الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِن طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ومِمّا أخْرَجْنا لَكم مِنَ الأرْضِ ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنْفِقُونَ ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلّا أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ ﴿الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكم بِالفَحْشاءِ واللَّهُ يَعِدُكم مَغْفِرَةً مِنهُ وفَضْلًا واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٦٨] ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشاءُ ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وما يَذَّكَّرُ إلّا أُولُو الألْبابِ﴾ [البقرة: ٢٦٩] ﴿وما أنْفَقْتُمْ مِن نَفَقَةٍ أوْ نَذَرْتُمْ مِن نَذْرٍ فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ [البقرة: ٢٧٠] ﴿إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هي وإنْ تُخْفُوها وتُؤْتُوها الفُقَراءَ فَهو خَيْرٌ لَكم ويُكَفِّرُ عَنْكم مِن سَيِّئاتِكم واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٧١] ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهم ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ فَلِأنْفُسِكم وما تُنْفِقُونَ إلّا ابْتِغاءَ وجْهِ اللَّهِ وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكم وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٧٢] ﴿لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا في الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهم بِسِيماهم لا يَسْألُونَ النّاسَ إلْحافًا وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ فَإنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٧٣] التَّيَمُّمُ: القَصْدُ، يُقالُ: أمَّ كَرَدَّ، وأُمَمٌ كَأُخَرَ، وتَيَمَّمَ بِالتّاءِ والياءِ، وتَأمَّمَ بِالتّاءِ والهَمْزَةِ، وكُلُّها بِمَعْنًى. وقالَ الخَلِيلُ: أمَمْتُهُ قَصَدْتُ أمامَهُ، ويَمَّمْتُهُ قَصَدْتُهُ مِن أيِّ جِهَةٍ كانَتْ. (الخَبِيثَ) الرَّدِيءَ، وهو ضِدُّ الطَّيِّبِ اسْمُ فاعِلٍ مِن خَبُثَ. الإغْماضُ: التَّساهُلُ، يُقالُ: أغْمَضَ في حَقِّهِ تَساهَلَ فِيهِ ورَضِيَ بِهِ، والإغْماضُ تَغْمِيضُ العَيْنِ، وهو كالإغْضاءِ، وأغْمَضَ الرَّجُلُ أتى غامِضًا مِنَ الأمْرِ، كَما يُقالُ: أعْمَنَ وأعْرَقَ وأنْجَدَ أيْ: أتى عُمانَ والعِراقَ ونَجْدًا، وأصْلُ هَذِهِ الكَلِمَةِ مِنَ الغُمُوضِ وهو: الخَفاءُ، غَمَضَ الشَّيْءُ يَغْمُضُ غُمُوضًا خَفِيَ، وإطْباقُ الجَفْنِ إخْفاءٌ لِلْعَيْنِ، والغَمْضُ المُتَطامِنُ الخَفِيُّ مِنَ الأرْضِ. الحَمِيدُ: المَحْمُودُ، فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، ولا يَنْقاسُ، وتَقَدَّمَتْ أقْسامُ فَعِيلٍ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وتَفْسِيرُ الحَمْدِ في أوَّلِ سُورَتِهِ. النَّذْرُ: تَقَدَّمَتْ مادَّتُهُ في قَوْلِهِ: ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ [البقرة: ٦] وهو عَقْدُ الإنْسانِ ضَمِيرَهُ عَلى فِعْلِ شَيْءٍ والتِزامِهِ، وأصْلُهُ مِنَ الخَوْفِ، والفِعْلُ مِنهُ نَذَرَ يَنْذِرُ ويَنْذُرُ، بِضَمِّ الذّالِ وكَسْرِها، وكانَتِ النُّذُورُ مِن سِيرَةِ العَرَبِ يُكْثِرُونَ مِنها فِيما يَرْجُونَ وُقُوعَهُ، وكانُوا أيْضًا يَنْذُرُونَ قَتْلَ أعْدائِهِمْ كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎الشّاتِمِي عِرْضِي، ولَمْ أشْتِمْهُما والنّاذِرَيْنِ إذا لَقِيتُهُما دَمِي (p-٣١٦)وأمّا عَلى ما يَنْطَلِقُ شَرْعًا فَسَيَأْتِي بَيانُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ. (نِعِمَّ): أصْلُها نِعْمَ، وهي مُقابِلَةُ بِئْسَ، وأحْكامُها مَذْكُورَةٌ في النَّحْوِ، وتَقَدَّمَ القَوْلُ في: بِئْسَ، في قَوْلِهِ: ﴿بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ [البقرة: ٩٠] . التَّعَفُّفُ: تَفَعُّلٌ مِنَ العِفَّةِ، عَفَّ عَنِ الشَّيْءِ أمْسَكَ عَنْهُ، وتَنَزَّهَ عَنْ طَلَبِهِ، مَن عَشِقَ فَعَفَّ فَماتَ ماتَ شَهِيدًا، أيْ: كَفَّ عَنْ مَحارِمِ اللَّهِ تَعالى، وقالَ رُؤْبَةُ بْنُ العَجّاجِ: ؎فَعَفَّ عَنْ أسْرارِها بَعْدَ الغَسَقِ ∗∗∗ ولَمْ يَدَعْها بَعْدَ فَرْكٍ وعِشْقِ السِّيما: العَلامَةُ، ويُمَدُّ، ويُقالُ: بِالسِّيمْياءِ، كالكِيمْياءِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎غُلامٌ رَماهُ اللَّهُ بِالحُسْنِ يافِعًا ∗∗∗ لَهُ سِيمْياءُ لا تَشُقُّ عَلى البَصَرِ وهُوَ مِنَ الوَسْمِ، والسِّمَةُ العَلامَةُ، جُعِلَتْ فاؤُهُ مَكانَ عَيْنِهِ، وعَيْنُهُ مَكانَ فائِهِ، وإذا مُدَّ: سِيمْياءُ، فالهَمْزَةُ فِيهِ لِلْإلْحاقِ لا لِلتَّأْنِيثِ. الإلْحافُ: الإلْحاحُ واللَّجاجُ في السُّؤالِ، ويُقالُ: ألْحَفَ وأحْفى، واشْتِقاقُ الإلْحافِ، مِنَ اللِّحافِ؛ لِأنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلى وُجُوهِ الطَّلَبِ في كُلِّ حالٍ، وقِيلَ: مِن ألْحَفَ الشَّيْءُ إذا غَطّاهُ وعَمَّهُ بِالتَّغْطِيَةِ، ومِنهُ اللِّحافُ، ومِنهُ قَوْلُ ابْنِ أحْمَرَ: ؎يَظَلُّ يَحُفُّهُنَّ بِقَفْقَفَيْهِ ∗∗∗ ويُلْحِفْهُنَّ هَفْهافًا ثَخِينا يَصِفُ ذَكَرَ النَّعامِ يَحْضُنَّ بَيْضًا بِجَناحَيْهِ، ويَجْعَلُ جَناحَهُ كاللِّحافِ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎ثُمَّ راحُوا عَبِقَ المِسْكُ بِهِمْ ∗∗∗ يُلْحِفُونَ الأرْضَ هُدّابَ الأُزُرْ أيْ: يَجْعَلُونَها كاللِّحافِ لِلْأرْضِ، أيْ يُلْبِسُونَها إيّاها، وقِيلَ: اشْتِقاقُهُ مِن لَحَفَ الجَبَلُ لِما فِيهِ مِنَ الخُشُونَةِ، وقِيلَ: مِن قَوْلِهِمْ: لَحَّفَنِي مِن فَضْلِ لِحافِهِ، أيْ: أعْطانِي مِن فَضْلِ ما عِنْدَهُ. ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِن طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ﴾ تَظافَرَتِ النُّصُوصُ في الحَدِيثِ عَلى أنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ هو أنَّهم لَمّا أُمِرُوا بِالصَّدَقَةِ كانُوا يَأْتُونَ بِالأقْناءِ مِنَ التَّمْرِ فَيُعَلِّقُونَها في المَسْجِدِ لِيَأْكُلَ مِنها المَحاوِيجُ، فَجاءَ بَعْضُ الصَّحابَةِ بِحَشَفٍ، وفي بَعْضِ الطُّرُقِ بِشِيصٍ، وفي بَعْضِها بِرَدِيءٍ، وهو يَرى أنَّ ذَلِكَ جائِزٌ، فَنَزَلَتْ، وهَذا الخِطابُ بِالأمْرِ بِالإنْفاقِ عامٌّ لِجَمِيعِ هَذِهِ الأُمَّةِ، قالَعَلِيٌّ، وعُبَيْدَةُ السَّلْمانِيُّ، وابْنُ سِيرِينَ: هي في الزَّكاةِ المَفْرُوضَةِ، وأنَّهُ كَما يَجُوزُ التَّطَوُّعُ بِالقَلِيلِ فَلَهُ أنْ يَتَطَوَّعَ بِنازِلٍ في القَدْرِ، ودِرْهَمٌ زائِفٌ خَيْرٌ مِن تَمْرَةٍ، فالأمْرُ عَلى هَذا لِلْوُجُوبِ. والظّاهِرُ مِن قَوْلِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ والحَسَنِ وقَتادَةَ: أنَّها في التَّطَوُّعِ، وهو الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سَبَبُ النُّزُولِ نَدَبُوا إلى أنْ لا يَتَطَوَّعُوا إلّا بِجَيِّدٍ مُخْتارٍ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها هو أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ فَضْلَ النَّفَقَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ وحَثَّ عَلَيْها، وقَبَّحَ المِنَّةَ ونَهى عَنْها، ثُمَّ ذَكَرَ القَصْدَ فِيها مِنَ الرِّياءِ وابْتِغاءِ رِضا اللَّهِ، ذَكَرَ هُنا وصْفَ المُنْفِقِ مِنَ المُخْتارِ، وسَواءٌ كانَ الأمْرُ لِلْوُجُوبِ أوْ لِلنَّدْبِ، والأكْثَرُونَ عَلى أنَّ: ﴿طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ﴾ هو الجَيِّدُ المُخْتارُ، وأنَّ الخَبِيثَ هو الرَّدِيءُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: (مِن طَيِّباتِ) أيْ: الحَلالِ و(الخَبِيثَ) الحَرامَ. وقالَ عَلِيٌّ: هو الذَّهَبُ والفِضَّةُ. وقالَ مُجاهِدٌ: هو أمْوالُ التِّجارَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ: (مِن طَيِّباتِ) يُحْتَمَلُ أنْ لا يُقْصَدَ بِهِ لا الحِلُّ ولا الجَيِّدُ، لَكِنْ يَكُونُ المَعْنى كَأنَّهُ قالَ: أنْفِقُوا مِمّا كَسَبْتُمْ، فَهو حَضٌّ عَلى الإنْفاقِ فَقَطْ، ثُمَّ دَخَلَ ذِكْرُ الطَّيِّبِ تَبْيِينًا لِصِفَةِ حُسْنِهِ في المَكْسُوبِ عامًّا، وتَقْرِيرًا لِلنِّعْمَةِ، كَما تَقُولُ: أطْعَمْتُ فُلانًا مِن مَشْبَعِ الخُبْزِ، وسَقَيْتُهُ مِن مَرْوِيِّ الماءِ، والطَّيِّبُ عَلى هَذِهِ الجِهَةِ يَعُمُّ الجَوْدَةَ والحِلَّ، ويُؤَيِّدُ هَذا الِاحْتِمالَ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ قالَ: لَيْسَ في مالِ المُؤْمِنِ مِن خَبِيثٍ، انْتَهى كَلامُهُ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: (ما كَسَبْتُمْ) عُمُومُ كُلِّ ما حَصَلَ بِكَسْبٍ مِنَ الإنْسانِ المُنْفِقِ، وسِعايَةٍ وتَحْصِيلٍ بِتَعَبٍ بِبَدَنٍ أوْ بِمُقاوَلَةٍ في تِجارَةٍ. وقِيلَ: هو ما اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ المُلْكُ مِن حادِثٍ أوْ قَدِيمٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ المالُ المَوْرُوثُ؛ لِأنَّهُ مَكْسُوبٌ لِلْمَوْرُوثِ عَنْهُ، والضَّمِيرُ في (كَسَبْتُمْ) إنَّما هو لِنَوْعِ الإنْسانِ أوِ المُؤْمِنِينَ، وهو الظّاهِرُ. وقالَ الرّاغِبُ: (p-٣١٧)تَخْصِيصُ المُكْتَسَبِ دُونَ المَوْرُوثِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ بِما يَكْتَسِبُهُ أضَنُّ بِهِ مِمّا يَرِثُهُ، فَإذْنُ المَوْرُوثِ مَعْقُولٌ مِن فَحْواهُ، انْتَهى. وهو حَسَنٌ. و(مِن) لِلتَّبْعِيضِ، وهي في مَوْضِعِ المَفْعُولِ، و(ما) في (ما كَسَبْتُمْ) مَوْصُولَةٌ والعائِدُ مَحْذُوفٌ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَيُحْتاجُ أنْ يَكُونَ المَصْدَرُ مُؤَوَّلًا بِالمَفْعُولِ، تَقْدِيرُهُ: مِن طَيِّباتِ كَسْبِكم، أيْ: مَكْسُوبِكم، وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الأمْرَ بِالإنْفاقِ عامٌّ في جَمِيعِ أصْنافِ الأمْوالِ الطَّيِّبَةِ، مُجْمَلٌ في المِقْدارِ الواجِبِ فِيها، مُفْتَقِرٌ إلى البَيانِ بِذِكْرِ المَقادِيرِ، فَيَصِحُّ الاحْتِجاجُ بِها في إيجابِ الحَقِّ فِيما وقَعَ الخِلافُ فِيهِ، نَحْوُ: أمْوالِ التِّجارَةِ، وصَدَقَةِ الخَيْلِ، وزَكاةِ مالِ الصَّبِيِّ، والحُلِيِّ المُباحِ اللَّبْسِ غَيْرِ المُعَدِّ لِلتِّجارَةِ، والعُرُوضِ، والغَنَمِ، والبَقَرِ المَعْلُوفَةِ، والدَّيْنِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا اخْتُلِفَ فِيهِ. وقالَ خُوَيْزُ مِندادُ: في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ أكْلِ الوالِدِ مِن مالِ الوَلَدِ، وذَلِكَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «أوْلادُكم مِن طِيبِ أكْسابِكم فَكُلُوا مَن مالَ أوْلادِكم هَنِئًا» انْتَهى. ورَوَتْ عائِشَةُ عَنْهُ ﷺ: «إنَّ أطْيَبَ ما أكَلَ الرَّجُلُ مِن كَسْبِهِ وإنَّ ولَدَهُ مِن كَسْبِهِ» . ﴿ومِمّا أخْرَجْنا لَكم مِنَ الأرْضِ﴾ يَعْنِي مِن أنْواعِ الحُبُوبِ والثِّمارِ والمَعادِنِ والرِّكازِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿أخْرَجْنا لَكُمْ﴾ امْتِنانٌ وتَنْبِيهٌ عَلى الإحْسانِ التّامِّ كَقَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] والمُرادُ: مِن طَيِّباتِ ما أخْرَجْنا، فَحُذِفَ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وكَرَّرَ حَرْفَ الجَرِّ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، أوْ إشْعارًا بِتَقْدِيرِ عامِلٍ آخَرَ، حَتّى يَكُونَ الأمْرُ مَرَّتَيْنِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿ومِمّا أخْرَجْنا لَكم مِنَ الأرْضِ﴾ دَلالَةٌ عَلى وُجُوبِ الزَّكاةِ فِيما تُخْرِجُهُ الأرْضُ مِن قَلِيلٍ وكَثِيرٍ مِن سائِرِ الأصْنافِ لِعُمُومِ الآيَةِ، إذْ قُلْنا إنَّ الأمْرَ لِلْوُجُوبِ، وبَيْنَ العُلَماءِ خِلافٌ في مَسائِلَ كَثِيرَةٍ مِمّا أخْرَجَتِ الأرْضُ تُذْكَرُ في كُتُبِ الفِقْهِ. ﴿ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنْفِقُونَ﴾ هَذا مُؤَكِّدٌ لِلْأمْرِ، إذْ هو مَفْهُومٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿أنْفِقُوا مِن طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ﴾ وفي هَذا طِباقٌ بِذِكْرِ الطَّيِّباتِ والخَبِيثِ، وقَرَأ البَزِّيُّ: ﴿ولا تَيَمَّمُوا﴾ بِتَشْدِيدِ التّاءِ، أصْلُهُ: تَتَيَمَّمُوا، فَأدْغَمَ التّاءَ في التّاءِ، وذَلِكَ في مَواضِعَ مِنَ القُرْآنِ، وقَدْ حَصَرْتُها في قَصِيدَتِي في القِراءاتِ المُسَمّاةِ (عِقْدُ اللَّآلِئِ) وذَلِكَ في أبْياتٍ وهي: ؎تَوَلَّوْا بِأنْفالٍ وهُودٍ هُما مَعًا ∗∗∗ ونُورٍ وفي المِحْنَةِ بِهِمْ قَدْ تَوَصَّلا ؎تَنَزَّلُ في حِجْرٍ وفي الشُّعْرا مَعًا ∗∗∗ وفي القَدْرِ في الأحْزابِ لا أنْ تَبَدَّلا ؎تَبَرَّجْنَ مَعَ تَناصَرُونَ تَنازَعُوا ∗∗∗ تَكَلَّمُ مَعَ تَيَمَّمُوا قَبْلَهُنَّ لا ؎تَلْقَفُ أنّى كانَ مَعَ لِتَعارَفُوا ∗∗∗ وصاحِبَتَيْها فَتَفَرَّقَ حَصِّلا ؎بِعِمْرانَ لا تَفَرَّقُوا بِالنِّساءِ أتى ∗∗∗ تَوَفّاهم تَخَيَّرُونَ لَهُ انْجَلا ؎تَلَهّى تَلَقَّوْنَهُ تَلَظّى تَرَبَّصُو ∗∗∗ نَ زِدْ لا تَعارَفُوا تَمَيَّزُ تَكْمُلا ؎ثَلاثِينَ مَعَ إحْدى وفي اللّاتَ خَلْفَهُ ∗∗∗ تَمَنَّوْنَ مَعَ ما بَعْدَ ظَلْتُمْ تَنَزَّلا ؎وفِي بَدْئِهِ خَفِّفْ وإنْ كانَ قَبْلَها ∗∗∗ لَدى الوَصْلِ حَرْفُ المَدِّ مُدَّ وطُوِّلا ورُوِيَ عَنْ أبِي رَبِيعَةَ عَنِ البَزِّيِّ: تَخْفِيفُ التّاءِ كَباقِي القُرّاءِ، وهَذِهِ التّاءاتُ مِنها ما قَبْلَهُ مُتَحَرِّكٌ، نَحْوَ: ﴿فَتَفَرَّقَ بِكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥٣] ﴿فَإذا هي تَلْقَفُ﴾ [الأعراف: ١١٧] ومِنها ما قَبْلَهُ ساكِنٌ مِن حَرْفِ المَدِّ واللِّينِ نَحْوَ: ﴿ولا تَيَمَّمُوا﴾ ومِنها ما قَبْلَهُ ساكِنٌ غَيْرُ حَرْفِ مَدٍّ ولِينٍ، نَحْوُ: ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا﴾ [آل عمران: ٣٢] ﴿نارًا تَلَظّى﴾ [الليل: ١٤] ﴿إذْ تَلَقَّوْنَهُ﴾ [النور: ١٥] ﴿هَلْ تَرَبَّصُونَ﴾ [التوبة: ٥٢] قالَ صاحِبُ (المُمْتِعِ): لا يُجِيزُ سِيبَوَيْهِ إسْكانَ هَذِهِ التّاءِ في يَتَكَلَّمُونَ ونَحْوِهِ؛ لِأنَّها إذا سَكَنَتِ احْتِيجَ لَها ألِفُ وصْلٍ، وألِفُ الوَصْلِ لا تَلْحَقُ الفِعْلَ المُضارِعَ، فَإذا اتَّصَلَتْ بِما قَبْلَها جازَ؛ لِأنَّهُ لا يَحْتاجُ إلى هَمْزَةِ وصْلٍ، إلّا أنَّ مِثْلَ (إنْ تَوَلَّوْا) و﴿إذْ تَلَقَّوْنَهُ﴾ [النور: ١٥] لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ عَلى حالٍ لِما في ذَلِكَ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ السّاكِنَيْنِ، ولَيْسَ السّاكِنُ الأوَّلُ حَرْفَ مَدٍّ ولِينٍ، انْتَهى كَلامُهُ. وقِراءَةُ البَزِّيِّ ثابِتَةٌ تَلَقَّتْها الأُمَّةُ بِالقَبُولِ، ولَيْسَ العِلْمُ مَحْصُورًا ولا (p-٣١٨)مَقْصُورًا عَلى ما نَقَلَهُ وقالَهُ البَصْرِيُّونَ، فَلا تَنْظُرُ إلى قَوْلِهِمْ: إنَّ هَذا لا يَجُوزُ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ (ولا تَأمَّمُوا) مِن: أمَمْتُ، أيْ: قَصَدْتُ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ والزُّهْرِيُّ، ومُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ: (تَيَمَّمُوا) وحَكى الطَّبَرِيُّ أنَّ في قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ (ولا تَأُمُّوا) مِن: أمَمْتُ، أيْ: قَصَدْتُ، والخَبِيثُ والطَّيِّبُ صِفَتانِ غالِبَتانِ لا يُذْكَرُ مَعَهُما المَوْصُوفُ إلّا قَلِيلًا، ولِذَلِكَ جاءَ: ﴿والطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ﴾ [النور: ٢٦] وجاءَ: ﴿والخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ﴾ [النور: ٢٦] وقالَ تَعالى: ﴿ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧] وقالَ ﷺ: «أعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الخُبْثِ والخَبائِثِ» . ومِنهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (تُنْفِقُونَ) والضَّمِيرُ في (مِنهُ) عائِدٌ عَلى الخَبِيثِ، و(تُنْفِقُونَ) حالٌ مِنَ الفاعِلِ في: تَيَمَّمُوا، قِيلَ: وهي حالٌ مُقَدَّرَةٌ؛ لِأنَّ الإنْفاقَ مِنهُ يَقَعُ بَعْدَ القَصْدِ إلَيْهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ المَفْعُولِ؛ لِأنَّ في الكَلامِ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَيْهِ، وأجازَ قَوْمٌ أنْ يَكُونَ الكَلامُ في قَوْلِهِ: (الخَبِيثَ) ثُمَّ ابْتَدَأ خَبَرًا آخَرَ في وصْفِ الخَبِيثِ، فَقالَ: تُنْفِقُونَ مِنهُ وأنْتُمْ لا تَأْخُذُونَهُ إلّا إذا أغْمَضْتُمْ، أيْ: تَساهَلْتُمْ، كَأنَّ هَذا المَعْنى عِتابٌ لِلنّاسِ وتَقْرِيعٌ، وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ هو القَصْدُ لِلرَّدِيءِ مِن جُمْلَةِ ما في يَدِهِ، فَيَخُصُّهُ بِالإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وأمّا إنْفاقُ الرَّدِيءِ لِمَن لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، أوْ لِمَن لا يَقْصِدُهُ، فَغَيْرُ مَنهِيٍّ عَنْهُ. ﴿ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ﴾ وقِيلَ: هَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، وقِيلَ: الواوُ لِلْحالِ، فالجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ. قالَ البَراءُ، وابْنُ عَبّاسٍ، والضَّحّاكُ، وغَيْرُهم: مَعْناهُ: ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ في دُيُونِكم وحُقُوقِكم عِنْدَ النّاسِ، إلّا بِأنْ تَساهَلُوا في ذَلِكَ، وتَتْرُكُونَ مِن حُقُوقِكم وتَكْرَهُونَهُ ولا تَرْضَوْنَهُ، أيْ: فَلا تَفْعَلُوا مَعَ اللَّهِ ما لا تَرْضَوْنَهُ لِأنْفُسِكم. وقالَ الحَسَنُ: المَعْنى: ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ وجَدْتُمُوهُ في السُّوقِ يُباعُ إلّا أنْ يُهْضَمَ لَكم مِن ثَمَنِهِ، ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ، وقالَ البَراءُ أيْضًا: مَعْناهُ: ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ أُهْدِيَ لَكم إلّا أنْ تُغْمِضُوا، أيْ: تَسْتَحُوا مِنَ المُهْدِي أنْ تَقْبَلُوا مِنهُ ما لا حاجَةَ لَكم بِهِ، ولا قَدْرَ لَهُ في نَفْسِهِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: ولَسْتُمْ بِآخِذِي الحَرامَ إلّا أنْ تُغْمِضُوا في مَكْرُوهِهِ، والظّاهِرُ عُمُومُ نَفِيِ الأخْذِ بِأيِّ طَرِيقٍ أُخِذَ الخَبِيثُ، مِن أخْذِ حَقٍّ، أوْ هِبَةٍ. والهاءُ في (بِآخِذِيهِ) عائِدَةٌ عَلى الخَبِيثِ، وهي مَجْرُورَةٌ بِالإضافَةِ، وإنْ كانَتْ مِن حَيْثُ المَعْنى مَفْعُولَةً. قالَ بَعْضُ المُعْرِبِينَ: والهاءُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ (آخِذِينَ) والهاءُ والنُّونُ لا يَجْتَمِعانِ؛ لِأنَّ النُّونَ زائِدَةٌ، وهاءَ الضَّمِيرِ زائِدَةٌ ومُتَّصِلَةٌ كاتِّصالِ النُّونِ، فَهي لا تَجْتَمِعُ مَعَ المُضْمَرِ المُتَّصِلِ، انْتَهى كَلامُهُ. وهو قَوْلُ الأخْفَشِ: أنَّ التَّنْوِينَ والنُّونَ قَدْ تَسْقُطانِ لِلَطافَةِ الضَّمِيرِ لا لِلْإضافَةِ، وذَلِكَ في نَحْوِ: ضارِبُكَ، فالكافُ ضَمِيرُ نَصْبٍ، ومَذْهَبُ الجُمْهُورِ أنَّهُ لا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنها لِلَطافَةِ الضَّمِيرِ، وهَذا مَذْكُورٌ في النَّحْوِ، وقَدْ أجازَ هِشامٌ: ضارَبَنْكَ، بِالتَّنْوِينِ، ونَصْبِ الضَّمِيرِ، وقِياسُهُ جَوازُ إثْباتِ النُّونِ مَعَ الضَّمِيرِ، ويُمْكِنُ أنْ يُسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ: ؎هُمُ الفاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ وقَوْلِهِ: ؎ولَمْ يَرْتَفِقْ والنّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ ﴿إلّا أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ مَوْضِعُ (أنْ) نَصْبٌ أوْ خَفْضٌ عِنْدَ مَن قَدَّرَهُ: إلّا بِأنْ تُغْمِضُوا، فُحِذَفَ الحَرْفُ، إذْ حَذْفُهُ جائِزٌ مُطَّرِدٌ، وقِيلَ: نُصِبَ بِـ (تُغْمِضُوا) وهو مَوْضِعُ الحالِ، وقَدْ قَدَّمْنا قَبْلُ، أنَّ سِيبَوَيْهِ لا يُجِيزُ انْتِصابَ أنْ والفِعْلِ مُقَدَّرًا بِالمَصْدَرِ في مَوْضِعِ الحالِ، وقالَ الفَرّاءُ: المَعْنى مَعْنى الشَّرْطِ والجَزاءِ؛ لِأنَّ مَعْناهُ إنْ أغْمَضْتُمْ أخَذْتُمْ، ولَكِنْ (إلّا) وقَعَتْ عَلى أنْ فَفَتَحَتْها، ومِثْلُهُ: ﴿إلّا أنْ يَخافا﴾ [البقرة: ٢٢٩] و﴿إلّا أنْ يَعْفُونَ﴾ [البقرة: ٢٣٧] هَذا كُلُّهُ جَزاءٌ، وأنْكَرَ أبُو العَبّاسِ وغَيْرُهُ قَوْلَ الفَرّاءِ، وقالُوا: (أنْ) هَذِهِ لَمْ تَكُنْ مَكْسُورَةً قَطُّ، وهي الَّتِي تَتَقَدَّرُ هي وما بَعْدَها بِالمَصْدَرِ، وهي مَفْتُوحَةٌ عَلى كُلِّ حالٍ، والمَعْنى: إلّا بِإغْماضِكم. وقَرَأ الجُمْهُورُ (تُغْمِضُوا) مِن أغْمَضَ، وجَعَلُوهُ مِمّا حُذِفَ مَفْعُولُهُ، أيْ: تُغَمِّضُوا، بِضَمِّ التّاءِ وفَتْحِ الغَيْنِ وكَسْرِ المِيمِ مُشَدَّدَةً، ومَعْناها مَعْنى قِراءَةِ الجُمْهُورِ. ورُوِيَ عَنْهُ: تَغْمِضُوا، بِفَتْحِ التّاءِ وسُكُونِ الغَيْنِ وكَسْرِ المِيمِ، مُضارِعُ: غَمِضَ، وهي لُغَةٌ في أغْمَضَ، ورُوِيَتْ (p-٣١٩)عَنِ اليَزِيدِيِّ (تَغْمُضُوا) بِفَتْحِ وضَمِّ المِيمِ، ومَعْناهُ: إلّا أنْ يَخْفى عَلَيْكم رَأْيُكم فِيهِ، ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ (تُغَمَّضُوا) مُشَدَّدَةَ المِيمِ مَفْتُوحَةً. وقَرَأ قَتادَةُ (تُغْمَضُوا) بِضَمِّ التّاءِ وسُكُونِ الغَيْنِ وفَتْحِ المِيمِ مُخَفَّفًا، ومَعْناهُ: إلّا أنْ يُغْمَضَ لَكم. وقالَ أبُو الفَتْحِ: مَعْناهُ إلّا أنْ تُوجَدُوا قَدْ أغَمَضْتُمْ في الأمْرِ بِتَأوُّلِكم أوْ بِتَساهُلِكم، كَما تَقُولُ: أحْمَدَ الرَّجُلُ أُصِيبَ مَحْمُودًا، وقِيلَ: مَعْنى قِراءَةِ قَتادَةَ: إلّا أنْ تَدْخُلُوا فِيهِ وتُجْذَبُوا إلَيْهِ. ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ أيْ: غَنِيٌّ عَنْ صَدَقاتِكم، وإنَّما هي أعْمالُكم تُرَدُّ عَلَيْكم، حَمِيدٌ أيْ: مَحْمُودٌ عَلى كُلِّ حالٍ، إذْ هو مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ، وقالَ الحَسَنُ: يَسْتَحْمِدُ إلى خَلْقِهِ، أيْ: يُعْطِيهِمْ نِعَمًا يَسْتَدْعِي بِها حَمْدَهم، وقِيلَ: مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ عَلى ما تَعَبَّدَكم بِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب