الباحث القرآني
ولَمّا أطْمَعَ أوَّلُ الآيَةِ في أهْلِ الكِتابِ وقَطَعَ عَنْهم آخِرُها صَرَّحَ بِما لَوَّحَ إلَيْهِ هَذا الأخِيرُ وأعْلَمَهُ ﷺ بِعاقِبَةِ أمْرِهِمْ وأنَّهُ لا اتِّفاقَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم أصْلًا ولا اتِّفاقَ بَيْنَ فَرِيقَيْهِمْ مَعَ كَوْنِ الكُلِّ مِن بَنِي إسْرائِيلَ لِيُرِيحَهُ ﷺ مِنَ التَّطَلُّعِ إلى هُدى بَعْضِهِمْ فَقالَ تَعالى: ﴿ولَئِنْ أتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا﴾ بَناهُ لِلْمَجْهُولِ تَنْبِيهًا عَلى هَوانِهِمْ ﴿الكِتابَ﴾ أيْ: مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى ﴿بِكُلِّ آيَةٍ﴾ أيْ: مِنَ الآياتِ المَسْمُوعَةِ مُرَغِّبَةً ومُرَهِّبَةً ومِنَ الآياتِ المَرْئِيَّةِ مُغَرِّبَةً ومُقَرِّبَةً ﴿ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ أيْ: هَذِهِ الَّتِي حُوِّلْتَ إلَيْها وكُنْتَ الحَقِيقَ بِها لِكَوْنِها قِيامًا لِلنّاسِ كَما أنْتَ رَسُولٌ إلى جَمِيعِ النّاسِ، لِأنَّ إعْراضَهم لَيْسَ عَنْ شُبْهَةٍ إذا زالَتْ زالَ بَلْ عَنْ عِنادٍ، ثُمَّ أوْمَأ لَهُ إلى أنَّهم يَنْصِبُونَ لَهُ الحَبائِلَ لِيَعُودَ ولَوْ ساعَةً مِن نَهارٍ إلى قِبْلَتِهِمْ لِيَقْدَحُوا بِذَلِكَ فِيهِ فَقالَ: ﴿وما أنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ ثُمَّ أشارَ إلى عَيْبِهِمْ بِاخْتِلافِهِمْ وتَفَرُّقِهِمْ مَعَ نَهْيِهِمْ عَنْهُ فَقالَ: ﴿وما بَعْضُهُمْ﴾ أيْ: أهْلُ الكِتابِ ﴿بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ مَعَ تَقارُبِهِمْ في النَّسَبِ، وذَلِكَ حَثًّا لِلْعَرَبِ عَلى الثَّباتِ عَلى مُباعَدَتِهِمْ والحَذَرِ مِن مُخادَعَتِهِمْ.
ولَمّا كانَ دِينُهم قَدْ نُسِخَ أعْلَمَ سُبْحانَهُ بِأنَّ ثَباتَهم عَلى قِبْلَتِهِمْ مَعَ (p-٢٢٣)ذَلِكَ مُجَرَّدُ هَوًى [فَقالَ ] مُنَفِّرًا لِلْأُمَّةِ عَنْهم ومُحَذِّرًا لَهم مِنهم بِخِطابِ الرَّأْسِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أدْعى لِقَبُولِ الِاتِّباعِ ﴿ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْواءَهُمْ﴾ ولَمّا كانَ هَذا السِّياقُ لِأمْرِ القِبْلَةِ فَقَطْ قالَ: ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: فَأبْهَمَهُ ولَمْ يَكُنْ نَحْوَ الأوَّلِ الَّذِي قالَ فِيهِ: ”بَعْدَ الَّذِي“ لِظُهُورِ ما ذُكِرَ في الأوَّلِ وخَفاءِ ما وقَعَتْ إلَيْهِ الإشارَةُ في هَذا، وجاءَتْ فِيهِ ”مِن“ الَّتِي هي لِابْتِداءٍ مِن أوَّلِيَّةٍ لِخَفاءِ مَبْدَأِ أمْرِ ما جاءَ مِنَ العِلْمِ هُنا وظُهُورِ ذَلِكَ الأوَّلِ، لِأنَّ ذَلِكَ كانَ في أمْرِ المِلَّةِ الَّتِي (p-٢٢٤)مَأْخَذُها العَقْلُ، وهَذِهِ في أمْرِ التَّوْجِيهِ الَّذِي مَأْخَذُهُ الدِّينُ والغَيْبُ، قالَ الحَرالِّيُّ: قالَ تَعالى: ﴿إنَّكَ إذًا لَمِنَ الظّالِمِينَ﴾ عَلى حَدِّ ما ذُكِرَ مِن أنَّهُ مَن لَمَحَ لَمْحًا مِن وصْفٍ كانَ مِنَ المَوْصُوفِ بِهِ بِألْطَفَ لَطُفَ ووَصَفَ كُلَّ رُتْبَةٍ بِحَسَبِها، فَما يَرْفَعُ عَنْهُ النَّبِيَّ ﷺ مِن بابِ إظْهارِ رَغْبَتِهِ وحِرْصِهِ عَلى هِدايَةِ الخَلْقِ الَّذِي جُبِلَ عَلى الرَّحْمَةِ فِيهِ وطَلَبِ المُسامِحَةِ في التَّقاصُرِ عَنْهُ نَظَرًا مِنهُ إلى حَقِّ اللَّهِ تَعالى ومَضْمُونُ وصِيَّةِ اللَّهِ تَعالى لَهُ حِينَ أوْصاهُ بِغَيْرِ تُرْجُمانٍ ولا واسِطَةٍ أنْ يَصْفَحَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ ويَصِلَ مَن قَطَعَهُ، فَكانَ ﷺ يَطْلَبُ وصْلَ المُنْقَطِعِ عَنْهُ حَتّى يُعْلِنَ عَلَيْهِ بِالإكْراهِ في تَرْكِ ذَلِكَ ووَدْعِهِ فَيُجِيبُهُ حُكْمًا وإنْ كانَ مَعَهُ عِلْمًا، ومِنهُ قَوْلُهُ: «اللَّهُمَّ [اغْفِرْ ] لِقَوْمِي ! فَإنَّهم لا يَعْلَمُونَ»، فَفي طَيِّ كُلِّ خِطابٍ لَهُ يُظْهِرُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فِيهِ إكْراهَهُ عَلى أخْذِ حُكْمِ الحَقِّ وإمْضاءِ العَدْلِ أعْظَمَ مِدْحَةٍ لَهُ والتِزامٍ لِوَصِيَّتِهِ إيّاهُ، فَهو مَمْدُوحٌ بِما هو مُخاطَبٌ بِخِطابِ الإكْراهِ عَلى إمْضاءِ العَدْلِ والِاخْتِصارِ في أمْرِ رَحْمَتِهِ لِلْعالِمِينَ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ أنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَضَعُ رَحْمَةً في مَوْضِعِ اسْتِحْقاقِ وضْعِ النِّقْمَةِ، فَذَلِكَ الَّذِي بِجَمْعِ مَعْناهُ بَيْنَ مُتَقابِلِ الظّالِمِينَ فِيمَن يَضَعُ النِّقْمَةَ مَوْضِعَ الرَّحْمَةِ فَيَكُونُ أدْنى الظُّلْمِ، أوْ مَن يَضَعُ الرَّحْمَةَ في مَوْضِعِ (p-٢٢٥)النِّقْمَةِ فَيَكُونُ مِنهُ بِتَغْيِيرِ الوَضْعِ بِوَضْعِ الفَضْلِ مَوْضِعَ العَدْلِ؛ وعَلى ذَلِكَ جَمِيعُ ما ورَدَ في القُرْآنِ مِن نَحْوِ قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ كُنْتَ في شَكٍّ مِمّا أنْـزَلْنا إلَيْكَ فاسْألِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾ [يونس: ٩٤] أيْ: في إمْضاءِ العَدْلِ ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ﴾ [يونس: ٩٤] في طَلَبِ الفَضْلِ لِأهْلِ العَدْلِ فَإنَّ اللَّهَ يَمْضِي عَدْلُهُ كَما يَفِيضُ فَضْلُهُ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿عَبَسَ وتَوَلّى﴾ [عبس: ١] ﴿أنْ جاءَهُ الأعْمى﴾ [عبس: ٢] فِيهِ إظْهارٌ لَمِدْحَتِهِ بِحِرْصِهِ عَلى تَألُّفِ الأبْعَدِينَ ووَصْلِ القاطِعِينَ حَتّى يَنْصَرِفَ عَنْهم بِالحُكْمِ وإشادَةِ الإكْراهِ عَلَيْهِ في ذَلِكَ، فَلا يَنْصَرِفُ عَنْ حُكْمِ الوَصِيَّةِ إلى حُكْمِ الكِتابِ بِالحَقِّ إلّا عَنْ إشادَةٍ بِإكْراهِهِ عَلَيْهِ، فَهو مَحْمُودٌ بِما هو مَنهِيٌّ عَنْهُ، لِأنَّ خِطابَهُ أبَدًا في ذَلِكَ في القُرْآنِ فِيما بَيْنَ الفَضْلِ والعَدْلِ، وخِطابُ سائِرِ الخَلْقِ جارٍ فِيما بَيْنَ العَدْلِ والجَوْرِ، فَبَيْنَ الخِطابَيْنِ ما بَيْنَ دَرَجِ العُلُوِّ، ودَرَكِ السُّفْلِ في مُقْتَضى الخِطابَيْنِ المُتَشابِهَيْنِ في القَوْلِ المُتَبايِنَيْنِ (p-٢٢٦)فِي العِلْمِ. انْتَهى. وسَيَأْتِي في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣] في سُورَةِ التَّوْبَةِ ما يُوَضِّحُهُ.
{"ayah":"وَلَىِٕنۡ أَتَیۡتَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ بِكُلِّ ءَایَةࣲ مَّا تَبِعُوا۟ قِبۡلَتَكَۚ وَمَاۤ أَنتَ بِتَابِعࣲ قِبۡلَتَهُمۡۚ وَمَا بَعۡضُهُم بِتَابِعࣲ قِبۡلَةَ بَعۡضࣲۚ وَلَىِٕنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَاۤءَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ إِنَّكَ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق