةَ المُعْتَدَّ لَكم قَبُولُها إلّا ما كانَ إنْفاقُهُ لِابْتِغاءِ وجْهِ اللَّهِ، فَإذا عَرِيَتْ مِن هَذا القَصْدِ فَلا يُعْتَدُّ بِها، فَهَذا خَبَرُ شَرْطٍ فِيهِ مَحْذُوفٍ أيْ: وما تُنْفِقُونَ النَّفَقَةَ المُعْتَدَّةَ القَبُولَ، فَيَكُونُ هَذا الخِطابُ لِلْأُمَّةِ، وقِيلَ: هو خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ أنَّ نَفَقَتَهم أيْ: نَفَقَةَ الصَّحابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، ما وقَعَتْ إلّا عَلى الوَجْهِ المَطْلُوبِ مِنِ ابْتِغاءِ وجْهِ اللَّهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ شَهادَةً لَهم مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ، وتَبْشِيرًا بِقَبُولِها، إذْ قَصَدُوا بِها وجْهَ اللَّهِ تَعالى، فَخَرَجَ هَذا الكَلامُ مَخْرَجَ المَدْحِ والثَّناءِ، فَيَكُونُ هَذا الخِطابُ خاصًّا بِالصَّحابَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولَيْسَتْ نَفَقَتُكم إلّا لِابْتِغاءِ وجْهِ اللَّهِ، ولِطَلَبِ ما عِنْدَهُ، فَما لَكم تَمُنُّونَ بِها وتُنْفِقُونَ الخَبِيثَ الَّذِي لا يُوَجَّهُ مِثْلُهُ إلى اللَّهِ ؟ وهَذا فِيهِ إشارَةٌ إلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ، مِن أنَّ الصَّدَقَةَ وقَعَتْ صَحِيحَةً، ثُمَّ عَرَضَ لَها الإبْطالُ، بِخِلافِ قَوْلِ غَيْرِهِمْ: إنَّ المَنَّ والأذى قارَنَها، وقِيلَ: هو نَفْيُ مَعْناهُ النَّهْيُ، أيْ: ولا تُنْفِقُوا إلّا ابْتِغاءَ وجْهِ اللَّهِ، ومَجازُهُ أنَّهُ لَمّا نَهى عَنْ أنْ يَقَعَ الإنْفاقُ إلّا لِوَجْهِ اللَّهِ، حَصَلَ الِامْتِثالُ، وإذا حَصَلَ الِامْتِثالُ، فَلا يَقَعُ الإنْفاقُ إلّا لِابْتِغاءِ وجْهِ اللَّهِ، فَعَبَّرَ عَنِ النَّهْيِ بِالنَّفْيِ لِهَذا المَعْنى، وانْتِصابُ (ابْتِغاءَ) عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، وقِيلَ: هو مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ تَقْدِيرُهُ: مُبْتَغِينَ، وعَبَّرَ بِالوَجْهِ عَنِ الرِّضا، كَما قالَ: ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ، وذَلِكَ عَلى عادَةِ العَرَبِ، وتَنَزُّهِ اللَّهِ عَنِ الوَجْهِ بِمَعْنى الجارِحَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نِسْبَةِ الوَجْهِ إلى اللَّهِ في قَوْلِهِ: ﴿فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٥] مُسْتَوْفًى، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ. ﴿وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكُمْ﴾ أيْ: يُوَفَّرُ عَلَيْكم جَزاؤُهُ مُضاعَفًا، وفي هَذا، وفِيما قَبْلَهُ، قَطْعُ عُذْرِهِمْ في عَدَمِ الإنْفاقِ، إذِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ هو لَهم حَيْثُ يَكُونُونَ مُحْتاجِينَ إلَيْهِ، فَيُوَفُّونَهُ كامِلًا مُوَفَّرًا، فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ إنْفاقُهم عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ وأفْضَلِها، وقَدْ جاءَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويُرْبِي الصَّدَقاتِ﴾ [البقرة: ٢٧٦] وقَوْلُهُ ﷺ في حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ: «إذا تَصَدَّقَ العَبْدُ بِالصَّدَقَةِ وقَعَتْ في يَدِ اللَّهِ قَبْلَ أنْ تَقَعَ في يَدِ السّائِلِ، فَيُرَبِّيها لِأحَدِكم كَما يُرَبِّي أحَدُكم فَلْوَهُ، أوْ فَصِيلَهُ، حَتّى إنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ» . والضَّمِيرُ في (يُوَفَّ) عائِدٌ عَلى: ما (p-٣٢٨)ومَعْنى تَوْفِيَتُهُ: إجْزالُ ثَوابِهِ. ﴿وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، العامِلُ فِيها ﴿يُوَفَّ﴾ والمَعْنى: أنَّكم لا تُنْفِقُونَ شَيْئًا مِن ثَوابِ إنْفاقِكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب