الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنها فَأتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوِينَ﴾ ﴿ولَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ولَكِنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ واتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهم يَتَفَكَّرُونَ﴾ (p-٤٥)فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ مَسْعُودٍ ومُجاهِدٌ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في بَلْعَمَ بْنِ باعُوراءَ، وذَلِكَ لِأنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - قَصَدَ بَلَدَهُ الَّذِي هو فِيهِ، وغَزا أهْلَهُ وكانُوا كُفّارًا، فَطَلَبُوا مِنهُ أنْ يَدْعُوَ عَلى مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وقَوْمِهِ، وكانَ مُجابَ الدَّعْوَةِ، وعِنْدَهُ اسْمُ اللَّهِ الأعْظَمُ، فامْتَنَعَ مِنهُ، فَما زالُوا يَطْلُبُونَهُ مِنهُ حَتّى دَعا عَلَيْهِ فاسْتُجِيبَ لَهُ، ووَقَعَ مُوسى وبَنُو إسْرائِيلَ في التِّيهِ بِدُعائِهِ، فَقالَ مُوسى: يا رَبِّ بِأيِّ ذَنْبٍ وقَعْنا في التِّيهِ ؟ فَقالَ: بِدُعاءِ بَلْعَمَ. فَقالَ: كَما سَمِعْتَ دُعاءَهُ عَلَيَّ، فاسْمَعْ دُعائِي عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعا مُوسى عَلَيْهِ أنْ يَنْزِعَ مِنهُ اسْمَ اللَّهِ الأعْظَمَ والإيمانَ، فَسَلَخَهُ اللَّهُ مِمّا كانَ عَلَيْهِ ونَزَعَ مِنهُ المَعْرِفَةَ. فَخَرَجَتْ مِن صَدْرِهِ كَحَمامَةٍ بَيْضاءَ، فَهَذِهِ قِصَّتُهُ. ويُقالُ أيْضًا: إنَّهُ كانَ نَبِيًّا مِن أنْبِياءِ اللَّهِ، فَلَمّا دَعا عَلَيْهِ مُوسى انْتَزَعَ اللَّهُ مِنهُ الإيمانَ وصارَ كافِرًا. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، وأبُو رَوْقٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أُمَيَّةَ بْنِ أبِي الصَّلْتِ، وكانَ قَدْ قَرَأ الكُتُبَ، وعَلِمَ أنَّ اللَّهَ مُرْسِلٌ رَسُولًا في ذَلِكَ الوَقْتِ، ورَجا أنْ يَكُونَ هو، فَلَمّا أرْسَلَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - حَسَدَهُ، ثُمَّ ماتَ كافِرًا، ولَمْ يُؤْمِن بِالنَّبِيِّ ﷺ وهو الَّذِي قالَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ: (آمَنَ شِعْرُهُ وكَفَرَ قَلْبُهُ) يُرِيدُ أنَّ شِعْرَهُ كَشِعْرِ المُؤْمِنِينَ، وذَلِكَ أنَّهُ يُوَحِّدُ اللَّهَ في شِعْرِهِ، ويَذْكُرُ دَلائِلَ تَوْحِيدِهِ مِن خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ وأحْوالِ الآخِرَةِ، والجَنَّةِ والنّارِ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في أبِي عامِرٍ الرّاهِبِ الَّذِي سَمّاهُ النَّبِيُّ ﷺ الفاسِقَ كانَ يَتَرَهَّبُ في الجاهِلِيَّةِ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ خَرَجَ إلى الشّامِ، وأمَرَ المُنافِقِينَ بِاتِّخاذِ مَسْجِدِ ضِرارٍ، وأتى قَيْصَرَ واسْتَنْجَدَهُ عَلى النَّبِيِّ ﷺ، فَماتَ هُناكَ طَرِيدًا وحِيدًا، وهو قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في مُنافِقِي أهْلِ الكِتابِ، كانُوا يَعْرِفُونَ النَّبِيَّ ﷺ، عَنِ الحَسَنِ والأصَمِّ، وقِيلَ: هو عامٌّ فِيمَن عُرِضَ عَلَيْهِ الهَدْيُ فَأعْرَضَ عَنْهُ، وهو قَوْلُ قَتادَةَ، وعِكْرِمَةَ، وأبِي مُسْلِمٍ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: فَهَلْ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: إنَّ المَذْكُورَ في هَذِهِ الآيَةِ كانَ نَبِيًّا، ثُمَّ صارَ كافِرًا ؟ قُلْنا: هَذا بَعِيدٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى لا يُشَرِّفُ عَبْدًا مِن عَبِيدِهِ بِالرِّسالَةِ، إلّا إذا عَلِمَ امْتِيازَهُ عَنْ سائِرِ العَبِيدِ بِمَزِيدِ الشَّرَفِ، والدَّرَجاتِ العالِيَةِ، والمَناقِبِ العَظِيمَةِ، فَمَن كانَ هَذا حالَهُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ الكُفْرُ ؟ أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنها﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: ﴿آتَيْناهُ آياتِنا﴾ يَعْنِي: عَلَّمْناهُ حُجَجَ التَّوْحِيدِ، وفَهَّمْناهُ أدِلَّتَهُ، حَتّى صارَ عالِمًا بِها﴿فانْسَلَخَ مِنها﴾ أيْ خَرَجَ مِن مَحَبَّةِ اللَّهِ إلى مَعْصِيَتِهِ، ومِن رَحْمَةِ اللَّهِ إلى سُخْطِهِ، ومَعْنى انْسَلَخَ: خَرَجَ مِنها. يُقالُ لِكُلِّ مَن فارَقَ شَيْئًا بِالكُلِّيَّةِ انْسَلَخَ مِنهُ. والقَوْلُ الثّانِي: ما ذَكَرَهُ أبُو مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقالَ قَوْلُهُ: ﴿آتَيْناهُ آياتِنا﴾ أيْ بَيَّناها فَلَمْ يَقْبَلْ وعَرِيَ مِنها، وسَواءٌ قَوْلُكَ: انْسَلَخَ، وعَرِيَ، وتَباعَدَ، وهَذا يَقَعُ عَلى كُلِّ كافِرٍ لَمْ يُؤْمِن بِالأدِلَّةِ، وأقامَ عَلى الكُفْرِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقًا لِما مَعَكم مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ [النساء: ٤٧] وقالَ في حَقِّ فِرْعَوْنَ: ﴿ولَقَدْ أرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وأبى﴾ [طه: ٥٦] وجائِزٌ أنْ يَكُونَ هَذا المَوْصُوفُ فِرْعَوْنَ، فَإنَّهُ تَعالى أرْسَلَ إلَيْهِ مُوسى وهارُونَ، فَأعْرَضَ وأبى، وكانَ عادِيًا ضالًّا مُتَّبِعًا لِلشَّيْطانِ. (p-٤٦)واعْلَمْ أنَّ حاصِلَ الفَرْقِ بَيْنَ القَوْلَيْنِ: هو أنَّ هَذا الرَّجُلَ في القَوْلِ الأوَّلِ، كانَ عالِمًا بِدِينِ اللَّهِ وتَوْحِيدِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنهُ، وعَلى القَوْلِ الثّانِي لَمّا آتاهُ اللَّهُ الدَّلائِلَ والبَيِّناتِ امْتَنَعَ مِن قَبُولِها، والقَوْلُ الأوَّلُ أوْلى، لِأنَّ قَوْلَهُ انْسَلَخَ مِنها يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ فِيها ثُمَّ خَرَجَ مِنها، وأيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالأخْبارِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ إنَّما نَزَلَتْ في إنْسانٍ كانَ عالِمًا بِدِينِ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ خَرَجَ مِنهُ إلى الكُفْرِ والضَّلالِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَأتْبَعَهُ الشَّيْطانُ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أتْبَعَهُ الشَّيْطانُ كُفّارَ الإنْسِ وغُواتَهم، أيِ الشَّيْطانُ جَعَلَ كُفّارَ الإنْسِ أتْباعًا لَهُ. والثّانِي: قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ ﴿فَأتْبَعَهُ الشَّيْطانُ﴾ أيْ أدْرَكَهُ. يُقالُ: أتْبَعْتُ القَوْمَ. أيْ لَحِقْتُهم. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: ويُقالُ: أتْبَعْتُ القَوْمَ، مِثالُ: أفْعَلْتُ إذا كانُوا قَدْ سَبَقُوكَ فَلَحِقْتَهم. ويُقالُ: ما زِلْتُ أتْبَعُهم حَتّى أتْبَعْتُهم. أيْ حَتّى أدْرَكْتُهم. وقَوْلُهُ﴿فَكانَ مِنَ الغاوِينَ﴾ أيْ أطاعَ الشَّيْطانَ فَكانَ مِنَ الظّالِمِينَ. قالَ أهْلُ المَعانِي: المَقْصُودُ مِنهُ بَيانُ أنَّ مَن أُوتِيَ الهُدى، فانْسَلَخَ مِنهُ إلى الضَّلالِ والهَوى والعَمى، ومالَ إلى الدُّنْيا حَتّى تَلاعَبَ بِهِ الشَّيْطانُ، كانَ مُنْتَهاهُ إلى البَوارِ والرَّدى، وخابَ في الآخِرَةِ والأُولى، فَذَكَرَ اللَّهُ قِصَّتَهُ لِيَحْذَرَ النّاسُ عَنْ مِثْلِ حالَتِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿ولَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها﴾ قالَ أصْحابُنا: مَعْناهُ ولَوْ شِئْنا رَفَعْناهُ لِلْعَمَلِ بِها، فَكانَ يَرْفَعُ بِواسِطَةِ تِلْكَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ مَنزِلَتَهُ، ولَفْظَةُ(لَوْ) تَدُلُّ عَلى انْتِفاءِ الشَّيْءِ لِانْتِفاءِ غَيْرِهِ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى قَدْ لا يُرِيدُ الإيمانَ، وقَدْ يُرِيدُ الكُفْرَ. وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: لَفْظُ الآيَةِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أُخْرى سِوى هَذا الوَجْهِ: فالأوَّلُ: قالَ الجُبّائِيُّ مَعْناهُ: ولَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِأعْمالِهِ، بِأنْ نُكْرِمَهُ، ونُزِيلَ التَّكْلِيفَ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ الكُفْرِ حَتّى نُسَلِّمَ لَهُ الرِّفْعَةَ، لَكِنّا رَفَعْناهُ بِزِيادَةِ التَّكْلِيفِ بِمَنزِلَةٍ زائِدَةٍ، فَأبى أنْ يَسْتَمِرَّ عَلى الإيمانِ. الثّانِي: لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ، بِأنْ نَحُولَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الكُفْرِ، قَهْرًا وجَبْرًا، إلّا أنَّ ذَلِكَ يُنافِي التَّكْلِيفَ. فَلا جَرَمَ تَرَكْناهُ مَعَ اخْتِيارِهِ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ حَمْلَ الرِّفْعَةِ عَلى الأمانَةِ بَعِيدٌ. وعَنِ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى إذا مَنَعَهُ مِنهُ قَهْرًا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلثَّوابِ والرِّفْعَةِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَكِنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ﴾ قالَ أصْحابُ العَرَبِيَّةِ: أصْلُ الإخْلادِ اللُّزُومُ عَلى الدَّوامِ، وكَأنَّهُ قِيلَ: لَزِمَ المَيْلُ إلى الأرْضِ، ومِنهُ يُقالُ: أخْلَدَ فُلانٌ بِالمَكانِ، إذا لَزِمَ الإقامَةَ بِهِ. قالَ مالِكُ بْنُ سُوِيدٍ: ؎بِأبْناءِ حَيٍّ مِن قَبائِلِ مالِكٍ وعَمْرِو بْنِ يَرْبُوعٍ أقامُوا فَأخْلَدُوا قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ﴿ولَكِنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ﴾ يُرِيدُ مالَ إلى الدُّنْيا، وقالَ مُقاتِلٌ: بِالدُّنْيا، وقالَ الزَّجّاجُ: سَكَنَ إلى الدُّنْيا. قالَ الواحِدِيُّ: فَهَؤُلاءِ فَسَّرُوا الأرْضَ في هَذِهِ الآيَةِ بِالدُّنْيا، وذَلِكَ لِأنَّ الدُّنْيا هي الأرْضُ، لِأنَّ ما فِيها مِنَ العَقارِ والضِّياعِ وسائِرِ أمْتِعَتِها مِنَ المَعادِنِ والنَّباتِ والحَيَوانِ مُسْتَخْرَجٌ مِنَ الأرْضِ، وإنَّما يَقْوى ويَكْمُلُ بِها، فالدُّنْيا كُلُّها هي الأرْضُ، فَصَحَّ أنْ يُعَبَّرَ عَنِ الدُّنْيا بِالأرْضِ، ونَقُولُ: لَوْ جاءَ الكَلامُ عَلى ظاهِرِهِ لَقِيلَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ، ولَكِنّا لَمْ نَشَأْ، إلّا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولَكِنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ﴾ لَمّا دَلَّ عَلى هَذا المَعْنى لا جَرَمَ أُقِيمَ مُقامَهُ. قَوْلُهُ: ﴿واتَّبَعَ هَواهُ﴾ مَعْناهُ: أنَّهُ أعْرَضَ عَنِ التَّمَسُّكِ بِما آتاهُ اللَّهُ مِنَ الآياتِ واتَّبَعَ الهَوى، فَلا جَرَمَ وقَعَ في هاوِيَةِ الرَّدى، وهَذِهِ الآيَةُ مِن أشَدِّ الآياتِ عَلى أصْحابِ العِلْمِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى بَعْدَ أنْ خَصَّ هَذا (p-٤٧)الرَّجُلَ بِآياتِهِ وبَيِّناتِهِ، وعَلَّمَهُ الِاسْمَ الأعْظَمَ، وخَصَّهُ بِالدَّعَواتِ المُسْتَجابَةِ، لَمّا اتَّبَعَ الهَوى انْسَلَخَ مِنَ الدِّينِ وصارَ في دَرَجَةِ الكَلْبِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ مَن كانَتْ نِعَمُ اللَّهِ في حَقِّهِ أكْثَرَ، فَإذا أعْرَضَ عَنْ مُتابَعَةِ الهُدى وأقْبَلَ عَلى مُتابَعَةِ الهَوى، كانَ بُعْدُهُ عَنِ اللَّهِ أعْظَمَ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: «مَنِ ازْدادَ عِلْمًا ولَمْ يَزْدَدْ هُدًى لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إلّا بُعْدًا» أوْ لَفْظٌ هَذا مَعْناهُ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ قالَ اللَّيْثُ: اللَّهْثُ هو أنَّ الكَلْبَ إذا نالَهُ الإعْياءُ عِنْدَ شِدَّةِ العَدْوِ وعِنْدَ شِدَّةِ الحَرِّ، فَإنَّهُ يُدْلِعُ لِسانَهُ مِنَ العَطَشِ. واعْلَمْ أنَّ هَذا التَّمْثِيلَ ما وقَعَ بِجَمِيعِ الكِلابِ، وإنَّما وقَعَ بِالكَلْبِ اللّاهِثِ، وأخَسُّ الحَيَواناتِ هو الكَلْبُ، وأخَسُّ الكِلابِ هو الكَلْبُ اللّاهِثُ، فَمَن آتاهُ اللَّهُ العِلْمَ والدِّينَ فَمالَ إلى الدُّنْيا، وأخْلَدَ إلى الأرْضِ، كانَ مُشَبَّهًا بِأخَسِّ الحَيَواناتِ، وهو الكَلْبُ اللّاهِثُ، وفي تَقْرِيرِ هَذا التَّمْثِيلِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَلْهَثُ فَإنَّما يَلْهَثُ مِن إعْياءٍ أوْ عَطَشٍ إلّا الكَلْبَ اللّاهِثَ فَإنَّهُ يَلْهَثُ في حالِ الإعْياءِ، وفي حالِ الرّاحَةِ، وفي حالِ العَطَشِ، وفي حالِ الرِّيِّ، فَكانَ ذَلِكَ عادَةً مِنهُ وطَبِيعَةً، وهو مُواظِبٌ عَلَيْهِ كَعادَتِهِ الأصْلِيَّةِ، وطَبِيعَتِهِ الخَسِيسَةِ، لا لِأجْلِ حاجَةٍ وضَرُورَةٍ، فَكَذَلِكَ مَن آتاهُ اللَّهُ العِلْمَ والدِّينَ وأغْناهُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِأوْساخِ أمْوالِ النّاسِ، ثُمَّ إنَّهُ يَمِيلُ إلى طَلَبِ الدُّنْيا، ويُلْقِي نَفْسَهُ فِيها، كانَتْ حالُهُ كَحالِ ذَلِكَ اللّاهِثِ، حَيْثُ واظَبَ عَلى العَمَلِ الخَسِيسِ، والفِعْلِ القَبِيحِ، لِمُجَرَّدِ نَفْسِهِ الخَبِيثَةِ، وطَبِيعَتِهِ الخَسِيسَةِ، لا لِأجْلِ الحاجَةِ والضَّرُورَةِ. والثّانِي: أنَّ الرَّجُلَ العالِمَ إذا تَوَسَّلَ بِعِلْمِهِ إلى طَلَبِ الدُّنْيا، فَذاكَ إنَّما يَكُونُ لِأجْلِ أنَّهُ يُورِدُ عَلَيْهِمْ أنْواعَ عُلُومِهِ ويُظْهِرُ عِنْدَهم فَضائِلَ نَفْسِهِ ومَناقِبَها، ولا شَكَّ أنَّهُ عِنْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الكَلِماتِ، وتَقْرِيرِ تِلْكَ العِباراتِ يُدْلِعُ لِسانَهُ، ويُخْرِجُهُ لِأجْلِ ما تَمَكَّنَ في قَلْبِهِ مِن حَرارَةِ الحِرْصِ وشِدَّةِ العَطَشِ إلى الفَوْزِ بِالدُّنْيا، فَكانَتْ حالَتُهُ شَبِيهَةً بِحالَةِ ذَلِكَ الكَلْبِ الَّذِي أخْرَجَ لِسانَهُ أبَدًا مِن غَيْرِ حاجَةٍ ولا ضَرُورَةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الطَّبِيعَةِ الخَسِيسَةِ. والثّالِثُ: أنَّ الكَلْبَ اللّاهِثَ لا يَزالُ لَهْثُهُ البَتَّةَ، فَكَذَلِكَ الإنْسانُ الحَرِيصُ لا يَزالُ حِرْصُهُ البَتَّةَ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ﴾ فالمَعْنى أنَّ هَذا الكَلْبَ إنْ شُدَّ عَلَيْهِ وهُيِّجَ لَهَثَ، وإنْ تُرِكَ أيْضًا لَهَثَ، لِأجْلِ أنَّ ذَلِكَ الفِعْلَ القَبِيحَ طَبِيعَةٌ أصْلِيَّةٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ هَذا الحَرِيصُ الضّالُّ إنْ وعَظْتَهُ فَهو ضالٌّ، وإنْ لَمْ تَعِظْهُ فَهو ضالٌّ لِأجْلِ أنَّ ذَلِكَ الضَّلالَةَ والخَسارَةَ عادَةٌ أصْلِيَّةٌ وطَبِيعِيَّةٌ ذاتِيَّةٌ لَهُ. فَإنْ قِيلَ: ما مَحَلُّ قَوْلِهِ: ﴿إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ ؟ قُلْنا: النَّصْبُ عَلى الحالِ، كَأنَّهُ قِيلَ كَمَثَلِ الكَلْبِ ذَلِيلًا لاهِثًا في الأحْوالِ كُلِّها. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ فَعَمَّ بِهَذا التَّمْثِيلِ جَمِيعَ المُكَذِّبِينَ بِآياتِ اللَّهِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ أهْلَ مَكَّةَ كانُوا يَتَمَنَّوْنَ هادِيًا يَهْدِيهِمْ وداعِيًا يَدْعُوهم إلى طاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ جاءَهم مَن لا يَشُكُّونَ في صِدْقِهِ ودِيانَتِهِ فَكَذَّبُوهُ، فَحَصَلَ التَّمْثِيلُ بَيْنَهم وبَيْنَ الكَلْبِ الَّذِي إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ؛ لِأنَّهم لَمْ يَهْتَدُوا لَمّا تُرِكُوا ولَمْ يَهْتَدُوا لَمّا جاءَهُمُ الرَّسُولُ فَبَقُوا عَلى الضَّلالِ في كُلِّ الأحْوالِ مِثْلَ هَذا الكَلْبِ الَّذِي بَقِيَ عَلى اللَّهْثِ في كُلِّ الأحْوالِ. (p-٤٨)ثُمَّ قالَ: ﴿فاقْصُصِ القَصَصَ﴾ يُرِيدُ قَصَصَ الَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا أنْبِياءَهُمْ﴿لَعَلَّهم يَتَفَكَّرُونَ﴾ يُرِيدُ يَتَّعِظُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب