الباحث القرآني

هذا بيان للقرض الحسن ما هو؟ وهو أن يكون في سبيله أي في مرضاته والطريق الموصلة إليه ومن أنفعها سبيل الجهاد، وسبيل الله خاص وعام، والخاص جزء من السبيل العام وأن لا يتبع صدقته بمن ولا أذى، فالمن نوعان. أحدهما: منّ بقلبه من غير أن يصرح له بلسانه وهذا إن لم يبطل الصدقة فهو من نقصان شهود منة الله عليه في عطائه المال وحرمان غيره وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه فلله المنة عليه من كل وجه. فكيف يشهد قلبه منة لغيره؟ والنوع الثاني: أن يمن عليه بلسانه فيعتدي على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأنه أوجب عليه حقا وطوقه منة في عنقه فيقول: أما أعطيتك كذا وكذا؟ ويعدد أياديه عنده، قال سفيان: يقول: أعطيتك فما شكرت. وقال عبد الرحمن بن زياد: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكنّ سلامك عنه، وكانوا يقولون: إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها وإذا أسدى إليكم صنيعة فلا تنسوها، وفي ذلك قيل: ؎وإنّ امرأ أهدى إلى صنيعة ∗∗∗ وذكرنيها مرة لبخيل وقيل: صفوان من منح سائله ومنّ، ومن منع نائله وضن، وحظر الله على عباده المن بالصنيعة واختص به صفة لنفسه لأنه من العباد تكدير وتعيير، ومن الله سبحانه وتعالى إفضال وتذكير. وأيضا فإنه هو المنعم في نفس الأمر، والعباد وسائط فهو المنعم على عبده في الحقيقة، وأيضا فالامتنان استعباد، وكسر، وإذلال لمن يمن عليه ولا تصلح العبودية والذل إلا لله. وأيضا فالمنة أن يشهد المعطي أنه هو رب الفضل، والإنعام، وأنه ولي النعمة، ومسديها، وليس ذلك في الحقيقة إلا لله، وأيضا فالمانّ بعطائه يشهد نفسه مترفعا على الآخذ مستعليا عليه غنيا عنه عزيزا، ويشهد ذل الآخذ وحاجته إليه وفاقته ولا ينبغي ذلك للعبد، وأيضا فإن المعطي قد تولى الله ثوابه ورد عليه أضعاف ما أعطى فبقي عوض ما أعطى عند الله. فأي حق بقي له قبل الآخذ؟ فإذا امتن عليه فقد ظلمه ظلما بينا، وادعى أن حقه في قبله. ومن هنا والله أعلم بطلت صدقته بالمن فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله وعوض تلك الصدقة عنده فلم يرض به، ولاحظ العوض من الآخذ والمعاملة عنده فمن عليه بما أعطاه بطلت معاوضته مع الله ومعاملته له، فتأمل هذه النصائح من الله لعباده ودلالته على ربوبيته، وإلهيته وحده، وأنه يبطل عمل من نازعه في شيء من ربوبيته، وإلهيته لا إله غيره، ولا رب سواه. ونبه بقوله: ﴿ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أنْفَقُوا مَنًّا ولا أذىً﴾ على أن المن والأذى ولو تراخى عن الصدقة وطال زمنه ضر بصاحبه، ولم يحصل له مقصود الإنفاق، ولو أتى بالواو، وقال: ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لأوهمت تقييد ذلك بالحال، وإذا كان المن، والأذى المتراخي مبطلا لأثر الإنفاق مانعا من الثواب. فالمقارن أولى، وأحرى. وتأمل كيف جرد الخبر هنا عن الفاء فقال: ﴿لَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ وقرنه بالفاء في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ سِرًّا وعَلانِيَةً فَلَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ فإن الفاء الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تفهم معنى الشرط والجزاء وأنه مستحق بما تضمنه المبتدأ من الصلة أو الصفة، فلما كان هنا يقتضي بيان حصر المستحق للجزاء دون غيره جرد الخبر عن الفاء فإن المعنى أن الذي ينفق ماله لله، ولا يمن ولا يؤذي هو الذي يستحق الأجر المذكور لا الذي ينفق لغير الله، ويمن ويؤذي ينفقته فليس المقام مقام شرط وجزاء. بل مقام بيان للمستحق دون غيره. وفي الآية الأخرى ذكر الإنفاق بالليل والنهار سرا وعلانية. فذكر عموم الأوقات، وعموم الأحوال فأتى بالفاء في الخبر ليدل على أن الإنفاق في أي وقت وجد من ليل أو نهار وعلى أي حالة وجد من سر وعلانية. فإنه سبب الجزاء على كل حال فليبادر إليه العبد ولا ينتظر به غير وقته وحاله ولا يؤخر نفقة الليل إذا حضر إلى النهار، ولا نفقة النهار إلى الليل، ولا ينتظر بنفقة العلانية وقت السر، ولا بنفقة السر وقت العلانية فإن نفقته في أي وقت وعلى أي حال وجدت سبب لأجره وثوابه فتدبر هذه الأسرار في القرآن فلعلك تظفر بها إذ تمر بك في التفاسير والمنة والفضل لله وحده لا شريك له. * [فَصْلٌ: الرِّياءُ والمَنُّ والأذى تُبْطِلُ الأعْمالَ] فَإنْ عَرَضَ لِهَذِهِ الأعْمالِ مِن الصَّدَقاتِ ما يُبْطِلُها مِن المَنِّ والأذى والرِّياءِ؛ فالرِّياءُ يَمْنَعُ انْعِقادَها سَبَبًا لِلثَّوابِ، والمَنُّ والأذى يُبْطِلُ الثَّوابَ الَّذِي كانَتْ سَبَبًا لَهُ، فَمَثَلُ صاحِبِها وبُطْلانِ عَمَلِهِ كَمَثَلِ صَفْوانٍ - وهو الحَجَرُ الأمْلَسُ - عَلَيْهِ تُرابٌ فَأصابَهُ وابِلٌ - وهو المَطَرُ الشَّدِيدُ - فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا شَيْءَ عَلَيْهِ، وتَأمَّلْ أجْزاءَ هَذا المَثَلِ البَلِيغِ، وانْطِباقِها عَلى أجْزاءِ المُمَثَّلِ بِهِ، تَعْرِفْ عَظَمَةَ القُرْآنِ وجَلالَتَهُ، فَإنَّ الحَجَرَ في مُقابِلَةِ قَلْبِ هَذا المُرائِي والمانِّ والمُؤْذِي، فَقَلْبُهُ في قَسْوَتِهِ عَنْ الإيمانِ والإخْلاصِ والإحْسانِ بِمَنزِلَةِ الحَجَرِ، والعَمَلُ الَّذِي عَمِلَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ بِمَنزِلَةِ التُّرابِ الَّذِي عَلى ذَلِكَ الحَجَرِ؛ فَقَسْوَةُ ما تَحْتَهُ وصَلابَتُهُ تَمْنَعُهُ مِن النَّباتِ والثَّباتِ عِنْدَ نُزُولِ الوابِلِ؛ فَلَيْسَ لَهُ مادَّةٌ مُتَّصِلَةٌ بِاَلَّذِي يَقْبَلُ الماءَ ويُنْبِتُ الكَلَأ، وَكَذَلِكَ قَلْبُ المُرائِي لَيْسَ لَهُ ثَباتٌ عِنْدَ وابِلِ الأمْرِ والنَّهْيِ والقَضاءِ والقَدْرِ، فَإذا نَزَلَ عَلَيْهِ وابِلُ الوَحْيِ انْكَشَفَ عَنْهُ ذَلِكَ التُّرابِ اليَسِيرِ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ، فَبَرَزَ ما تَحْتَهُ حَجَرًا صَلْدًا لا نَباتَ فِيهِ. وَهَذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ لِعَمَلِ المُرائِي ونَفَقَتِهِ، لا يَقْدِرُ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى ثَوابِ شَيْءٍ مِنهُ أحْوَجَ ما كانَ إلَيْهِ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب