الباحث القرآني

فَشَبَّهَ سُبْحانَهُ مَن آتاهُ كِتابَهُ وعَلَّمَهُ العِلْمَ الَّذِي مَنَعَهُ غَيْرَهُ، فَتَرَكَ العَمَلَ بِهِ، واتَّبَعَ هَواهُ وآثَرَ سَخَطَ اللَّهِ عَلى رِضاهُ، ودُنْياهُ عَلى آخِرَتِهِ، والمَخْلُوقَ عَلى الخالِقِ؛ بِالكَلْبِ الَّذِي هو مِن أخْبَثِ الحَيَواناتِ، وأوْضَعِها قَدْرًا، وأخَسِّها نَفْسًا، وهِمَّتُهُ لا تَتَعَدّى بَطْنُهُ، وأشَدُّها شَرُّها وحِرْصًا، ومِن حِرْصِهِ أنَّهُ لا يَمْشِي إلّا وخَطْمُهُ في الأرْضِ يَتَشَمَّمُ ويَسْتَرْوِحُ حِرْصًا وشَرَهًا، ولا يَزالُ يَشُمُّ دُبُرَهُ دُونَ سائِرِ أجْزائِهِ، وإذا رَمَيْت إلَيْهِ بِحَجَرٍ رَجَعَ إلَيْهِ لِيَعَضَّهُ مِن فَرَطَ نَهْمَتِهِ، وهو مِن أمْهَنِ الحَيَواناتِ، وأحْمَلِها لِلْهَوانِ، وأرْضاها بِالدَّنايا، والجِيَفُ القَذِرَةُ المُرَوِّحَةُ أحَبُّ إلَيْهِ مِن اللَّحْمِ الطَّرِيِّ، والعُذْرَةُ أحَبُّ إلَيْهِ مِن الحَلْوى، وإذا ظَفِرَ بِمَيْتَةٍ تَكْفِي مِائَةَ كَلْبٍ لَمْ يَدَعْ كَلْبًا واحِدًا يَتَناوَلُ مِنها شَيْئًا إلّا هَرَّ عَلَيْهِ وقَهَرَهُ لِحِرْصِهِ وبُخْلِهِ وشَرَهِهِ، ومِن عَجِيبِ أمْرِهِ وحِرْصِهِ أنَّهُ إذا رَأى ذا هَيْئَةٍ رَثَّةٍ وثِيابٍ دَنِيَّةٍ وحالٍ زَرِيَّةٍ نَبَحَهُ وحَمَلَ عَلَيْهِ، كَأنَّهُ يَتَصَوَّرُ مُشارَكَتَهُ لَهُ ومُنازَعَتَهُ في قَوْلَتِهِ، وإذا رَأى ذا هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ وثِيابٍ جَمِيلَةٍ ورِياسَةٍ وضَعَ لَهُ خَطْمَهُ بِالأرْضِ، وخَضَعَ لَهُ، ولَمْ يَرْفَعْ إلَيْهِ رَأْسَهُ. وَفِي تَشْبِيهِ مَن آثَرَ الدُّنْيا وعاجِلَها عَلى اللَّهِ والدّارِ الآخِرَةِ مَعَ وُفُورِ عِلْمِهِ بِالكَلْبِ في حالِ لَهَثِهِ سِرٌّ بَدِيعٌ، وهو أنَّ هَذا الَّذِي حالُهُ ما ذَكَرَهُ اللَّهُ مِن انْسِلاخِهِ مِن آياتِهِ واتِّباعِهِ هَواهُ إنّما كانَ لِشِدَّةِ لَهَفِهِ عَلى الدُّنْيا لِانْقِطاعِ قَلْبِهِ عَنْ اللَّهِ والدّارِ الآخِرَةِ فَهو شَدِيدُ اللَّهَفِ عَلَيْها، ولَهَفُهُ نَظِيرُ لَهَفِ الكَلْبِ الدّائِمِ في حالِ إزْعاجِهِ وتَرْكِهِ، واللَّهَفُ واللَّهَثُ شَقِيقانِ وأخَوانِ في اللَّفْظِ والمَعْنى، قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الكَلْبُ مُنْقَطِعُ الفُؤادِ، لا فُؤادَ لَهُ، إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، فَهو مَثَلُ الَّذِي يَتْرُكُ الهُدى، لا فُؤادَ لَهُ، إنّما فُؤادُهُ مُنْقَطِعٌ؛ قُلْت: مُرادُهُ بِانْقِطاعِ فُؤادِهِ أنَّهُ لَيْسَ لَهُ فُؤادٌ يَحْمِلُهُ عَلى الصَّبْرِ وتَرْكِ اللَّهَثِ؛ وهَكَذا الَّذِي انْسَلَخَ مِن آياتِ اللَّهِ، لَمْ يَبْقَ مَعَهُ فُؤادٌ يَحْمِلُهُ عَلى الصَّبْرِ عَنْ الدُّنْيا وتَرْكِ اللَّهَفِ عَلَيْها، فَهَذا يَلْهَفُ عَلى الدُّنْيا مِن قِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْها، وهَذا يَلْهَثُ مِن قِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْ الماءِ، فالكَلْبُ مِن أقَلِّ الحَيَواناتِ صَبْرًا عَنْ الماءِ، وإذا عَطِشَ أكَلَ الثَّرى مِن العَطَشِ، وإنْ كانَ فِيهِ صَبْرٌ عَلى الجُوعِ؛ وعَلى كُلِّ حالٍ فَهو مِن أشَدِّ الحَيَواناتِ لَهَثًا، يَلْهَثُ قائِمًا وقاعِدًا وماشِيًا وواقِفًا، وذَلِكَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ؛ فَحَرارَةُ الحِرْصِ في كَبِدِهِ تُوجِبُ لَهُ دَوامَ اللَّهَثِ، فَهَكَذا مُشْبِهُهُ شِدَّةُ الحِرْصِ وحَرارَةُ الشَّهْوَةِ في قَلْبِهِ تُوجِبُ لَهُ دَوامَ اللَّهَفِ، فَإنْ حَمَلْت عَلَيْهِ المَوْعِظَةَ والنَّصِيحَةَ فَهو يَلْهَفُ، وإنْ تَرَكْتَهُ ولَمْ تَعِظْهُ فَهو يَلْهَفُ، قالَ مُجاهِدٌ: وذَلِكَ مَثَلُ الَّذِي أُوتِيَ الكِتابَ ولَمْ يَعْمَلْ بِهِ. وَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ الحِكْمَةَ لَمْ يَحْمِلْها، وإنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَهْتَدِ إلى خَيْرٍ، كالكَلْبِ إنْ كانَ رابِضًا لَهَثَ وإنْ طُرِدَ لَهَثَ، وقالَ الحَسَنُ: هو المُنافِقُ لا يَثْبُتُ عَلى الحَقِّ، دُعِيَ أوْ لَمْ يُدْعَ، وُعِظَ أوْ لَمْ يُوعَظْ، كالكَلْبِ يَلْهَثُ طُرِدَ أوْ تُرِكَ. وَقالَ عَطاءٌ: يَنْبَحُ إنْ حَمَلْت عَلَيْهِ أوْ لَمْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ، وقالَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ: كُلُّ شَيْءٍ يَلْهَثُ فَإنَّما يَلْهَثُ مِن إعْياءٍ أوْ عَطَشٍ إلّا الكَلْبَ فَإنَّهُ يَلْهَثُ في حالِ الكَلالِ وحالِ الرّاحَةِ وحالِ الصِّحَّةِ وحالِ المَرَضِ والعَطَشِ، فَضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِمَن كَذَّبَ بِآياتِهِ، وقالَ: إنْ وعَظْتَهُ فَهو ضالٌّ وإنْ تَرَكْتَهُ فَهو ضالٌّ كالكَلْبِ إنْ طَرَدْتَهُ لَهَثَ وإنْ تَرَكْتَهُ عَلى حالِهِ لَهَثَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وَإنْ تَدْعُوهم إلى الهُدى لا يَتَّبِعُوكم سَواءٌ عَلَيْكم أدَعَوْتُمُوهم أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٣] * (فائدة) وَتَأمَّلْ ما في هَذا المَثَلِ مِن الحُكْمِ والمَعْنى: فَمِنها قَوْلُهُ: ﴿آتَيْناهُ آياتِنا﴾ [الأعراف: ١٧٥] فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ هو الَّذِي آتاهُ آياتِهِ، فَإنَّها نِعْمَةٌ، واللَّهُ هو الَّذِي أنْعَمَ بِها عَلَيْهِ، فَأضافَها إلى نَفْسِهِ، ثُمَّ قالَ: ﴿فانْسَلَخَ مِنها﴾ [الأعراف: ١٧٥] أيْ خَرَجَ مِنها كَما تَنْسَلِخُ الحَيَّةُ مِن جِلْدِها، وفارَقَها فِراقَ الجِلْدِ يُسْلَخُ عَنْ اللَّحْمِ، ولَمْ يَقُلْ فَسَلَخْناهُ مِنها لِأنَّهُ هو الَّذِي تَسَبَّبَ إلى انْسِلاخِهِ مِنها بِاتِّباعِ هَواهُ. وَمِنها قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فَأتْبَعَهُ الشَّيْطانُ﴾ [الأعراف: ١٧٥] أيْ لَحِقَهُ وأدْرَكَهُ كَما قالَ في قَوْمِ فِرْعَوْنَ: ﴿فَأتْبَعُوهم مُشْرِقِينَ﴾ [الشعراء: ٦٠] وكانَ مَحْفُوظًا مَحْرُوسًا بِآياتِ اللَّهِ، مَحْمِيَّ الجانِبِ بِها مِن الشَّيْطانِ، لا يَنالُ مِنهُ شَيْئًا إلّا عَلى غِرَّةٍ وخَطْفَةٍ، فَلَمّا انْسَلَخَ مِن آياتِ اللَّهِ ظَفِرَ بِهِ الشَّيْطانُ ظَفْرَ الأسَدِ بِفَرِيسَتِهِ، فَكانَ مِن الغاوِينَ العامِلِينَ بِخِلافِ عَمَلِهِمْ، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الحَقَّ ويَعْمَلُونَ بِخِلافِهِ، كَعُلَماءِ السُّوءِ، ومِنها أنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: ﴿وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها﴾ [الأعراف: ١٧٦] فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ الرِّفْعَةَ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمُجَرَّدِ العِلْمِ، فَإنَّ هَذا كانَ مِن العُلَماءِ، وإنَّما هي بِاتِّباعِ الحَقِّ وإيثارِهِ وقَصْدِ مَرْضاةِ اللَّهِ. فَإنَّ هَذا كُلَّهُ مِن أعْلَمْ أهْلِ زَمانِهِ، ولَمْ يَرْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ ولَمْ يَنْفَعْهُ بِهِ فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِن عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ هو الَّذِي يَرْفَعُ عَبْدَهُ إذا شاءَ بِما آتاهُ مِن العِلْمِ، وإنْ لَمْ يَرْفَعْهُ اللَّهُ فَهو مَوْضُوعٌ لا يَرْفَعُ أحَدٌ بِهِ رَأْسًا، فَإنَّ الخافِضَ الرّافِعَ سُبْحانَهُ خَفَضَهُ ولَمْ يَرْفَعْهُ، والمَعْنى لَوْ شِئْنا فَضَّلْناهُ وشَرَّفْناهُ ورَفَعْنا قَدْرَهُ ومَنزِلَتَهُ بِالآياتِ الَّتِي آتَيْناهُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ولَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِعَمَلِهِ بِها، وقالَتْ طائِفَةٌ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿لَرَفَعْناهُ﴾ [الأعراف: ١٧٦] عائِدٌ عَلى الكُفْرِ، والمَعْنى لَوْ شِئْنا لَرَفَعْنا عَنْهُ الكُفْرَ بِما مَعَهُ مِن آياتِنا، قالَ مُجاهِدٌ وعَطاءٌ: لَرَفَعْنا عَنْهُ الكُفْرَ بِالإيمانِ وعَصَمْناهُ؛ وهَذا المَعْنى حَقٌّ، والأوَّلُ هو مُرادُ الآيَةِ، وهَذا مِن لَوازِمِ المُرادِ، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ السَّلَفَ كَثِيرًا ما يُنَبِّهُونَ عَلى لازِمِ مَعْنى الآيَةِ فَيَظُنُّ الظّانُّ أنَّ ذَلِكَ هو المُرادُ مِنها: وقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ﴾ [الأعراف: ١٧٦] قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: رَكَنَ إلى الأرْضِ. وَقالَ مُجاهِدٌ: سَكَنَ، وقالَ مُقاتِلٌ: رَضِيَ بِالدُّنْيا، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: لَزِمَها وأبْطَأ، والمُخْلِدُ مِن الرِّجالِ: هو الَّذِي يُبْطِئُ مِشْيَتَهُ، ومِن الدَّوابِّ: الَّتِي تَبْقى ثَناياهُ إلى أنْ تَخْرُجَ رُباعِيَّتُهُ، وقالَ الزَّجّاجُ: خَلَدَ وأخْلَدَ، وأصْلُهُ مِن الخُلُودِ وهو الدَّوامُ والبَقاءُ، ويُقالُ: أخْلَدَ فُلانٌ بِالمَكانِ، إذا أقامَ بِهِ، قالَ مالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ: ؎بِأبْناءِ حَيٍّ مِن قَبائِلِ مالِكٍ ∗∗∗ وعَمْرِو بْنِ يَرْبُوعٍ أقامُوا فَأخْلَدُوا قُلْت: ومِنهُ قَوْله تَعالى: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ [الواقعة: ١٧] أيْ قَدْ خُلِقُوا لِلْبَقاءِ؛ لِذَلِكَ لا يَتَغَيَّرُونَ ولا يَكْبَرُونَ، وهم عَلى سِنٍّ واحِدٍ أبَدًا؛ وقِيلَ: هم المُقَرَّطُونَ في آذانِهِمْ والمُسَوَّرُونَ في أيْدِيهِمْ، وأصْحابُ هَذا القَوْلِ فَسَّرُوا اللَّفْظَةَ بِبَعْضِ لَوازِمِها، وذَلِكَ أمارَةُ التَّخْلِيدِ عَلى ذَلِكَ السِّنِّ، فَلا تَنافِيَ بَيْنَ القَوْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ: ﴿واتَّبَعَ هَواهُ﴾ [الأعراف: ١٧٦] قالَ الكَلْبِيُّ: اتَّبَعَ مَسافِلَ الأُمُورِ وتَرَكَ مَعالِيَها، وقالَ أبُو ورَقٍ: اخْتارَ الدُّنْيا عَلى الآخِرَةِ، وقالَ عَطاءٌ: أرادَ الدُّنْيا وأطاعَ شَيْطانَهُ، وقالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: كانَ هَواهُ مَعَ القَوْمِ يَعْنِي الَّذِينَ حارَبُوا مُوسى وقَوْمَهُ، وقالَ يَمانٌ: اتَّبَعَ امْرَأتَهُ لِأنَّها هي الَّتِي حَمَلَتْهُ عَلى ما فَعَلَ. فَإنْ قِيلَ: الِاسْتِدْراكُ بِلَكِنَّ يَقْتَضِي أنْ يُثْبِتَ بَعْدَها ما نَفى قَبْلَها، أوْ يَنْفِيَ ما أثْبَتَ، كَما تَقُولُ: لَوْ شِئْت لَأعْطَيْتُهُ لَكِنِّي لَمْ أُعْطِهِ، ولَوْ شِئْت لَما فَعَلْت كَذا لَكِنِّي فَعَلْتُهُ؛ فالِاسْتِدْراكُ يَقْتَضِي ولَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ولَكِنّا لَمْ نَشَأْ أوْ لَمْ نَرْفَعْ، فَكَيْفَ اسْتَدْرَكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ﴾ [الأعراف: ١٧٦] بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها﴾ [الأعراف: ١٧٦]؟ قِيلَ: هَذا مِن الكَلامِ المَلْحُوظِ فِيهِ جانِبُ المَعْنى المَعْدُولِ فِيهِ عَنْ مُراعاةِ الألْفاظِ إلى المَعانِي، وذَلِكَ أنَّ مَضْمُونَ قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها﴾ [الأعراف: ١٧٦] أنَّهُ لَمْ يَتَعاطَ الأسْبابَ الَّتِي تَقْتَضِي رَفْعَهُ بِالآياتِ مِن إيثارِ اللَّهِ ومَرْضاتِهِ عَلى هَواهُ، ولَكِنَّهُ آثَرَ الدُّنْيا وأخْلَدَ إلى الأرْضِ واتَّبَعَ هَواهُ وَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المَعْنى ولَوْ لَزِمَ آياتِنا لَرَفَعْناهُ بِها، فَذَكَرَ المَشِيئَةَ والمُرادُ ما هي تابِعَةٌ لَهُ ومُسَبَّبَةٌ عَنْهُ، كَأنَّهُ قِيلَ: ولَوْ لَزِمَها لَرَفَعْناهُ بِها، قالَ: ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ﴾ [الأعراف: ١٧٦] فاسْتَدْرَكَ المَشِيئَةَ بِإخْلادِهِ الَّذِي هو فِعْلُهُ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ﴿وَلَوْ شِئْنا﴾ [الأعراف: ١٧٦] في مَعْنى ما هو فِعْلُهُ، ولَوْ كانَ الكَلامُ عَلى ظاهِرِهِ لَوَجَبَ أنْ يُقالَ: لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ، ولَكِنّا لَمْ نَشَأْ، فَهَذا مِنهُ شِنْشِنَةٌ «١» نَعْرِفُها مِن قَدَرِيٍّ نافٍ لِلْمَشِيئَةِ العامَّةِ مُبْعِدٍ لِلنُّجْعَةِ في جَعْلِ كَلامِ اللَّهِ مُعْتَزِلِيًّا قَدَرِيًّا، فَأيْنَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ شِئْنا﴾ [الأعراف: ١٧٦] مِن قَوْلِهِ: " ولَوْ لَزِمَها " ثُمَّ إذا كانَ اللُّزُومُ لَها مَوْقُوفًا عَلى مَشِيئَةِ اللَّهِ وهو الحَقُّ بَطَلَ أصْلُهُ. وَقَوْلُهُ: " إنّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تابِعَةٌ لِلُزُومِهِ الآياتِ " مِن أفْسَدِ الكَلامِ وأبْطَلَهُ، بَلْ لُزُومُهُ لِآياتِهِ تابِعٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ، فَمَشِيئَةُ اللَّهِ سُبْحانَهُ مَتْبُوعَةٌ، لا تابِعَةٌ، وسَبَبٌ لا مُسَبَّبٌ، ومُوجِبٌ مُقْتَضٍ لا مُقْتَضًى، فَما شاءَ اللَّهُ وجَبَ وُجُودُهُ، وما لَمْ يَشَأْ امْتَنَعَ وُجُودُهُ. (فائدة أخرى) قوله: ﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنها فَأتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوِينَ (١٧٥) ولَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها﴾ تأمل قوله تعالى ﴿آتَيْناهُ آياتِنا﴾ فأخبر أن ذلك إنما حصل له بإيتاء الرب له لا بتحصيله هو ثم قال ﴿فانْسَلَخَ مِنها﴾ ولم يقل فسلخناه بل أضاف الانسلاخ إليه، وعبر عن براءته منها بلفظة الانسلاخ الدالة على تخليه عنها بالكلية وهذا شأن الكافر وأما المؤمن ولو عصى الله تبارك وتعالى ما عصاه فإنه لا ينسلخ من الإيمان بالكلية ثم قال ﴿فَأتْبَعَهُ الشَّيْطانُ﴾ ولم يقل فتبعه فإن في أتبعه إعلاما بأنه أدركه ولحقه كما قال الله تعالى فأتبعوهم مشرقين أي لحقوهم ووصلوا إليهم ثم قال ﴿وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها﴾ ففي ذلك دليل على أن مجرد العلم لا يرفع صاحبه فهذا قد أخبر الله سبحانه أنه آتاه آياته ولم يرفعه بها فالرفعة بالعلم قدر زائد على مجرد تعلمه ثم أخبر الله عز وجل عن السبب الذي منعه أن يرفع بها فقال ﴿وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ واتَّبَعَ هَواهُ﴾ وقوله ﴿أخْلَدَ إلى الأرْضِ﴾ أي سكن إليها ونزل بطبعه إليها فكانت نفسه أرضية سفلية لا سماوية علوية وبحسب ما يخلد العبد إلى الأرض يهبط من السماء قال سهل قسم الله الأعضاء من الهوى لكل عضو منه حظا فإذا مال عضو منها إلى الهوى رجع ضرره إلى القلب وللنفس سبع حجب سماوية وسبع حجب أرضية فكلما دفن العبد نفسه أرضا أرضا سما قلبه سماء سماء فإذا دفن النفس تحت الثرى وصل القلب إلى العرش ثم ذكر سبحانه مثل المتبع لهواه كمثل الكلب الذي لا يفارقه اللهث في حالتي تركه والحمل عليه فهكذا هذا لا يفارقه اللهث على الدنيا راغبا وراهبا. والمقصود أن هذه السورة من أولها إلى آخرها في ذكر حال أهل الهوى والشهوات وما آل إليه أمرهم فالعشق والهوى أصل كل بلية. * [فَصْلٌ: المَعْصِيَةُ تَجْعَلُ صاحِبَها مِنَ السَّفَلَةِ] وَمِن عُقُوباتِها: أنَّها تَجْعَلُ صاحِبَها مِنَ السَّفَلَةِ بَعْدَ أنْ كانَ مُهَيَّئًا لِأنْ يَكُونَ مِنَ العِلْيَةِ، فَإنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ قِسْمَيْنِ: عِلْيَةً، وسَفَلَةً، وجَعَلَ عِلِّيِّينَ مُسْتَقَرَّ العِلْيَةِ، وأسْفَلَ سافِلِينَ مُسْتَقَرَّ السَّفَلَةِ، وجَعَلَ أهْلَ طاعَتِهِ الأعْلَيْنَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وأهْلَ مَعْصِيَتِهِ الأسْفَلِينَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، كَما جَعَلَ أهْلَ طاعَتِهِ أكْرَمَ خَلْقِهِ عَلَيْهِ، وأهْلَ مَعْصِيَتِهِ أهْوَنَ خَلْقِهِ عَلَيْهِ، وجَعَلَ العِزَّةَ لِهَؤُلاءِ، والذِّلَّةَ والصَّغارَ لِهَؤُلاءِ، كَما في مُسْنَدِ أحْمَدَ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السّاعَةِ، وجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وجُعِلَ الذُّلُّ والصَّغارُ عَلى مَن خالَفَ أمْرِي» فَكُلَّما عَمِلَ العَبْدُ مَعْصِيَةً نَزَلَ إلى أسْفَلَ، دَرَجَةً، ولا يَزالُ في نُزُولٍ حَتّى يَكُونَ مِنَ الأسْفَلِينَ، وكُلَّما عَمِلَ طاعَةً ارْتَفَعَ بِها دَرَجَةً، ولا يَزالُ في ارْتِفاعٍ حَتّى يَكُونَ مِنَ الأعْلَيْنَ. وَقَدْ يَجْتَمِعُ لِلْعَبْدِ في أيّامِ حَياتِهِ الصُّعُودُ مِن وجْهٍ، والنُّزُولُ مِن وجْهٍ، وأيُّهُما كانَ أغْلَبَ عَلَيْهِ كانَ مِن أهْلِهِ، فَلَيْسَ مَن صَعِدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ ونَزَلَ دَرَجَةً واحِدَةً، كَمَن كانَ بِالعَكْسِ. وَلَكِنْ يَعْرِضُ هاهُنا لِلنُّفُوسِ غَلَطٌ عَظِيمٌ، وهو أنَّ العَبْدَ قَدْ يَنْزِلُ نُزُولًا بَعِيدًا أبْعَدَ مِمّا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، ومِمّا بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَلا يَفِي صُعُودُهُ ألْفَ دَرَجَةٍ بِهَذا النُّزُولِ الواحِدِ، كَما في الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «إنَّ العَبْدَ لِيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ الواحِدَةِ، لا يُلْقِي لَها بالًا يَهْوِي بِها في النّارِ أبْعَدَ مِمّا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ». فَأيُّ صُعُودٍ يُوازِنُ هَذِهِ النَّزْلَةَ؟ والنُّزُولُ أمْرٌ لازِمٌ لِلْإنْسانِ، ولَكِنْ مِنَ النّاسِ مَن يَكُونُ نُزُولُهُ إلى غَفْلَةٍ، فَهَذا مَتى اسْتَيْقَظَ مِن غَفْلَتِهِ عادَ إلى دَرَجَتِهِ، أوْ إلى أرْفَعَ مِنها بِحَسْبَ يَقَظَتِهِ. وَمِنهم مَن يَكُونُ نُزُولُهُ إلى مُباحٍ لا يَنْوِي بِهِ الِاسْتِعانَةَ عَلى الطّاعَةِ، فَهَذا مَتى رَجَعَ إلى الطّاعَةِ فَقَدْ يَعُودُ إلى دَرَجَتِهِ، وقَدْ لا يَصِلُ إلَيْها، وقَدْ يَرْتَفِعُ عَنْها، فَإنَّهُ قَدْ يَعُودُ أعْلى هِمَّةً مِمّا كانَ، وقَدْ يَكُونُ أضْعَفَ هِمَّةً، وقَدْ تَعُودُ هِمَّتُهُ كَما كانَتْ. وَمِنهم مَن يَكُونُ نُزُولُهُ إلى مَعْصِيَةٍ، إمّا صَغِيرَةٍ أوْ كَبِيرَةٍ، فَهَذا يَحْتاجُ في عَوْدِهِ إلى دَرَجَتِهِ إلى تَوْبَةٍ نَصُوحٍ، وإنابَةٍ صادِقَةٍ. واخْتَلَفَ النّاسُ هَلْ يَعُودُ بَعْدَ التَّوْبَةِ إلى دَرَجَتِهِ الَّتِي كانَ فِيها، بِناءً عَلى أنَّ التَّوْبَةَ تَمْحُو أثَرَ الذَّنْبِ، وتَجْعَلُ وجُودَهُ كَعَدَمِهِ فَكَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ، أوْ لا يَعُودُ، بِناءً عَلى أنَّ التَّوْبَةَ تَأْثِيرُها في إسْقاطِ العُقُوبَةِ، وأمّا الدَّرَجَةُ الَّتِي فاتَتْهُ فَإنَّهُ لا يَصِلُ إلَيْها. قالُوا: وتَقْرِيرُ ذَلِكَ: أنَّهُ كانَ مُسْتَعِدًّا بِاشْتِغالِهِ بِالطّاعَةِ في الزَّمَنِ الَّذِي عَصى فِيهِ لِصُعُودٍ آخَرَ وارْتِقاءٍ تَحْمِلُهُ أعْمالُهُ السّالِفَةُ، بِمَنزِلَةِ كَسْبِ الرَّجُلِ كُلَّ يَوْمٍ بِجُمْلَةِ مالِهِ الَّذِي يَمْلِكُهُ، وكُلَّما تَضّاعَفَ المالُ تَضّاعَفَ الرِّبْحُ، فَقَدْ راحَ عَلَيْهِ في زَمَنِ المَعْصِيَةِ ارْتِفاعٌ ورِبْحٌ تَحْمِلُهُ أعْمالُهُ، فَإذا اسْتَأْنَفَ العَمَلَ اسْتَأْنَفَ صُعُودًا مِن نُزُولٍ، وكانَ قَبْلَ ذَلِكَ صاعِدًا مِن أسْفَلَ إلى أعْلى، وبَيْنَهُما بَوْنٌ عَظِيمٌ. قالُوا: ومَثَلُ ذَلِكَ رَجُلانِ يَرْتَقِيانِ في سُلَّمَيْنِ لا نِهايَةَ لَهُما، وهُما سَواءٌ، فَنَزَلَ أحَدُهُما إلى أسْفَلَ، ولَوْ دَرَجَةٍ واحِدَةٍ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الصُّعُودَ، فَإنَّ الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ يَعْلُو عَلَيْهِ ولا بُدَّ. وَحَكَمَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ الطّائِفَتَيْنِ حُكْمًا مَقْبُولًا فَقالَ: التَّحْقِيقُ أنَّ مِنَ التّائِبِينَ مَن يَعُودُ إلى أرْفَعَ مِن دَرَجَتِهِ، ومِنهم مِن يَعُودُ إلى مِثْلِ دَرَجَتِهِ، ومِنهم مَن لا يَصِلُ إلى دَرَجَتِهِ. قُلْتُ: وهَذا بِحَسْبِ قُوَّةِ التَّوْبَةِ وكَمالِها، وما أحْدَثَتْهُ المَعْصِيَةُ لِلْعَبْدِ مِنَ الذُّلِّ والخُضُوعِ والإنابَةِ، والحَذَرِ والخَوْفِ مِنَ اللَّهِ، والبُكاءِ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ، فَقَدْ تَقْوى هَذِهِ الأُمُورُ، حَتّى يَعُودَ التّائِبُ إلى أرْفَعَ مِن دَرَجَتِهِ، ويَصِيرَ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنهُ قَبْلَ الخَطِيئَةِ، فَهَذا قَدْ تَكُونُ الخَطِيئَةُ في حَقِّهِ رَحْمَةً، فَإنَّها نَفَتْ عَنْهُ داءَ العُجْبِ، وخَلَّصَتْهُ مِن ثِقَتِهِ بِنَفْسِهِ وإدْلالِهِ بِأعْمالِهِ، ووَضَعَتْ خَدَّ ضَراعَتِهِ وذُلَّهُ وانْكِسارَهُ عَلى عَتَبَةِ بابِ سَيِّدِهِ ومَوْلاهُ، وعَرَّفَتْهُ قَدْرَهُ، وأشْهَدَتْهُ فَقْرَهُ وضَرُورَتَهُ إلى حِفْظِ مَوْلاهُ لَهُ، وإلى عَفْوِهِ عَنْهُ ومَغْفِرَتِهِ لَهُ، وأخْرَجَتْ مِن قَلْبِهِ صَوْلَةَ الطّاعَةِ، وكَسَرَتْ أنْفَهُ مِن أنْ يَشْمَخَ بِها أوْ يَتَكَبَّرَ بِها، أوْ يَرى نَفْسَهُ بِها خَيْرًا مِن غَيْرِهِ، وأوْقَفَتْهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ مَوْقِفَ الخَطّائِينَ المُذْنِبِينَ، ناكِسَ الرَّأْسِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، مُسْتَحِيًا خائِفًا مِنهُ وجِلًا، مُحْتَقِرًا لِطاعَتِهِ مُسْتَعْظِمًا لِمَعْصِيَتِهِ، عَرَفَ نَفْسَهُ بِالنَّقْصِ والذَّمِّ. ورَبُّهُ مُتَفَرِّدٌ بِالكَمالِ والحَمْدِ والوَفاءِ كَما قِيلَ: ؎اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالوَفاءِ وبِالحَمْ ∗∗∗ دِ ووَلّى المَلامَةَ الرَّجُلا فَأيُّ نِعْمَةٍ وصَلَتْ مِنَ اللَّهِ إلَيْهِ اسْتَكْثَرَها عَلى نَفْسِهِ ورَأى نَفْسَهُ دُونَها ولَمْ يَرَها أهْلًا، وأيُّ نِقْمَةٍ أوْ بَلِيَّةٍ وصَلَتْ إلَيْهِ رَأى نَفْسَهُ أهْلًا لِما هو أكْبَرُ مِنها، ورَأى مَوْلاهُ قَدْ أحْسَنَ إلَيْهِ، إذْ لَمْ يُعاقِبْهُ عَلى قَدْرِ جُرْمِهِ ولا شَطْرِهِ، ولا أدْنى جُزْءٍ مِنهُ. فَإنَّ ما يَسْتَحِقُّهُ مِنَ العُقُوبَةِ لا تَحْمِلُهُ الجِبالُ الرّاسِياتُ، فَضْلًا عَنْ هَذا العَبْدِ الضَّعِيفِ العاجِزِ، فَإنَّ الذَّنْبَ وإنْ صَغُرَ، فَإنَّ مُقابَلَةَ العَظِيمِ الَّذِي لا شَيْءَ أعْظَمُ مِنهُ، الكَبِيرِ الَّذِي لا شَيْءَ أكْبَرُ مِنهُ، الجَلِيلِ الَّذِي لا أجَلَّ مِنهُ ولا أجْمَلَ، المُنْعِمِ بِجَمِيعِ أصْنافِ النِّعَمِ دَقِيقِها وجُلِّها - مِن أقْبَحِ الأُمُورِ وأفْظَعِها وأشْنَعِها، فَإنَّ مُقابَلَةَ العُظَماءِ والأجِلّاءِ وساداتِ النّاسِ بِمِثْلِ ذَلِكَ يَسْتَقْبِحُهُ كُلُّ أحَدٍ مُؤْمِنٌ وكافِرٌ. وَأرْذَلُ النّاسِ وأسْقَطُهم مُرُوءَةً مَن قابَلَهم بِالرَّذائِلِ، فَكَيْفَ بِعَظِيمِ السَّماواتِ والأرْضِ، ومَلِكِ السَّماواتِ والأرْضِ، وإلَهِ أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ؟ ولَوْلا أنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، ومَغْفِرَتَهُ سَبَقَتْ عُقُوبَتَهُ، وإلّا لَتَدَكْدَكَتِ الأرْضُ بِمَن قابَلَهُ بِما لا يَلِيقُ مُقابَلَتُهُ بِهِ، ولَوْلا حِلْمُهُ ومَغْفِرَتُهُ لَزُلْزِلَتِ السَّماواتُ والأرْضُ مِن مَعاصِي العِبادِ، قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا ولَئِنْ زالَتا إنْ أمْسَكَهُما مِن أحَدٍ مِن بَعْدِهِ إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر: ٤١]. فَتَأمَّلْ خَتْمَ هَذِهِ الآيَةِ بِاسْمَيْنِ مِن أسْمائِهِ، وهُما: " الحَلِيمُ، والغَفُورُ " كَيْفَ تَجِدُ تَحْتَ ذَلِكَ أنَّهُ لَوْلا حِلْمُهُ عَنِ الجُناةِ ومَغْفِرَتُهُ لِلْعُصاةِ لَما اسْتَقَرَّتِ السَّماواتُ والأرْضُ؟ وَقَدْ أخْبَرَ سُبْحانَهُ عَنْ كُفْرِ بَعْضِ عِبادِهِ أنَّهُ: ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا﴾ [مريم: ٩٠]. وَقَدْ أخْرَجَ اللَّهُ سُبْحانَهُ الأبَوَيْنِ مِنَ الجَنَّةِ بِذَنْبٍ واحِدٍ ارْتَكَباهُ وخالَفا فِيهِ نَهْيَهُ، ولَعَنَ إبْلِيسَ وطَرَدَهُ وأخْرَجَهُ مِن مَلَكُوتِ السَّماواتِ والأرْضِ بِذَنْبٍ واحِدٍ ارْتَكَبَهُ وخالَفَ فِيهِ أمْرَهُ، ونَحْنُ مَعاشِرُ الحَمْقى كَما قِيلَ: ؎نَصِلُ الذُّنُوبَ إلى الذُّنُوبِ ونَرْتَجِي ∗∗∗ دَرَجَ الجِنانِ لِذِي النَّعِيمِ الخالِدِ ؎وَلَقَدْ عَلِمْنا أخْرَجَ الأبَوَيْنِ مِن ∗∗∗ مَلَكُوتِهِ الأعْلى بِذَنْبٍ واحِدِ والمَقْصُودُ أنَّ العَبْدَ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِمّا كانَ قَبْلَ الخَطِيئَةِ وأرْفَعَ دَرَجَةً، وقَدْ تُضْعِفُ الخَطِيئَةُ هِمَّتَهُ وتُوهِنُ عَزْمَهُ، وتُمْرِضُ قَلْبَهُ، فَلا يَقْوى دَواءُ التَّوْبَةِ عَلى إعادَتِهِ إلى الصِّحَّةِ الأوْلى، فَلا يَعُودُ إلى دَرَجَتِهِ، وقَدْ يَزُولُ المَرَضُ بِحَيْثُ تَعُودُ الصِّحَّةُ كَما كانَتْ ويَعُودُ إلى مِثْلِ عَمَلِهِ، فَيَعُودُ إلى دَرَجَتِهِ. هَذا كُلُّهُ إذا كانَ نُزُولُهُ إلى مَعْصِيَةٍ، فَإنْ كانَ نُزُولُهُ إلى أمْرٍ يَقْدَحُ في أصْلِ إيمانِهِ، مِثْلِ الشُّكُوكِ والرِّيَبِ والنِّفاقِ، فَذاكَ نُزُولٌ لا يُرْجى لِصاحِبِهِ صُعُودٌ إلّا بِتَجْدِيدِ إسْلامِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب