الباحث القرآني

(p-٨٧)قوله عزّ وجلّ: ﴿أو تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ﴾ ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ ولَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ ﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فانْسَلَخَ مِنها فَأتْبَعَهُ الشَيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوِينَ﴾ قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: المَعْنى في هَذِهِ الآياتِ أنَّ الكَفَرَةَ لَوْ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ عَهْدٌ ولا جاءَهم رَسُولٌ مُذَكِّرٌ بِما تَضَمَّنَهُ العَهْدُ مِن تَوْحِيدِ اللهِ وعِبادَتِهِ لَكانَتْ لَهم حُجَّتانِ؛ إحْداهُما: كُنّا غافِلِينَ، والأُخْرى: كُنّا تِباعًا لِأسْلافِنا فَكَيْفَ نَهْلَكُ والذَنْبُ إنَّما هو لِمَن طَرَقَ لَنا وأضَلَّنا، فَوَقَعَتْ شَهادَةُ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ أو شَهادَةُ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمْ؛ لِتَنْقَطِعَ لَهم هَذِهِ الحُجَجُ، والِاخْتِلافُ في "تَقُولُوا" أو "يَقُولُوا" بِحَسَبِ الأوَّلِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ﴾ تَقْدِيرُهُ: وكَما فَعَلْنا هَذِهِ الأُمُورَ وأنْفَذْنا هَذِهِ المَقادِيرَ فَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ ونُبَيِّنُها لِمَن عاصَرَكَ وبُعِثْتَ إلَيْهِ. "وَلَعَلَّهُمْ" عَلى تَرَجِّيهِمْ وتَرَجِّيكم وبِحَسَبِ نَظَرِ البَشَرِ، ﴿يَرْجِعُونَ﴾ إلى طاعَةِ اللهِ، ويَدْخُلُونَ في تَوْحِيدِهِ وعِبادَتِهِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "يُفَصِّلُ" بِالياءِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ﴾ الآيَةُ. "واتْلُ" مَعْناهُ: قُصَّ واسْرُدْ، والضَمِيرُ في "عَلَيْهِمْ" عائِدٌ عَلى حاضِرِي مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ الكُفّارِ وغَيْرِهِمْ، واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في الَّذِي أُوتِيَ الآياتِ، فَقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وغَيْرُهُ: هو رَجُلٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ بَعَثَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ إلى مَلِكِ مَدْيَنَ داعِيًا إلى اللهِ تَعالى وإلى الشَرِيعَةِ، وعَلَّمَهُ مِن آياتِ اللهِ ما يُمْكِنُ أنْ يَدْعُوَ بِهِ وإلَيْهِ، فَلَمّا وصَلَ رَشاهُ المَلِكُ وأعْطاهُ عَلى أنْ يَتْرُكَ دِينَ مُوسى ويُتابِعَ المَلِكَ عَلى دِينِهِ فَفَعَلَ، وفَتَنَ المَلِكُ بِهِ الناسَ وأضَلَّهُمْ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هو رَجُلٌ مِنَ الكَنْعانِيِّينَ الجَبّارِينَ اسْمُهُ بُلْعُمُ، وقِيلَ: بُلْعامُ بْنُ عابِرٍ، وقِيلَ: ابْنٌ آبِرٍ، وقِيلَ: غَيْرُ هَذا مِمّا ذِكْرُهُ تَطْوِيلٌ، وكانَ في جُمْلَةِ الجَبّارِينَ الَّذِينَ غَزاهم مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، فَلَمّا قَرُبَ مِنهم مُوسى لَجَؤُوا إلى بُلْعامَ وكانَ صالِحًا مُسْتَجابَ (p-٨٨)الدَعْوَةِ، وقِيلَ: كانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِن صُحُفِ إبْراهِيمَ ونَحْوِها، وقالَ مُجاهِدٌ: كانَ رُشِّحَ لِلنُّبُوَّةِ وأُعْطِيَها فَرَشاهُ قَوْمُهُ عَلى أنْ يَسْكُتَ فَفَعَلَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ مَرْدُودٌ لا يَصِحُّ عن مُجاهِدٍ، ومَن أُعْطِيَ النُبُوَّةَ فَقَدْ أُعْطِيَ العِصْمَةَ ولا بُدَّ، ثَبَتَ هَذا بِالشَرْعِ، وقَدْ نَصَّ مَعْنى ما قُلْتُهُ أبُو المَعالِي في كِتابِ الشامِلِ، وقِيلَ: كانَ يَعْلَمُ اسْمَ اللهِ الأعْظَمَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، وهَذا الخِلافُ في المُرادِ بِقَوْلِهِ: "آياتِنا"، فَقالَ لَهُ قَوْمُهُ: ادْعُ اللهَ تَعالى عَلى مُوسى وعَسْكَرِهِ، فَقالَ لَهُمْ: وكَيْفَ أدْعُو عَلى نَبِيٍّ مُرْسَلٍ؟ فَما زالُوا بِهِ حَتّى فَتَنُوهُ، فَخَرَجَ حَتّى أشْرَفَ عَلى جَبَلٍ يُرى مِنهُ عَسْكَرُ مُوسى، وكانَ قَدْ قالَ لِقَوْمِهِ: لا أفْعَلُ حَتّى أسْتَأْمِرَ رَبِّي، فَفَعَلَ فَسَكَتَ عنهُ فَأخْبَرَهُمْ، فَقالُوا لَهُ: إنَّ اللهَ لَمْ يَدَعْ نَهْيَكَ إلّا وقَدْ أرادَ ذَلِكَ، فَخَرَجَ، فَلَمّا أشْرَفَ عَلى العَسْكَرِ جَعَلَ يَدْعُو عَلى مُوسى، فَتَحَوَّلَ لِسانُهُ بِالدُعاءِ لِمُوسى والدُعاءِ عَلى قَوْمِهِ، فَقالُوا لَهُ: ما تَقُولُ؟ فَقالَ: إنِّي لا أمْلِكُ إلّا هَذا وعَلِمَ أنَّهُ قَدْ أخْطَأ، فَرُوِيَ أنَّهُ قَدْ خَرَجَ لِسانُهُ عَلى صَدْرِهِ، فَقالَ لِقَوْمِهِ: إنِّي قَدْ هَلَكْتُ ولَكِنْ لَمْ تَبْقَ لَكم إلّا الحِيلَةُ، فَأخْرِجُوا النِساءَ إلى عَسْكَرِ مُوسى عَلى جِهَةِ التَجَرُّدِ وغَيْرِهِ ومُرُوهُنَّ ألّا تَمْتَنِعَ امْرَأةٌ مِن رَجُلٍ فَإنَّهم إذا زَنَوْا هَلَكُوا، فَفَعَلُوا، فَخَرَجَ النِساءُ فَزَنى بِهِنَّ رِجالُ بَنِي إسْرائِيلَ، وجاءَ فَنُحاصُ بْنُ العِيزارِ بْنِ هارُونَ، فانْتَظَمَ بِرُمْحِهِ امْرَأةً ورَجُلًا مِن بَنِي إسْرائِيلَ، ورَفَعَهُما عَلى أعْلى الرُمْحِ، فَوَقَعَ في بَنِي إسْرائِيلَ الطاعُونُ فَماتَ مِنهم في ساعَةٍ واحِدَةٍ سَبْعُونَ ألْفًا، ثُمَّ ذَكَرَ المُعْتَمِرُ عن أبِيهِ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ قَتَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الرَجُلَ المُنْسَلِخَ مِن آياتِ اللهِ، قالَ المَهْدَوِيُّ: رُوِيَ أنَّهُ دَعا عَلى مُوسى ألّا يَدْخُلَ مَدِينَةَ الجَبّارِينَ فَأُجِيبَ، ودَعا عَلَيْهِ مُوسى ﷺ أنْ يَنْسى اسْمَ اللهِ الأعْظَمَ فَأُجِيبَ، قالَ الزَجّاجُ: وقِيلَ: إنَّ الإشارَةَ إلى مُنافِقِي أهْلِ الكِتابِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وصَوابُ هَذا أنْ يُقالَ: إلى كُفّارِ أهْلِ الكِتابِ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنهم مُنافِقٌ، إنَّما كانُوا (p-٨٩)مُجاهِرِينَ، وفي هَذِهِ القِصَّةِ رِواياتٌ كَثِيرَةٌ اخْتَصَرْتُها لِتَعَذُّرِ صِحَّتِها، واقْتَصَرْتُ مِنها عَلى ما يَخُصُّ ألْفاظَ الآيَةِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: المُشارُ إلَيْهِ في الآيَةِ رَجُلٌ كانَ قَدْ أُعْطِيَ ثَلاثَ دَعَواتٍ مُسْتَجاباتٍ فَتَرَكَ أنْ يَدْعُوَ بِها في مَصالِحِ العِبادِ، فَدَعا بِواحِدَةٍ أنْ تَرْجِعَ امْرَأتُهُ أجْمَلَ النِساءِ فَكانَ ذَلِكَ، فَلَمّا رَأتْ نَفْسَها كَذَلِكَ أبْغَضَتْهُ واحْتَقَرَتْهُ، فَدَعا عَلَيْها ثانِيَةً فَمُسِخَتْ كَلْبَةً، فَشَفَعَ لَها بَنُوها عِنْدَهُ فَدَعا لَها الثالِثَةَ فَعادَتْ كَما كانَتْ، ثُمَّ انْصَرَفَتْ إلى حالِها، فَذَهَبَتِ الدَعَواتُ. وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهُما: المُشارُ إلَيْهِ في الآيَةِ أُمَيَّةُ بْنُ أبِي الصَلْتِ، وكانَ قَدْ أُوتِيَ عِلْمًا، ورُوِيَ أنَّهُ جاءَ يُرِيدُ الإسْلامَ فَوَصَلَ إلى بَدْرٍ بَعْدَ الوَقْعَةِ بِيَوْمٍ أو نَحْوِهِ فَقالَ: مَن قَتَلَ هَؤُلاءِ؟ فَقِيلَ: مُحَمَّدٌ ﷺ، فَقالَ: لا حاجَةَ لِي بِدِينِ مَن قَتَلَ هَؤُلاءِ، فارْتَدَّ ورَجَعَ، وقالَ: الآنَ حَلَّتْ لِيَ الخَمْرُ -وَكانَ قَدْ حَرَّمَها عَلى نَفْسِهِ- فَمَرَّ حَتّى لَحِقَ بِقَوْمٍ مِن مُلُوكِ حِمْيَرٍ فَنادَمَهم حَتّى ماتَ. و"انْسَلَخَ" عِبارَةٌ عَنِ البَراءَةِ مِنها والِانْفِصالِ والبُعْدِ، كالسَلْخِ مِنَ الثِيابِ والجِلْدِ، و"أتْبَعَهُ": صَيَّرَهُ تابِعًا، كَذا قالَ الطَبَرِيُّ إمّا لِضَلالَةٍ رَسَمَها لَهُ، وإمّا لِنَفْسِهِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "فَأتْبَعَهُ" بِقَطْعِ الألِفِ وسُكُونِ التاءِ، وهي راجِحَةٌ لِأنَّها تَتَضَمَّنُ أنَّهُ لَحِقَهُ وصارَ مَعَهُ، وكَذَلِكَ ﴿فَأتْبَعَهُ شِهابٌ، (﴾ [الحجر: ١٨] فَأتْبَعَهم فِرْعَوْنُ )، وقَرَأ الحَسَنُ فِيما رَوى عنهُ هارُونُ "فاتَّبَعَهُ" بِصِلَةِ الألِفِ وشَدِّ التاءِ، وكَذَلِكَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِخِلافٍ، وكَذَلِكَ الخِلافُ عَنِ الحَسَنِ عَلى مَعْنى لازَمَهُ واتَّبَعَهُ بِالإغْواءِ حَتّى أغْواهُ، و"مِنَ الغاوِينَ" أيْ: مِنَ الضالِّينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب