الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿إنْ تُعَذِّبْهم فَإنَّهم عِبادُكَ وإنْ تَغْفِرْ لَهم فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿قالَ اللهُ هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصادِقِينَ صِدْقُهم لَهم جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا رَضِيَ اللهُ عنهم ورَضُوا عنهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَماواتِ والأرْضِ وما فِيهِنَّ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هَذِهِ الآيَةُ - عَلى قَوْلِ مَن قالَ: إنَّ تَوْقِيفَ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - كانَ إثْرَ رَفْعِهِ - مُسْتَقِيمَةُ المَعْنى؛ لِأنَّهُ قالَ عنهم هَذِهِ المَقالَةَ وهم أحْياءٌ في الدُنْيا؛ وهو لا يَدْرِي عَلى ما يُوافُونَ. وهِيَ - عَلى قَوْلِ مَن قالَ: إنَّ التَوْقِيفَ هو يَوْمَ القِيامَةِ - بِمَعْنى: "إنْ سَبَقَتْ لَهم كَلِمَةُ العَذابِ؛ كَما سَبَقَتْ؛ فَهم عِبادُكَ؛ تَصْنَعُ بِحَقِّ المِلْكِ ما شِئْتَ؛ لا اعْتِراضَ عَلَيْكَ؛ ﴿وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ ؛ بِتَوْبَةٍ؛ كَما غَفَرْتَ لِغَيْرِهِمْ؛ فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ في قُدْرَتِكَ؛ الحَكِيمُ في (p-٣٠٦)أفْعالِكَ؛ لا تُعارَضُ عَلى حالٍ"؛ فَكَأنَّهُ قالَ: "إنْ يَكُنْ لَكَ في الناسِ مُعَذَّبُونَ فَهم عِبادُكَ؛ وإنْ يَكُنْ مَغْفُورٌ لَهُمْ؛ فَعِزَّتُكَ؛ وحِكْمَتُكَ تَقْتَضِي هَذا كُلَّهُ". وهَذا عِنْدِي هو القَوْلُ الأرْجَحُ؛ ويُتَقَوّى بِما بَعْدَهُ؛ وذَلِكَ أنَّ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - لَمّا قَرَّرَ أنَّ اللهَ تَعالى لَهُ أنْ يَفْعَلَ في عِبادِهِ ما يَشاءُ؛ مِن تَعْذِيبٍ؛ ومَغْفِرَةٍ؛ أظْهَرَ اللهُ لِعِبادِهِ ما كانَتِ الأنْبِياءُ تُخْبِرُهم بِهِ؛ كَأنَّهُ يَقُولُ: "هَذا أمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنهُ؛ وقَدْ خَلَصَ لِلرَّحْمَةِ مَن خَلَصَ؛ ولِلْعَذابِ مَن خَلَصَ"؛ فَقالَ - تَبارَكَ وتَعالى-: ﴿هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ ؛ فَدَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ العِبارَةِ كُلُّ مُؤْمِنٍ بِاللهِ تَعالى؛ وكُلُّ ما كانَ اتَّقى فَهو أدْخَلُ في العِبارَةِ؛ ثُمَّ جاءَتْ هَذِهِ العِبارَةُ مُشِيرَةً إلى عِيسى في حالِهِ تِلْكَ؛ وصِدْقِهِ فِيما قالَ؛ فَحَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ في المَوْقِفِ شَرَفٌ عَظِيمٌ؛ وإنْ كانَ اللَفْظُ يَعُمُّهُ؛ وسِواهُ؛ وذَكَرَ تَعالى ما أعَدَّ لَهم بِرَحْمَتِهِ؛ وطَوْلِهِ؛ إلى قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾. وقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ: "هَذا يَوْمَ"؛ بِنَصْبِ "يَوْمَ"؛ وقَرَأ الباقُونَ "يَوْمُ"؛ بِالرَفْعِ؛ عَلى خَبَرِ المُبْتَدَإ الَّذِي هو "هَذا"؛ و"يَوْمُ"؛ مُضافٌ إلى "يَنْفَعُ"؛ والمُبْتَدَأُ والخَبَرُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأنَّهُ مَفْعُولُ القَوْلِ؛ إذِ القَوْلُ يَعْمَلُ في الجُمَلِ؛ وأمّا قِراءَةُ نافِعٍ فَتَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَكُونَ "يَوْمَ"؛ ظَرْفًا لِلْقَوْلِ؛ كَأنَّ التَقْدِيرَ: "قالَ اللهُ هَذا القَصَصَ؛ أوِ الخَبَرَ؛ يَوْمَ...". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا عِنْدِي مَعْنًى يُزِيلُ رَصْفَ الآيَةِ؛ وبَهاءَ اللَفْظِ. والمَعْنى الثانِي أنْ يَكُونَ ما بَعْدَ "قالَ"؛ حِكايَةً عَمّا قَبْلَها مِن قَوْلِهِ لِعِيسى ؛ إشارَةً إلَيْهِ؛ وخَبَرُ "هَذا"؛ مَحْذُوفٌ إيجازًا؛ كَأنَّ التَقْدِيرَ: "قالَ اللهُ: هَذا المُقْتَصُّ يَقَعُ؛ أو يَحْدُثُ؛ يَوْمَ يَنْفَعُ الصادِقِينَ...". (p-٣٠٧)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والخِطابُ - عَلى هَذا - لِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -؛ وأُمَّتِهِ؛ وهَذا أشْبَهَ مِنَ الذِي قَبْلَهُ؛ والبارِعُ المُتَوَجَّهُ: قِراءَةُ الجَماعَةِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ "يَوْمَ"؛ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى قِراءَةِ نافِعٍ ؛ لِأنَّ هَذا الفِعْلَ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ مُعْرَبٌ؛ وإنَّما يَكْتَسِي البِناءَ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ إذا كانَ المُضافُ إلَيْهِ مَبْنِيًّا؛ نَحْوَ: ﴿مِن عَذابِ يَوْمِئِذٍ﴾ [المعارج: ١١] ؛ ولا يُشْبِهُ قَوْلَ الشاعِرِ: ؎ عَلى حِينِ عاتَبْتُ المَشِيبَ عَلى الصِبا ∗∗∗ وقُلْتُ: ألَمّا أصْحُ والشَيْبُ وازِعُ؟ لِأنَّ الماضِيَ الَّذِي في البَيْتِ مَبْنِيٌّ؛ والمُضارِعَ الَّذِي في الآيَةِ مُعْرَبٌ. وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ العَبّاسِ الشامِيُّ: "هَذا يَوْمٌ"؛ بِالرَفْعِ؛ والتَنْوِينِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَماواتِ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِمّا يُقالُ يَوْمَ القِيامَةِ؛ ويُحْتَمَلُ أنَّهُ مَقْطُوعٌ مِن ذَلِكَ؛ مُخاطَبٌ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وأُمَّتُهُ؛ وعَلى الوَجْهَيْنِ فَفِيهِ عَضُدُ ما قالَ عِيسى: "إنْ تُعَذِّبِ الناسَ فَإنَّهم عِبادُكَ"؛ عَلى ما تَقَدَّمَ مِن تَأْوِيلِ الجُمْهُورِ. كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ "اَلْمائِدَةِ"؛ واللهُ المُسْتَعانُ؛ وهو حَسْبِي ونِعْمَ الوَكِيلُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب