الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وجْهِكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ وحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ وإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ وما اللهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿وَلَئِنْ أتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وما أنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهم وما بَعْضُهم بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ولَئِنْ اتَّبَعْتَ أهْواءَهم مِن بَعْدِ ما جاءَكَ مِن العِلْمِ إنَّكَ إذًا لَمِنَ الظالِمِينَ﴾ المَقْصِدُ تَقَلُّبُ البَصَرِ، وذُكِرَ الوَجْهُ لِأنَّهُ أعَمُّ وأشْرَفُ، وهو المُسْتَعْمَلُ في طَلَبِ الرَغائِبِ، تَقُولُ: بَذَلْتُ وجْهِي في كَذا، وفَعَلْتُ لِوَجْهِ فُلانٍ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ رَجَعْتُ بِما أبْغِي ووَجْهِي بِمائِهِ................. وأيْضًا فالوَجْهُ يَتَقَلَّبُ بِتَقَلُّبِ البَصَرِ، وقالَ قَتادَةُ والسُدِّيُّ وغَيْرُهُما: «كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُقَلِّبُ وجْهَهُ في الدُعاءِ إلى اللهِ تَعالى، أنْ يُحَوِّلَهُ إلى قِبْلَةِ مَكَّةَ، وقِيلَ: كانَ يُقَلِّبُ لِيُؤْذَنَ لَهُ في الدُعاءِ». ومَعْنى التَقَلُّبِ نَحْوَ السَماءِ أنَّ السَماءَ جِهَةٌ قَدْ تَعَوَّدَ العالِمُ مِنها الرَحْمَةَ كالمَطَرِ (p-٣٧٤)والأنْوارِ والوَحْيِ، فَهم يَجْعَلُونَ رَغْبَتَهم حَيْثُ تَوالَتِ النِعَمُ. و"تَرْضاها" مَعْناهُ: تُحِبُّها وتَقَرُّ بِها عَيْنُكَ. وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُحِبُّ الكَعْبَةَ والتَحَوُّلَ عن بَيْتِ المَقْدِسِ لِوُجُوهٍ ثَلاثَةٍ رُوِيَتْ، فَقالَ مُجاهِدٌ: لِقَوْلِ اليَهُودِ: ما عَلِمَ مُحَمَّدٌ دِينَهُ حَتّى اتَّبَعَنا، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ولِيُصِيبَ قِبْلَةَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ، وقالَ الرَبِيعُ، والسُدِّيُّ: ولِيَسْتَأْلِفَ العَرَبَ لِمَحَبَّتِها في الكَعْبَةِ، وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: إنَّما وجَّهَ رَسُولَ اللهِ ﷺ وأُمَّتَهُ حِيالَ مِيزابِ الكَعْبَةِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وغَيْرُهُ: بَلْ وُجِّهَ إلى البَيْتِ كُلِّهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والمِيزابُ: هو قِبْلَةُ المَدِينَةِ والشامِ، وهُنالِكَ قِبْلَةُ أهْلِ الأنْدَلُسِ بِلا رَيْبٍ، ولا خِلافَ أنَّ الكَعْبَةَ قِبْلَةٌ مِن كُلِّ أُفُقٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ الآيَةُ، أمْرٌ بِالتَحَوُّلِ ونَسْخٌ لِقِبْلَةِ الشامِ. وقِيلَ: «نَزَلَ ذَلِكَ عَلى النَبِيِّ ﷺ وهو في صَلاةِ الظُهْرِ بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ مِنها فَتَحَوَّلَ في الصَلاةِ». وذَكَرَ أبُو الفَرَجِ أنَّ عَبّادَ بْنَ نَهْيِكٍ كانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ في هَذِهِ الصَلاةِ. وقِيلَ: إنَّما نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في غَيْرِ صَلاةٍ وكانَتْ أوَّلَ صَلاةٍ إلى الكَعْبَةِ العَصْرُ، و"شَطْرَ" نُصِبَ عَلى الظَرْفِ، ويُشْبِهُ المَفْعُولَ بِهِ لِوُقُوعِ الفِعْلِ عَلَيْهِ، ومَعْناهُ: نَحْوَ وتِلْقاءَ. (p-٣٧٥)قالَ ابْنُ أحْمَرَ: ؎ تَعْدُو بِنا شَطْرَ جَمْعٍ وهي عاقِدَةٌ ∗∗∗ قَدْ كارَبَ العَقْدُ مِن إيفادِها الحُقَبا وقالَ غَيْرُهُ: ؎ أقُولُ لِأُمِّ زِنْباعَ أقِيمِي ∗∗∗ صُدُورَ العِيسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمٍ وقالَ لَقِيطُ: ؎ وقَدْ أظَلَّكم مِن شَطْرِ ثَغْرِكم ∗∗∗ هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ تَغْشاكُمُ قِطْعًا وقالَ غَيْرُهُ: ؎ ألا مِن مُبَلِّغٍ عَمْرًا رَسُولًا ∗∗∗ وما تُغْنِي الرِسالَةُ شَطْرَ عَمْرِو ﴿وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا﴾ أمْرٌ لِلْأُمَّةِ ناسِخٌ. وقالَ داوُدُ بْنُ أبِي هِنْدَ: إنَّ في حِرَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ "فَوَلِّ وجْهَكَ تِلْقاءَ المَسْجِدِ الحَرامِ"، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ: إنَّ فِيهِ: "فَوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَهُ"، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "فَوَلُّوا وُجُوهَكم تِلْقاءَهُ". و﴿الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾: اليَهُودُ والنَصارى، وقالَ السُدِّيُّ: المُرادُ اليَهُودُ، والأوَّلُ أظْهَرُ، والمَعْنى: إنَّ اليَهُودَ والنَصارى يَعْلَمُونَ أنَّ الكَعْبَةَ هي قِبْلَةُ إبْراهِيمَ إمامَ الأُمَمِ، وأنَّ اسْتِقْبالَها هو الحَقُّ الواجِبُ عَلى الجَمِيعِ اتِّباعًا لِمُحَمَّدٍ ﷺ الَّذِي يَجِدُونَهُ في كُتُبِهِمْ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "عَمّا تَعْمَلُونَ" بِتاءٍ عَلى المُخاطَبَةِ، فَإمّا عَلى إرادَةِ أهْلِ الكِتابِ أو أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وعَلى الوَجْهَيْنِ فَهو إعْلامٌ بِأنَّ اللهَ تَعالى لا يُهْمِلُ العِبادَ، ولا (p-٣٧٦)يَغْفَلُ عنها، وضَمَّنَهُ الوَعِيدَ، وقَرَأ الباقُونَ بِالياءِ مِن تَحْتٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَئِنْ أتَيْتَ﴾ الآيَةُ، أعْلَمَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ حِينَ قالَتْ لَهُ اليَهُودُ: راجِعْ بَيْتَ المَقْدِسِ ونُؤْمِن بِكَ، مُخادَعَةً مِنهم أنَّهم لا يَتَّبِعُونَ لَهُ قِبْلَةً، يَعْنِي جُمْلَتْهُمْ؛ لِأنَّ البَعْضَ قَدِ اتَّبَعَ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ وغَيْرِهِ، وأنَّهم لا يَدِينُونَ بِدِينِهِ، أيْ فَلا تُصْغِ إلَيْهِمْ. والآيَةُ هُنا: العَلامَةُ. وجاءَ جَوابُ "لَئِنْ" كَجَوابِ "لَوَ" وهي ضِدُّها في أنَّ "لَوَ" تَطْلُبُ المُضِيَّ والوُقُوعَ و"إنْ" تَطْلُبُ الِاسْتِقْبالَ لِأنَّهُما جَمِيعًا يَتَرَتَّبُ قَبْلَهُما مَعْنى القَسَمِ، فالجَوابُ إنَّما هو لِلْقَسَمِ لا أنَّ أحَدَ الحَرْفَيْنِ يَقَعُ مَوْقِعَ الآخَرِ. هَذا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾، لَفْظُ خَبَرٍ يَتَضَمَّنُ الأمْرَ، أيْ: فَلا تَرْكَنُ إلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما بَعْضُهُمْ﴾ الآيَةُ، قالَ السُدِّيُّ وابْنُ زَيْدٍ: المَعْنى: لَيْسَتِ اليَهُودُ مُتَّبِعَةً قِبْلَةَ النَصارى، ولا النَصارى مُتَّبَعَةً قِبْلَةَ اليَهُودِ، فَهَذا إعْلامٌ بِاخْتِلافِهِمْ وتَدابُرِهِمْ وضَلالِهِمْ، وقالَ غَيْرُهُما: مَعْنى الآيَةِ: وما مَن أسْلَمَ مَعَكَ مِنهم بِمُتَّبَعٍ قِبْلَةَ مَن لَمْ يُسْلِمْ، ولا مَن لَمْ يُسْلِمْ بِمُتَّبَعٍ قِبْلَةَ مَن أسْلَمَ، والأوَّلُ أظْهَرُ في الأبْعاضِ. (p-٣٧٧)وَقِبْلَةُ النَصارى مَشْرِقُ الشَمْسِ، وقِبْلَةُ اليَهُودِ بَيْتُ المَقْدِسِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ﴾ الآيَةُ، خِطابٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ والمُرادُ أُمَّتُهُ، وما ورَدَ مِن هَذا النَوْعِ الَّذِي يُوهِمُ مِنَ النَبِيِّ ﷺ ظُلْمًا مُتَوَقَّعًا فَهو مَحْمُولٌ عَلى إرادَةِ أُمَّتِهِ، لِعِصْمَةِ النَبِيِّ ﷺ، وقَطَعْنا أنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ مِنهُ فَإنَّما المُرادُ مَن يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنهُ، وخُوطِبَ النَبِيُّ ﷺ تَعْظِيمًا لِلْأمْرِ. والأهْواءُ جَمْعُ هَوًى، ولا يُجْمَعُ عَلى أهْوِيَةٍ، عَلى أنَّهم قَدْ قالُوا: نَدى وأنْدِيَةٌ قالَ الشاعِرُ: ؎ في لَيْلَةٍ مِن جُمادى ذاتِ أنْدِيَةٍ ∗∗∗ لا يُبْصِرُ الكَلْبُ في ظَلْمائِها الطُنُبا وهَوى النَفْسِ إنَّما يُسْتَعْمَلُ في الأكْثَرِ فِيما لا خَيْرَ فِيهِ، وقَدْ يُسْتَعْمَلُ في الخَيْرِ مُقَيَّدًا بِهِ، كَما «قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ في أسْرى بَدْرٍ: فَهَوِيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ما قالَ أبُو بَكْرٍ»، و"إذا" حَرْفٌ مَعْناهُ: أنْ تَقَرَّرَ ما ذُكِرَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب