الباحث القرآني
قوله تعالى: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وخِيفَةً﴾
وَفِيهِ قَوْلانِ، أحَدُهُما: في سِرِّكَ وقَلْبِكَ، والثّانِي: بِلِسانِكَ بِحَيْثُ تُسْمِعُ نَفْسَكَ.
فأمر تعالى نبيه أن يذكره في نفسه.
قال مجاهد وابن جريج: أمر أن يذكره في الصدر بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت أو الصياح. وقد تقدم
حديث أبي موسى: «كنا مع النبي ﷺ في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال: يا أيها الناس، أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته».
وتأمل كيف قال في آية الذكر: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وخِيفَةً﴾ وفي آية الدعاء: ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا وخُفْيَةً﴾ فذكر التضرع فيهما معا. وهو التذلل والتمسكن والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء. وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها.
وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولا بد. فمن أكثر من ذكر الله أثمر له ذلك محبته والمحبة ما لم تقرن بالخوف، فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره. لأنها توجب الإدلال والإنبساط، وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات وقالوا:
المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له وتألهه له. فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل. ولقد حدثني رجل أنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة فقال له الشيخ:
أليس الفقهاء يقولون إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه؟
فقال له بلى. فقال له فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم، أو كما قال. وهو إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه.
فقال له: هذا غرور بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله وحفظ قلبه مع الله.
فالشيخ المربي العارف يأمر المريد بأن يخرج إلى الأمر ويراعي حفظ قلبه، أو كما قال.
فتأمل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام، جملة فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه من خاصة الخاصة. وسبب هذا عدم اقتران الخوف من
الله بحبه وإرادته ولهذا قال بعض السلف من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري. ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ.
ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن. وقد جمع تعالى هذه المقامات الثلاث بقوله: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهم أقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ﴾
فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه. ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف. فهذه طريقة عباده وأوليائه.
وربما آل الأمر بمن عبده بالحب المجرد إلى استحلال المحرمات، ويقول: المحب لا يضره ذنب وقد صنف بعضهم في ذلك مصنفا وذكر فيه أثرا مكذوبا «إذا أحب الله العبد لم تضره الذنوب» وهذا كذب قطعا مناف للإسلام. فالذنوب تضر بالذات لكل أحد كضرر السم للبدن. ولو قدر أن هذا الكلام صح عن بعض الشيوخ. وأما رسول الله ﷺ فمعاذ الله من ذلك - فله محمل، وهو أنه إذا أحبه لم يدعه حبه إياه إلى أن يصر على ذنب. لأن الإصرار على الذنب مناف لكونه محبا لله، وإذا لم يصر على الذنب بل بادر إلى التوبة النصوح منه، فإنه يمحى أثره ولا يضره الذنب. وكلما أذنب وتاب وأناب إلى الله زال عنه أثر الذنب وضرره، فهذا المعنى صحيح.
والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب، فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما شرد، فكأن الخوف سوط يضرب به مطيته لئلا تخرج عن الدرب والرجاء حاد يحدوها يطيب لها السير، والحب قائدها وزمامها الذي يسوقها. فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا تردها إذا حادت عن الطريق، وتركت تركب تعاسيف خرجت عن الطريق وضلت عنها، فما حفظت حدود الله ومحارمه.
وما وصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته، فمتى خلا القلب عن هذه الثلاثة فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه.
فتأمل أسرار القرآن وحكمته في اقتران الخيفة بالذكر، والخفية بالدعاء، مع دلالته على اقتران الخيفة بالدعاء والخفية بالذكر أيضا، فإنه قال: اذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ فلم يحتج بعدها أن يقول: «خفية» وقال في الدعاء: ٧: ٥٦ وادْعُوهُ خَوْفًا وطَمَعًا فلم يحتج أن يقول في الأولى ادعوا ربكم تضرعا وخفية فانتظمت كل واحدة من الآيتين، للخفية والخفية والتضرع أحسن انتظام، ودلت على ذلك أكمل دلالة.
وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء لأن الدعاء مبنى عليه، فإن الداعي ما لم يطمع في سؤاله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبه، إذ طلب ما لا طمع فيه ممتنع وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه كما تقدم. فذكر في كل آية ما هو اللائق بها والأولى بها: من الخوف والطمع، فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
(فائِدَة)
كل ذِي لب يعلم أنه لا طَرِيق للشَّيْطان عَلَيْهِ إلّا من ثَلاث جِهات:
أحدها: التزيّد والإسراف فيزيد على قدر الحاجة فَتَصِير فضلَة وهِي حَظّ الشَّيْطان ومدخله إلى القلب وطَرِيق الِاحْتِراز من إعْطاء النَّفس تَمام مطلوبها من غذاء أو نوم أو لَذَّة أو راحَة فَمَتى أغلقت هَذا الباب حصل الأمان من دُخُول العَدو مِنهُ.
الثّانِيَة: الغَفْلَة فَإن الذاكر في حصن الذّكر فَمَتى غفل فتح باب الحصن فولجه العَدو فيعسر عَلَيْهِ أو يصعب إخْراجه.
الثّالِثَة: تكلّف ما لا يعنيه من جَمِيع الأشْياء.
* [فَصْلٌ الفَرْقُ بَيْنَ الغَفْلَةِ والنِّسْيانِ]
قالَ: والذِّكْرُ: هو التَّخَلُّصُ مِنَ الغَفْلَةِ والنِّسْيانِ.
والفَرْقُ بَيْنَ الغَفْلَةِ والنِّسْيانِ: أنَّ الغَفْلَةَ تَرْكٌ بِاخْتِيارِ الغافِلِ، والنِّسْيانَ تَرْكٌ بِغَيْرِ اخْتِيارِهِ، ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿وَلا تَكُنْ مِنَ الغافِلِينَ﴾ ولَمْ يَقُلْ: ولا تَكُنْ مِنَ النّاسِينَ، فَإنَّ النِّسْيانَ لا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ فَلا يَنْهى عَنْهُ.
* (فصل)
الذكر نوعان: أحدهما ذكر أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته والثناء عليه بهما وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به تبارك وتعالى.
وهذا أيضًا نوعان:
(أحدهما) إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، وهذا النوع هو المذكور في الأحاديث، نحو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ونحو ذلك.
فأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمه نحو سبحان الله عدد خلقه، فهذا أفضل من مجرد سبحان الله، وقولك الحمد لله عدد ما خلق في السماء وعدد ما خلق في الأرض وعدد ما بينهما وعدد ما هو خالق، أفضل من مجرد قولك الحمد لله.
وهذا في حديث جويرية أن النبي ﷺ قال لها: «لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته» رواه مسلم.
وفي الترمذي وينن أبي داود عن سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع رسول الله على امرأة بين يديها نوى أو حصى تسبح بها فقال: «سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، ولا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك»
(الثاني) الخبر عن الرب تعالى بأحكام أسمائه وصفاته، نحو قولك: الله عز وجل يسمع أصوات عباده ويرى حركاتهم، ولا تخفى عليه خافية من أعمالهم، وهو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم، وهو على كل شيء قدير، وهو أفرح بتوبة عبده من الفاقد راحلته ونحو ذلك.
وأفضل هذا النوع الثناء عليه بما أثنى به على نفسه وبما أثنى به رسول الله ﷺ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل وهذا النوع أيضًا ثلاثة أنواع: حمد، وثناء، ومجد، فالحمد لله الإخبار عنه بصفات كماله سبحانه وتعالى مع محبته والرضاء به، فلا يكون المحب الساكت حامدًا ولا المثني بلا محبة حامدًا حتى تجتمع له المحبة والثناء، فإن كرر المحامد شيئًا بعد الشيء كانت ثناء، فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والملك كان مجدًا، وقد جمع الله تعالى لعبده الأنواع الثلاثة في أول الفاتحة، فإذا قال العبد: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرحمن الرحيم﴾ قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: ﴿مالك يوم الدين﴾ قال: مجدني عبدي.
(النوع الثاني) من الذكر ذكر أمره ونهيه وأحكامه، وهو أيضًا نوعان:
(أحدهما) ذكره بذلك إخبارًا عنه أمر بكذا ونهى عنه كذا وأحب كذا وسخط كذا ورضي كذا.
(والثاني) ذكره عند أمره فيبادر إليه، وعند نهيه فيهرب منه، فذكر أمره ونهيه شيء، وذكره عند أمره ونهيه شيء آخر، فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر فذكره أفضل الذكر وأجله وأعظمه.
* (فائدة)
فهذا الذكر من الفقه الأكبر وما دونه أفضل الذكر إذا صحت فيه النية.
ومن ذكره سبحانه وتعالى ذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وأياديه ومواقع فضله على عبيده، وهذا أيضًا من أجل أنواع الذكر.
فهذه خمسة أنواع وهي تكون بالقلب واللسان تارة، وذلك أفضل الذكر.
وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية، وباللسان وحده تارة، وهي الدرجة الثالثة.
فأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده لأن ذكر القلب يثمر المعرفة ويهيج المحبة ويثير الحياء ويبعث على المخافة ويدعو إلى المراقبة ويزع عن التقصير في الطاعات والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئًا منها فثمرته ضعيفة.
{"ayah":"وَٱذۡكُر رَّبَّكَ فِی نَفۡسِكَ تَضَرُّعࣰا وَخِیفَةࣰ وَدُونَ ٱلۡجَهۡرِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡـَٔاصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡغَـٰفِلِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق