الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأغْنى﴾ العائِلُ: صاحِبُ العِيالِ، وقِيلَ: العائِلُ الفَقِيرُ، عَلى أنَّهُ مِن لازِمِ العِيالِ الحاجَةُ، ولَكِنْ لَيْسَ بِلازِمٍ، ومُقابَلَةُ ”عائِلًا“ بِأغْنى، تَدُلُّ عَلى أنَّ مَعْنى ”عائِلًا“ أيْ: فَقِيرًا، ولِذا قالَ الشّاعِرُ: ؎فَما يَدْرِي الفَقِيرُ مَتى غِناهُ وما يَدْرِي الغَنِيُّ مَتى يَعِيلُ ؎وَما تَدْرِي وإنْ ذَمَّرْتَ سَقْبًا ∗∗∗ لِغَيْرِكَ أمْ يَكُونُ لَكَ الفَصِيلُ (p-٥٦٢)وَهَذا مِمّا يَذْكُرُهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ مِن تَعْدادِ النِّعَمِ عَلَيْهِ، وأنَّهُ لَمْ يُوَدِّعْهُ وما قَلاهُ، لَقَدْ كانَ فَقِيرًا مِنَ المالِ فَأغْناهُ اللَّهُ بِمالِ عَمِّهِ. وَقَدْ قالَ عَمُّهُ في خُطْبَةِ نِكاحِهِ بِخَدِيجَةَ: وإنْ كانَ في المالِ قَلَّ فَما أحْبَبْتُمْ مِنَ الصَّداقِ فَعَلَيَّ، ثُمَّ أغْناهُ اللَّهُ بِمالِ خَدِيجَةَ، حَيْثُ جَعَلَتْ مالَها تَحْتَ يَدِهِ. قالَ النَّيْسابُورِيُّ ما نَصُّهُ: يُرْوى «أنَّهُ ﷺ دَخَلَ عَلى خَدِيجَةَ وهو مَغْمُومٌ، فَقالَتْ: ما لَكَ ؟ فَقالَ: ”الزَّمانُ زَمانُ قَحْطٍ، فَإنْ أنا بَذَلْتُ المالَ يَنْفَدُ مالُكِ، فَأسْتَحْيِي مِنكِ، وإنْ أنا لَمْ أبْذُلْ أخافُ اللَّهَ»“، فَدَعَتْ قُرَيْشًا وفِيهِمُ الصِّدِّيقُ، قالَ الصِّدِّيقُ: فَأخْرَجَتْ دَنانِيرَ حَتّى وضَعَتْها، بَلَغَتْ مَبْلَغًا لَمْ يَقَعْ بَصَرِي عَلى مَن كانَ جالِسًا قُدّامِي، ثُمَّ قالَتِ: اشْهَدُوا أنَّ هَذا المالَ مالُهُ، إنْ شاءَ فَرَقَّهُ، وإنْ شاءَ أمْسَكَهُ. فَهَذِهِ القِصَّةُ وإنْ لَمْ يُذْكَرْ سَنَدُها، فَلَيْسَ بِغَرِيبٍ عَلى خَدِيجَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ لَهُ ﷺ، وقَدْ فَعَلَتْ ما هو أعْظَمُ مِن ذَلِكَ، حِينَ دَخَلَتْ مَعَهُ الشِّعْبَ فَتَرَكَتْ مالَها، واخْتارَتْ مُشارَكَتَهُ ﷺ لِما هو فِيهِ مِن ضِيقِ العَيْشِ، حَتّى أكَلُوا ورَقَ الشَّجَرِ، وأمْوالُها طائِلَةٌ في بَيْتِها. ثُمَّ كانَتِ الهِجْرَةُ وكانَتْ مُواساةُ الأنْصارِ، لَقَدْ قَدِمَ المَدِينَةَ تارِكًا مالَهُ ومالَ خَدِيجَةَ، حَتّى إنَّ الصِّدِّيقَ لَيَدْفَعُ ثَمَنَ المِرْبَدِ لِبِناءِ المَسْجِدِ، وكانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيْءُ بَنِي النَّضِيرِ، وكانَ يَقْضِي الهِلالَ، ثُمَّ الهِلالَ، ثُمَّ الهِلالَ، لا يُوقَدُ في بَيْتِهِ ﷺ نارٌ، إنَّما هُما الأسْوَدانِ: التَّمْرُ والماءُ. ثُمَّ جاءَتْ غَنائِمُ حُنَيْنٍ، فَأعْطى عَطاءَ مَن لا يَخْشى الفَقْرَ، ورَجَعَ بِدُونِ شَيْءٍ، وجاءَ مالُ البَحْرِينِ فَأخَذَ العَبّاسُ ما يُطِيقُ حَمْلَهُ، وأخِيرًا تُوُفِّيَ ﷺ ودِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ في آصُعٍ مِن شَعِيرٍ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأغْنى﴾، يُشِيرُ إلى هَذا المَوْضِعِ؛ لِأنَّ ”أغْنى“ تَعْبِيرٌ بِالفِعْلِ، وهو يَدُلُّ عَلى التَّجَدُّدِ والحُدُوثِ، فَقَدْ كانَ ﷺ مِن حَيْثُ المالِ حالًا فَحالًا، والواقِعُ أنَّ غِناهُ ﷺ كانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، هو غِنى النَّفْسِ والِاسْتِغْناءُ عَنِ النّاسِ، ويَكْفِي أنَّهُ ﷺ أجْوَدُ النّاسِ. وَكانَ إذا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ ودارَسَهُ القُرْآنَ كالرِّيحِ المُرْسَلَةِ، فَكانَ ﷺ القُدْوَةَ في (p-٥٦٣)الحالَتَيْنِ، في حالَيِ الفَقْرِ والغِنى، إنْ قَلَّ مالُهُ صَبَرَ، وإنْ كَثُرَ بَذَلَ وشَكَرَ. ؎اسْتَغْنِ ما أغْناكَ رَبُّكَ بِالغِنى ∗∗∗ وإذا تُصِبْكَ خَصاصَةٌ فَتَجَمَّلِ وَمِمّا يَدُلُّ عَلى عِظَمِ عَطاءِ اللَّهِ لَهُ مِمّا فاقَ كُلَّ عَطاءٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ [الحجر: ٨٧]، ثُمَّ قالَ: ﴿لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنا بِهِ أزْواجًا مِنهم ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ واخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: ٨٨] . وَقَدِ اخْتَلَفُوا في المُقارَنَةِ بَيْنَ الفَقِيرِ الصّابِرِ والغَنِيِّ الشّاكِرِ، ولَكِنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ جَمَعَ لِرَسُولِهِ ﷺ كِلا الأمْرَيْنِ؛ لِيَرْسُمَ القُدْوَةَ المُثْلى في الحالَتَيْنِ. تَنْبِيهٌ. فِي الآيَةِ إشارَةٌ إلى أنَّ الإيواءَ والهُدى والغِنى مِنَ اللَّهِ؛ لِإسْنادِها هُنا لِلَّهِ تَعالى. وَلَكِنْ في السِّياقِ لَطِيفَةً دَقِيقَةً، وهي مَعْرَضُ التَّقْرِيرِ، يَأْتِي بِكافٍ الخِطابِ: ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا، ألَمْ يَجِدْكَ ضالًّا، ألَمْ يَجِدْكَ عائِلًا، لِتَأْكِيدِ التَّقْرِيرِ، لَمْ يُسْنَدِ اليُتْمُ ولا الإضْلالُ ولا الفَقْرُ لِلَّهِ، مَعَ أنَّ كُلَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَهو الَّذِي أوْقَعَ عَلَيْهِ اليُتْمُ، وهو سُبْحانَهُ الَّذِي مِنهُ كُلَّما وجَدَهُ عَلَيْهِ، ذَلِكَ لِما فِيهِ مِن إيلامٍ لَهُ، فَما يُسْنِدُهُ لِلَّهِ ظاهِرًا، ولِما فِيهِ مِنَ التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ أبْرَزَ ضَمِيرَ الخِطابِ. وَفِي تَعْدادِ النِّعَمِ: فَآوى، فَهَدى، فَأغْنى. أُسْنِدَ كُلُّهُ إلى ضَمِيرِ المُنْعِمِ، ولَمْ يُبْرِزْ ضَمِيرَ الخِطابِ. قالَ المُفَسِّرُونَ: لِمُراعاةِ رُءُوسِ الآيِ والفَواصِلِ، ولَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ -: أنَّهُ لَمّا كانَ فِيهِ امْتِنانٌ، وأنَّها نِعَمٌ مادِّيَّةٌ لَمْ يُبْرِزِ الضَّمِيرَ لِئَلّا يُثْقِلَ عَلَيْهِ المِنَّةَ، بَيْنَما أبْرَزَهُ في: ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ ﴿وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: ١ - ٢]، ﴿وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ٤]؛ لِأنَّها نِعَمٌ مَعْنَوِيَّةٌ، انْفَرَدَ بِها. ﷺ . واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب