الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِن طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ومِمّا أخْرَجْنا لَكم مِن الأرْضِ ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنْفِقُونَ ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلا أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ واعْلَمُوا أنْ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ هَذا الخِطابُ هو لِجَمِيعِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وهَذِهِ صِيغَةُ أمْرٍ مِنَ الإنْفاقِ. واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ - هَلِ المُرادُ بِهَذا الإنْفاقِ الزَكاةُ المَفْرُوضَةُ أوِ التَطَوُّعُ؟ فَقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وعُبَيْدَةُ السَلْمانِيُّ، ومُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: هي في الزَكاةِ المَفْرُوضَةِ - نَهى الناسَ عن إنْفاقِ الرَدِيءِ فِيها بَدَلَ الجَيِّدِ، وأمّا التَطَوُّعُ فَكَما لِلْمَرْءِ أنْ يَتَطَوَّعَ بِقَلِيلٍ فَكَذَلِكَ لَهُ أنْ يَتَطَوَّعَ بِنازِلٍ في القَدْرِ، ودِرْهَمٌ زائِفٌ خَيْرٌ مِن تَمْرَةٍ، فالأمْرُ عَلى هَذا القَوْلِ لِلْوُجُوبِ. (p-٧٢)والظاهِرُ مِن قَوْلِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ، والحَسَنِ بْنِ أبِي الحَسَنِ، وقَتادَةَ أنَّ الآيَةَ في التَطَوُّعِ. ورَوى البَراءُ بْنُ عازِبٍ وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ ما مَعْناهُ «أنَّ الأنْصارَ كانُوا أيّامَ الجِدادِ يُعَلِّقُونَ أقْناءَ التَمْرِ في حَبْلٍ بَيْنَ أُسْطُوانَتَيْنِ في المَسْجِدِ، فَيَأْكُلُ مِن ذَلِكَ فُقَراءُ المُهاجِرِينَ، فَعَلَّقَ رَجُلٌ حَشَفًا فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقالَ: "بِئْسَ ما عَلَّقَ هَذا"، فَنَزَلَتِ الآيَةُ،» والأمْرُ عَلى هَذا القَوْلِ لِلنَّدْبِ، وكَذَلِكَ نُدِبُوا إلى ألّا يَتَطَوَّعُوا إلّا بِجَيِّدٍ مُخْتارٍ. والآيَةُ تَعُمُّ الوَجْهَيْنِ لَكِنَّ صاحِبَ الزَكاةِ يَتَلَقّاها عَلى الوُجُوبِ، وصاحِبَ التَطَوُّعِ يَتَلَقّاها عَلى النَدْبِ. وهَؤُلاءِ كُلُّهم وجُمْهُورُ المُتَأوِّلِينَ قالُوا: مَعْنى "مِن طَيِّباتِ": مِن جَيِّدِ ومُخْتارِ ما كَسَبْتُمْ، وجَعَلُوا الخَبِيثَ بِمَعْنى الرَدِيءِ والرَذالَةِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْناهُ: مِن حَلالِ ما كَسَبْتُمْ قالَ: وقَوْلُهُ: "وَلا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ" أيِ الحَرامَ، وقَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ: لَيْسَ بِالقَوِيِّ مِن جِهَةِ نَسَقِ الآيَةِ، لا مِن مَعْناهُ في نَفْسِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿مِن طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ﴾، يُحْتَمَلُ أنْ لا يَقْصِدَ بِهِ لا الجَيِّدَ ولا الحَلالَ، لَكِنْ يَكُونُ المَعْنى كَأنَّهُ قالَ: أنْفِقُوا مِمّا كَسَبْتُمْ، فَهو حَضٌّ عَلى الإنْفاقِ فَقَطْ، ثُمَّ دَخَلَ ذِكْرُ الطَيِّبِ تَبْيِينًا لِصِفَةٍ حَسَنَةٍ في المَكْسُوبِ عامًّا، وتَقْرِيرًا لِلنِّعْمَةِ، كَما تَقُولُ: أطْعَمْتُ فُلانًا مِن مُشْبَعِ الخُبْزِ، وسَقَيْتُهُ مِن مَرْوِيِّ الماءِ، والطَيِّبُ عَلى هَذا الوَجْهِ يَعُمُّ الجَوْدَةَ والحِلَّ، (p-٧٣)وَيُؤَيِّدُ هَذا الِاحْتِمالَ أنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُغَفَّلٍ قالَ: "لَيْسَ في مالِ المُؤْمِنِ خَبِيثٌ". و"كَسَبْتُمْ" مَعْناهُ: كانَتْ لَكم فِيهِ سِعايَةٌ، إمّا بِتَعَبِ بَدَنٍ أو مُقاوَلَةٍ في تِجارَةٍ. والمَوْرُوثُ داخِلٌ في هَذا، لِأنَّ غَيْرَ الوارِثِ قَدْ كَسَبَهُ إذِ الضَمِيرُ في "كَسَبْتُمْ" إنَّما هو لِنَوْعِ الإنْسانِ أوِ المُؤْمِنِينَ. ﴿وَمِمّا أخْرَجْنا لَكم مِنَ الأرْضِ﴾ النَباتاتُ والمَعادِنُ والرِكازُ وما ضارَعَ ذَلِكَ. و"تَيَمَّمُوا" تَعْمِدُوا وتَقْصِدُوا، يُقالُ: تَيَمَّمَ الرَجُلُ كَذا وكَذا إذا قَصَدَهُ، ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎ تَيَمَّمَتِ العَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضارِجٍ ∗∗∗ يَفِيءُ عَلَيْها الظِلُّ عَرْمَضَها طامِي ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎ تَيَمَّمْتَ قَيْسًا وكَمْ دُونَهُ ∗∗∗ ∗∗∗ مِنَ الأرْضِ مِن مَهْمَهٍ ذِي شَزَنْ (p-٧٤)وَمِنهُ التَيَمُّمُ الَّذِي هو البَدَلُ مِنَ الوُضُوءِ عِنْدَ عَدَمِ الماءِ، وهَكَذا قَرَأ جُمْهُورُ الناسِ. ورَوى البَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ تَشْدِيدَ التاءِ في أحَدٍ وثَلاثِينَ مَوْضِعًا أوَّلُها هَذا الحَرْفُ. وحَكى الطَبَرِيُّ أنَّ في قِراءَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "وَلا تَأْمَمُوا الخَبِيثَ" مِن أمَمْتُ إذا قَصَدْتُ، ومِنهُ إمامُ البِناءِ، والمَعْنى في القِراءَتَيْنِ واحِدٌ. وقَرَأ الزُهْرِيُّ، ومُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ: "وَلا تُيَمِّمُوا" بِضَمِّ التاءِ وكَسْرِ المِيمِ، وهَذا عَلى لُغَةِ مَن قالَ: يَمَّمْتُ الشَيْءَ، بِمَعْنى قَصَدْتُهُ. وفِي اللَفْظِ لُغاتٌ مِنها: أمَمْتُ الشَيْءَ خَفِيفَةُ المِيمِ الأُولى، وأمَّمْتُ بِشَدِّها، ويَمَّمْتُهُ وتَيَمَّمْتُهُ. وحَكى أبُو عَمْرٍو أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأ "وَلا تُؤَمِّمُوا" بِهَمْزَةٍ بَعْدَ التاءِ، وهَذِهِ عَلى لُغَةِ مَن قالَ: أمَّمْتُ مُثْقَلَةَ المِيمِ، وقَدْ مَضى القَوْلُ في مَعْنى الخَبِيثِ. وقالَ الجُرْجانِيُّ ( في كِتابِ نَظْمِ القُرْآنِ ): قالَ فَرِيقٌ مِنَ الناسِ: إنَّ الكَلامَ تَمَّ في قَوْلِهِ: "الخَبِيثَ". ثُمَّ ابْتَدَأ خَبَرًا آخَرَ في وصْفِ الخَبِيثِ فَقالَ: "مِنهُ تُنْفِقُونَ" وأنْتُمْ لا تَأْخُذُونَهُ إلّا إذا أغْمَضْتُمْ، أيْ ساهَلْتُمْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: كَأنَّ هَذا المَعْنى عِتابٌ لِلنّاسِ وتَقْرِيعٌ. والضَمِيرُ في "مِنهُ" عائِدٌ عَلى "الخَبِيثَ". قالَ الجُرْجانِيُّ: وقالَ فَرِيقٌ آخَرُ: بَلِ الكَلامُ مُتَّصِلٌ إلى قَوْلِهِ: "فِيهِ" فالضَمِيرُ في "مِنهُ" عائِدٌ عَلى "ما كَسَبْتُمْ" ويَجِيءُ "تُنْفِقُونَ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ وهو كَقَوْلِهِ: أنا أخْرُجُ أُجاهِدُ في سَبِيلِ اللهِ. (p-٧٥)واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلا أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ فَقالَ البَراءُ بْنُ عازِبٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، والضَحّاكُ، وغَيْرُهُمْ: مَعْناهُ: ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ في دُيُونِكم وحُقُوقِكم عِنْدَ الناسِ إلّا بِأنْ تَساهَلُوا في ذَلِكَ، وتَتْرُكُوا مِن حُقُوقِكُمْ، وتَكْرَهُونَهُ ولا تَرْضَوْنَهُ، أيْ فَلا تَفْعَلُوا مَعَ اللهِ ما لا تَرْضَوْنَهُ لِأنْفُسِكُمْ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: مَعْنى الآيَةِ: "وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ وجَدْتُمُوهُ في السُوقِ يُباعُ إلّا أنْ يُهْضَمَ لَكم مِن ثَمَنِهِ". ورُوِيَ نَحْوُهُ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: وهَذانِ القَوْلانِ يُشْبِهانِ كَوْنَ الآيَةِ في الزَكاةِ الواجِبَةِ، وقالَ البَراءُ بْنُ عازِبٍ أيْضًا: مَعْناهُ ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ أُهْدِيَ لَكم إلّا أنْ تُغْمِضُوا، أيْ تَسْتَحْيُوا مِنَ المُهْدِي فَتَقْبَلُوا مِنهُ ما لا حاجَةَ لَكم فِيهِ، ولا قَدْرَ لَهُ في نَفْسِهِ، وهَذا يُشْبِهُ كَوْنَ الآيَةِ في التَطَوُّعِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنى الآيَةِ: ولَسْتُمْ بِآخِذِي الحَرامِ إلّا أنْ تُغْمِضُوا في مَكْرُوهِهِ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ "إلّا أنْ تُغْمِضُوا" بِضَمِّ التاءِ، وسُكُونِ الغَيْنِ، وكَسْرِ المِيمِ. وقَرَأ الزُهْرِيُّ بِفَتْحِ التاءِ، وكَسْرِ المِيمِ مُخَفَّفًا، ورُوِيَ عنهُ أيْضًا "تُغَمِّضُوا" بِضَمِّ التاءِ وفَتْحِ الغَيْنِ وكَسْرِ المِيمِ مُشَدَّدَةً. وحَكى مَكِّيٌّ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ: "تُغَمَّضُوا" مُشَدَّدَةَ المِيمِ مَفْتُوحَةً، وقَرَأ قَتادَةُ بِضَمِّ التاءِ وسُكُونِ الغَيْنِ وفَتْحِ المِيمِ مُخَفَّفًا، قالَ أبُو عَمْرٍو: مَعْناهُ: إلّا أنْ يُغْمَضَ لَكم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: هَذِهِ اللَفْظَةُ تُنْتَزَعُ إمّا مِن قَوْلِ العَرَبِ: أغْمَضَ الرَجُلُ في أمْرِ كَذا إذا تَساهَلَ فِيهِ، ورَضِيَ بِبَعْضِ حَقِّهِ وتَجاوَزَ، فَمِن ذَلِكَ قَوْلُ الطِرِمّاحِ بْنِ حَكِيمٍ: ؎ لَمْ يَفُتْنا بِالوَتْرِ قَوْمٌ ولِلضَّـ ∗∗∗ ـيْـمِ أُناسٌ يَرْضَوْنَ بِالإغْماضِ (p-٧٦)وَإمّا أنْ تُنْتَزَعَ مِن تَغْمِيضِ العَيْنِ، لِأنَّ الَّذِي يُرِيدُ الصَبْرَ عَلى مَكْرُوهٍ يُغْمِضُ عنهُ عَيْنَيْهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ إلى كَمْ وكَمْ أشْياءَ مِنكم تُرِيبُنِي ∗∗∗ ∗∗∗ أُغَمِّضُ عنها لَسْتُ عنها بِذِي عَمى؟ وهَذا كالإغْضاءِ عِنْدَ المَكْرُوهِ، وقَدْ ذَكَرَ النَقّاشُ هَذا المَعْنى في هَذِهِ الآيَةِ، وأشارَ إلَيْهِ مَكِّيٌّ - وإمّا مِن قَوْلِ العَرَبِ: أغْمَضَ الرَجُلُ إذا أتى غامِضًا مِنَ الأمْرِ، كَما تَقُولُ: أعْمَنَ إذا أتى عَمّانَ، وأعْرَقَ إذا أتى العِراقَ، وأنْجَدَ وأغْوَرَ إذا أتى نَجْدًا، والغَوْرَ الَّذِي هو تِهامَةُ، ومِنهُ قَوْلُ الجارِيَةِ: "وَإنْ دَسَرَ أغْمَضَ". فَقِراءَةُ الجُمْهُورِ تُخَرَّجُ: عَلى التَجاوُزِ، وعَلى تَغْمِيضِ العَيْنِ، لِأنَّ أغْمَضَ بِمَنزِلَةِ غَمُضَ، وعَلى أنَّها بِمَعْنى حَتّى تَأْتُوا غامِضًا مِنَ التَأْوِيلِ والنَظَرِ في أخْذِ ذَلِكَ، إمّا لِكَوْنِهِ حَرامًا عَلى قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ، وإمّا لِكَوْنِهِ مُهْدىً أو مَأْخُوذًا في دَيْنٍ عَلى قَوْلِ غَيْرِهِ. وأمّا قِراءَةُ الزُهْرِيِّ الأُولى فَمَعْناها: تَهْضِمُوا سَوْمَها مِنَ البائِعِ مِنكم فَيُحِطْكُمْ، قالَ أبُو عَمْرٍو مَعْنى قِراءَتَيِ الزُهْرِيِّ: حَتّى تَأْخُذُوا بِنُقْصانٍ، وأمّا قِراءَتُهُ الثانِيَةُ فَهَذا مَذْهَبُ أبِي عَمْرٍو الدانِي فِيها، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن تَغْمِيضِ العَيْنِ. وأمّا قِراءَةُ قَتادَةَ فَقَدْ ذَكَرْتُ تَفْسِيرَ أبِي عَمْرٍو لَها، وقالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: مَعْناها: تُوجَدُوا قَدْ غُمِّضْتُمْ في الأمْرِ بِتَأوُّلِكُمْ، أو بِتَساهُلِكُمْ، وجَرَيْتُمْ عَلى غَيْرِ السابِقِ إلى النُفُوسِ، وهَذا كَما تَقُولُ: أحْمَدْتُ الرَجُلَ، وجَدْتُهُ مَحْمُودًا، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأمْثِلَةِ. ثُمَّ نَبَّهَ تَعالى عَلى صِفَةِ الغِنى، أيْ لا حاجَةَ بِهِ إلى صَدَقاتِكُمْ، فَمَن تَقَرَّبَ وطَلَبَ مَثُوبَةً فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ بِمالِهِ قَدْرٌ، و"حَمِيدٌ" مَعْناهُ: مَحْمُودٌ في كُلِّ حالٍ، وهي صِفَةُ ذاتٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب