الباحث القرآني
* (فصل: الرِّضا بِالقَضاءِ يَصِحُّ مِنَ المُؤْمِنِ والكافِرِ)
وَغايَتُهُ التَّسْلِيمُ لِقَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ. فَأيْنَ هَذا مِنَ الرِّضا بِهِ رَبًّا وإلَهًا ومَعْبُودًا؟
وَأيْضًا فالرِّضا بِهِ رَبًّا فَرْضٌ. بَلْ هو مِن آكَدِ الفُرُوضِ بِاتِّفاقِ الأُمَّةِ. فَمَن لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبًّا، لَمْ يَصِحَّ لَهُ إسْلامٌ ولا عَمَلٌ ولا حالٌ.
وَأمّا الرِّضا بِقَضائِهِ: فَأكْثَرُ النّاسِ عَلى أنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. ولَيْسَ بِواجِبٍ.
وَقِيلَ: بَلْ هو واجِبٌ، وهُما قَوْلانِ في مَذْهَبِ أحْمَدَ.
فالفَرْقُ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ فَرْقُ ما بَيْنَ الفَرْضِ والنَّدْبِ. وفي الحَدِيثِ الإلَهِيِّ الصَّحِيحِ «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أداءِ ما افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» فَدَلَّ عَلى أنَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ سُبْحانَهُ بِأداءِ فَرائِضِهِ أفْضَلُ وأعْلى مِنَ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِالنَّوافِلِ.
وَأيْضًا: فَإنَّ الرِّضا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ الرِّضا عَنْهُ، ويَسْتَلْزِمُهُ. فَإنَّ الرِّضا بِرُبُوبِيَّتِهِ: هو رِضا العَبْدِ بِما يَأْمُرُهُ بِهِ، ويَنْهاهُ عَنْهُ، ويَقْسِمُهُ لَهُ ويُقَدِّرُهُ عَلَيْهِ، ويُعْطِيهِ إيّاهُ، ويَمْنَعُهُ مِنهُ. فَمَتى لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَضِيَ بِهِ رَبًّا مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ. وإنْ كانَ راضِيًا بِهِ رَبًّا مِن بَعْضِها. فالرِّضا بِهِ رَبًّا مِن كُلِّ وجْهٍ: يَسْتَلْزِمُ الرِّضا عَنْهُ، ويَتَضَمَّنُهُ بِلا رَيْبٍ.
وَأيْضًا: فالرِّضا بِهِ رَبًّا مُتَعَلِّقٌ بِذاتِهِ، وصِفاتِهِ وأسْمائِهِ، ورُبُوبِيَّتِهِ العامَّةِ والخاصَّةِ، فَهو الرِّضا بِهِ خالِقًا ومُدَبِّرًا، وآمِرًا وناهِيًا، ومَلِكًا، ومُعْطِيًا ومانِعًا، وحَكَمًا، ووَكِيلًا ووَلِيًّا، وناصِرًا ومُعِينًا، وكافِيًا وحَسِيبًا ورَقِيبًا، ومُبْتَلِيًا ومُعافِيًا، وقابِضًا وباسِطًا، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن صِفاتِ رُبُوبِيَّتِهِ.
وَأمّا الرِّضا عَنْهُ: فَهو رِضا العَبْدِ بِما يَفْعَلُهُ بِهِ، ويُعْطِيهِ إيّاهُ، ولِهَذا لَمْ يَجِئْ إلّا في الثَّوابِ والجَزاءِ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [الفجر: ٢٧] فَهَذا بِرِضاها عَنْهُ لِما حَصَلَ لَها مِن كَرامَتِهِ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خالِدِينَ فِيها أبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: ٨].
والرِّضا بِهِ: أصْلُ الرِّضا عَنْهُ، والرِّضا عَنْهُ: ثَمَرَةُ الرِّضا بِهِ.
وَسِرُّ المَسْألَةِ: أنَّ الرِّضا بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ. والرِّضا عَنْهُ: مُتَعَلِّقٌ بِثَوابِهِ وجَزائِهِ.
وَأيْضًا: فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّقَ ذَوْقَ طَعْمِ الإيمانِ بِمَن رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا. ولَمْ يُعَلِّقْهُ بِمَن رَضِيَ عَنْهُ، كَما قالَ ﷺ «ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَن رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وبِالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ ﷺ رَسُولًا.». فَجَعَلَ الرِّضا بِهِ قَرِينَ الرِّضا بِدِينِهِ ونَبِيِّهِ. وهَذِهِ الثَّلاثَةُ هي أُصُولُ الإسْلامِ، الَّتِي لا يَقُومُ إلّا بِها وعَلَيْها.
وَأيْضًا: فالرِّضا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَهُ وعِبادَتَهُ، والإنابَةَ إلَيْهِ، والتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وخَوْفَهُ ورَجاءَهُ ومَحَبَّتَهُ، والصَّبْرَ لَهُ وبِهِ. والشُّكْرُ عَلى نِعَمِهِ: يَتَضَمَّنُ رُؤْيَةَ كُلِّ ما مِنهُ نِعْمَةً وإحْسانًا، وإنْ ساءَ عَبْدُهُ. فالرِّضا بِهِ يَتَضَمَّنُ شَهادَةَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ والرِّضا بِمُحَمَّدٍ رَسُولًا يَتَضَمَّنُ شَهادَةَ أنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ والرِّضا بِالإسْلامِ دِينًا: يَتَضَمَّنُ التِزامَ عُبُودِيَّتِهِ، وطاعَتَهُ وطاعَةَ رَسُولِهِ. فَجَمَعَتْ هَذِهِ الثَّلاثَةُ الدِّينَ كُلَّهُ.
وَأيْضًا: فالرِّضا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ اتِّخاذَهُ مَعْبُودًا دُونَ ما سِواهُ. واتِّخاذَهُ ولِيًّا ومَعْبُودًا، وإبْطالَ عِبادَةِ كُلِّ ما سِواهُ. وقَدْ قالَ تَعالى لِرَسُولِهِ ﴿أفَغَيْرَ اللَّهِ أبْتَغِي حَكَمًا﴾ [الأنعام: ١١٤] وقالَ ﴿أغَيْرَ اللَّهِ أتَّخِذُ ولِيًّا﴾ [الأنعام: ١٤] وقالَ ﴿قُلْ أغَيْرَ اللَّهِ أبْغِي رَبًّا وهو رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٦٤]. فَهَذا هو عَيْنُ الرِّضا بِهِ رَبًّا.
وَأيْضًا: فَإنَّهُ جَعَلَ حَقِيقَةَ الرِّضا بِهِ رَبًّا: أنْ يَسْخَطَ عِبادَةَ ما دُونَهُ. فَمَتى سَخِطَ العَبْدُ عِبادَةَ ما سِوى اللَّهِ مِنَ الآلِهَةِ الباطِلَةِ، حُبًّا وخَوْفًا، ورَجاءً وتَعْظِيمًا، وإجْلالًا - فَقَدْ تَحَقَّقَ بِالرِّضا بِهِ رَبًّا، الَّذِي هو قُطْبُ رَحى الإسْلامِ.
وَإنَّما كانَ قُطْبَ رَحى الدِّينِ لِأنَّ جَمِيعَ العَقائِدِ والأعْمالِ، والأحْوالِ: إنَّما تَنْبَنِي عَلى تَوْحِيدِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ في العِبادَةِ، وسُخْطِ عِبادَةِ ما سِواهُ. فَمَن لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذا القُطْبُ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَحًى تَدُورُ عَلَيْهِ. ومَن حَصَلَ لَهُ هَذا القُطْبُ ثَبَتَتْ لَهُ الرَّحى. ودارَتْ عَلى ذَلِكَ القُطْبِ. فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ مِن دائِرَةِ الشِّرْكِ إلى دائِرَةِ الإسْلامِ. فَتَدُورُ رَحى إسْلامِهِ وإيمانِهِ عَلى قُطْبِها الثّابِتِ اللّازِمِ.
وَأيْضًا: فَإنَّهُ جَعَلَ حُصُولَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الرِّضا مَوْقُوفًا عَلى كَوْنِ المَرْضِيِّ بِهِ رَبًّا - سُبْحانَهُ - أحَبَّ إلى العَبْدِ مِن كُلِّ شَيْءٍ، وأوْلى الأشْياءِ بِالتَّعْظِيمِ، وأحَقَّ الأشْياءِ بِالطّاعَةِ، ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا يَجْمَعُ قَواعِدَ العُبُودِيَّةِ، ويُنَّظِمُ فُرُوعَها وشُعَبَها.
وَلَمّا كانَتِ المَحَبَّةُ التّامَّةُ مَيْلَ القَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ إلى المَحْبُوبِ: كانَ ذَلِكَ المَيْلُ حامِلًا عَلى طاعَتِهِ وتَعْظِيمِهِ. وكُلَّما كانَ المَيْلُ أقْوى: كانَتِ الطّاعَةُ أتَمَّ، والتَّعْظِيمُ أوْفَرَ. وهَذا المَيْلُ يُلازِمُ الإيمانَ، بَلْ هو رُوحُ الإيمانِ ولُبُّهُ. فَأيُّ شَيْءٍ يَكُونُ أعْلى مِن أمْرٍ يَتَضَمَّنُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أحَبَّ الأشْياءِ إلى العَبْدِ، وأوْلى الأشْياءِ بِالتَّعْظِيمِ، وأحَقَّ الأشْياءِ بِالطّاعَةِ؟
وَبِهَذا يَجِدُ العَبْدُ حَلاوَةَ الإيمانِ. كَما في الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وجَدَ حَلاوَةَ الإيمانِ: مَن كانَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمّا سِواهُما. ومَن كانَ يُحِبُّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلّا لِلَّهِ. ومَن كانَ يَكْرَهُ أنْ يَرْجِعَ إلى الكُفْرِ - بَعْدَ إذْ أنْقَذَهُ اللَّهُ مِنهُ - كَما يَكْرَهُ أنْ يُلْقى في النّارِ».
فَعَلَّقَ ذَوْقَ الإيمانِ بِالرِّضا بِاللَّهِ رَبًا. وعَلَّقَ وُجُودَ حَلاوَتِهِ بِما هو مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ. ولا يَتِمُّ إلّا بِهِ، وهو كَوْنُهُ سُبْحانَهُ أحَبَّ الأشْياءِ إلى العَبْدِ هو ورَسُولُهُ.
وَلَمّا كانَ هَذا الحُبُّ التّامُّ، والإخْلاصُ - الَّذِي هو ثَمَرَتُهُ - أعْلى مِن مُجَرَّدِ الرِّضا بِرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحانَهُ: كانَتْ ثَمَرَتُهُ أعْلى. وهو وجْدُ حَلاوَةِ الإيمانِ. وثَمَرَةُ الرِّضا: ذَوْقُ طَعْمِ الإيمانِ. فَهَذا وجْدُ حَلاوَةٍ، وذَلِكَ ذَوْقُ طَعْمٍ. واللَّهُ المُسْتَعانُ.
وَإنَّما تَرَتَّبَ هَذا وهَذا عَلى الرِّضا بِهِ وحْدَهُ رَبًّا، والبَراءَةِ مِن عُبُودِيَّةِ ما سِواهُ، ومِيلِ القَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ إلَيْهِ، وانْجِذابِ قُوى المُحِبِّ كُلِّها إلَيْهِ. ورِضاهُ عَنْ رَبِّهِ تابِعٌ لِهَذا الرِّضا بِهِ. فَمَن رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا رَضِيَهُ اللَّهُ لَهُ عَبْدًا. ومَن رَضِيَ عَنْهُ في عَطائِهِ ومَنعِهِ وبَلائِهِ وعافِيَتِهِ: لَمْ يَنَلْ بِذَلِكَ دَرَجَةَ رِضا الرَّبِّ عَنْهُ، إنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبًّا، وبِنَبِيِّهِ رَسُولًا، وبِالإسْلامِ دِينًا، فَإنَّ العَبْدَ قَدْ يَرْضى عَنِ اللَّهِ رَبِّهِ فِيما أعْطاهُ وفِيما مَنَعَهُ، ولَكِنْ لا يَرْضى بِهِ وحْدَهُ مَعْبُودًا وإلَهًا. ولِهَذا إنَّما ضَمِنَ رِضا العَبْدِ يَوْمَ القِيامَةِ لِمَن رَضِيَ بِهِ رَبًّا. كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ «مَن قالَ كُلَّ يَوْمٍ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وبِالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا: إلّا كانَ حَقًّا عَلى اللَّهِ أنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ القِيامَةِ».
* (فَصْلٌ)
إذا عُرِفَ هَذا فَلْنَرْجِعْ إلى شَرْحِ كَلامِهِ. قالَ: وبِهَذا الرِّضا نَطَقَ التَّنْزِيلُ.
يُشِيرُ إلى قَوْلِهِ: عَزَّ وجَلَّ ﴿قالَ اللَّهُ هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهم لَهم جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [المائدة: ١١٩].
وَقالَ تَعالى في آخِرِ سُورَةِ المُجادَلَةِ ﴿وَيُدْخِلُهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ألا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: ٢٢] وفي آخِرِ سُورَةِ لَمْ يَكُنِ ﴿خالِدِينَ فِيها أبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: ٨].
فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ: جَزاءَهم عَلى صِدْقِهِمْ وإيمانِهِمْ، وأعْمالِهِمُ الصّالِحَةِ، ومُجاهَدَةِ أعْدائِهِ، وعَدَمِ وِلايَتِهِمْ، بِأنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. فَأرْضاهم. فَرَضُوا عَنْهُ. وإنَّما حَصَلَ لَهم هَذا بَعْدَ الرِّضا بِهِ رَبًّا، وبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وبِالإسْلامِ دِينًا.
قَوْلُهُ: وهو الرِّضا عَنْهُ في كُلِّ ما قَضى.
هاهُنا ثَلاثَةُ أُمُورٍ: الرِّضاءُ بِاللَّهِ، والرِّضا عَنِ اللَّهِ، والرِّضا بِقَضاءِ اللَّهِ.
فالرِّضا بِهِ فَرْضٌ. والرِّضا عَنْهُ - وإنْ كانَ مِن أجَلِّ الأُمُورِ وأشْرَفِ أنْواعِ العُبُودِيَّةِ - فَلَمْ يُطالِبْ بِهِ العُمُومَ. لِعَجْزِهِمْ ومَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ. وأوْجَبَتْهُ طائِفَةٌ كَما أوْجَبُوا الرِّضا بِهِ، واحْتَجُّوا بِحُجَجٍ.
مِنها: أنَّهُ إذا لَمْ يَكُنْ راضِيًا عَنْ رَبِّهِ فَهو ساخِطٌ عَلَيْهِ. إذْ لا واسِطَةَ بَيْنَ الرِّضا والسَّخَطِ. وسَخَطُ العَبْدِ عَلى رَبِّهِ مُنافٍ لِرِضاهُ بِهِ رَبًّا.
قالُوا: وأيْضًا فَعَدَمُ رِضاهُ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ سُوءَ ظَنِّهِ بِهِ، ومُنازَعَتَهُ لَهُ في اخْتِيارِهِ لِعَبْدِهِ، وأنَّ الرَّبَّ تَبارَكَ وتَعالى يَخْتارُ شَيْئًا ويَرْضاهُ فَلا يَخْتارُهُ العَبْدُ ولا يَرْضاهُ، وهَذا مُنافٍ لِلْعُبُودِيَّةِ.
قالُوا: وفي بَعْضِ الآثارِ الإلَهِيَّةِ مَن لَمْ يَرْضَ بِقَضائِي، ولَمْ يَصْبِرْ عَلى بَلائِي. فَلْيَتَّخِذْ رَبًّا سِوايَ.
وَلا حُجَّةَ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ.
أمّا قَوْلُهُ: إنَّهُ لا يَتَخَلَّصُ مِنَ السَّخَطِ عَلى رَبِّهِ إلّا بِالرِّضا عَنْهُ. إذْ لا واسِطَةَ بَيْنَ الرِّضا والسَّخَطِ - فَكَلامٌ مَدْخُولٌ. لِأنَّ السُّخْطَ بِالمَقْضِيِّ لا يَسْتَلْزِمُ السُّخْطَ عَلى مَن قَضاهُ، كَما أنَّ كَراهَةَ المَقْضِيِّ وبُغْضَهُ والنُّفْرَةَ عَنْهُ لا تَسْتَلْزِمُ تَعَلُّقَ ذَلِكَ بِالَّذِي قَضاهُ وقَدَّرَهُ. فالمَقْضِيُّ قَدْ يَسْخَطُهُ العَبْدُ وهو راضٍ عَمَّنْ قَضاهُ وقَدَّرَهُ. بَلْ قَدْ يَجْتَمِعُ تَسَخُّطُهُ والرِّضا بِنَفْسِ القَضاءِ. كَما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ.
وَأمّا قَوْلُكم إنَّهُ يَسْتَلْزِمُ سُوءَ ظَنِّ العَبْدِ بِرَبِّهِ ومُنازَعَتَهُ لَهُ في اخْتِيارِهِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ هو حُسْنُ الظَّنِّ بِرَبِّهِ في الحالَتَيْنِ. فَإنَّهُ إنَّما يَسْخَطُ المَقْدُورَ ويُنازِعُهُ بِمَقْدُورٍ آخَرَ. كَما يُنازِعُ القَدَرَ الَّذِي يَكْرَهُهُ رَبُّهُ بِالقَدَرِ الَّذِي يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ. فَيُنازِعُ قَدَرَ اللَّهِ بِقَدَرِ اللَّهِ بِاللَّهِ لِلَّهِ، كَما يَسْتَعِيذُ بِرِضاهُ مِن سَخَطِهِ، وبِمُعافاتِهِ مِن عُقُوبَتِهِ، ويَسْتَعِيذُ بِهِ مِنهُ.
فَأمّا كَوْنُهُ يَخْتارُ لِنَفْسِهِ خِلافَ ما يَخْتارُهُ الرَّبُّ فَهَذا مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ. لا يُسْحَبُ عَلَيْهِ ذَيْلُ النَّفْيِ والإثْباتِ. فاخْتِيارُ الرَّبِّ تَعالى لِعَبْدِهِ نَوْعانِ.
أحَدُهُما: اخْتِيارٌ دِينِيٌّ شَرْعِيٌّ. فالواجِبُ عَلى العَبْدِ أنْ لا يَخْتارَ في هَذا النَّوْعِ غَيْرَ ما اخْتارَهُ لَهُ سَيِّدُهُ.
قالَ تَعالى ﴿وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضى اللَّهُ ورَسُولُهُ أمْرًا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٣٦] فاخْتِيارُ العَبْدِ خِلافَ ذَلِكَ مُنافٍ لِإيمانِهِ وتَسْلِيمِهِ، ورِضاهُ بِاللَّهِ رَبًّا، وبِالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا.
النَّوْعُ الثّانِي: اخْتِيارٌ كَوْنِيٌّ قَدَرِيٌّ. لا يَسْخَطُهُ الرَّبُّ، كالمَصائِبِ الَّتِي يَبْتَلِي اللَّهُ بِها عَبْدَهُ. فَهَذا لا يَضُرُّهُ فِرارُهُ مِنها إلى القَدَرِ الَّذِي يَرْفَعُها عَنْهُ، ويَدْفَعُها ويَكْشِفُها. ولَيْسَ في ذَلِكَ مُنازَعَةٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ. وإنْ كانَ فِيهِ مُنازَعَةٌ لِلْقَدَرِ بِالقَدَرِ.
فَهَذا يَكُونُ تارَةً واجِبًا، وتارَةً يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وتارَةً يَكُونُ مُباحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ، وتارَةً يَكُونُ مَكْرُوهًا، وتارَةً يَكُونُ حَرامًا.
وَأمّا القَدَرُ الَّذِي لا يُحِبُّهُ ولا يَرْضاهُ - مِثْلَ قَدَرِ المَعائِبِ والذُّنُوبِ - فالعَبْدُ مَأْمُورٌ بِسَخَطِها. ومَنهِيٌّ عَنِ الرِّضا بِها.
وَهَذا هو التَّفْصِيلُ الواجِبُ في الرِّضا بِالقَضاءِ.
* (لطيفة)
اجْتَمَعَ وُهَيْبُ بْنُ الوَرْدِ، وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ، ويُوسُفُ بْنُ أسْباطٍ.
فَقالَ الثَّوْرِيُّ: قَدْ كُنْتُ أكْرَهُ مَوْتَ الفُجاءَةِ قَبْلَ اليَوْمِ. وأمّا اليَوْمَ: فَوَدِدْتُ أنِّي مَيِّتٌ.
فَقالَ لَهُ يُوسُفُ بْنُ أسْباطٍ: ولِمَ؟ فَقالَ: لِما أتَخَوَّفُ مِنَ الفِتْنَةِ.
فَقالَ يُوسُفُ: لَكِنِّي لا أكْرَهُ طُولَ البَقاءِ.
فَقالَ الثَّوْرِيُّ: ولِمَ تَكْرَهُ المَوْتَ؟
قالَ: لَعَلِّي أُصادِفُ يَوْمًا أتُوبُ فِيهِ وأعْمَلُ صالِحًا.
فَقِيلَ لِوُهَيْبٍ: أيُّ شَيْءٍ تَقُولُ أنْتَ؟
فَقالَ: أنا لا أخْتارُ شَيْئًا، أحَبُّ ذَلِكَ إلَيَّ أحَبُّهُ إلى اللَّهِ.
فَقَبَّلَ الثَّوْرِيُّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وقالَ: رُوحانِيَّةٌ ورَبِّ الكَعْبَةِ.
فَهَذا حالُ عَبْدٍ قَدِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ حالَةُ الحَياةِ والمَوْتِ. وقَفَ مَعَ اخْتِيارِ اللَّهِ لَهُ مِنها. وقَدْ كانَ وُهَيْبٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ المَقامُ العالِي مِنَ الرِّضا وغَيْرِهِ.
{"ayah":"قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا یَوۡمُ یَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِینَ صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّـٰتࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ رَّضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُوا۟ عَنۡهُۚ ذَ ٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق