الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم في سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ واللهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ واللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم في سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أنْفَقُوا مَنًّا ولا أذًى لَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ هَذِهِ الآيَةُ لَفْظُها بَيانُ مَثَلٍ بِشَرَفِ النَفَقَةِ في سَبِيلِ اللهِ وبِحُسْنِها، وضَمَّنَها التَحْرِيضَ عَلى ذَلِكَ، وهَذِهِ الآيَةُ في نَفَقَةِ التَطَوُّعِ، وسُبُلُ اللهِ كَثِيرَةٌ، وهي جَمِيعُ ما هو طاعَةٌ وعائِدٌ بِمَنفَعَةٍ عَلى المُسْلِمِينَ والمِلَّةِ، وأشْهَرُها وأعْظَمُها غِناءً الجِهادُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيا. والحَبَّةُ اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ ما يَزْرَعُهُ ابْنُ آدَمَ ويَقْتاتُهُ، وأشْهَرُ ذَلِكَ البُرُّ، وكَثِيرًا ما يُرادُ بِالحَبِّ، ومِنهُ قَوْلُ المُتَلَمِّسِ: ؎ آلَيْتَ حَبَّ العِراقِ الدَهْرَ أطْعَمُهُ ∗∗∗ والحَبُّ يَأْكُلُهُ في القَرْيَةِ السُوسُ وقَدْ يُوجَدُ في سُنْبُلِ القَمْحِ ما فِيهِ مِائَةُ حَبَّةٍ، وأمّا في سائِرِ الحُبُوبِ فَأكْثَرُ ولَكِنَّ المِثالَ وقَعَ بِهَذا القَدْرِ، وقَدْ ورَدَ القُرْآنُ بِأنَّ الحَسَنَةَ في جَمِيعِ أعْمالِ البِرِّ بِعَشْرِ أمْثالِها، واقْتَضَتْ هَذِهِ الآيَةُ أنَّ نَفَقَةَ الجِهادِ حَسَنَتُها بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وبَيَّنَ ذَلِكَ الحَدِيثُ الصَحِيحُ. واخْتَلَفَ العُلَماءُ في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿واللهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ﴾، فَقالَتْ طائِفَةٌ: هي مُبَيِّنَةٌ ومُؤَكِّدَةٌ لِما تَقَدَّمَ مِن ذِكْرِ السَبْعِ المِائَةِ، ولَيْسَ ثَمَّةَ تَضْعِيفٌ فَوْقَ سَبْعِمِائَةٍ. وقالَتْ طائِفَةٌ مِنَ العُلَماءِ: بَلْ هو إعْلامٌ بِأنَّ اللهَ تَعالى يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ أكْثَرَ مِن سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ التَضْعِيفَ يَنْتَهِي - لِمَن شاءَ اللهُ - إلى ألْفَيْ (p-٥٨)ألْفٍ، ولَيْسَ هَذا بِثابِتِ الإسْنادِ عنهُ، وقالَ ابْنُ عُمَرَ: «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قالَ النَبِيُّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ "رَبِّ زِدْ أُمَّتِي، فَنَزَلَتْ: ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ﴾ [البقرة: ٢٤٥] فَقالَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي، فَنَزَلَتْ: ﴿إنَّما يُوَفّى الصابِرُونَ أجْرَهم بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [الزمر: ١٠].» و"سُنْبُلَةٍ" فُنْعُلَةٌ مِن أسْبَلَ الزَرْعُ أيْ أرْسَلَ ما فِيهِ، كَما يُسْبَلُ الثَوْبُ، والجَمْعُ سَنابِلٌ. وفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ﴾ حَذْفُ مُضافٍ، تَقْدِيرُهُ: مَثَلُ إنْفاقِ الَّذِينَ، أو تَقْدِيرُهُ: كَمَثَلِ ذِي حَبَّةٍ. وقالَ الطَبَرِيُّ في هَذِهِ الآيَةِ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ مَعْناهُ إنْ وُجِدَ ذَلِكَ، وإلّا فَعَلى أنْ نَفْرِضَهُ، ثُمَّ أدْخَلَ عَنِ الضَحّاكِ أنَّهُ قالَ: ﴿فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ مَعْناهُ: كُلُّ سُنْبُلَةٍ أنْبَتَتْ مِائَةَ حَبَّةٍ، فَجَعَلَ الطَبَرِيُّ قَوْلَ الضَحّاكِ نَحْوَ ما قالَ هُوَ، وذَلِكَ غَيْرُ لازِمٍ مِن لَفْظِ الضَحّاكِ. قالَ أبُو عَمْرٍو الدانِي: قَرَأ بَعْضُهُمْ: "مِائَةَ" بِالنَصْبِ عَلى تَقْدِيرِ: أنْبَتَتْ مِائَةَ حَبَّةٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهُمْ﴾ الآيَةُ. لَمّا تَقَدَّمَ في الآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ ذِكْرُ الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللهِ عَلى العُمُومِ بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ ذَلِكَ الحُكْمَ إنَّما هو لِمَن لَمْ يُتْبِعْ (p-٥٩)إنْفاقَهُ مَنًّا ولا أذىً. وذَلِكَ أنَّ المُنْفِقَ في سَبِيلِ اللهِ إنَّما يَكُونُ عَلى أحَدِ ثَلاثَةِ أوجُهٍ - إمّا أنْ يُرِيدَ وجْهَ اللهِ تَعالى ويَرْجُوَ ثَوابَهُ، فَهَذا لا يَرْجُو مِنَ المُنْفَقِ عَلَيْهِ شَيْئًا ولا يَنْظُرُ مِن أحْوالِهِ في حالٍ سِوى أنْ يُراعِيَ اسْتِحْقاقَهُ، وإمّا أنْ يُرِيدَ مِنَ المُنْفَقِ عَلَيْهِ جَزاءً بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ فَهَذا لَمْ يُرِدْ وجْهَ اللهِ، بَلْ نَظَرَ إلى هَذِهِ الحالِ مِنَ المُنْفَقِ عَلَيْهِ، وهَذا هو الَّذِي مَتى أخْلَفَ ظَنَّهُ مَنَّ بِإنْفاقِهِ وآذى، وإمّا أنْ يُنْفِقَ مُضْطَرًّا دافِعَ غُرْمٍ إمّا لِماتَّةٍ لِلْمُنْفَقِ عَلَيْهِ أو قَرِينَةٍ أُخْرى مِنَ اعْتِناءِ مُنْفِقٍ ونَحْوِهِ، فَهَذا قَدْ نَظَرَ في حالٍ لَيْسَتْ لِوَجْهِ اللهِ، وهَذا هو الَّذِي مَتى تُوبِعَ وحَرِجَ بِوَجْهٍ مِن وُجُوهِ الحَرَجِ آذى. فالمَنُّ والأذى يَكْشِفانِ مِمَّنْ ظَهَرا مِنهُ أنَّهُ إنَّما كانَ عَلى ما ذَكَرْناهُ مِنَ المَقاصِدِ، وأنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ لِوَجْهِ اللهِ، فَلِهَذا كانَ المَنُّ والأذى مُبْطِلَيْنِ لِلصَّدَقَةِ مِن حَيْثُ بَيَّنَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما أنَّها لَمْ تَكُنْ صَدَقَةً. وذَكَرَ النَقّاشُ أنَّهُ قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، وقِيلَ: في عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، وقالَ مَكِّيٌّ: في عُثْمانَ وابْنِ عَوْفٍ. والمَنُّ: ذِكْرُ النِعْمَةِ عَلى مَعْنى التَعْدِيدِ لَها والتَقْرِيعِ بِها - والأذى: السَبُّ والتَشَكِّي، وهو أعَمُّ مِنَ المَنِّ، لِأنَّ المَنَّ جُزْءٌ مِنَ الأذى لَكِنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ. وذَهَبَ ابْنُ زَيْدٍ إلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ هي في الَّذِينَ لا يَخْرُجُونَ في الجِهادِ، بَلْ يُنْفِقُونَ وهم قُعُودٌ، وأنَّ الأُولى الَّتِي قَبْلَها هي في الَّذِينَ يَخْرُجُونَ بِأنْفُسِهِمْ وأمْوالِهِمْ، قالَ: (p-٦٠)وَلِذَلِكَ شَرَطَ عَلى هَؤُلاءِ، ولَمْ يَشْتَرِطْ عَلى الأوَّلِينَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفي هَذا القَوْلِ نَظَرٌ، لِأنَّ التَحَكُّمَ فِيهِ بادٍ. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: "لَئِنْ ظَنَنْتَ أنَّ سَلامَكَ يَثْقُلُ عَلى مَن أنْفَقْتَ عَلَيْهِ تُرِيدُ وجْهَ اللهِ فَلا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ" وقالَتْ لَهُ امْرَأةٌ: "يا أبا أُسامَةَ، دُلَّنِي عَلى رَجُلٍ يَخْرُجُ في سَبِيلِ اللهِ حَقًّا فَإنَّهم إنَّما يَخْرُجُونَ لِيَأْكُلُوا الفَواكِهَ، فَإنَّ عِنْدِي أسْهُمًا وجَعْبَةً"، فَقالَ لَها: "لا بارَكَ اللهُ في أسْهُمِكِ وجَعْبَتِكِ فَقَدْ آذَيْتِهِمْ قَبْلَ أنْ تُعْطِيهِمْ". وضَمِنَ اللهُ الأجْرَ لِلْمُنْفِقِ في سَبِيلِ اللهِ، والأجْرُ الجَنَّةُ، ونَفِي عنهُ الخَوْفَ بَعْدَ مَوْتِهِ لِما يَسْتَقْبِلُ، والحُزْنَ عَلى ما سَلَفَ مِن دُنْياهُ، لِأنَّهُ يَغْتَبِطُ بِآخِرَتِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب