قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾ إلى قوله ﴿مَنًّا وَلَا أَذًى﴾ المنّ في اللغة على وجوه: يكون بمعنى الإنعام، يقال: قد منَّ عليَّ فلان: إذا أَفْضَل وأَنْعَم، ولفلان عليّ منّة، أي: نعمة، أنشد ابن الأنباري:
فمِنّي عَلَيْنَا بالسَّلامِ فَإِنَّما ... كلامُكِ ياقُوتٌ ودُرٌّ مُنَظَّمُ [[البيت أورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 317 دون نسبة إلى قائل، وقال: ذكر ذلك أبو بكر بن الأنباري.]] ومن النعمة: قوله ﷺ: "ما من الناس أحد أمنّ علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة [[أخرجه البخاري (466) كتاب: الصلاة، باب: الخوخة والممر من المسجد، ومسلم (2382) كتاب: "فضائل الصحابة"، باب: من فضائل أبي بكر، والإمام أحمد في "مسنده" واللفظ له حديث رقم (15492).]] ".
يريد: أنعم وأسمح بماله، ولم يرد المنة التي تهدم الصنيعة، والله تعالى يُوصَفُ بأنه مَنَّان، أي: منعم. قال أهل اللغة: المن: الإحسانُ إلى من لا يستثيبه، ولهذا يقال: الله تعالى منّان، لأن إحسانه إلى الخلق ليس لطلب ثواب، ومن هذا قوله: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ﴾ [ص: 39] وقوله: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر: 6] أي: لا تعط لتأخذ من المكافأة أكثرَ مما أعطيت [[في (ي): (أعطيتك).]].
والمنّ في اللغة أيضًا: النقص من الحق والبخس له، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ [القلم: 3] يقال: غير مقطوع، وغير منقوص، ومن هذا يسمى الموت: مَنُونًا؛ لأنه يُنْقِصُ الأَعْدَاد، ويقطع الأعمار [[ينظر في معاني المن: "تهذيب اللغة" 4/ 3459 - 3460 (مادة: منن)، "المفردات" 477، "لسان العرب" 7/ 4279، "عمدة الحفاظ" 4/ 131 - 132. وذكر الراغب أن المنة يراد بها: النعمة الثقيلة، ويقال ذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك بالفعل، فيقال: منَّ فلان على فلان، إذا أثقله بالنعمة ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى. والثاني: أن يكون ذلك بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة، ويقبح ذلك، قيل: المنة تهدم الصنيعة، ولحسن ذكرها عند الكفران قيل: إذا كفرت النعمة حسنت== المنة، وقوله: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ﴾ [الحجرات: 17] فالمنة منهم بالقول، ومنة الله عليهم بالفعل وهو هدايته إياهم كما ذكر.]].
ومن هذا: المِنَّةُ المذمومة؛ لأنها تُنْقِصُ النعمة وتُكَدِّرُها، قال الشاعر في المِنَّةِ المَذْمومة:
أَنَلْتَ قليلًا ثم أسْرعَت مِنَّةً ... فَنَيْلُكَ مَمْنُون [[في (ش): (مذموم).]] لِذَاك قليلُ [[البيت أورده ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 317 دون نسبة إلى قائل وقال: ذكر ذلك أبو بكر بن الأنباري.]]
فالمراد بالمن الذي في الآية: المنُّ الذي هو الاعتداد بالصنيعة [[في (ي): (في الصنعة).]]، وذكرها الذي يكدرها.
والعَرَبُ تتمدّح بترك المنِّ بالنعمة، قال قائلهم:
زَادَ مَعْروفَكَ عِنْدِي عِظَمًا ... أنَّهُ عِنْدَكَ مَسْتُورٌ حقيرْ
تَتَنَاسَاهُ كأنْ لم تَأتِهِ ... وهو في العالم مَشْهورٌ كبيرْ [[البيتان من قول الخُرَيمي، نسبهما إليه في "عيون الأخبار" 3/ 160، و"دلائل الإعجاز" 1/ 360 وروايتهم، وعند الناس بدل في العالم.]].
قال المفسرون: معنى المنّ المذكور في الآية: هو أن يقول: قد أحسنت إلى فلان، ونَعَشْتُه [[في (م): (تعيشته).]]، وجبرت حاله، وأعنته، يمنُّ بما فعل [["تفسير الثعلبي" 2/ 1564 - 1566.]].
والأذى: هو أن يذكر إحسانه لمن لا يحب الذي أحسن إليه وقوفه عليه، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذيه [["تفسير الثعلبي" 2/ 1564.]].
{"ayah":"ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰلَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لَا یُتۡبِعُونَ مَاۤ أَنفَقُوا۟ مَنࣰّا وَلَاۤ أَذࣰى لَّهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ"}