الباحث القرآني
(p-٤١)﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم في سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم في سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أنْفَقُوا مَنًّا ولا أذًى لَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ .
عَوْدٌ إلى التَّحْرِيضِ عَلى الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ، فَهَذا المَثَلُ راجِعٌ إلى قَوْلِهِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٤] وهو اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢٥٤] الآيَةَ. يُثِيرُ في نُفُوسِ السّامِعِينَ الِاسْتِشْرافَ لِما يَلْقاهُ المُنْفِقُ في سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ بَعْدَ أنْ أعْقَبَ بِدَلائِلَ ومَواعِظَ وعِبَرٍ، وقَدْ تَهَيَّأتْ نُفُوسُ السّامِعِينَ إلى التَّمَحُّضِ لِهَذا فَأُطِيلَ الكَلامُ فِيهِ إطالَةً تُناسِبُ أهَمِّيَّتَهُ.
وقَوْلُهُ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ تَشْبِيهُ حالِ جَزائِهِمْ وبَرَكَتِهِمْ، والصِّلَةُ مُؤْذِنَةٌ بِأنَّ المُرادَ خُصُوصُ حالِ إنْفاقِهِمْ بِتَقْدِيرِ ”مَثَلُ نَفَقَةِ الَّذِينَ“ وقَدْ شُبِّهَ حالُ إعْطاءِ النَّفَقَةِ ومُصادَفَتُها مَوْقِعَها وما أُعْطِيَ مِنَ الثَّوابِ لَهم بِحالِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ إلخ، أيْ زُرِعَتْ في أرْضٍ نَقِيَّةٍ وتُرابٍ طَيِّبٍ وأصابَها الغَيْثُ فَأنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ، وحُذِفَ ذَلِكَ كُلُّهُ إيجازًا؛ لِظُهُورِ أنَّ الحَبَّةَ لا تُنْبِتُ ذَلِكَ إلّا كَذَلِكَ، فَهو مِن تَشْبِيهِ المَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ، والمُشَبَّهُ بِهِ هَيْأةٌ مَعْلُومَةٌ، وجُعِلَ أصْلُ التَّمْثِيلِ في التَّضْعِيفِ حَبًّا لِأنَّ تَضْعِيفَها مِن ذاتِها لا بِشَيْءٍ يُزادُ عَلَيْها، وقَدْ شاعَ تَشْبِيهُ المَعْرُوفِ بِالزَّرْعِ وتَشْبِيهُ السّاعِي بِالزّارِعِ، وفي المَثَلِ: (رُبَّ ساعٍ لِقاعِدٍ وزارِعٍ غَيْرِ حاصِدٍ) ولَمّا كانَتِ المُضاعَفَةُ تُنْسَبُ إلى أصْلِ وحْدَةٍ، فَأصْلُ الوَحْدَةِ هُنا هي ما يُثِيبُ اللَّهُ بِهِ عَلى الحَسَناتِ الصَّغِيرَةِ، أيْ: ما يَقَعُ ثَوابًا عَلى أقَلِّ الحَسَناتِ كَمَنَ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، فَإنَّهُ في حَسَنَةِ الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ.
قالَ الواحِدِيُّ في أسْبابِ النُّزُولِ وغَيْرُهُ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، ذَلِكَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ أرادَ (p-٤٢)الخُرُوجَ إلى غَزْوَةِ تَبُوكَ حَثَّ النّاسَ عَلى الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وكانَ الجَيْشُ يَوْمَئِذَ بِحاجَةٍ إلى الجِهازِ، وهو جَيْشُ العُسْرَةِ، فَجاءَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأرْبَعَةِ آلافٍ وقالَ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ: عَلَيَّ جِهازُ مَن لا جِهازَ لَهُ. فَجَهَّزَ الجَيْشَ بِألْفِ بَعِيرٍ بِأقْتابِها وأحْلاسِها. وقِيلَ: جاءَ بِألْفِ دِينارٍ ذَهَبًا فَصَبَّها في حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ» ﷺ .
ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ﴾ أنَّ المُضاعَفَةَ دَرَجاتٌ كَثِيرَةٌ لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ تَعالى؛ لِأنَّهُ تَتَرَتَّبُ عَلى أحْوالِ المُتَصَدِّقِ وأحْوالِ المُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ وأوْقاتِ ذَلِكَ وأماكِنِهِ، ولِلْإخْلاصِ وقَصْدِ الِامْتِثالِ ومَحَبَّةِ الخَيْرِ لِلنّاسِ والإيثارِ عَلى النَّفْسِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَحُفُّ بِالصَّدَقَةِ والإنْفاقِ تَأْثِيرٌ في تَضْعِيفِ الأجْرِ ”واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ“ .
وأعادَ قَوْلَهُ: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إظْهارًا لِلِاهْتِمامِ بِهَذِهِ الصِّلَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ﴾ جاءَ في عَطْفِهِ بِـ (ثُمَّ) مَعَ أنَّ الظّاهِرَ أنْ يُعْطَفَ بِالواوِ، قالَ في الكَشّافِ: لِإظْهارِ التَّفاوُتِ بَيْنَ الإنْفاقِ وتَرْكِ المَنِّ والأذى، وأنَّ تَرْكَهُما خَيْرٌ مِن نَفْسِ الإنْفاقِ. يَعْنِي أنَّ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرَّئِيسِيِّ لا لِلْمُهْلَةِ الزَّمَنِيَّةِ تَرْفِيعًا لِرُتْبَةِ تَرْكِ المَنِّ والأذى عَلى رُتْبَةِ الصَّدَقَةِ، لِأنَّ العَطاءَ قَدْ يَصْدُرُ عَنْ كَرَمِ النَّفْسِ وحُبِّ المَحْمَدَةِ؛ فَلِلنُّفُوسِ حَظٌّ فِيهِ مَعَ حَظِّ المُعْطى، بِخِلافِ تَرْكِ المَنِّ والأذى فَلا حَظَّ فِيهِ لِنَفْسِ المُعْطِي، إذْ شُبِّهُ حُصُولُ الشَّيْءِ المُهِمِّ في عِزَّةِ حُصُولِهِ بِحُصُولِ الشَّيْءِ المُتَأخِّرِ زَمَنُهُ، وكَأنَّ الَّذِي دَعا الزَّمَخْشَرِيَّ إلى هَذا أنَّهُ رَأى مَعْنى المُهْلَةِ هُنا غَيْرَ مُرادٍ؛ لِأنَّ المُرادَ حُصُولُ الإنْفاقِ وتَرْكُ المَنِّ مَعًا.
والمَنُّ أصْلُهُ الإنْعامُ والفَضْلُ، يُقالُ: مَنَّ عَلَيْهِ مَنًّا. ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى عَدِّ الإنْعامِ عَلى المُنْعَمِ عَلَيْهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر: ٦] وهو إذا ذُكِرَ بَعْدَ الصَّدَقَةِ والعَطاءِ تَعَيَّنَ لِلْمَعْنى الثّانِي.
وإنَّما يَكُونُ المَنُّ في الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ بِالتَّطاوُلِ عَلى المُسْلِمِينَ والرِّياءِ بِالإنْفاقِ، وبِالتَّطاوُلِ عَلى المُجاهِدِينَ الَّذِينَ يُجَهِّزُهم أوْ يَحْمِلُهم، ولَيْسَ مِنَ المَنِّ التَّمَدُّحُ بِمَواقِفِ المُجاهِدِ في الجِهادِ أوْ بِمَواقِفِ قَوْمِهِ، فَقَدْ قالَ الحُرَيْشُ بْنُ هِلالٍ القُرَيْعِيُّ يَذْكُرُ خَيْلَهُ في غَزْوَةِ فَتْحِ مَكَّةَ ويَوْمَ حُنَيْنٍ:(p-٤٣)
؎شَهِدْنَ مَعَ النَّبِيءِ مَسُوَّماتٍ حُنَيْنًا وهْيَ دامِيَةُ الحَوامِي
؎ووَقْعَةَ خالِدٍ شَهِدَتْ وحَكَّتْ ∗∗∗ سَنابِكَها عَلى البَلَدِ الحَرامِ
وقالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْداسٍ يَتَمَدَّحُ بِمَواقِعِ قَوْمِهِ في غَزْوَةِ حُنَيْنٍ:
؎حَتّى إذا قالَ النَّبِيءُ مُحَمَّدٌ ∗∗∗ أبَنِي سُلَيْمٍ قَدْ وفَيْتُمْ فارْجِعُوا
؎عُدْنا ولَوْلا نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعُهم ∗∗∗ بِالمُسْلِمِينَ وأحْرَزُوا ما جَمَّعُوا
والأذى هو أنْ يُؤْذِيَ المُنافِقُ مَن أنْفَقَ عَلَيْهِ بِإساءَةٍ في القَوْلِ أوْ في الفِعْلِ. قالَ النّابِغَةُ:
؎عَلَيَّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ ∗∗∗ لِوالِدِهِ لَيْسَتْ بِذاتِ عَقارِبِ
فالمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ أنْ يَكُونَ إنْفاقُ المُنْفِقِ في سَبِيلِ اللَّهِ مُرادًا بِهِ نَصْرُ الدِّينِ ولا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ، فَذَلِكَ هو أعْلى دَرَجاتِ الإنْفاقِ وهو المَوْعُودُ عَلَيْهِ بِهَذا الأجْرِ الجَزِيلِ، ودُونَ ذَلِكَ مَراتِبُ كَثِيرَةٌ تَتَفاوَتُ أحْوالُها.
{"ayahs_start":261,"ayahs":["مَّثَلُ ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰلَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِی كُلِّ سُنۢبُلَةࣲ مِّا۟ئَةُ حَبَّةࣲۗ وَٱللَّهُ یُضَـٰعِفُ لِمَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰسِعٌ عَلِیمٌ","ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰلَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لَا یُتۡبِعُونَ مَاۤ أَنفَقُوا۟ مَنࣰّا وَلَاۤ أَذࣰى لَّهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ"],"ayah":"ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰلَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لَا یُتۡبِعُونَ مَاۤ أَنفَقُوا۟ مَنࣰّا وَلَاۤ أَذࣰى لَّهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق