الباحث القرآني

﴿ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى﴾ ﴿ووَجَدَكَ ضالًّا فَهَدى﴾ ﴿ووَجَدَكَ عائِلًا فَأغْنى﴾ . اسْتِئْنافٌ مَسُوقٌ مَساقَ الدَّلِيلِ عَلى تَحَقُّقِ الوَعْدِ، أيْ: هو وعْدٌ جارٍ عَلى سَنَنِ ما سَبَقَ مِن عِنايَةِ اللَّهِ بِكَ مِن مَبْدَأِ نَشْأتِكَ ولُطْفِهِ في الشَّدائِدِ بِاطِّرادٍ بِحَيْثُ لا يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن قَبِيلِ الصُّدَفِ؛ لِأنَّ شَأْنَ الصُّدَفِ أنْ لا تَتَكَرَّرَ فَقَدْ عُلِمَ أنَّ اطِّرادَ ذَلِكَ مُرادٌ لِلَّهِ تَعالى. والمَقْصُودُ مِن هَذا إيقاعُ اليَقِينِ في قُلُوبِ المُشْرِكِينَ بِأنَّ ما وعَدَهُ اللَّهُ بِهِ مُحَقَّقُ الوُقُوعِ قِياسًا عَلى ما ذَكَّرَهُ بِهِ مِن مُلازَمَةِ لُطْفِهِ بِهِ فِيما مَضى وهم لا يَجْهَلُونَ ذَلِكَ عَسى أنْ يُقْلِعُوا عَنِ العِنادِ ويُسْرِعُوا إلى الإيمانِ، وإلّا فَإنَّ ذَلِكَ مَساءَةٌ تَبْقى في نُفُوسِهِمْ وأشْباحُ رُعْبٍ تُخالِجُ خَواطِرَهم. ويَحْصُلُ مَعَ ذَلِكَ المَقْصُودِ امْتِنانٌ عَلى النَّبِيءِ ﷺ وتَقْوِيَةٌ لِاطْمِئْنانِ نَفْسِهِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ. والِاسْتِفْهامُ تَقْرِيرِيٌّ، وفِعْلُ (يَجِدْكَ) مُضارِعُ (وجَدَ) بِمَعْنى ألْفى وصادَفَ، وهو الَّذِي يَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ ومَفْعُولُهُ ضَمِيرُ المُخاطَبِ. و(يَتِيمًا) حالٌ، وكَذَلِكَ (ضالًّا) و(عائِلًا) . والكَلامُ تَمْثِيلٌ لِحالَةِ تَيْسِيرِ المَنافِعِ لِلَّذِي تَعَسَّرَتْ عَلَيْهِ بِحالَةِ مَن وجَدَ شَخْصًا في شِدَّةٍ يَتَطَلَّعُ إلى مَن يُعِينُهُ أوْ يُغِيثُهُ. واليَتِيمُ: الصَّبِيُّ الَّذِي ماتَ أبُوهُ، وقَدْ كانَ أبُو النَّبِيءِ ﷺ تُوُفِّيَ وهو جَنِينٌ أوْ في أوَّلِ المُدَّةِ مِن وِلادَتِهِ. والإيواءُ: مَصْدَرُ أوى إلى البَيْتِ، إذا رَجَعَ إلَيْهِ، فالإيواءُ: الإرْجاعُ إلى المَسْكَنِ، فَهَمْزَتُهُ الأُولى هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ، أيْ: جَعَلَهُ آوِيًا، وقَدْ أُطْلِقَ الإيواءُ عَلى الكَفالَةِ وكِفايَةِ الحاجَةِ مَجازًا أوِ اسْتِعارَةً، فالمَعْنى: أنْشَأكَ عَلى كَمالِ الإدْراكِ والِاسْتِقامَةِ وكُنْتَ عَلى تَرْبِيَةٍ كامِلَةٍ مَعَ أنَّ شَأْنَ الأيْتامِ أنْ يَنْشَئُوا عَلى نَقائِصَ لِأنَّهم لا يَجِدُونَ مَن يُعْنى بِتَهْذِيبِهِمْ وتَعَهُّدِ أحْوالِهِمُ الخُلُقِيَّةِ. وفي الحَدِيثِ: ”«أدَّبَنِي رَبِّي فَأحْسَنَ تَأْدِيبِي» “، فَكانَ تَكْوِينُ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ عَلى الكَمالِ خَيْرًا مِن تَرْبِيَةِ الأبَوَيْنِ. (p-٤٠٠)والضَّلالُ: عَدَمُ الِاهْتِداءِ إلى الطَّرِيقِ المُوصِلِ إلى المَكانِ المَقْصُودِ سَواءٌ سَلَكَ السّائِرُ طَرِيقًا آخَرَ يُبْلِغُ إلى غَيْرِ المَقْصُودِ أمْ وقَفَ حائِرًا لا يَعْرِفُ أيَّ طَرِيقٍ يَسْلُكُ، وهو المَقْصُودُ هُنا؛ لِأنَّ المَعْنى: أنَّكَ كُنْتَ في حَيْرَةٍ مِن حالِ أهْلِ الشِّرْكِ مِن قَوْمِكَ، فَأراكَهُ اللَّهُ غَيْرَ مَحْمُودٍ وكَرَّهَهُ إلَيْكَ ولا تَدْرِي ماذا تَتَّبِعُ مِنَ الحَقِّ، فَإنَّ اللَّهَ لَمّا أنْشَأ رَسُولَهُ ﷺ عَلى ما أرادَ مِن إعْدادِهِ لِتَلَقِّي الرِّسالَةِ في الإبّانِ، ألْهَمَهُ أنَّ ما عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنَ الشِّرْكِ خَطَأٌ وألْقى في نَفْسِهِ طَلَبَ الوُصُولِ إلى الحَقِّ لِيَتَهَيَّأ بِذَلِكَ لِقَبُولِ الرِّسالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعالى. ولَيْسَ المُرادُ بِالضَّلالِ هُنا اتِّباعَ الباطِلِ، فَإنَّ الأنْبِياءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الإشْراكِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ بِاتِّفاقِ عُلَمائِنا، وإنَّما اخْتَلَفُوا في عِصْمَتِهِمْ مِن نَوْعِ الذُّنُوبِ الفَواحِشِ الَّتِي لا تَخْتَلِفُ الشَّرائِعُ في كَوْنِها فَواحِشَ وبِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ التَّنافِي بَيْنَ اعْتِبارِ الفِعْلِ فاحِشَةً وبَيْنَ الخُلُوِّ عَنْ وُجُودِ شَرِيعَةٍ قَبْلَ النُّبُوءَةِ، فَإنَّ المُحَقِّقِينَ مِن أصْحابِنا نَزَّهُوهم عَنْ ذَلِكَ، والمُعْتَزِلَةُ مَنَعُوا ذَلِكَ بِناءً عَلى اعْتِبارِ دَلِيلِ العَقْلِ كافِيًا في قُبْحِ الفَواحِشِ عَلى إرْسالِ كَلامِهِمْ في ضابِطِ دَلالَةِ العَقْلِ. ولَمْ يَخْتَلِفْ أصْحابُنا أنَّ نَبِيَّنا ﷺ لَمْ يَصْدُرْ مِنهُ ما يُنافِي أُصُولَ الدِّينِ قَبْلَ رِسالَتِهِ ولَمْ يَزَلْ عُلَماؤُنا يَجْعَلُونَ ما تَواتَرَ مِن حالِ اسْتِقامَتِهِ ونَزاهَتِهِ عَنِ الرَّذائِلِ قَبْلَ نُبُوءَتِهِ دَلِيلًا مِن جُمْلَةِ الأدِلَّةِ عَلى رِسالَتِهِ، بَلْ قَدْ شافَهَ القُرْآنُ بِهِ المُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: (﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكم عُمُرًا مِن قَبْلِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: ١٦]) وقَوْلِهِ: (﴿أمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهم فَهم لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٩]) ولِأنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ أنَّ المُشْرِكِينَ أفْحَمُوا النَّبِيءَ ﷺ فِيما أنْكَرَ عَلَيْهِمْ مِن مَساوِي أعْمالِهِمْ بِأنْ يَقُولُوا: فَقَدْ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَنا. والعائِلُ: الَّذِي لا مالَ لَهُ، والفَقْرُ يُسَمّى عَيْلَةً، قالَ تَعالى: (﴿وإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إنْ شاءَ﴾ [التوبة: ٢٨]) وقَدْ أغْناهُ اللَّهُ غِناءَيْنِ: أعْظَمُهُما غِنى القَلْبِ إذْ ألْقى في قَلْبِهِ قِلَّةَ الِاهْتِمامِ بِالدُّنْيا، وغِنى المالِ حِينَ ألْهَمَ خَدِيجَةَ مُقارَضَتَهُ في تِجارَتِها. وحُذِفَتْ مَفاعِيلُ (فَآوى، فَهَدى، فَأغْنى) لِلْعِلْمِ بِها مِن ضَمائِرِ الخِطابِ قَبْلَها، وحَذْفُها إيجازٌ، وفِيهِ رِعايَةٌ عَلى الفَواصِلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب