الباحث القرآني

ثم ذكر سبحانه نعمه عليه من إيوائه بعد يتمه وهدايته بعد الضلالة وإغنائه بعد الفقر فكان محتاجًا إلى من يؤويه ويهديه ويغنيه فآواه ربه وهداه وأغناه فأمره سبحانه أن يقابل هذه النعم الثلاث بما يليق بها من الشكر فنهاه أن يقهر اليتيم وأن ينهر السائل وأن يكتم النعمة بل يحدث بها فأوصاه سبحانه باليتامى والفقراء والمتعلمين قال مجاهد ومقاتل لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيمًا وقال الفراء لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه وكذلك كانت العرب تفعل في أمر اليتامى تأخذ أموالهم وتظلمهم فغلظ الخطاب في أمر اليتيم وكذلك من لا ناصر له يغلظ في أمره وهو نهى لجميع المكلفين ﴿وَأمّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ قال أكثر المفسرين هو سائل المعروف والصدقة لا تنهره إذا سألك فقد كنت فقيرًا فأما أن تطعمه وإما أن ترده ردًا لينًا قال الحسن أما إنه ليس بالسائل الذي يأتيك ولكن طالب العلم وهذا قول يحيى بن آدم قال إذا جاءك طالب العلم فلا تنهره. والتحقيق أن الآية تتناول النوعين. * (فائدة) قال تعالى ﴿ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى (٦) ووَجَدَكَ ضالًّا فَهَدى (٧)﴾ وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر الشورى فإذا كان أعقل خلق الله على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي كما قال تعالى ﴿قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإنَّما أضِلُّ عَلى نَفْسِي وإنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إلَيَّ رَبِّي﴾ [سبأ: ٥٠]. فكيف يحصل لسفهاء العقول وأخفاء الأحلام وفراش الألباب الاهتداء إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم دون نصوص الأنبياء: ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا﴾. * (فصل) قال على بن أبي رباح اللخمي: كنت عند مسلمة بن مخلد الأنصاري وهو يومئذ على مصر وعبد الله بن عمرو بن العاص جالس معه فتمثل مسلمة ببيت من شعر أبي طالب فقال لو أن أبا طالب رأى ما نحن فيه اليوم من نعمة الله وكرامته لعلم أن ابن أخيه سيد قد جاء بخير فقال عبد الله بن عمرو ويومئذ كان سيدا كريما قد جاء بخير فقال مسلمة ألم يقل الله تعالى ﴿ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى ووَجَدَكَ ضالًا فَهَدى ووَجَدَكَ عائِلًا فَأغْنى﴾؟ فقال عبد الله بن عمرو: أما اليتيم فقد كان يتيما من أبويه. وأما العيلة فكل ما كان بأيدى العرب إلى القلة يقول إن العرب كانت كلها مقلة حتى فتح الله عليه وعلى العرب الذين أسلموا ودخلوا في دين الله أفواجا، ثم توفاه الله قبل أن يتلبس منها بشيء ومضى وتركها وحذر منها ومن فتنتها قال وذلك معنى قوله ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ فلم تكن الدنيا لترضيه وهو لا يرضاها كلها لأمته، وهو يحذر منها وتعرض عليه فيأباها وإنما هو ما يعطيه من الثواب وما يفتح عليه وعلى أمته من ملك كسرى وقيصر ودخول الناس في الإسلام وظهور الدين إذا كان ذلك محبته ورضاه صلوات الله وسلامه عليه. وروى سفيان الثوري عن الأوزاعي عن إسماعيل بن عبد الله بن عباس عن النبي قال: "رأيت ما هو مفتوح بعدي كفرا كفرا فسرني ذلك فنزلت والضحى والليل إلى قوله ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾ قال "أعطي ألف قصر من لؤلؤ ترابها المسك في كل قصر ما ينبغي له" قالوا وما ذكرتم من الزهد في الدنيا والتقلل منها فالزهد لا ينافي الغنى، بل زهد الغني أكمل من زهد الفقير فإن الغني زهد عن قدرة والفقير عن عجز وبينهما بعد بعيد، وقد كان رسول الله في حال غناه أزهد الخلق، وكذلك إبراهيم الخليل كان كثير المال وهو أزهد الناس في الدنيا. وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أبي ذر عن النبي قال: "الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعته ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق بما في يد الله وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب في ثوابها لو أنها بقيت لك". وسئل الإمام أحمد عن الرجل يكون معه ألف دينار وهل يكون زاهدا؟ قال نعم بشرط أن لا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت. وقال بعض السلف الزاهد من لا يغلب الحلال شكره ولا الحرام صبره. وهذا من أحسن الحدود حقيقة مركبة من الصبر والشكر، فلا يستحق اسم الزاهد من لا يتصف بهما. فمن غلب شكره لما وسع عليه من الحلال، وصبره لما عرض له من الحرام فهو الزاهد على الحقيقة بخلاف من غلب عليه الحلال شكره، والحرام صبره فكان شكره وصبره مغلوبين فإن هذا ليس بزاهد. * (فصل) وَسُئِلَ أبُو حَفْصٍ: بِمَ يَقْدَمُ الفَقِيرُ عَلى رَبِّهِ؟ فَقالَ: ما لِلْفَقِيرِ شَيْءٌ يَقْدَمُ بِهِ عَلى رَبِّهِ سِوى فَقْرِهِ. وَحَقِيقَةُ الفَقْرِ وكَمالُهُ كَما قالَ بَعْضُهُمْ، وقَدْ سُئِلَ: مَتى يَسْتَحِقُّ الفَقِيرُ اسْمَ الفَقْرِ؟ فَقالَ: إذا لَمْ يَبْقِ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنهُ. فَقِيلَ لَهُ: وكَيْفَ ذاكَ؟ فَقالَ: إذا كانَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ. وإذا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَهو لَهُ. وَهَذِهِ مِن أحْسَنِ العِباراتِ عَنْ مَعْنى الفَقْرِ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ القَوْمُ. وهو أنَّ كُلَّهُ يَصِيرُ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ. لا يَبْقى عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِن نَفْسِهِ وحَظِّهِ وهَواهُ. فَمَتى بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن أحْكامِ نَفْسِهِ فَفَقْرُهُ مَدْخُولٌ. ثُمَّ فُسِّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إذا كانَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ، أيْ: إذا كانَ لِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ. وإذا لَمْ يَكُنْ لِنَفَسِهِ فَهو لِلَّهِ. فَحَقِيقَةُ الفَقْرِ أنْ لا تَكُونَ لِنَفْسِكَ. ولا يَكُونَ لَها مِنكَ شَيْءٌ، بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّكَ لِلَّهِ. وَإذا كُنْتَ لِنَفْسِكَ فَثَمَّ مِلْكٌ واسْتِغْناءٌ مُنافٍ لِلْفَقْرِ. وَهَذا الفَقْرُ الَّذِي يُشِيرُونَ إلَيْهِ: لا تُنافِيهِ الجِدَةُ ولا الأمْلاكُ. فَقَدْ كانَ رُسُلُ اللَّهِ وأنْبِياؤُهُ في ذُرْوَتِهِ مَعَ جِدَتِهِمْ، ومُلْكِهِمْ، كَإبْراهِيمَ الخَلِيلِ ﷺ كانَ أبا الضِّيفانِ. وكانَتْ لَهُ الأمْوالُ والمَواشِي، وكَذَلِكَ كانَ سُلَيْمانُ وداوُدُ عَلَيْهِما السَّلامُ. وكَذَلِكَ كانَ نَبِيُّنا ﷺ، كانَ كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأغْنى﴾ [الضحى: ٨] فَكانُوا أغْنِياءَ في فَقْرِهِمْ. فُقَراءَ في غِناهم. فالفَقْرُ الحَقِيقِيُّ: دَوامُ الِافْتِقارِ إلى اللَّهِ في كُلِّ حالٍ، وأنْ يَشْهَدَ العَبْدَ - في كُلِّ ذَرَّةٍ مِن ذَرّاتِهِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ - فاقَةً تامَّةً إلى اللَّهِ تَعالى مِن كُلِّ وجْهٍ. فالفَقْرُ ذاتِيٌّ لِلْعَبْدِ. وإنَّما يَتَجَدَّدُ لَهُ لِشُهُودِهِ ووُجُودِهِ حالًا، وإلّا فَهو حَقِيقَةٌ. كَما قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ. قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: ؎والفَقْرُ لِي وصْفُ ذاتٍ لازِمٌ أبَدًا ∗∗∗ كَما الغِنى أبَدًا وصْفٌ لَهُ ذاتِيُّ * [فَصْلٌ مَنزِلَةُ الغِنى] وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ الغِنى العالِي. وَهُوَ نَوْعانِ: غِنًى بِاللَّهِ، وغِنًى عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، وهُما حَقِيقَةُ الفَقْرِ. ولَكِنَّ أرْبابَ الطَّرِيقِ أفْرَدُوا لِلْغِنى مَنزِلَةً. قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ: بابُ الغِنى. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأغْنى﴾ [الضحى: ٨]. وَفِي الآيَةِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُهُما: أنَّهُ أغْناهُ مِنَ المالِ بَعْدَ فَقْرِهِ: وهَذا قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ. لِأنَّهُ قابَلَهُ بِقَوْلِهِ: عائِلًا، والعائِلُ: هو المُحْتاجُ. لَيْسَ ذا العَيْلَةِ. فَأغْناهُ مِنَ المالِ. والثّانِي: أنَّهُ أرْضاهُ بِما أعْطاهُ. وأغْناهُ بِهِ عَنْ سِواهُ. فَهو غِنى قَلْبٍ ونَفْسٍ، لا غِنى مالٍ. وهو حَقِيقَةُ الغِنى. والثّالِثُ: - وهو الصَّحِيحُ - أنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ: نَوْعَيِ الغِنى؛ فَأغْنى قَلْبَهُ بِهِ. وأغْناهُ مِنَ المالِ. ثُمَّ قالَ: الغِنى اسْمٌ لِلْمِلْكِ التّامِّ. يَعْنِي أنَّهُ مَن كانَ مالِكًا مَن وجْهٍ دُونَ وجْهٍ فَلَيْسَ بِغَنِيٍّ. وعَلى هَذا: فَلا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الغَنِيَّ بِالحَقِيقَةِ إلّا اللَّهُ. وكُلُّ ما سِواهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ بِالذّاتِ. [دَرَجاتُ الغِنى] [الدَّرَجَةُ الأُولى غِنى القَلْبِ] قالَ: وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ. الدَّرَجَةُ الأُولى: غِنى القَلْبِ. وهو سَلامَتُهُ مِنَ السَّبَبِ. ومُسالَمَتُهُ لِلْحُكْمِ. وخَلاصُهُ مِنَ الخُصُومَةِ. حَقِيقَةُ غِنى القَلْبِ: تُعَلُّقَهُ بِاللَّهِ وحْدَهُ. وحَقِيقَةُ فَقْرِهِ المَذْمُومِ: تُعَلُّقُهُ بِغَيْرِهِ. فَإذا تَعَلَّقَ بِاللَّهِ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الثَّلاثَةُ الَّتِي ذَكَرَها. سَلامَتُهُ مِنَ السَّبَبِ أيْ مِنَ التَّعَلُّقِ بِهِ. لا مِنَ القِيامِ بِهِ. والغِنى عِنْدَ أهْلِ الغَفْلَةِ بِالسَّبَبِ. ولِذَلِكَ قُلُوبُهم مُعَلَّقَةٌ بِهِ. وعِنْدَ العارِفِينَ بِالمُسَبِّبِ. وكَذَلِكَ الصِّناعَةُ والقُوَّةُ. فَهَذِهِ الثَّلاثَةُ: هي جِهاتُ الغِنى عِنْدَ النّاسِ. وهي الَّتِي أشارَ إلَيْها النَّبِيُّ ﷺ في قَوْلِهِ: «إنَّ الصَّدَقَةَ لا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ. ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» وَفِي رِوايَةٍ: ولا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ وهو غِنًى بِالشَّيْءِ. فَصاحِبُها غَنِيٌّ بِها إذا سَكَنَتْ نَفْسُهُ إلَيْها. وإنْ كانَ سُكُونُهُ إلى رَبِّهِ: فَهو غَنِيٌّ بِهِ. وكُلُّ ما سَكَنَتِ النَّفْسُ إلَيْهِ فَهي فَقِيرَةٌ إلَيْهِ. وَأمّا مُسالَمَةُ الحُكْمِ فَعَلى نَوْعَيْنِ. أحَدُهُما: مُسالَمَةُ الحُكْمِ الدِّينِيِّ الأمْرِيِّ. وهي مُعانَقَتُهُ ومُوافَقَتُهُ. ضِدَّ مُحارَبَتِهِ. والثّانِي: مُسالَمَةُ الحُكْمِ الكَوْنِيِّ القَدَرِيِّ. الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيارِهِ، ولا قُدْرَةَ لَهُ عَلى دَفْعِهِ، وهو غَيْرُ مَأْمُورٍ بِدَفْعِهِ. وَفِي مُسالَمَةِ الحُكْمِ نُكْتَةٌ لا بُدَّ مِنها. وهي تَجْرِيدُ إضافَتِهِ ونِسْبَتِهِ إلى مَن صَدَرَ عَنْهُ، بِحَيْثُ لا يَنْسُبُهُ إلى غَيْرِهِ. وَهَذا يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ في مُسالَمَةِ الحُكْمِ الكَوْنِيِّ. وتَوْحِيدَ الإلَهِيَّةِ في مُسالَمَةِ الحُكْمِ الدِّينِيِّ. وهُما حَقِيقَةُ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. وَأمّا الخَلاصُ مِنَ الخُصُومَةِ فَإنَّما يُحْمَدُ مِنهُ: الخَلاصُ مِنَ الخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ. وأمّا إذا خاصَمَ بِاللَّهِ ولِلَّهِ: فَهَذا مِن كَمالِ العُبُودِيَّةِ. وكانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ في اسْتِفْتاحِهِ: «اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ. وبِكَ آمَنتُ. وعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. وإلَيْكَ أنَبْتُ. وبِكَ خاصَمْتُ. وإلَيْكَ حاكَمْتُ». [الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ غِنى النَّفْسِ] قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ. غِنى النَّفْسِ. وهو اسْتِقامَتُها عَلى المَرْغُوبِ. وسَلامَتُها مِنَ الحُظُوظِ. وبَراءَتُها مِنَ المُراءاةِ جَعَلَ الشَّيْخُ: غِنى النَّفْسِ فَوْقَ غِنى القَلْبِ. وَمَعْلُومٌ: أنَّ أُمُورَ القَلْبِ أكْمَلُ وأقْوى مِن أُمُورِ النَّفْسِ. لَكِنَّ في هَذا التَّرْتِيبِ نُكْتَةً لَطِيفَةً. وهي أنَّ النَّفْسَ مِن جُنْدِ القَلْبِ ورَعِيَّتِهِ. وهي مِن أشَدِّ جُنْدِهِ خِلافًا عَلَيْهِ، وشِقاقًا لَهُ. ومِن قِبَلِها تَتَشَوَّشُ عَلَيْهِ المَمْلَكَةُ. ويَدْخُلُ عَلَيْهِ الدّاخِلُ. فَإذا حَصَلَ لَهُ كَمالٌ بِالغِنى: لَمْ يَتِمَّ لَهُ إلّا بِغِناها أيْضًا. فَإنَّها مَتى كانَتْ فَقِيرَةً عادَ حُكْمُ فَقْرِها عَلَيْهِ. وتَشَوَّشَ عَلَيْهِ غِناهُ. فَكانَ غِناها تَمامًا لِغِناهُ وكَمالًا لَهُ. وغِناهُ أصْلًا بِغِناها. فَمِنهُ يَصِلُ الغِنى إلَيْها. ومِنها يَصِلُ الفَقْرُ والضَّرَرُ والعَنَتُ إلَيْهِ. إذا عُرِفَ هَذا، فالشَّيْخُ جَعَلَ غِناها بِثَلاثَةِ أشْياءَ: اسْتِقامَتُها عَلى المَرْغُوبِ وهو الحَقُّ تَعالى. واسْتِقامَتُها عَلَيْهِ: اسْتِدامَةُ طَلَبِهِ. وقَطْعُ المَنازِلِ بِالسَّيْرِ إلَيْهِ. الثّانِي: سَلامَتُها مِنَ الحُظُوظِ وهي تَعَلُّقاتُها الظّاهِرَةُ والباطِنَةُ بِما سِوى اللَّهِ. الثّالِثُ: بَراءَتُها مِنَ المُراءاةِ وهي إرادَةُ غَيْرِ اللَّهِ بِشَيْءٍ مِن أعْمالِها وأقْوالِها. فَمُراءاتُها دَلِيلٌ عَلى شِدَّةِ فَقْرِها. وتَعَلُّقُها بِالحُظُوظِ مِن فَقْرِها أيْضًا. وَعَدَمُ اسْتِقامَتِها عَلى مَطْلُوبِها الحَقَّ: أيْضًا مِن فَقْرِها. وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّها غَيْرُ واجِدَةٍ لِلَّهِ. إذْ لَوْ وجَدَتْهُ لاسْتَقامَتْ عَلى السَّيْرِ إلَيْهِ. ولَقَطَعَتْ تَعَلُّقاتِها وحُظُوظَها مِن غَيْرِهِ. ولَما أرادَتْ بِعَمَلِها غَيْرَهُ. فَلا تَسْتَقِيمُ هَذِهِ الثَّلاثَةُ إلّا لِمَن قَدْ ظَفِرَ بِنَفْسِهِ، ووَجَدَ مَطْلُوبَهُ. وما لَمْ يَجِدْ رَبَّهُ تَعالى فَلا اسْتِقامَةَ لَهُ. ولا سَلامَةَ لَها مِنَ الحُظُوظِ. ولا بَراءَةَ لَها مِنَ الرِّياءِ. * [فَصْلٌ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ الغِنى بِالحَقِّ] قالَ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: الغِنى بِالحَقِّ. وهو عَلى ثَلاثِ مَراتِبَ. المَرْتَبَةُ الأُولى: شُهُودُ ذِكْرِهِ إيّاكَ. والثّانِيَةُ: دَوامُ مَطالَعَةِ أوَّلِيَّتِهِ. والثّالِثَةُ: الفَوْزُ بِوُجُودِهِ. أمّا شُهُودُ ذِكْرِهِ إيّاكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَأمّا مُطالَعَةُ أوَّلِيَّتِهِ فَهو سَبْقُهُ لِلْأشْياءِ جَمِيعًا. فَهو الأوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ. قالَ بَعْضُهم. ما رَأيْتُ شَيْئًا إلّا وقَدْ رَأيْتُ اللَّهَ قَبْلَهُ. فَإنْ قُلْتَ: وأيُّ غِنًى يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ مِن مُطالَعَةِ أوَّلِيَّةِ الرَّبِّ، وسَبْقِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ؟ ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا حاصِلٌ لِكُلِّ أحَدٍ، مِن غَنِيٍّ أوْ فَقِيرٍ، فَما وجْهُ الغِنى الحاصِلِ بِهِ؟ قُلْتُ: إذا شَهِدَ القَلْبُ سَبْقَهُ لِلْأسْبابِ، وأنَّها كانَتْ في حَيِّزِ العَدَمِ. وهو الَّذِي كَساها حُلَّةَ الوُجُودِ، فَهي مَعْدُومَةٌ بِالذّاتِ. فَقِيرَةٌ إلَيْهِ بِالذّاتِ. وهو المَوْجُودُ بِذاتِهِ. والغَنِيُّ بِذاتِهِ لا بِغَيْرِهِ. فَلَيْسَ الغِنى في الحَقِيقَةِ إلّا بِهِ، كَما أنَّهُ لَيْسَ في الحَقِيقَةِ إلّا لَهُ. فالغِنى بِغَيْرِهِ: عَيْنُ الفَقْرِ. فَإنَّهُ غِنًى بِمَعْدُومٍ فَقِيرٍ. وفَقِيرٌ كَيْفَ يَسْتَغْنِي بِفَقِيرٍ مِثْلِهِ؟ وَأمّا الفَوْزُ بِوُجُودِهِ فَإشارَةُ القَوْمِ كُلِّهِمْ إلى هَذا المَعْنى. وهو نِهايَةُ سَفَرِهِمْ. وفي الأثَرِ الإلَهِيِّ: ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإنْ وجَدَتْنِي وجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ. وإنْ فُتُّكَ فاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ. وأنا أحَبُّ إلَيْكَ مِن كُلِّ شَيْءٍ. وَمَن لَمْ يَعْلَمْ مَعْنى وجُودِهِ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ والفَوْزَ بِهِ: فَلْيَحْثُ عَلى رَأْسِهِ الرَّمادَ. ولْيَبْكِ عَلى نَفْسِهِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب