الباحث القرآني

وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ الآية، معنى (لئن): ما تستقبل، ومعنى (لو): ماض، وحقيقة معنى (لو): أنها يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، تقول: لو جئتني لأكرمتك، أي: لم تجئني، فلم أكرمك، فإنما امتنع إكرامي لامتناع مجيئك [[بمعناه من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 224، وينظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 224، "المقتضب" للمبرد 3/ 75.]]. ومعنى إن ﴿وَلَئِنْ﴾: أنه يقع بهما الشيء لوقوع غيره، تقول: إن تأتني أكرمْك، فالإكرام يقع بوقوع الإتيان [[بمعناه من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 224، وينظر: "الكتاب" لسيبويه 3/ 77، و 107، و 108، "المقتضب" للمبرد 2/ 46 - 47، و 362.]]. فقولهم: (لئن) تستعمل فيما يستقبل، وجوابها يقع بالمستقبل، و (لو) تستعمل في الماضي، وجوابها يقع بالماضي، كقولك: لئن قمتَ لأقومنّ، ولو قمتَ قمتُ، هذا معنى الكلمتين ووضعهما في الأصل. ثم إنّ العرب لما استجازت في الفعل المستقبل والماضي أن يقوم أحدهما مقام الآخر، استجازت تقريب إحدى هاتين الكلمتين من الأخرى في الجواب؛ لذلك أجيبت لئن بجواب لو في هذه الآية [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 223.]]. ومثل هذا من تقريب إحداهما من الأخرى في التنزيل قوله: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا﴾ [الروم: 51]، أجيب (لئن) بجواب (لو). وأجيبت (لو) بجواب (لئن) في قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ﴾ [البقرة: 103] فقوله: ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ ميعاد للثواب في المستقبل، ومثل هذا يكون جوابًا لقولك: لئن. وهذا معنى قول الفراء؛ لأنه قال؛ أجيبت لئن بجواب لو؛ لأن الماضي وليها، كما يلي لو، فأجيبت بجواب لو، ودخلت كل واحدة منهما على أختها، وشبهت كل واحدة بصاحبتها [["معاني القرآن" للفراء 1/ 84، واختاره الطبري 2/ 24، ورده الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 224، وينظر: "التبيان" للعكبري ص 99، وقال متعقبا رأي الفراء: وهو بعيد، لأن إن للمستقبل، ولو للماضي. وقال أبو حيان، "البحر المحيط" 1/ 430: اللام في (ولئن) هي التي تؤذن بقسم محذوف متقدم، فقد اجتمع القسم المتقدم المحذوف والشرط متأخر عنه، فالجواب للقسم، وهو قوله: (ما تبعوا)؛ ولذلك لم تدخله الماء، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وهو == منفي بما، ماضي الفعل، مستقبل المعنى. ثم رد مذهب الفراء بقوله: وهذا الذي قاله الفراء هو بناء على مذهبه أن المقسم إذا تقدم على الشرط جاز أن يكون الجواب للشرط دون القسم، وليس هذا مذهب البصريين، بل الجواب يكون للقسم بشرطه المذكور في النحو، واستعمال (إن) بمعنى (لو) قليل، فلا ينبغي أن يحمل على ذلك، إذا ساغ إقرارها على وضع أصلها. وقال ابن عطية في: "المحرر الوجيز" 2/ 17: وجاء جواب لئن كجواب لو، وهي ضدها في أن لو تطلب المضي والوقوع، وإن تطلب الاستقبال؛ لأنهما جميعاً يترتب قبلهما معنى القسم، فالجواب إنما هو للقسم، لا أن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، هذا قول سيبويه.]]. فأما التفسير: فإن اليهود والنصارى طلبوا من النبي ﷺ الآيات، فأنزل الله هذه الآية، وقد علم أهل الكتابين أن محمدًا حقّ، وصفته ونبوته في كتابهم، ولكنهم جحدوا مع تحقق علمهم، وما تغني الآيات عند من يجحد ما يعرف [[ينظر: "تفسير مقاتل" 1/ 147، "تفسير الطبري" 2/ 24، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 224، "تفسير الثعلبي" 1/ 1245، "الكفاية" 1/ 18، "تفسير البغوي" 1/ 163.]]؛ لذلك قال -عز من قائل-: ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾. فإن قيل: كيف قال هذا، وقد آمن منهم كثير؟ قيل: هذا إخبار عن جميعهم أنهم كلهم لا يفعلون [[في (ش): (لا يعقلون).]] ذلك [[ينظر: "المحرر الوجيز" 2/ 17، "التفسير الكبير" 4/ 125، ونسبه إلى الحسن.]]. وقيل: إنه أراد الفريق الذين هم أهل العناد، وهم الذين عناهم بقوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [[ينظر: "البحر المحيط" 1/ 431.]]. وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ حسم بهذا إطماع اليهود في رجوعه ﷺ إلى قبلتهم، لأنهم كانوا يطمعون. وأكّد بهذا أنه لا ينسخ التوجه إلى الكعبة [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 24، "البحر المحيط" 1/ 432.]]، وقيل في هذا: إنه لما قال: ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ قال: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ على المقابلة، كما تقول: ما هم بتاركي إنكار الحق، وما أنت بتارك الاعتراف به، ويكون الذي جرّ الكلام الثاني التقابل للكلام الأول، وهو حسن من كلام البلغاء [[ينظر: "البحر المحيط" 1/ 432.]]. وقوله تعالى: ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ أخبر أنهم وإن اتفقوا في الظاهر على النبي ﷺ مختلفون فيما بينهم. فاليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى تستقبل المشرق. واليهود لا تتبع قبلة النصارى، ولا النصارى تتبع قبلة اليهود [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 24، 25 والثعلبي 1/ 1246، "التفسير الكبير" 4/ 126، "البحر المحيط" 1/ 432، " المحرر الوجيز" 2/ 17 - 18.]]. وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ أي: صليت إلى قبلتهم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ أن قبلة الله الكعبة ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي: إنك إذن مثلهم [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1246.]]، وأجيبت (لئن) ها هنا بجواب مثلها؛ لأنه أراد فيما يستقبل من الزمان. وذكر أهل التأويل في قوله: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ وجهين: أحدهما: أن الخطاب له ﷺ في الظاهر وهو في المعنى لأمته، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [الطلاق: 1]. والثاني: أن الله تعالى خاطب نبيه -عليه السلام- بهذا مهددًا أمته، أي: إذا استحققت منا مثل ذا الجزاء عند مخالفة، لو وقعت منك، ولن تقع أبدًا كانوا هم أجدر وأخلق، بتكاثف الأوزار، واجتماع الآثام، عند ما يظهر منهم من إيثار الضلال والانحراف عن الحق. وذكر وجه ثالث: وهو أن معنى ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ أي: في المداراة معهم حرصًا على إيمانهم ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ لنفسك، إذ قد أعلمتك أنهم لا يؤمنون [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 224، "المحرر الوجيز" 2/ 18 - 19.]]. وذكرنا الكلام في معنى (إذن) عند قوله: ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 53].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب