الباحث القرآني

اعلم أن الله سُبْحانَهُ لما أهبط آدم أبا البشر من الجنَّة لما لَهُ في ذَلِك من الحكم الَّتِي تعجز العُقُول عَن مَعْرفَتها والألسن عَن صفتها فَكانَ إهباطه مِنها عين كَماله ليعود إليها على أحسن أحواله، فَأرادَ سُبْحانَهُ أن يذيقه وولده من نصب الدُّنْيا وغمومها وهمومها وأوصا بها ما يعظم بِهِ عِنْدهم مِقْدار دُخُولهمْ إليها في الدّار الآخرة فَإن الضِّدّ يظْهر حسنه الضِّدّ ولَو تربوا في دار النَّعيم لم يعرفوا قدرها. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أراد أمرهم ونهيهم وابتلاءهم واختبارهم ولَيْسَت الجنَّة دار تَكْلِيف فأهبطهم إلى الأرض وعرضهم بذلك لأفضل الثَّواب الَّذِي لم يكن لينال بِدُونِ الأمر والنَّهْي. وأيضا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أرادَ أن يتَّخذ مِنهُم أنبياء ورسلا وأولياء وشهداء يُحِبهم ويُحِبُّونَهُ فخلى بَينهم وبَين أعدائه وامتحنهم بهم فَلَمّا آثروه وبذلوا نُفُوسهم وأموالهم في مرضاته ومحابه نالوا من محبته ورضوانه والقرب مِنهُ ما لم يكن لينال بِدُونِ ذَلِك أصلا فدرجة الرسالَة والنبوة والشَّهادَة والحب فِيهِ والبغض فِيهِ وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه عِنْده من أفضل الدَّرَجات ولم يكن ينال هَذا إلا على الوَجْه الَّذِي قدره وقضاه من إهباطه إلى الأرض وجعل معيشته ومعيشة أولاده فِيها. وأيضا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لَهُ الأسماء الحسنى فَمن أسمائه الغفور الرَّحِيم العَفو الحَلِيم الخافِض الرافع المعز المذل المحيي المميت الوارِث الصبور ولا بُد من ظُهُور آثار هَذِه الأسماء فاقتضت حكمته سُبْحانَهُ أن ينزل آدم وذريته دارا يظْهر عَلَيْهِم فِيها أثر أسمائه النى فَيغْفر فِيها لمن يَشاء ويرْحَم من يَشاء ويخفض من يَشاء ويرْفَع من يَشاء ويعز من يَشاء ويذل من يَشاء وينتقم مِمَّن يَشاء ويُعْطي ويمْنَع ويبسط إلى غير ذَلِك من ظُهُور أثر أسمائه وصِفاته. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ الملك الحق المُبين والملك هو الَّذِي يَأْمر وينْهى ويثيب ويعاقب ويهين ويكرم ويعز ويذل فاقْتضى ملكه سُبْحانَهُ أن أنْزِلْ آدم وذريته دارا تجرى عَلَيْهِم فِيها أحكام الملك ثمَّ ينقلهم إلى دار يتم عَلَيْهِم فِيها ذَلِك. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أنزلهم إلى دار يكون إيمانهم فِيها بِالغَيْبِ والإيمان بِالغَيْبِ هو الإيمان النافع. وَأما الإيمان بِالشَّهادَةِ فَكل أحد يُؤمن يَوْم القِيامَة يَوْم لا ينفع نفسا إلّا إيمانها في الدُّنْيا فَلَو خلقُوا في دار النَّعيم لم ينالوا دَرَجَة الإيمان بِالغَيْبِ واللذة والكرامة الحاصِلَة بذلك لا تحصل بِدُونِهِ بل كانَ الحاصِل لَهُم في دار النَّعيم لَذَّة وكرامة غير هَذِه. وَأيْضًا فَإن الله سُبْحانَهُ خلق آدم من قَبْضَة قبضها من جَمِيع الأرض والأرض فِيها الطّيب والخبيث والسهل والحزن والكريم واللئيم فَعلم سُبْحانَهُ أن في ظَهره من لا يصلح لمساكنته في داره فأنزله إلى دار استخرج فِيها الطّيب والخبيث من صلبه ثمَّ ميزهم سُبْحانَهُ بدارين، فَجعل الطيبين أهل جواره ومساكنته في داره وجعل الخَبيث أهل دار الشَّقاء دار الخبثاء قالَ الله تَعالى ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ويَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ في جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ (٣٧)﴾ فَلَمّا علم سُبْحانَهُ أن في ذُريَّته من لَيْسَ بِأهْل لمجاورته أنزلهم دارا استخرج مِنها أولئك وألحقهم بِالدّار الَّتِي هم لَها أهل حِكْمَة بالِغَة ومشيئة نافِذَة ذَلِك تَقْدِير العَزِيز العَلِيم .. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لما قالَ للْمَلائكَة ﴿إنِّي جاعل في الأرْض خَليفَة قالُوا أتجْعَلُ فِيها من يفْسد فِيها ويسفك الدِّماء ونحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك﴾ أجابهم بقوله ﴿إنِّي أعلم ما لا تعلمُونَ﴾ ثمَّ أظهر سُبْحانَهُ علمه لِعِبادِهِ ولملائكته بِما جعله في الأرض من خَواص خلقه ورُسُله وأنبيائه وأوليائه ومن يتَقرَّب إليه ويبذل نَفسه في محبته ومرضاته مَعَ مجاهدة شَهْوَته وهواه فَيتْرك محبوباته تقربا إليَّ ويتْرك شهواته ابْتِغاء مرضاتي ويبذل دَمه ونَفسه في محبتي وأخصه بِعلم لا تعلمونه يسبح بحمدي آناء اللَّيْل وأطراف النَّهار ويعبدني مَعَ معارضات الهوى والشهوة والنَّفس والعدو إذْ تعبدوني انتم من غير معارض يعارضكم ولا شَهْوَة تعتريكم ولا عَدو أسلطه عَلَيْكُم بل عبادتكم لي بِمَنزِلَة النَّفس لأحدهم .. وَأيْضًا فَإنِّي أريد أن أظهر ما خفي عَلَيْكُم من شَأْن عدوي ومحاربته لي وتكبره عَن أمْرِي وسعيه في خلاف مرضاتي وهَذا وهَذا كانا كامنين مستترين في أبي البشر وأبي الجِنّ فأنزلهم دارا أظهر فِيها ما كانَ الله سُبْحانَهُ مُنْفَردا بِعِلْمِهِ لا يُعلمهُ سواهُ وظَهَرت حكمته وتمّ أمره وبدا للْمَلائكَة من علمه ما لم يَكُونُوا يعلمُونَ. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لما كانَ يحب الصابرين ويُحب المُحْسِنِينَ ويُحب الَّذين يُقاتلُون في سَبيله صفا ويُحب التوابين ويُحب المتطهرين ويُحب الشّاكِرِينَ وكانَت محبته أعلى أنواع الكرامات اقْتَضَت حكمته أن أسكن آدم وبنيه دارا يأْتونَ فِيها بِهَذِهِ الصِّفات الَّتِي ينالون بها أعلى الكرامات من محبته فَكانَ إنزالهم إلى الأرض من أعظم النعم عَلَيْهِم ﴿والله يخْتَص برحمته من يَشاء والله ذُو الفضل العَظِيم﴾. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أرادَ أن يتَّخذ من آدم ذُرِّيَّة يواليهم ويودهم ويحبهم ويُحِبُّونَهُ فمحبتهم لَهُ هي غايَة كمالهم ونِهايَة شره وَلم يُمكن تَحْقِيق هَذِه المرتبَة السّنيَّة إلا بموافقة رِضاهُ وأتْباع أمره وترك إرادات النَّفس وشهواتها الَّتِي يكرهها محبوبهم فأنزلهم دارا أمرهم فِيها ونهاهم فَقامُوا بأمْره ونَهْيه فنالوا دَرَجَة محبتهم لَهُ فأنالهم دَرَجَة حبه إيّاهُم. وَهَذا من تَمام حكمته وكَمال رَحمته وهو البر الرَّحِيم. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لما خلق خلقه أطوارا وأصنافا وسبق في حكمه تفضيله آدم وبنيه على كثير من مخلوقاته جعل عبوديته أفضل درجاتهم أعني العُبُودِيَّة الاختيارية الَّتِي يأْتونَ بها طَوْعًا واختيارا لا كرها واضطرارا، وقد ثَبت أن الله سُبْحانَهُ أرسل جِبْرِيل إلى النَّبِي ﷺ يخيره بَين أن يكون ملكا نَبيا أوْ عبدا نَبيا فَنظر إلى جِبْرِيل كالمستشير لَهُ فأشار إليه أن تواضع، فَقالَ بل أن اكون عبدا نَبيا فَذكره سُبْحانَهُ باسم عبوديته في أشرف مقاماته في مقام الإسراء ومقام الدعْوَة ومقام التحدي فَقالَ في مقام الإسراء ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ ولم يقل بِرَسُولِهِ ولا نبيه إشارَة إلى أنه قامَ هَذا المقام الأعظم بِكَمال عبوديته لرَبه وقالَ في مقام الدعْوَة ﴿وَأنه لما قامَ عبد الله يَدعُوهُ كادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا﴾ وقالَ في مقام التحدي ﴿وَإن كُنْتُم في ريب مِمّا نزلنا على عَبدنا فَأتوا بِسُورَة من مثله﴾ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ في حَدِيث الشَّفاعَة وتراجع الأنبياء فِيها وقَول المَسِيح إذْهَبُوا إلى مُحَمَّد عبد غفر الله لَهُ ما تقدم من ذَنبه وما تَأخّر فَدلَّ ذَلِك على أنه نالَ ذَلِك المقام الأعظم بِكَمال عبوديته لله وكَمال مغْفرَة الله لَهُ وإذا كانَت العُبُودِيَّة عند الله بِهَذِهِ المنزلَة اقْتَضَت حكمته أن اسكن آدم وذريته دارا ينالون فِيها هَذِه الدرجَة بِكَمال طاعتهم لله وتقربهم إليه بمحابه وترك مألوفاتهم من أجله فَكانَ ذَلِك من تَمام نعْمَته عَلَيْهِم وإحسانه إليهم. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أرادَ أن يعرف عباده الَّذين أنْعم عَلَيْهِم تَمام نعْمَته عَلَيْهِم وقدرها ليكونوا أعظم محبَّة وأكْثر شكرا وأعظم التذاذا بِما أعطاهم من النَّعيم فَأراهُم سُبْحانَهُ فعله بأعدائه وما أعد لَهُم من العَذاب وأنواع الآلام وأشهدهم تخليصهم من ذَلِك وتخصيصهم بِأعْلى أنواع النَّعيم لِيَزْدادَ سرورهم وتكمل غبطتهم ويعظم فَرَحهمْ وتتم لذتهم وكانَ ذَلِك من إتْمام الأنعام عَلَيْهِم ومحبتهم ولم يكن بُد في ذَلِك من إنزالهم إلى الأرض وامتحانهم واختبارهم وتوفيق من شاءَ مِنهُم رَحْمَة مِنهُ وفضلا وخذلان من شاءَ مِنهُم حِكْمَة مِنهُ وعدلا وهو العَلِيم الحَكِيم ولا ريب أن المُؤمن إذا رأى عدوه ومحبوبه الَّذِي هو أحب الأشياء إليه في أنْواع العَذاب والآلام وهو يتقلب في أنواع النَّعيم واللذة ازْدادَ بذلك سُرُورًا وعظمت لذته وكملت نعْمَته. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما خلق الخلق لعبادته وهِي الغايَة مِنهُم قالَ تَعالى ﴿وَما خلقت الجِنّ والإنس إلا ليعبدون﴾ ومَعْلُوم أن كَمال العُبُودِيَّة المَطْلُوب من الخلق لا يحصل في دار النَّعيم والبقاء إنَّما يحصل في دار المحنة والابتلاء. وَأما دار البَقاء فدار لَذَّة ونعيم لا دار ابتلاء وامتحان وتكليف. وأيضا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ اقْتَضَت حكمته خلق آدم وذريته من تركيب مُسْتَلْزم لداعي الشَّهْوَة والفتنة وداعي العقل والعلم فَإنَّهُ سُبْحانَهُ خلق فِيهِ العقل والشهوة ونصبهما داعيين بمقتضياتهما ليتم مُراده ويظْهر لِعِبادِهِ عزته في حكمته وجبروته ورَحمته وبره ولطفه في سُلْطانه وملكه فاقتضت حكمته ورَحمته أن أذاق أباهم وبيل مُخالفَته وعرفه ما يجنى عواقب إجابَة الشَّهْوَة والهوى ليَكُون أعظم حذرا فِيها وأشد هروبا وهَذا كَحال رجل سائِر على طَرِيق قد كمنت الأعداء في جنباته وخَلفه وأمامه وهو لا يشْعر فَإذا أصيب مِنها مرّة بمصيبة استعد في سيره وأخذ اهبة عدوه وأعد لَهُ ما يَدْفَعهُ ولَوْلا أنه ذاق ألم إغارة عدوه عَلَيْهِ وتبييته لَهُ لما سمحت نَفسه بالاستعداد والحذر وأخذ العدة فَمن تَمام نعْمَة الله على آدم وذريته أن أراهم ما فعل العَدو بهم فاسْتَعدوا لَهُ وأخذوا أهبته. فَإن قيل كانَ من المُمكن أن لا يُسَلط عَلَيْهِم العَدو؟ قيل: قد تقدم أنه سُبْحانَهُ خلق آدم وذريته على بنية وتركيب مُسْتَلْزم لمخالطتهم لعدوهم وابتلائهم بِهِ ولَو شاءَ لخلقهم كالملائكة الَّذين هم عقول بِلا شهوات فَلم يكن لعدوهم طَرِيق إليهم ولَكِن لَو خلقُوا هَكَذا لكانوا خلقا آخر غير بني آدم فَإن بنى آدم قد ركبُوا على العقل والشهوة. وَأيْضًا فَإنَّهُ لما كانَت محبَّة الله وحده هي غايَة كَمال العَبْد وسعادته الَّتِي لا كَمال لَهُ ولا سَعادَة بِدُونِها أصلا وكانَت المحبَّة الصادقة إنَّما تتَحَقَّق بغيثار المحبوب على غَيره من محبوبات النُّفُوس واحْتِمال أعظم المشاق في طاعَته ومرضاته فَبِهَذا تتَحَقَّق المحبَّة ويعلم ثُبُوتها في القلب اقْتَضَت حكمته سُبْحانَهُ إخراجهم إلى هَذِه الدّار المحفوفة بالشهوات ومحاب النُّفُوس الَّتِي بإيثار الحق عَلَيْها والإعراض عَنْها يتَحَقَّق حبهم لَهُ وإيثارهم إيّاه على غَيره، ولذَلِك يتَحَمَّل المشاق الشَّدِيدَة وركوب الأخطار واحْتِمال المَلامَة والصَّبْر على دواعي الغي والضلال ومجاهدتها يقوى سُلْطان المحبَّة وتثبت شجرتها في القلب وتطعم ثَمَرَتها على الجَوارِح فَإن المحبَّة الثّابِتَة اللّازِمَة على كَثْرَة المَوانِع والعوارض والصوارف هي المحبَّة الحَقِيقِيَّة النافعة. وأما المحبَّة المَشْرُوطَة بالعافية والنَّعِيم واللذة وحُصُول مُراد المُحب من محبوبه فَلَيْسَتْ محبَّة صادِقَة ولا ثبات لَها عند المعارضات والموانع فَإن المُعَلق على الشَّرْط عدم عند عَدمه ومن ودك لأمر ولي عند انقضائه وفرق بَين من يعبد الله على السَّرّاء والرخاء والعافية فَقَط وبَين من يعبده على السَّرّاء والضَّرّاء والشدة والرخاء والعافية والبَلاء. وَأيْضًا فَإن الله سُبْحانَهُ لَهُ الحَمد المُطلق الكامِل الَّذِي لا نِهايَة بعده وكانَ ظُهُور الأسباب الَّتِي يحمد عَلَيْها من مُقْتَضى كَونه مَحْمُودًا وهِي من لَوازِم حَمده تَعالى وهِي نَوْعانِ فضل وعدل إذْ هو سُبْحانَهُ المَحْمُود على هَذا وعَلى هَذا فَلا بُد من ظُهُور أسباب العدْل واقتضائها لمسمياتها ليترتب عَلَيْها كَمال الحَمد الَّذِي هو أهله فَكَما أنه سُبْحانَهُ مَحْمُود على إحسانه وبره وفضله وثوابه فَهو مَحْمُود على عدله وانتقامه وعقابه إذْ يصدر ذَلِك كُله عَن عزته وحكمته ولِهَذا نبه سُبْحانَهُ على هَذا كثيرا كَما في سُورَة الشُّعَراء حَيْثُ يذكر في آخر كل قصَّة من قصَص الرُّسُل وأممهم ﴿إن في ذَلِك لآية وما كانَ أكثرهم مُؤمنين وإن رَبك لَهو العَزِيز الرَّحِيم﴾ فَأخْبر سُبْحانَهُ أن ذَلِك صادر عَن عزته المتضمنة كَمال قدرته وحكمته المتضمنة كَمال علمه ووَضعه الأشياء مواضعها اللائقة بها ما وضع نعْمَته ونجاته لرسله ولاتباعهم ونقمته وإهلاكه لأعدائهم إلا في محلها اللّائِق بها لكَمال عزته وحكمته ولِهَذا قالَ سُبْحانَهُ عقيب إخْباره عَن قَضائِهِ بَين أهل السَّعادَة والشقاوة ومصير كل مِنهُم إلى دِيارهمْ الَّتِي لا يَلِيق بهم غَيرها ولا تقتضى حكمته سواها وقضى بَينهم بِالحَقِّ وقيل الحَمد لله رب العالمين. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ اقْتَضَت حكمته وحمده أن فاوت بَين عباده أعظم تفاوت وابينه ليشكره مِنهُم من ظَهرت عَلَيْهِ نعْمَته وفضله ويعرف أنه قد حبى بالأنعام وخص دون غَيره بالإكرام ولَو تساووا جَمِيعهم في النِّعْمَة والعافية لم يعرف صاحب النِّعْمَة قدرها ولم يبْذل شكرها إذْ لا يرى أحدا إلّا في مثل حاله ومن أقوى أسباب الشُّكْر وأعْظَمها استخرجا لَهُ من العَبْد أن يرى غَيره في ضد حاله الَّذِي هو عَلَيْها من لاكمال والفلاح وفي الاثر المَشْهُور أن الله سُبْحانَهُ لما أرى آدم ذُريَّته وتفاوت مَراتِبهمْ قالَ يا رب هلا سويت بَين عِبادك قالَ إنِّي أحب أن اشكر فاقتضت محبته سُبْحانَهُ لأن يشْكر خلق الأسباب الَّتِي يكن شكر الشّاكِرِينَ عِنْدها أعظم وأكمل وهَذا هو عين الحِكْمَة الصادرة عَن صفة الحَمد. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لا شَيْء أحب إليه من العَبْد من تذلله بَين يَدَيْهِ وخضوعه وافتقاره وإنكساره وتضرعه إليه ومَعْلُوم أن هَذا المَطْلُوب من العَبْد إنَّما يتم بأسبابه الَّتِي تتَوَقَّف عَلَيْها وحُصُول هَذِه الأسباب في دار النَّعيم المُطلق والعافية الكامِلَة يمْتَنع إذْ هو مُسْتَلْزم للْجمع بَين الضدين. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لَهُ الخلق والأمر والأمر هو شَرعه وأمره ودينه الَّذِي بعث بِهِ رسله وأنْزلْ بِهِ كتبه ولَيْسَت الجنَّة دار تَكْلِيف تجرى عَلَيْهِم فِيها أحْكام التَّكْلِيف ولوازمها وإنَّما هي دار نعيم ولَذَّة واقتضت حكمته سُبْحانَهُ اسْتِخْراج آدم وذريته إلى دار تجرى عَلَيْهِم فِيها أحكام دينه وأمره ليظْهر فيهم مُقْتَضى الأمر ولوازمه فَإن الله سُبْحانَهُ كَما أن أفعاله وخلقه من لَوازِم كَمال أسمائه الحسنى وصِفاته العلى فَكَذَلِك أمره وشرعه وما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الثَّواب والعِقاب وقد ارشد سُبْحانَهُ إلى هَذا المَعْنى في غير مَوضِع من كِتابه فَقالَ تَعالى ﴿أيحسب الإنسان أن يتْرك سدى﴾ أي مهملا معطلا لا يُؤمر ولا ينْهى ولا يُثاب ولا يُعاقب وهَذا يدل على أن هَذا مناف لكَمال حكمته وأن ربوبيته وعزته وحكمته تأبى ذَلِك ولِهَذا أخرج الكَلام مخرج الإنكار على من زعم ذَلِك وهو يدل على أن حسنه مُسْتَقر في الفطر والعقول وقبح تَركه سدا معطلا أيضا مُسْتَقر في الفطر فَكيف ينْسب إلى الرب ما قبحه مُسْتَقر في فطركم وعقولكم وقالَ تَعالى ﴿أفحسبتم أنما خَلَقْناكم عَبَثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إلَه إلا هو رب العَرْش الكَرِيم﴾ نزه نَفسه سُبْحانَهُ عَن هَذا الحسبان الباطِل المضاد لموجب أسمائه وصِفاته وأنه لا يَلِيق بجلاله نسبته إليه ونظائر هَذا في القُرْآن كَثِيرَة. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ يحب من عباده أمورا يتَوَقَّف حُصُولها مِنهُم على حُصُول الأسباب المُقْتَضِيَة لَها ولا تحصل إلا في دار الِابْتِلاء والامتحان فَإنَّهُ سُبْحانَهُ يحب الصابرين ويُحب الشّاكِرِينَ ويُحب الَّذين يُقاتلُون في سَبيله صفا ويُحب التوابين ويُحب المتطهرين ولا ريب أن حُصُول هَذِه المحبوبات بِدُونِ أسبابها مُمْتَنع كامتناع حُصُول المَلْزُوم بِدُونِ لازمه والله سُبْحانَهُ أفرح بتوبة عَبده حِين يَتُوب إليه من الفاقد لراحلته الَّتِي عَلَيْها طَعامه وشَرابه في أرْض دوية مهلكة إذا وجدها كَما ثَبت في الصَّحِيح عَن النَّبِي أنه قالَ لله أشد فَرحا بتوبة عَبده المُؤمن من رجل من فيارض دوية مهلكة مَعَه راحِلَته عَلَيْها طَعامه وشَرابه فَنامَ فاسْتَيْقَظَ وقد ذهبت فطلبها حَتّى أدْركهُ العَطش ثمَّ قالَ ارْجع إلى المَكان الَّذِي كنت فِيهِ فأنام حَتّى أمُوت فَوضع رَأسه على ساعده ليَمُوت فاسْتَيْقَظَ وعِنْده راحِلَته عَلَيْها زاده وطَعامه وشَرابه فالله أشد فَرحا بتوبة العَبْد المُؤمن من هَذا براحلته وسَيَأْتِي إن شاءَ الله الكَلام على هَذا الحَدِيث وذكر سر هَذا الفَرح بتوبة العَبْد. والمَقْصُود أن هَذا الفَرح المَذْكُور إنَّما يكون بعد التَّوْبَة من الذَّنب فالتوبة والذنب لا زمان لهَذا الفَرح ولا يُوجد المَلْزُوم بِدُونِ لازمه وإذا كانَ هَذا الفَرح المَذْكُور إنَّما يحصل بِالتَّوْبَةِ المستلزمة للذنب فحصوله في دار النَّعيم الَّتِي لا ذَنْب فِيها ولا مُخالفَة مُمْتَنع ولما كانَ هَذا الفَرح أحب إلى الرب سُبْحانَهُ من عَدمه اقْتَضَت محبته لَهُ خلق الأسباب المفضية إليه ليترتب عَلَيْها المُسَبّب الَّذِي هو مَحْبُوب لَهُ. وَأيْضًا فَإن الله سُبْحانَهُ جعل الجنَّة دار جَزاء وثواب وقسم منازلها بَين أهلها على قدر أعمالهم وعَلى هَذا خلقها سُبْحانَهُ لما لَهُ في ذَلِك من الحِكْمَة الَّتِي اقتضتها اسماؤه وصِفاته فإن الجنَّة دَرَجات بَعْضها فَوق بعض وبَين الدرجتين كَما بَين السَّماء والأرض كَما في الصَّحِيح عَن النَّبِي أنه قالَ أن الجنَّة مائَة دَرَجَة بَين كل دَرَجَتَيْنِ كَما بَين السَّماء والأرض وحِكْمَة الرب سُبْحانَهُ مقتضية لعمارة هَذِه الدَّرَجات كلها وإنَّما تعمر ويَقَع التَّفاوُت فِيها بِحَسب الأعمال كَما قالَ غير واحِد من السّلف ينجون من النّار بِعَفْو الله ومغفرته ويدخلون الجنَّة بفضله ونعمته ومغفرته ويتقاسمون المنازل بأعمالهم وعَلى هَذا حمل غير واحِد ما جاءَ من إثْبات دُخُول الجنَّة بالأعمال كَقوله تَعالى: ﴿وَتلك الجنَّة الَّتِي أورثتموها بِما كُنْتُم تَعْمَلُونَ وقوله تَعالى: {ادخُلُوا الجنَّة بِما كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ قالُوا. وَأما نفي دخولها بالأعمال كَما في قَوْله "لن يدْخل الجنَّة أحد بِعَمَلِهِ قالُوا ولا أنت يا رَسُول الله قالَ ولا أنا" فالمُراد بِهِ نفي أصل الدُّخُول وأحسن من هَذا أن يُقال الباء المُقْتَضِيَة للدخول غير الباء الَّتِي نفى مَعها الدُّخُول فالمقتضية هي باء السَّبَبِيَّة الدّالَّة على أن الأعمال سَبَب للدخول مقتضية لَهُ كاقتضاء سائِر الأسباب لمسبباتها والباء الَّتِي نفى بها الدُّخُول هي باء المُعاوضَة والمقابلة الَّتِي في نَحْو قَوْلهم اشْتريت هَذا بِهَذا فَأخْبر النَّبِي أن دُخُول الجنَّة لَيْسَ في مُقابلَة عمل أحد وأنه لَوْلا تغمد الله سُبْحانَهُ لعَبْدِهِ برحمته لما أدخلهُ الجنَّة فَلَيْسَ عمل العَبْد وإن تناهى مُوجبا بِمُجَرَّدِهِ لدُخُول الجنَّة ولا عوضا لَها، فَإن أعماله وإن وقعت مِنهُ على الوَجْه الَّذِي يُحِبهُ الله ويرضاه فَهي لا تقاوم نعْمَة الله الَّتِي أنْعم بها عَلَيْهِ في دار الدُّنْيا ولا تعادلها، بل لَو حاسبه لوقعت أعماله كلها في مُقابلَة اليَسِير من نعمه، وتبقى بَقِيَّة النعم مقتضية لشكرها، فَلَو عذبه في هَذِه الحالة لعذبه وهو غير ظالِم لَهُ، ولَو رَحمَه لكانَتْ رَحمته خيرا لَهُ من عمله، كَما في السّنَن من حَدِيث زيد بن ثابت وحُذَيْفَة وغَيرهما مَرْفُوعا إلى النَّبِي أنه قالَ: "إن الله لَو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالِم لَهُم، ولَو رَحِمهم لكانَتْ رَحمته خيرا لَهُم من أعمالهم" والمَقْصُود أن حكمته سُبْحانَهُ اقْتَضَت خلق الجنَّة دَرَجات بَعْضها فَوق بعض، وعمارتها بِآدَم وذريته وإنْزالهمْ فِيها بِحَسب أعمالهم، ولازم هَذا إنزالهم إلى دار العَمَل والمجاهدة. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ خلق آدم وذريته ليستخلفهم في الأرض كَما أخبر سُبْحانَهُ في كِتابه بقوله ﴿إنِّي جاعل في الأرْض خَليفَة﴾ وقَوله ﴿وَهُوَ الَّذِي جعلكم خلائف الأرْض﴾ وقالَ ﴿ويستخلفكم في الأرْض﴾ فَأرادَ سُبْحانَهُ أن يَنْقُلهُ وذريته من هَذا الِاسْتِخْلاف إلى توريثه جنَّة الخلد وعلم سُبْحانَهُ بسابق علمه أنه لضَعْفه وقصور نظره قد يخْتار العاجل الخسيس على الأجل النفيس فَإن النَّفس مولعة بحب العاجلة وإيثارها على الآخرة وهَذا من لَوازِم كَونه خلق من عجل وكَونه خلق عجولا فَعلم سُبْحانَهُ ما في طَبِيعَته من الضعْف والخور فاقتضت حكمته أن ادخله الجنَّة ليعرف النَّعيم الَّذِي اعد لَهُ عيانًا فَيكون إليه اشوق وعَلِيهِ احرص وله أشد طلبا فَإن محبَّة الشَّيْء وطَلَبه والشوق إليه من لَوازِم تصَوره فَمن باشر طيب شَيْء ولذته وتذوق بِهِ لم يكد يصبر عَنهُ وهَذا لأن النَّفس ذواقة تواقة فَإذا ذاقت تاقت ولِهَذا إذا ذاق العَبْد طعم حلاوة الإيمان وخالطت بشاشته قلبه رسخ فِيهِ حبه ولم يُؤثر عَلَيْهِ شَيْئا أبدا وفي الصَّحِيح من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ المَرْفُوع أن الله عز وجل يسْأل المَلائِكَة فَيَقُول ما يسألني عبادي فَيَقُولُونَ يَسْألُونَك الجنَّة فَيَقُول وهل رأوها فَيَقُولُونَ لا يا رب فَيَقُول كَيفَ لَو رأوها فَيَقُولُونَ لَو رأوها لكانوا أشد لَها طلبا فاقتضت حكمته أن أراها أباهم وأسْكَنَهُ إيّاها ثمَّ قصّ على بنيه قصَّته فصاروا كَأنَّهم مشاهدون لَها حاضرون مَعَ أبيهم فاسْتَجاب من خلق لَها وخلقت لَهُ وسارع إليها فَلم يثنه عَنْها العاجلة بل يعد نَفسه كانه فِيها ثمَّ سباه العَدو فيراها وطنه الأول فَهو دائِم الحنين إلى وطنه ولا يقر لَهُ قَرار حَتّى يرى نَفسه فِيهِ كَما قيل: ؎نقل فُؤادك حَيْثُ شِئْت من الهوى ∗∗∗ ما الحبّ إلّا للحبيب الأول ؎كم منزل في الأرض يألفه الفَتى ∗∗∗ وحنينه أبدا لأول منزل ولي من أبيات تلم بِهَذا المَعْنى: ؎وحيَّ على جنّات عدن فَإنَّها ∗∗∗ منازلك الأولى وفيها المخيم ؎ولكننا سبي العَدو فَهَل ترى ∗∗∗ نعود إلى اوطاننا ونسلم فَسِرُّ هَذِه الوُجُوه أنه سُبْحانَهُ وتَعالى سبق في حكمه وحكمته أن الغايات المَطْلُوبَة لا تنال إلا بأسبابها الَّتِي جعلها الله أسبابا مفضية إليها ومن تِلْكَ الغايات أعلى أنواع النَّعيم وأفضلها وأجلها فَلا تنال إلا بأسباب نصبها مفضية إليها وإذا كانَت الغايات الَّتِي هي دون ذَلِك لا تنال لا بأسبابها مَعَ ضعفها وإنقطاعها كتحصيل المَأْكُول والمشروب والملبوس والولد والمال والجاه في الدُّنْيا فَكيف يتَوَهَّم حُصُول أعلى الغايات وأشرف المقامات بِلا سَبَب يفضى إليه ولم يكن تَحْصِيل تِلْكَ الأسباب إلا في دار المجاهدة والحرث فَكانَ إسكان آدم وذريته هَذِه الدّار الَّتِي ينالون فِيها الأسباب الموصلة إلى أعلى المقامات من إتْمام أنعامه عَلَيْهِم وسرها أيضا أنه سُبْحانَهُ جعل الرسالَة والنبوة والخلة والتكليم والولايَة والعبودية من أشرف مقامات خلقه ونهايات كمالهم فأنزلهم دارا اخرج مِنهُم الأنبياء وبعث فِيها الرُّسُل واتخذ مِنهُم من اتخذ خَلِيلًا وكلم مُوسى تكليما واتخذ مِنهُم أولياء وشهداء وعبيدا وخاصة يُحِبهم ويُحِبُّونَهُ وكانَ إنزالهم إلى الأرض من تَمام الأنعام والإحسان. وَأيْضًا أنه أظهر لخلقه من آثار أسمائه وجريان أحكامها عَلَيْهِم ما اقتضته حكمته ورَحمته وعلمه وسرها أيضا أنه تعرف إلى خلقه بأفعاله وأسمائه وصِفاته وما أحدثه في أوليائه وأعدائه من كرامته وأنعامه على الأولياء واهانته واشقائه للأعداء ومن إجابته دعواتهم وقضائه حوائجهم وتفريج كرباتهم وكشف بلائهم وتصريفهم تَحت أقداره كَيفَ يَشاء وتقليبهم في أنْواع الخَيْر والشَّر فَكانَ في ذَلِك أعظم دَلِيل لَهُم على أنه رَبهم ومليكهم وأنه الله الَّذِي لا إلَه إلا هو وأنه العَلِيم الحَكِيم السَّمِيع البَصِير وأنه الإله الحق وكل ما سواهُ باطِل فتظاهرت أدلة ربوبيته وتوحيده في الأرض وتنوعت وقامَت من كل جانب فَعرفهُ الموفقون من عباده وأقروا بتوحيده إيمانًا وإذعانا وجحده المخذولون على خليقته وأشركوا بِهِ ظلما وكفرانا، فَهَلَك من هلك عَن بَيِّنَة وحيي من حى بَيِّنَة والله سميع عليم. وَمن تَأمل آياته المشهودة والمسموعة في الأرض ورَأى آثارها علم تَمام حكمته في إسكان آدم وذريته في هَذِه الدّار إلى أجل مَعْلُوم فالله سُبْحانَهُ إنَّما خلق الجنَّة لآدَم وذريته وجعل المَلائِكَة فِيها خدما لَهُم ولَكِن اقْتَضَت حكمته أن خلق لَهُم دارا يتزودون مِنها إلى الدّار الَّتِي خلقت لَهُم وأنَّهم لا ينالونها إلا بالزاد كَما قالَ تَعالى في هَذِه الدّار ﴿وَتحمل أثقالكم إلى بلد لم تَكُونُوا بالغيه إلّا بشق الأنْفس إن ربكُم لرؤوف رَحِيم﴾ فَهَذا شَأْن الِانْتِقال في الدُّنْيا من بلد إلى بلد فَكيف الِانْتِقال من الدُّنْيا إلى دار القَرار وقالَ تَعالى ﴿وتزودوا فَإن خير الزّاد التَّقْوى﴾ فَباعَ المغبونون مَنازِلهمْ مِنها بأبخس الحَظ وأنقص الثّمن وباعَ الموفقون نُفُوسهم وأموالهم من الله وجعلوها ثمنا للجنة فربحت تِجارَتهمْ ونالوا الفَوْز العَظِيم قالَ الله تَعالى ﴿إن الله اشْترى من المُؤمنِينَ أنفسهم وأمْوالهمْ بِأن لَهُم الجنَّة﴾ فَهو سُبْحانَهُ ما أخرج آدم مِنها إلا وهو يُرِيد أن يُعِيدهُ إليها أكمل إعادة كَما قيل على لِسان القدر يا آدم لا تجزع من قولي لَك اخرج مِنها فلك خلقتها فَإنِّي أنا الغَنِيّ عَنْها وعَن كل شَيْء وأنا الجواد الكَرِيم وأنا لا أتمتع فِيها فَإنِّي أطعم ولا أطعم وأنا الغَنِيّ الحميد ولَكِن أنْزلْ إلى دار البذر فَإذا بذرت فاسْتَوى الزَّرْع على سوقه وصارَ حصيدا فَحِينَئِذٍ فتعال فاستوفه أحوج ما أنت إليه الحبَّة بِعشر أمثالها إلى سَبْعمِائة ضعف إلى أضعاف كَثِيرَة فَإنِّي أعْلَم بمصلحتك مِنك وأنا العلي الحَكِيم فَإن قيل ما ذكرتموه من هَذِه الوُجُوه وأمثالها إنَّما يتم إذا قيل إن الجنَّة الَّتِي أسكنها آدم وأهبط مِنها جنَّة الخلد الَّتِي أعدت لِلْمُتقين والمُؤمنِينَ يَوْم القِيامَة وحِينَئِذٍ يظْهر سر إهباطه وإخراجه مِنها ولَكِن قد قالَت طائِفَة مِنهُم أبو مُسلم ومُنْذِر بن سعيد البلوطي وغَيرهما أنها إنما كانَت جنَّة في الأرض في مَوضِع عال مِنها لا أنها جنَّة المأوى الَّتِي أعدها الله لِعِبادِهِ المُؤمنِينَ يَوْم القِيامَة وذكر مُنْذر بن سعيد هَذا القَوْل في تَفْسِيره عَن جماعَة فَقالَ. وَأما قَوْله لآدم اسكن أنت وزوجك الجنَّة فَقالَت طائِفَة أسكن الله تَعالى آدم جنَّة الخلد الَّتِي يدخلها المُؤْمِنُونَ يَوْم القِيامَة. وَقالَ آخَرُونَ هي جنَّة غَيرها جعلها الله لَهُ وأسكنه إياها لَيست جنَّة الخلد قالَ وهَذا قَول تكْثر الدَّلائِل الشاهدة لَهُ والموجبة لِلْقَوْلِ بِهِ لأن الجنَّة الَّتِي تدخل بعد القِيامَة هي من حيّز الآخرة وفي اليَوْم الآخر تدخل ولم يَأْتِ بعد وقد وصفها الله تَعالى لنا في كِتابه بصفاتها ومحال أن يصف الله شَيْئا بِصفة ثمَّ يكون ذَلِك الشَّيْء بِغَيْر تِلْكَ الصّفة الَّتِي الَّتِي وصفها بِهِ والقَوْل بِهَذا دافع لما أخبر الله بِهِ قالُوا وجدنا الله تبارك وتَعالى وصف الجنَّة الَّتِي أعدت لِلْمُتقين بعد قيام القِيامَة بدار المقامة ولم يقم آدم فِيها ووصفها بِأنَّها جنَّة الخلد ولم يخلد آدم فِيها ووصفها بِأنَّها دار جَزاء ولم يقل أنها دار ابتلاء وقد ابتلى آدم فِيها بالمعصية والفتنة ووصفها بِأنَّها لَيْسَ فِيها حزن وأن الداخلين إليها يَقُولُونَ الحَمد لله الَّذِي أذهب عَنّا الحزن وقد حزن فِيها آدم ووجدناه سَمّاها دار السَّلام ولم يسلم فِيها آدم من الآفات الَّتِي تكون في الدُّنْيا وسماها دار القَرار ولم يسْتَقرّ فِيها آدم وقالَ فِيمَن يدخلها وما هم مِنها بمخرجين وقد أخرج مِنها آدم بمعصيته وقالَ لايمسهم فِيها نصب وقد ند آدم فِيها هارِبا فارًّا عند اصابته المعْصِيَة وطفق يخصف ورق الجنَّة على نَفسه وهَذا النصب بِعَيْنِه الَّذِي نَفاهُ الله عَنْها وأخْبر أنه لا يسمع فِيها لَغْو ولا تأثيم وقد اثم فِيها آدم واسمع فِيها ما هو أكبر من اللَّغْو وهو أنه أمر فِيها بِمَعْصِيَة ربه وأخْبر أنه لا يسمع فِيها لَغْو ولا كذب وقد اسْمَعْهُ فِيها إبليس الكَذِب وغره وقاسمه عَلَيْهِ أيضا بعد أن أسْمَعْهُ إياه وقد شرب آدم من شرابها الَّذِي سَمّاهُ في كِتابه شرابًا طهُورا أي مطهرا من جَمِيع الآفات المذمومة وآدَم لم يطهر من تِلْكَ الآفات وسماها الله تَعالى ﴿مقْعد صدق﴾ وقد كذب إبليس فِيها آدم ومقعد الصدْق لا كذب فِيهِ وعليون لم يكن فِيهِ اسْتِحالَة قطّ ولا تَبْدِيل ولا يكون بإجماع المُصَلِّين والجنَّة في أعلى عليين والله تَعالى إنما قالَ ﴿إني جاعل في الأرض خَليفَة﴾ ولم يقل إني جاعله في جنَّة المأوى فَقالَت المَلائِكَة ﴿أتجعل فِيها من يفْسد فِيها ويسفك الدِّماء﴾ والمَلائِكَة أتَّقى لله من أن تَقول ما لا تعلم وهم القائِلُونَ ﴿لا علم لنا إلا ما علمتنا﴾ وفي هَذا دلالَة على أن الله قد كانَ اعلمهم أن بني آدم سيفسدون في الأرض وإلا فَكيف كانُوا يَقُولُونَ ما لا يعلمُونَ والله تَعالى يَقُول وقَوله الحق لا يسبقونه بالقَوْل وهم بأمْره يعلمُونَ والملائكة لا تَقول ولا تعْمل إلا بِما تُؤمر بِهِ لا غير قالَ الله تَعالى ﴿ويفعلون ما يؤمرون﴾ والله تَعالى أخبرنا أن إبليس قالَ لآدم ﴿هَل أدلك على شَجَرَة الخلد وملك لا يبْلى﴾ فَإن كانَ قد أسكن الله جنَّة الخلد والملك الَّذِي لا يبْلى فَكيف لم يرد عَلَيْهِ نصيحته ويكذبه في قَول فَيَقُول وكَيف تدلني على شَيْء أنا فِيهِ قد اعطيته واخترته بل كَيفَ لم يحث التُّراب في وجهه ويسبه لأن إبليس لَئِن كانَ يكون بِهَذا الكَلام مغويا لَهُ إنما كانَ يكون زاريا عَلَيْهِ لأنه إنَّما وعده على مَعْصِيّة ربه بِما كانَ فِيهِ لا زائِدا عَلَيْهِ ومثل هَذا لا يُخاطب بِهِ إلا المجانين الَّذين لا يعْقلُونَ لأن العِوَض الَّذِي وعده بِهِ بِمَعْصِيَة ربه قد كانَ أحرزه وهو الخلد والملك الَّذِي لا يبْلى ولم يخبر الله آدم إذْ اسكنه الجنَّة أنه فِيها من الخالدين، ولَو كانَ فِيها من الخالدين لما ركن إلى قَول إبليس ولا قبل نصيحته ولكنه لما كانَ في غير دار خُلُود غره بِما اطمعه فِيهِ من الخلد فَقبل مِنهُ ولَو أخبر الله آدم أنه في دار الخلد ثمَّ شكّ في خبر ربه لسماه كافِرًا ولما سَمّاهُ عاصِيا لأن من شكّ في خبر الله فَهو كافِر ومن فعل غير ما أمره الله بِهِ وهو مُعْتَقد للتصديق بِخَبَر ربه فَهو عاص وإنَّما سمى الله آدم عاصِيا ولم يسمه كافِرًا قالُوا فَإن كانَ آدم اسكن جنَّة الخلد وهِي دار القُدس الَّتِي لا يدخلها إلا طاهِر مقدس فَكيف توصل إليها إبْلِيس الرجس النَّجس الملعون المذموم المدحور حَتّى فتن فِيها آدم وإبليس فاسق قد فسق عَن أمر ربه ولَيْسَت جنَّة الخلد دار الفاسِقين ولا يدخلها فاسق ألْبَتَّةَ إنَّما هي دار المُتَّقِينَ وإبليس غير تَقِيّ فَبعد أن قيل لَهُ ﴿اهبط مِنها فَما يكون لَك أن تتكبر فِيها﴾ انْفَسَحَ لَهُ أن يرقى إلى جنَّة المأوى فَوق السَّماء السّابِعَة بعد السخط والإبعاد لَهُ بالعتو والاستكبار هَذا مضاد لقوله تَعالى: ﴿اهبط مِنها فَما يكون لَك أن تتكبر فِيها﴾ فَإن كانَت مخاطبته آدم بِما خاطبه بِهِ وقاسمه عَلَيْهِ لَيْسَ تكبرا فَلَيْسَ تعقل العَرَب الَّتِي أنْزلْ القُرْآن بلسانها ما التكبر، ولَعَلَّ من ضعفت رويته وقصر بَحثه أن يَقُول إن إبليس لم يصل إليها ولَكِن وسوسته وصلت فَهَذا قَول يشبه قائِله ويشاكل معتقده، وقَول الله تَعالى حكم بَيْننا وبَينه وقوله تَعالى: ﴿وقاسمهما﴾ يرد ما قالَ لأن المُقاسَمَة لَيست وسْوَسَة ولكنها مُخاطبَة ومشافهة ولا تكون إلا من اثْنَيْنِ شاهِدين غير غائبين ولا أحدهما ومِمّا يدل على أن وسوسته كانَت مُخاطبَة قَول الله تَعالى ﴿فوسوس إليه الشَّيْطان قالَ يا آدم هَل أدلك على شَجَرَة الخلد وملك لا يبْلى﴾ فَأخْبر أنه قالَ لَهُ ودلّ ذَلِك على أنه إنما وسوس إليه مُخاطبَة لا أنه اوقع ذَلِك في نَفسه بِلا مقأولة فَمن ادّعى على الظّاهِر تاويلا ولم يقم عَلَيْهِ دَلِيلا لم يجب قبُول قَوْله وعَلى أن الوسوسة قد تكون كلاما مسموعا أوْ صَوتا قالَ رُؤْيَة وسوس يَدْعُو مخلصا رب الفلق ... وَقالَ الأعشى: ؎تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ∗∗∗ كَما اسْتَعانَ برِيح كشرق زجل قالُوا وفي قَول إبليس لَهما ﴿ما نهاكما رَبكُما عَن هَذِه الشَّجَرَة﴾ دَلِيل على مشاهدته لَهما وللشجرة ولما كانَ آدم خارِجا من الجنَّة وغير ساكن فِيها قالَ الله ﴿ألَمْ أنْهَكُما عَنْ تِلْكُما الشَّجَرَةِ﴾ ولم يقل عَن هَذِه الشَّجَرَة كَما قالَ لَهُ إبليس لأن آدم لم يكن حِينَئِذٍ في الجنَّة ولا مشاهدا للشجرة مَعَ قَوْله عز وجل ﴿إليه يصعد الكَلم الطّيب والعَمَل الصّالح يرفعهُ﴾ فقد أخبر سُبْحانَهُ خَبرا محكما غير مشتبه أنه لا يصعد إليه إلا كلم طيب وعمل صالح. وَهَذا مِمّا قدمنا ذكره أنه لا يلج المُقَدّس المطهر إلا مقدس مطهر طيب، ومعاذ الله أن تكون وسْوَسَة إبليس مُقَدَّسَة أوْ طاهِرَة أوْ خيرا بل هي شَرّ كلها، وظلمة وخبث ورجس تَعالى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا. وكما أن أعمال الكافرين لا تلج القُدس الطّاهِر ولا تصل إليه لأنها خبيثة غير طيبَة كَذَلِك لا تصل ولم تصل وسْوَسَة إبليس ولا ولجت القُدس قالَ تَعالى ﴿كلا إن كتاب الفجار لفي سِجِّين﴾ وقد روي عَن النَّبِي أن آدم نام في جنته وجنة الخلد لا نوم فِيها بإجماع من المُسلمين لأن النّوم وفاة وقد نطق بِهِ القُرْآن والوفاة تقلب حال ودار السَّلام مسلمة من تقلب الأحوال والنائم ميت أوْ كالميت قالُوا وقد روى عَنهُ أنه قالَ لام حارِثَة لما قالَت لَهُ يا رَسُول الله أن حارِثَة قتل مَعَك فَإن كانَ صار إلى الجنَّة صبرت واحتسبت وإن كانَ صار إلى ما سوى ذَلِك رَأيْت ما أفْعَل فَقالَ لَها رَسُول الله أوْ جنَّة واحِدَة هي إنما هي جنان كَثِيرَة فأخبر أن لله جنّات كَثِيرَة فَلَعَلَّ آدم أسكنه الله جنَّة من جنانه لَيست هي جنَّة الخلد. قالُوا وقد جاءَ في بعض الأخبار أن جنَّة آدم كانَت بِأرْض الهِنْد. قالُوا وهَذا وأن كانَ لا يُصَحِّحهُ رُواة الإخبار ونقلة الآثار فالَّذِي تقبله الألباب ويشْهد لَهُ ظاهر الكتاب أن جنَّة آدم لَيست جنَّة الخلد ولا دار البَقاء وكَيف يجوز أن يكون الله أسكن آدم جنَّة الخلد ليَكُون فِيها من الخالدين وهو قائِل للْمَلائكَة ﴿إني جاعل في الأرض خَليفَة﴾ وكَيف أخبر المَلائِكَة أنه يُرِيد أن يَجْعَل في الأرض خَليفَة ثمَّ يسكنهُ دار الخلود ودار الخلود لا يدخلها إلا من يخلد فِيها كَما سميت بدار الخلود فقد سَمّاها الله بالأسماء الَّتِي تقدم ذكرنا لَها تَسْمِيَة مُطلقَة لا خُصُوص فِيها، فَإذا قيل للجنة دار الخلد لم يجزان ينقص مُسَمّى هَذا الِاسْم بِحال فَهَذا بعض ما احْتج بِهِ القائِلُونَ بِهَذا المَذْهَب. وعَلى هَذا فإسكان آدم وذريته في هَذِه الجنَّة لا يُنافِي كَونهم في دار الِابْتِلاء والامتحان وحِينَئِذٍ كانَت تِلْكَ الوُجُوه والفوائد الَّتِي ذكرتموها مُمكنَة الحُصُول في الجنَّة. فالجَواب أن يُقال هَذا فِيهِ قَولانِ للنّاس ونحن نذْكر القَوْلَيْنِ واحتجاج الفَرِيقَيْنِ ونبين ثُبُوت الوُجُوه الَّتِي ذَكرناها وأمثالها على كلا القَوْلَيْنِ ونَذْكُر أولا قَول من قالَ إنها جنَّة الخلد الَّتِي وعدها الله المُتَّقِينَ، وما احْتَجُّوا بِهِ وما نقضوا بِهِ حجج من قالَ إنها غَيرها ثمَّ نتبعها مقالَة الآخرين وما احْتَجُّوا بِهِ وما أجابوا بِهِ عَن حجج منازعيهم من غير انتصاب لنصرة أحد القَوْلَيْنِ، وإبطال الآخر إذْ لَيْسَ غرضنا ذَلِك، وإنَّما الغَرَض ذكر بعض الحكم والمصالح المُقْتَضِيَة لإخراج آدم من الجنَّة وإسكانه في الأرض في دار الِابْتِلاء والامتحان، وكانَ الغَرَض بذلك الرَّد على من زعم أن حِكْمَة الله سُبْحانَهُ تأبى إدخال آدم الجنَّة وتعريضه للذنب الَّذِي أخرج مِنها بِهِ، وأنه أي فائِدَة في ذَلِك والرَّدّ على أن من أبطل أن يكون لَهُ في ذَلِك حِكْمَة، وإنَّما هو صادر عَن مَحْض المَشِيئَة الَّتِي لا حِكْمَةَ وراءَها. وَلما كانَ المَقْصُود حاصِلا على كل تَقْدِير سَواء كانَت جنَّة الخلد أوْ غَيرها بَينا الكَلام على التَّقْدِيرَيْنِ ورأينا أن الرَّد على هَؤُلاءِ بدبوس السلاق لا يحصل غَرضا ولا يزِيل مَرضا فسلكنا هَذا السَّبِيل ليَكُون قَوْلهم مردودا على كل قَول من أقوال الأمة وبِاللَّهِ المُسْتَعان وعَلِيهِ التكلان ولا حول ولا قُوَّة إلا بِالله. فَنَقُول أما ما ذكرتموه من كَون الجنَّة الَّتِي أُهبط مِنها آدم لَيست جنَّة الخلد وإنما هي جنَّة غَيرها فَهَذا مِمّا قد اخْتلف فِيهِ النّاس والأشهر عند الخاصَّة والعامة الَّذِي لا يخْطر بقلوبهم سواهُ أنها جنَّة الخلد الَّتِي أعدت لِلْمُتقين وقد نَص غير واحِد من السّلف على ذَلِك واحْتج من نصر هَذا بِما رَواهُ مُسلم في صَحِيحه من حَدِيث أبي مالك الأشجعي عَن أبي حازِم عَن أبي هُرَيْرَة وأبو مالك عَن ربعي بن حِراش عَن حُذَيْفَة قالا قالَ رَسُول الله ﷺ "يجمع الله عز وجل النّاس حَتّى يزلف لَهُم الجنَّة فَيَأْتُونَ آدم عَلَيْهِ السَّلام فَيَقُولُونَ يا أبانا استفتح لنا الجنَّة فَيَقُول وهل أخرجكم من الجنَّة إلا خَطِيئَة أبيكم آدم" وذكر الحَدِيث .. قالُوا فَهَذا يدل على أن الجنَّة الَّتِي اخرج مِنها آدم هي بِعَينها الَّتِي يطْلب مِنهُ أن يستفتحها لَهُم قالُوا ويدل عَلَيْهِ أن الله سُبْحانَهُ قالَ يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنَّة إلى قَوْله اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو ولكم في الأرض مُسْتَقر ومتاع إلى حِين عقيب قَوْله ﴿اهبطوا﴾ فَدلَّ على أنهم لم يَكُونُوا أولا في الأرض. وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ وصف الجنَّة الَّتِي أسكنها آدم بِصِفات لا تكون في الجنَّة الدُّنْيَوِيَّة فَقالَ تَعالى ﴿إن لَك إلا تجوع فِيها ولا تعرى وأنَّك لا تظمأ فِيها ولا تضحى﴾ وهَذا لا يكون في الدُّنْيا أصلا ولَو كانَ الرجل في أطيب منازلها فَلا بُد أن يعرض لَهُ الجُوع والظمأ والتعري والضُّحى للشمس. وَأيْضًا فَإنَّها لَو كانَت الجنَّة في الدُّنْيا لعلم آدم كذب إبليس في قَوْله ﴿هَل أدلك على شَجَرَة الخلد وملك لا يبْلى﴾ فَإن آدم كانَ يعلم أن الدُّنْيا منقضية فانية وأن ملكها يبْلى. وَأيْضًا فَإن قصَّة آدم في البَقَرَة ظاهِرَة جدا في أن الجنَّة الَّتِي أخرج مِنها فَوق السَّماء فَإنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ ﴿وَإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ أبى واسْتَكْبَرَ وكانَ مِنَ الكافِرِينَ (٣٤) وقُلْنا ياآدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ وكُلا مِنها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما ولا تَقْرَبا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ (٣٥) فَأزَلَّهُما الشَّيْطانُ عَنْها فَأخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ وقُلْنا اهْبِطُوا بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ولَكم في الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتاعٌ إلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)﴾ فَهَذا إهباط آدم وحواء وإبليس من الجنَّة ولِهَذا أتى فِيهِ بضمير الجمع. وَقيل إنه خطاب لَهُم وللحية وهَذا يحْتاج إلى نقل ثابت إذْ لا ذكر للحية في شَيْء من قصَّة آدم وإبليس. وَقيل خطاب لآدَم وحواء وأتى فِيهِ بِلَفْظ الجمع كَقوله تَعالى: ﴿وَكُنّا لحكمهم شاهِدين﴾ وقيل لآدم وحواء وذريتهما وهَذِه الأقوال ضَعِيفَة غير الأول لأنها بَين قَول لا دَلِيل عَلَيْهِ وبَين ما يدل ظاهر الخطاب على خِلافه فَثَبت أن إبليس داخل في هَذا الخطاب وأنه من المهبطين من الجنَّة ثمَّ قالَ تَعالى ﴿قُلْنا اهبطوا مِنها جَمِيعًا فأما يَأْتينكم مني هدى فَمن تبع هُدايَ فَلا خوف عَلَيْهِم ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ وهَذا الإهباط الثّانِي لا بُد أن يكون غير الأول وهو إهباطه من السَّماء إلى الأرض وحِينَئِذٍ فَتكون الجنَّة الَّتِي اهبطوا مِنها الأول فَوق السَّماء وهِي جنَّة الخلد. وَقد ذهبت طائِفَة مِنهُم الزَّمَخْشَرِيّ إلى أن قَوْله ﴿اهبطوا مِنها جَمِيعًا﴾ خطاب لآدم وحواء خاصَّة وعبر عَنْهُما بِالجمعِ لاستتاباعهما ذرياتهما قالَ والدَّلِيل عَلَيْهِ قوله تَعالى: ﴿قالَ اهْبِطا مِنها جَمِيعًا بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى﴾ وقالَ ويدل على ذَلِك قَوْله ﴿فَمَن تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ (٣٨) والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ (٣٩)﴾ وما هو إلا حكم يعم النّاس كلهم ومعنى ﴿بَعْضكُم لبَعض عَدو﴾ ما عَلَيْهِ النّاس من التعادي والتباغض وتضليل بَعضهم لبَعض. وَهَذا الَّذِي اخْتارَهُ أضعف الأقوال في الآية فَإن العَداوَة الَّتِي ذكرها الله إنما هي بَين آدم وإبليس وذرياتهما كَما قالَ تَعالى ﴿إن الشَّيْطان لكم عَدو فاتخذوه عدوا﴾ وَأما آدم وزوجه فَإن الله سُبْحانَهُ أخبر في كِتابه أنه خلقها مِنهُ ليسكن إليها وقالَ سُبْحانَهُ ﴿وَمن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بَيْنكُم مَوَدَّة ورَحْمَة﴾ فَهو سُبْحانَهُ جعل المَوَدَّة بَين الرجل وزوجه وجعل العَداوَة بَين آدم وإبليس وذرياتهما ويدل عَلَيْهِ أيضا عود الضَّمِير إليهم بِلَفْظ الجمع وقد تقدم ذكر آدم وزوجه وإبليس في قَوْلهم ﴿فأزلهما الشَّيْطان عَنْها فأخرجهما﴾ فَهَؤُلاءِ ثَلاثَة آدم وحواء وإبليس فلماذا يعود الضَّمِير على بعض المَذْكُور مَعَ منافرته لطريق الكَلام ولا يعود على جَمِيع المَذْكُور مَعَ أنه وجه الكَلام. فَإن قيل فَما تَصْنَعُونَ بقوله في سورة طه: ﴿قالَ اهبطا مِنها جَمِيعًا بَعْضكُم لبَعض عَدو﴾ وهَذا خطاب لآدم وحواء وقد أخبر بعداوة بَعضهم بَعْضًا؟ قيل أما أن يكون الضَّمِير في قَوْله ﴿اهبطا﴾ راجعا إلى آدم وزوجه أوْ يكون راجعا إلى آدم وإبليس، ولم يذكر الزَّوْجَة لأنها تبع لَهُ. وعَلى الثّانِي فالعداوة المَذْكُورَة للمخاطبين بالإهباط وهما آدم وإبليس وعَلى الأول تكون الآية قد اشْتَمَلت على أمريْن أحدهما أمره لآدم وزوجه بالهبوط، والثّانِي جعله العَداوَة بَين آدم وزوجه وإبليس ولا بُد أن يكون إبليس داخِلا في حكم هَذِه العَداوَة قطعا كَما قالَ تَعالى ﴿إن هَذا عَدو لَك ولزوجك﴾ وقالَ لذريته أن الشَّيْطان لكم عَدو فاتخذوه عدوا وتَأمل كَيفَ اتّفقت المَواضِع الَّتِي فِيها العَداوَة على ضمير الجمع دون التَّثْنِيَة. وَأما ذكر الإهباط فَتارَة يأتي بِلَفْظ ضمير الجمع وتارَة بِلَفْظ التَّثْنِيَة وتارَة يَأْتِي بِلَفْظ الإفراد لإبليس وحده كَقوله تَعالى: في سُورَة الأعراف ﴿قالَ ما مَنَعَكَ ألّا تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ قالَ أنا خَيْرٌ مِنهُ خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (١٢) قالَ فاهْبِطْ مِنها فَما يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فِيها﴾ فَهَذا الإهباط لإبليس وحده والضَّمِير في قَوْله مِنها قيل أنه عائِد إلى الجنَّة. وَقيل عائِد إلى السَّماء وحَيْثُ أتى بِصِيغَة الجمع كانَ لآدم وزوجه وإبليس إذ مدار القِصَّة عَلَيْهِم وحَيْثُ أتى بِلَفْظ التَّثْنِيَة فإما أن يكون لآدم وزوجه إذْ هما اللَّذان باشرا الأكل من الشَّجَرَة وأقدما على المعْصِيَة. وإما أن يكون لآدم وإبليس إذ هما أبوا الثقلَيْن فَذكر حالهما وما آل إليه أمرهما ليَكُون عظة وعبرة لأولادهما والقَوْلان محكيان في ذَلِك وحَيْثُ أتى بِلَفْظ الإفراد فَهو لإبليس وحده. وَأيْضًا فالَّذِي يُوضح أن الضَّمِير في قَوْله ﴿اهبطا مِنها جَمِيعًا﴾ لآدم وإبليس أن الله سُبْحانَهُ لما ذكر المعْصِيَة أفرد بها آدم دون زوجه فَقالَ ﴿وَعصى آدم ربه فغوى ثمَّ اجتابه ربه فَتابَ عَلَيْهِ وهدى قالَ اهبطا مِنها جَمِيعًا﴾ وَهَذا يدل على أن المُخاطب بالإهباط هو آدم ومن زين لَهُ المعْصِيَة ودخلت الزَّوْجَة تبعا، وهَذا لأن المَقْصُود إخبار الله تَعالى لِعِبادِهِ المُكَلّفين من الجِنّ والإنس بِما جرى على أبويهما من شُؤْم المعْصِيَة ومُخالفَة الأمر لِئَلّا يقتدوا بهما في ذَلِك فَذكر أبو الثقلَيْن أبلغ في حُصُول هَذا المَعْنى من ذكر أبوي الإنس فَقَط، وقد أخبر سُبْحانَهُ عَن الزَّوْجَة أنها أكلت مَعَ آدم وأخْبر أنه أهبطه وأخرجه من الجنَّة بِتِلْكَ الأكلة فَعلم أن هَذا اقْتَضاهُ حكم الزَّوْجِيَّة وأنها صارَت إلى ما صار إليه آدم فَكانَ تَجْرِيد العِنايَة إلى ذكر الأبوين الَّذين هما أصل الذُّرِّيَّة أولى من تجريدها إلى ذكر أبي الإنس وأمهم والله أعْلَم. وَبِالجُمْلَةِ فَقَوله ﴿اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو﴾ ظاهر في الجمع فَلا يسوغ حمله على الِاثْنَيْنِ في قَوْله ﴿اهبطا﴾ قالُوا: وأما قَوْلكُم إنه كَيفَ وسوس لَهُ بعد إهباطه مِنها ومحال أن يصعد إليها بعد قوله تَعالى: ﴿اهبط﴾ فَجَوابه من وُجُوه: أحدها: أنه أخرج مِنها ومنع من دُخُولها على وجه السُّكْنى والكرامة واتخاذها دارا فَمن أيْنَ لكم أنه منع من دُخُولها على وجه الِابْتِلاء والامتحان لآدم وزوجه، ويكون هَذا دُخُولا عارضا كَما يدْخل شَرط دار من أمروا بابتلائه ومحنته وإن لم يَكُونُوا أهلا لسكنى تِلْكَ الدّار. الثّانِي أنه كانَ يدنو من السَّماء فيكلمهما ولا يدْخل عَلَيْهِما دارهما. الثّالِث أنه لَعَلَّه قامَ على الباب فناداهما وقاسمهما ولم يلج الجنَّة. الرّابِع أنه قد روي أنه أراد الدُّخُول عَلَيْهِما فمنعته الخزنة فَدخل في فَم الحَيَّة حَتّى دخلت بِهِ عَلَيْهِما ولا يشْعر الخزنة بذلك. قالُوا ومِمّا يدل على أنها جنَّة الخلد بِعَينها أنها جاءَت معرفَة بلام التَّعْرِيف في جَمِيع المَواضِع كَقَوْلِه ﴿اسكن أنت وزوجك الجنَّة﴾ ولا جنَّة يعهدها المخاطبون ويعرفونها إلا جنَّة الخلد الَّتِي وعد الرَّحْمَن عباده بِالغَيْبِ فقد صار هَذا الِاسْم علما عَلَيْها بالغلبة وإن كانَ في أصل الوَضع عبارَة عَن البُسْتان ذِي الثِّمار والفواكه وهَذا كالمدينة الطّيبَة والنجم للثريا ونظائرها فَحَيْثُ ورد اللَّفْظ مُعَرفا بالالف واللّام انْصَرف إلى الجنَّة المَعْهُودَة المَعْلُومَة في قُلُوب المُؤمنِينَ. وَأما أن أريد بِهِ جنَّة غَيرها فإنها تَجِيء مُنكرَة كَقَوْلِه جنتين من اعناب أوْ مُقَيّدَة بالإضافة كَقَوْلِه ولَوْلا إذ دخلت جنتك أوْ مُقَيّدَة من السِّياق بِما يدل على أنها جنَّة في الأرض كَقَوْلِه أنا بلوناهم كَما بلونا أصحاب الجنَّة إذ اقسموا ليصرمنها مصبحين الآيات فَهَذا السِّياق والتَّقْيِيد يدل على أنها بُسْتان في الأرض. قالُوا: وأيْضًا فَإنَّهُ قد اتّفق أهل السّنة والجَماعَة على أن الجنَّة والنّار مخلوقتان وقد تَواتَرَتْ الأحاديث عَن النَّبِي بذلك كَما في الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله بن عمر عَن النَّبِي أنه قالَ إن أحدكم إذا ماتَ عرض عَلَيْهِ مَقْعَده بِالغَداةِ والعشى إن كانَ من أهل الجنَّة فَمن أهل الجنَّة وإن كانَ من أهل النّار فَمن أهل النّار يُقال هَذا مَقْعَدك حَتّى يَبْعَثك الله يَوْم القِيامَة وفي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي سعيد الخُدْرِيّ عَن النَّبِي قالَ "اختصمت الجنَّة والنّار فَقالَت الجنَّة ما لِي لا يدخلني إلا ضعفاء النّاس وسَقَطهمْ، وقالَت النّار ما لِي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون، فَقالَ للجنة أنت رَحْمَتي أرْحَمُ بك من أشاء، وقالَ للنار أنت عَذابي أعذب بك من أشاء" الحَدِيث .. وَفِي السّنَن عَن أبي هُرَيْرَة أن رَسُول الله قالَ "لما خلق الله الجنَّة والنّار أرسل جِبْرِيل إلى الجنَّة فَقالَ اذْهَبْ فانْظُر إليها وإلى ما أعددت لأهلها قالَ فَذهب فَنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها" الحَدِيث .. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ في حَدِيث الإسراء "ثمَّ رفعت لي سِدْرَة المُنْتَهى فَإذا ورقها مثل آذان الفيلة، وإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان، فَقلت ما هَذا يا جِبْرِيل؟ قالَ أما النهران الظاهران فالنيل والفرات. وَأما الباطنان فنهران في الجنَّة" وَفِيه أيضا "ثمَّ أُدخلت الجنَّة فَإذا جنابذ اللُّؤْلُؤ وإذا ترابها المسك" وَفِي صَحِيح البُخارِيّ عَن أنس عَن النَّبِي ﷺ قالَ "بَيْنَما أنا أسِيرُ في الجَنَّةِ، إذا أنا بِنَهَرٍ، حافَتاهُ قِبابُ الدُّرِّ المُجَوَّفِ، قُلْتُ: ما هَذا يا جِبْرِيلُ؟ قالَ: هَذا الكَوْثَرُ، الَّذِي أعْطاكَ رَبُّكَ، فَإذا طِينُهُ - أوْ طِيبُهُ - مِسْكٌ أذْفَرُ" وَفِي صَحِيح مُسلم في حَدِيث صَلاة الكُسُوف أن النَّبِي جعل يتَقَدَّم ويتأخر في الصَّلاة ثمَّ أقبل على أصحابه فَقالَ "إنه عرضت لي الجنَّة والنّار فقربت مني الجنَّة حَتّى لَو تناولت مِنها قطفا لأخذته فَلَو أخذته لأكلتم مِنهُ ما بقيت الدُّنْيا" وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن مَسْعُود في قوله تَعالى: ﴿وَلا تحسبن الَّذين قتلوا في سَبِيل الله أمواتا بل أحياء عند رَبهم يرْزقُونَ﴾ أرواحهم في جَوف طير خضر لَها قناديل معلقَة بالعرش تسرح من الجنَّة حَيْثُ شاءَت ثمَّ تأوى إلى تِلْكَ القَنادِيل، فاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ اطِّلاعَةً فَقالَ: هَل تشتهون شَيْئا؟ فَقالُوا أي شَيْء نشتهي ونحن نَسْرَح من الجنَّة حَيْثُ شِئْنا" الحَدِيث .. وَفِي الصَّحِيح من حَدِيث ابْن عَبّاس قالَ قالَ رَسُول الله ﷺ "لَمّا أُصِيبَ إخْوانُكم بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أرْواحَهم في أجْوافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أنْهارَ الجَنَّةِ، وتَأْكُلُ مِن ثِمارِها، وتَأْوِي إلى قَنادِيلَ مِن ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ في ظِلِّ العَرْشِ، فَلَمّا وجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ ومَشْرَبِهِمْ ومَقِيلِهِمْ قالُوا: مَن يُبَلِّغُ إخْوانَنا عَنّا أنّا أحْياءٌ في الجَنَّةِ نُرْزَقُ، أنْ لا يَزْهَدُوا في الجِهادِ، ولا يَنْكُلُوا عِنْدَ الحَرْبِ، قالَ: فَقالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: أنا أُبَلِّغُهم عَنْكم "، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتًا بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ١٧٠] الآيَةُ. وَفِي المُوَطَّأ من حَدِيث كَعْب بن مالك أن رَسُول الله قالَ "إنما نسمَة المُؤمن طائِر يعلق في الجنَّة حَتّى يرجعه الله إلى جسده يَوْم يَبْعَثهُ" وَفِي البُخارِيّ أن إبْراهِيم ابْن رَسُول الله لما توفّي قالَ رَسُول الله ﷺ "إن لَهُ مُرْضعًا في الجنَّة" وَفِي صَحِيح البُخارِيّ عَن عمران بن حُصَيْن قالَ قالَ رَسُول الله ﷺ "اطَّلَعت في الجنَّة فَرَأيْت أكثر أهلها الفُقَراء، واطلعت في النّار فَرَأيْت أكثر أهلها النِّساء" والآثار في هَذا الباب أكثر من أن تذكر. وأما القَوْل بأن الجنَّة والنّار لم تخلقا بعد فَهو قَول أهل البدع من ضلال المُعْتَزلَة ومن قالَ بقَوْلهمْ وهم الَّذين يَقُولُونَ أن الجنَّة الَّتِي اهبط مِنها آدم إنَّما كانَت جنَّة بشرقي الأرض. وَهَذِه الأحاديث وأمثالها ترد قَوْلهم. قالُوا: وأما احتجاجكم بِسائِر الوُجُوه الَّتِي ذكرتموها في الجنَّة وأنَّها منتفية في الجنَّة الَّتِي أسكنها آدم من اللَّغْو والكذب والنّصب والعري وغير ذَلِك فَهَذا كُله حق لا ننكره نَحن ولا أحد من أهل الإسلام ولَكِن هَذا إنَّما هو إذا دَخلها المُؤْمِنُونَ يَوْم القِيامَة كَما يدل عَلَيْهِ سِياق الكَلام وهَذا لا ينفي أن يكون فِيها بَين آدم وإبليس ما حَكاهُ الله عز وجل من الامتحان والابتلاء ثمَّ يصير الأمر عند دُخُول المُؤمنِينَ إليها إلى ما أخبر الله عز وجل بِهِ فَلا تنافِي بَين الأمرين. قالُوا: وأما قَوْلكُم أن الجنَّة دار جَزاء وثواب ولَيْسَت دار تكليف وقد كلف الله سُبْحانَهُ آدم فِيها بِالنَّهْي عَن الشَّجَرَة فَجَوابه من وجْهَيْن أحدهما أنه إنَّما يمْتَنع أن تكون دار تَكْلِيف إذا دَخلها المُؤْمِنُونَ يَوْم القِيامَة فَحِينَئِذٍ يَنْقَطِع التَّكْلِيف. وَأما امْتناع وُقُوع التَّكْلِيف فِيها في دار الدُّنْيا فَلا دَلِيل عَلَيْهِ. الثّانِي أن التَّكْلِيف فِيها لم يكن بالأعمال الَّتِي يُكَلف بها النّاس في الدُّنْيا من الصّيام والصَّلاة والجهاد ونَحْوها وإنَّما كانَ حجرا عَلَيْهِ في شَجَرَة من جملَة أشجارها، وهَذا لا يمْتَنع وُقُوعه في جنَّة الخلد كَما أن كل أحد مَحْجُور عَلَيْهِ أن يقرب أهل غَيره فِيها فَإن أردتم بأن الجنَّة لَيست دار كَيفَ امْتناع وُقُوع مثل هَذا فِيها في وقت من الأوقات فَلا دَلِيل لكم عَلَيْهِ، وإن أردتم أن غالب التكاليف الَّتِي تكون في الدنيا منتفية فِيها فَهو حق، ولَكِن لا يدل على مطلوبكم قالُوا وهَذا كَما أنه مُوجب الأدلة وقَول سلف الأمة فَلا يعرف بقولكم قائِل من أئمة العلم ولا يعرج عَلَيْهِ ولا يلْتَفت إليه. قالَ الأولون الجَواب عَمّا ذكرْتُمْ من وجْهَيْن مُجمل ومفصل. أما المُجْمل فَإنَّكُم لم تَأْتُوا على قَوْلكُم بِدَلِيل يتَعَيَّن المصير إليه لا من قُرْآن ولا من سنة ولا أثر ثابت عَن أحد من أصحاب رَسُول الله ولا التّابِعين لا مُسْندًا ولا مَقْطُوعًا، ونحن نوجدكم من قالَ بقولنا هَذا أحد أئمة الإسلام سُفْيان بن عُيَيْنَة قالَ في قَوْله عز وجل ﴿إن لَك أن لا تجوع فِيها ولا تعرى﴾ قالَ يَعْنِي في الأرض وَهَذا عبد الله بن مُسلم بن قُتَيْبَة قالَ في معارفه بعد أن ذكر خلق الله لآدم وزوجه أن الله سُبْحانَهُ أخرجه من مشرق جنَّة عدن إلى الأرض الَّتِي مِنها أخذ. وَهَذا أُبي قد حكى الحسن عَنهُ أن آدم لما احْتضرَ اشْتهى قطفا من قطف الجنَّة فانْطَلق بنوه ليطلبوه لَهُ فلقيتهم المَلائِكَة فَقالُوا أيْنَ تُرِيدُونَ يا بني آدم؟ قالُوا إن أبانا اشْتهى قطفا من قطف الجنَّة. فَقالُوا لَهُم ارْجعُوا فقد كفيتموه فانْتَهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلى عَلَيْهِ جِبْرِيل وبَنوهُ خلف المَلائِكَة ودفنوه، وقالُوا هَذِه سنتكم في مَوْتاكُم. وَهَذا أبو صالح قد نقل عَن ابْن عَبّاس في قَوْله ﴿اهبطوا مِنها﴾ قالَ هو كَما يُقال هَبَط فلان في أرْض كَذا وكَذا. وَهَذا وهب بن مُنَبّه يذكر آن آدم خلق في الأرض وفيها سكن وفيها نصب لَهُ الفردوس وأنه كانَ بعدن وأن سيحون وجيحون والفرات انقسمت من النَّهر الَّذِي كانَ في وسط الجنَّة وهو الَّذِي كانَ يسقيها. وَهَذا مُنْذر بن سعيد البلوطي اخْتارَهُ في تَفْسِيره ونَصره بِما حكيناه عَنهُ وحَكاهُ في غير التَّفْسِير عَن أبي حنيفَة فِيما خالفه فِيهِ فَلم قالَ بقوله في هَذِه المَسْألَة. وَهَذا أبُو مُسلم الأصبهاني صاحب التَّفْسِير وغَيره أحد الفُضَلاء المَشْهُورين قالَ بِهَذا وانتصر لَهُ واحْتج عَلَيْهِ بِما هو مَعْرُوف في كِتابه. وَهَذا أبو مُحَمَّد عبد الحق بن عَطِيَّة ذكر القَوْلَيْنِ في تَفْسِيره في قصَّة آدم في البَقَرَة. وَهَذا أبو مُحَمَّد بن حزم ذكر القَوْلَيْنِ في كتاب الملَل والنحل لَهُ فَقالَ وكانَ المُنْذر بن سعيد القاضِي يذهب إلى أن الجنَّة والنّار مخلوقتان إلا أنه كانَ يَقُول إنها لَيست هي الَّتِي كانَ فِيها آدم وامراته ومِمَّنْ حكى القَوْلَيْنِ أيضا أبو عِيسى الرماني في تَفْسِيره واخْتارَ أنها جنَّة الخلد ثمَّ قالَ والمذهب الَّذِي اخترناه قَول الحسن وعَمْرو بن واصل وأكْثر أصحابنا وهو قَول أبي عَليّ وشَيخنا أبي بكر وعَلِيهِ أهل التَّفْسِير، ومِمَّنْ ذكر القَوْلَيْنِ أبو القاسِم الرّاغِب في تَفْسِيره فَقالَ: واخْتلف في الجنَّة الَّتِي أسكنها آدم فَقالَ بعض المُتَكَلِّمين كانَ بستانا جعله الله لَهُ امتحانا ولم يكن جنَّة المأوى، ثمَّ قالَ: ومن قالَ لم يكن جنَّة المأوى لأنه لا تَكْلِيف في الجنَّة وآدَم كانَ مُكَلّفا قالَ وقد قيل في جَوابه إنها لا تكون دار التَّكْلِيف في الآخرة، ولا يمْتَنع أن تكون في وقت دار تَكْلِيف دون وقت كَما أن الإنسان يكون في وقت مُكَلّفا دون وقت. وَمِمَّنْ ذكر الخلاف في المَسْألَة أبو عبد الله بن الخَطِيب الرّازِيّ في تَفْسِيره فَذكر هذَيْن القَوْلَيْنِ وقولا ثالِثا وهو التَّوَقُّف قالَ لإمكان الجَمِيع وعدم الوُصُول إلى القطع كَما سَيَأْتِي حِكايَة كَلامه. وَمن المُفَسّرين من لم يذكر غير هَذا القَوْل وهو أنها لم تكن جنَّة الخلد إنَّما كانَت حَيْثُ شاءَ الله من الأرض وقالُوا كانَت تطلع فِيها الشَّمْس والقَمَر وكانَ إبليس فِيها ثمَّ أخرج. قالَ ولَو كانَت جنَّة الخلد لما أخرج مِنها، ومِمَّنْ ذكر القَوْلَيْنِ أيضا أبُو الحسن الماوَرْدِيّ فَقالَ في تَفْسِيره واخْتلف في الجنَّة الَّتِي أسكناها على قَوْلَيْنِ أحدهما أنها جنَّة الخلد. الثّانِي أنها جنَّة أعدها الله لَهما وجعلها دار ابتلاء ولَيْسَت جنَّة الخلد الَّتِي جعلها الله دار جَزاء. وَمن قالَ بِهَذا اخْتلفُوا فِيهِ على قَوْلَيْنِ أحدهما أنها في السَّماء لأنه أهبطهما مِنها وهَذا قَول الحسن. الثّانِي أنها في الأرض لأنه امتحنهما فِيها بِالنَّهْي عَن الشَّجَرَة الَّتِي نهيا عَنْها دون غَيرها من الثِّمار، وهَذا قَول ابْن يحيى وكانَ ذَلِك بعد أن أمر إبليس بِالسُّجُود لآدم والله أعْلَم بصواب ذَلِك هَذا كَلامه. وَقالَ ابْن الخَطِيب في تَفْسِيره اخْتلفُوا في أن الجنَّة المَذْكُورَة في هَذِه الآية هَل كانَت في الأرض أوْ في السَّماء وبِتَقْدِير أنها كانَت في السَّماء فَهَل هي الجنَّة الَّتِي هي دار الثَّواب وجنة الخلد أوْ جنَّة أخرى فَقالَ أبو القاسِم البَلْخِي وأبو مُسلم الأصبهاني هَذِه الجنَّة في الأرض وحملا الإهباط على الِانْتِقال من بقْعَة إلى بقْعَة كَما في قوله تَعالى: ﴿اهبطوا مصرا﴾ القَوْل الثّانِي وهو قَول الجبائي أن تِلْكَ كانَت في السَّماء السّابِعَة قالَ والدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله اهبطوا ثمَّ أن الإهباط الأول كانَ من السَّماء السّابِعَة إلى السَّماء الأولى والإهباط الثّانِي كانَ من السَّماء إلى الأرض. والقَوْل الثّالِث وهو قَول جُمْهُور أصحابنا أن هَذِه الجنَّة هي دار الثَّواب والدَّلِيل عليه هو أن الألف واللّام في لفظ الجنَّة لا يُفِيد العُمُوم لأن سُكْنى آدم جَمِيع الجنان محال فَلا بُد من صرفها إلى المَعْهُود السّابِق والجنَّة المَعْهُودَة المَعْلُومَة بَين المُسلمين هي دار الثَّواب فَوَجَبَ صرف اللَّفْظ إليها. قالَ والقَوْل الرّابِع أن الكل مُمكن والأدلة النقلية ضَعِيفَة ومتعارضة فَوَجَبَ التَّوَقُّف وترك القطع. قالُوا ونحن لا نقلد هَؤُلاءِ ولا نعتمد على ما حكى عَنْهُم والحجّة الصَّحِيحَة حكم بَين المتنازعين. قالُوا وقد ذكرنا على هَذا القَوْل ما فِيهِ كِفايَة. وأما الجَواب المفصل فَنحْن نتكلم على ما ذكرْتُمْ من الحجَج لينكشف وجه الصَّواب فَنَقُول وبِاللَّهِ التَّوْفِيق: أما استدلالكم بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة وحُذَيْفَة حِين يَقُول النّاس لآدم استفتح لنا الجنَّة فَيَقُول "وَهل أخرجكم مِنها إلا خَطِيئَة أبيكم" فَهَذا الحَدِيث لا يدل على أن الجنَّة الَّتِي طلبُوا مِنهُ أن يستفتحها لَهُم هي الَّتِي أخرج مِنها بِعَينها فَإن الجنَّة اسْم جنس فَكل بُسْتان يُسمى جنَّة كَما قالَ تَعالى ﴿إنا بلوناهم كَما بلونا أصحاب الجنَّة إذْ اقسموا ليصرمنها مصبحين﴾ وقالَ تَعالى ﴿وَقالُوا لن نؤمن لَك حَتّى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أوْ تكون لَك جنَّة من نخيل وعنب﴾ وقالَ تَعالى ﴿وَمثل الَّذين يُنْفقُونَ أموالهم ابْتِغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كَمثل جنَّة بِرَبْوَةٍ﴾ وقالَ تَعالى ﴿واضْرِبْ لَهُم مثلا رجلَيْنِ جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بِنَخْل﴾ إلى قَوْله ﴿وَلَوْلا إذْ دخلت جنتك قلت ما شاءَ الله لا قُوَّة إلا بِاللَّه﴾ فَإن الجنَّة اسْم جنس فهم لما طلبُوا من آدم أن يستفتح لَهُم جنَّة الخلد أخبرهم بِأنَّهُ لا يحسن مِنهُ أن يقدم على ذَلِك وقد أخرج نَفسه وذريته من الجنَّة الَّتِي أسكنه الله إياها بِذَنبِهِ وخطيئته هَذا الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث. وَأما كَون الجنَّة الَّتِي أخرج مِنها هي بِعَينها الَّتِي طلبُوا مِنهُ أن يستفتحها لَهُم فَلا يدل الحَدِيث عَلَيْهِ بِشَيْء من وُجُوه الدلالات الثَّلاث ولَو دلّ عَلَيْهِ لوَجَبَ المصير إلى مَدْلُول الحَدِيث وامْتنع القَوْل بمخالفته وهل مدارنا إلا على فهم مُقْتَضى كَلام الصّادِق المصدوق صلوات الله وسَلامه عَلَيْهِ. قالُوا: وأما استدلالكم بالهبوط وأنه نزُول من علو إلى سفل فَجَوابه من وجْهَيْن: أحدهما أن الهبوط قد استنقل في النقلَة من أرْض إلى أرْض كَما يُقال هَبَط فلان بلد كَذا وكَذا وقالَ تَعالى ﴿اهبطوا مصرا فَإن لكم ما سَألْتُم﴾ وهَذا كثير في نظم العَرَب ونثرها قالَ: ؎أن تهبطين بِلاد قو ∗∗∗ م يرتعون من الطلاح وَقد روى أبو صالح عَن ابْن عَبّاس رضى الله عَنْهُما قالَ هو كَما يُقال هَبَط فلان أرْض كَذا وكَذا. الثّانِي أنا لا ننازعكم في أن الهبوط حَقِيقَة ما ذكرتموه ولَكِن من أيْنَ يلْزم أن تكون الجنَّة الَّتِي مِنها الهبوط فَوق السَّماوات فَإذا كانَت في أعلى الأرض أما يَصح أن يُقال هَبَط مِنها كَما يهْبط الحجر من أعلى الجَبَل إلى أسفله ونَحْوه. وَأما قوله تَعالى: ﴿وَلكم في الأرض مستقرومتاع إلى حِين﴾ فَهَذا يدل على أن الأرض الَّتِي أهبطوا إليها لَهُم فِيها مُسْتَقر ومتاع إلى حِين ولا يدل على أنهم لم يَكُونُوا في جنَّة عالية أعلى من الأرض الَّتِي أهبطوا إليها تخالف الأرض في صفاتها وأشجارها ونَعِيمها وطيبها، فالله سُبْحانَهُ فاوت بَين بقاع الأرض أعظم تفاوت وهَذا مشهود بالحس فَمن أيْنَ لكم أن تِلْكَ لم تكن جنَّة تميزت عَن سائِر بقاع الأرض بِما لا يكون إلا فِيها، ثمَّ أهبطوا مِنها إلى الأرض الَّتِي هي مَحل التَّعَب والنّصب والابتلاء والامتحان. وَهَذا بِعَيْنِه هو الجواب عَن استدلالكم بقوله تَعالى: ﴿إن لَك ألا تجوع فيها ولا تعرى﴾ إلى آخر ما ذكرتموه مَعَ أن هَذا حكم مُعَلّق بِشَرْط والشّرط لم يحصل، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما قالَ ذَلِك عقيب قَوْله ﴿وَلا تقربا هَذِه الشَّجَرَة﴾ وقَوله ﴿إن لَك ألا تجوع فِيها ولا تعرى﴾ هو صِيغَة وعد مرتبطة بِما قبلها والمعْنى أن اجْتنبت الشَّجَرَة الَّتِي نهيتك عَنْها ولم تَقربها كانَ لَك هَذا الوَعْد والحكم المُعَلق بِالشّرطِ عدم عند عدم الشَّرْط فَلَمّا أكل من الشَّجَرَة زالَ اسْتِحْقاقه لهَذا الوَعْد. قالَ وأما قَوْلكُم أنه لَو كانَت الجنَّة في الدُّنْيا لعلم آدم كذب إبليس في قَوْله ﴿هَل أدلك على شَجَرَة الخلد وملك لا يبْلى﴾ إلى آخِره فدعوى لا دَلِيل عَلَيْها لأنه لا دَلِيل لكم على أن الله سُبْحانَهُ كانَ قد أعْلَم آدم حِين خلقه أن الدُّنْيا منقضية فانية وأن ملكها يبْلى ويَزُول وعَلى تَقْدِير أن يكون آدم حِينَئِذٍ قد أعلم ذَلِك فَقَوْل إبليس ﴿هَل أدلك على شَجَرَة الخلد وملك لا يبْلى﴾ لا يدل على أنه أراد بالخلد ما لا يتناهى فَإن الخلد في لُغَة العَرَب هو اللّبْث الطَّوِيل كَقَوْلِهِم قيد مخلد وحبس مخلد وقد قالَ تَعالى لثمود ﴿أتبنون بِكُل ريع آيَة تعبثون وتتخذون مصانع لَعَلَّكم تخلدون﴾ وكَذَلِكَ قَوْله ﴿وَملك لا يبْلى﴾ يُراد بِهِ الملك الطَّوِيل الثّابِت. وَأيْضًا فَلا وجه للاعتذار عَن قَول إبليس مَعَ تحقق كذبه ومقاسمته آدم وحواء على الكَذِب والله سُبْحانَهُ قد أخبر أنه قاسمهما ودلاهما بغرور، وهَذا يدل على أنهما اغترا بقوله فغرهما بأن أطمعهما في خلد الأبد والملك الَّذِي لا يبْلى. وَبِالجُمْلَةِ فالاستدلال بِهَذا على كَون الجنَّة الَّتِي سكنها آدم هي جنَّة الخلد الَّتِي وعدها المتقون غير بَين، ثمَّ نقُول لَو كانَت الجنَّة هي جنَّة الخلد الَّتِي لا يَزُول ملكها لكانَتْ جَمِيع أشجارها شجر الخلد فَلم يكن لتلك الشَّجَرَة اخْتِصاص من بَين سائِر الشّجر بِكَوْنِها شَجَرَة الخلد وكانَ آدم يسخر من إبليس إذْ قد علم أن الجنَّة دار الخلد. فَإن قُلْتُمْ لَعَلَّ آدم لم يعلم حِينَئِذٍ ذَلِك فغره الخَبيث وخدعه بأن هَذِه الشَّجَرَة وحدها هي شَجَرَة الخلد؟ قُلْنا فاقنعوا منا بِهَذا الجَواب بِعَيْنِه عَن قَوْلكُم لَو كانَت الجنَّة في الدُّنْيا لعلم آدم كذب إبليس في ذَلِك لأن قَوْله كانَ خداعا وغرورا مَحْضا على كل تَقْدِير فانْقَلَبَ دليلكم حجَّة عَلَيْكُم وبِاللَّهِ التَّوْفِيق. قالُوا: وأما قَوْلكُم أن قصَّة آدم في البَقَرَة ظاهِرَة جدا في أن جنَّة آدم كانَت فَوق السَّماء فَنحْن نطالبكم بِهَذا الظُّهُور ولا سَبِيل لكم إلى إثباته. قَوْلكُم إنه كرر فِيهِ ذكر الهبوط مرَّتَيْنِ ولا بُد أن يُفِيد الثّانِي غير ما أفادَ الأول فَيكون الهبوط الأول من الجنَّة والثّانِي من السَّماء. فَهَذا فِيهِ خلاف بَين أهل التَّفْسِير فَقالَت طائِفَة هَذا القَوْل الَّذِي ذكرتموه، وقالَت طائِفَة مِنهُم النقاش وغَيره أن الهبوط الثّانِي إنَّما هو من الجنَّة إلى السَّماء والهبوط الأول إلى الأرض وهو آخر الهبوطين في الوُقُوع وإن كانَ أولهما في الذّكر. وَقالَت طائِفَة أتى بِهِ على جِهَة التَّغْلِيظ والتأكيد كَما تَقول للرجل اخرج اخرج. وَهَذِه الأقوال ضَعِيفَة، فَأما القَوْل الأول فَيظْهر ضعفه من وُجُوه: أحدها أنه مُجَرّد دَعْوى لا دَلِيل عَلَيْها من اللَّفْظ ولا من خبر يجب المصير إليه وما كانَ هَذا سَبيله لا يحمل القُرْآن عَلَيْهِ. الثّانِي أن الله سُبْحانَهُ قد أهبط إبليس لما امْتنع من السُّجُود لآدم إهباطا كونيا قدريا لا سَبِيل لَهُ إلى التَّخَلُّف عَنهُ فَقالَ تَعالى ﴿اهبط مِنها فَما يكون لَك أن تتكبر فِيها فاخرج إنك من الصاغرين﴾ وقالَ في مَوضِع آخر ﴿فاخرج مِنها فإنك رجيم وإن عَلَيْك اللَّعْنَة إلى يَوْم الدّين﴾ وفي مَوضِع آخر ﴿اخْرُجْ مِنها مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَن تَبِعَكَ مِنهم لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنكم أجْمَعِينَ﴾ وسَواء كانَ الضَّمِير في قَوْله مِنها راجعا إلى السَّماء أوْ إلى الجنَّة فَهَذا صَرِيح في إهباطه وطرده ولعنه وادحاره والمدحور المبعد وعَلى هَذا فَلَو كانَت الجنَّة فَوق السَّماوات لَكانَ قد صعد إليها بعد إهباط الله لَهُ، وهَذا وإن كانَ مُمكنا فَهو في غايَة البعد عَن حِكْمَة الله ولا يَقْتَضِيهِ خَبره فَلا يَنْبَغِي أن يُصار إليه. وَأما الوُجُوه الأربعة الَّتِي ذكرتموها من صُعُوده للوسوسة فَهي مَعَ أمر الله تَعالى بالهبوط مُطلقًا وطرده ولعنه ودحوره لا دَلِيل عَلَيْها لا من اللَّفْظ ولا من الخَبَر الَّذِي يجب المصير إليه وما هي إلا احتمالات مُجَرّدَة وتقديرات لا دَلِيل عَلَيْها. الثّالِث أن سِياق قصَّة إهباط الله تَعالى لإبليس ظاهِرَة في أنه إهباط إلى الأرض من وُجُوه أحدها أنه سُبْحانَهُ نبه على حِكْمَة إهباطه بِما قامَ بِهِ من التكبر المُقْتَضى غايَة ذله وطرده ومعاملته بنقيض قَصده وهو إهباطه من فَوق السَّماوات إلى قَرار الأرض ولا تقتضي الحِكْمَة أن يكون فَوق السَّماء مَعَ كبره ومنافاة حاله لحال المَلائِكَة الأكرمين. الثّانِي أنه قالَ ﴿فاخرج مِنها فَإنّك رجيم وإن عَلَيْك لَعْنَتِي إلى يَوْم الدّين﴾ وكَونه رجيما ملعونا ينفي أن يكون في السَّماء بَين المقربين المطهرين. الثّالِث أنه قالَ ﴿اخْرُجْ مِنها مَذْءُومًا مَدْحُورًا﴾ وملكوت السَّماوات لا يعلوه المذموم المدحور أبدا. وَأما القَوْل الثّانِي فَهو القَوْل الأول بِعَيْنِه مَعَ زِيادَة ما لا يدل عَلَيْهِ السِّياق بِحال من تَقْدِيم ما هو مُؤخر في الواقِع وتَأْخِير ما هو مقدم فِيهِ فَيرد بِما رد بِهِ القَوْل الَّذِي قبله. وَأما القَوْل الثّالِث وهو أنه للتَّأْكِيد فَإن أُرِيد التَّأْكِيد اللَّفْظِيّ المُجَرّد فَهَذا لا يَقع في القُرْآن، وإن أريد بِهِ أنه مُسْتَلْزم للتغليظ والتأكيد مَعَ ما يشْتَمل عَلَيْهِ من الفائِدَة فَصَحِيح. فالصَّواب أن يُقال اعيد الإهباط مرّة ثانِيَة لأنه علق عَلَيْهِ حكما غير المُعَلق على الإهباط الأول فَإنَّهُ علق على الأول عَداوَة بَعضهم بَعْضًا فَقالَ ﴿اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو﴾ وهَذِه جملَة حالية وهِي اسمية بالضمير وحده عند الأكثرين والمعْنى اهبطوا متعادين وعلق على الهبوط الثّانِي حكمين آخَرين: أحدهما هبوطهم جَمِيعًا، والثّانِي قَوْله ﴿فإمّا يَأْتينكم مني هدى فَمن تبع هُدايَ فَلا خوف عَلَيْهِم ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ فَكَأنَّهُ قيل اهبطوا بِهَذا الشَّرْط مأخوذا عَلَيْكُم هَذا العَهْد وهو أنه مهما جاءَكُم مني هدى فَمن اتبعهُ مِنكُم فَلا خوف عَلَيْهِ ولا حزن يلْحقهُ، فَفي الإهباط الأول إيذان بالعقوبة ومقابلتهم على الجريمة، وفي الإهباط الثّانِي روح التسلية والاستبشار بحسن عاقِبَة هَذا الهبوط لمن تبع هُدايَ ومصيره إلى الأمن والسُّرُور المضاد للخوف والحزن، فكسرهم بالإهباط الأول، وجبر من اتبع هداه بالإهباط الثّانِي على عادَته سُبْحانَهُ ولطفه بعباده وأهل طاعَته كَما كسر آدم بالإخراج من الجنَّة وجبره بالكلمات الَّتِي تلقاها مِنهُ فَتابَ عَلَيْهِ وهداه. وَمن تدبر حكمته سُبْحانَهُ ولطفه وبره بعباده وأهل طاعَته في كَسره لَهُم ثمَّ جبره بعد الانكسار كَما يكسر العَبْد بالذنب ويذله بِهِ ثمَّ يجْبرهُ بتوبته عَلَيْهِ ومغفرته لَهُ، وكما يكسرهُ بأنواع المصائب والمحن ثمَّ يجْبرهُ بالعافية والنعْمَة انْفَتح لَهُ باب عَظِيم من أبْواب مَعْرفَته ومحبته، وعلم أنه أرْحَمُ بعباده من الوالدة بِوَلَدِها، وأن ذَلِك الكسر هو نفس رَحمته بِهِ وبره ولطفه، وهو أعلم بمصلحة عَبده مِنهُ، ولَكِن العَبْد لضعف بصيرته ومعرفته بأسماء ربه وصِفاته لا يكاد يشْعر بذلك ولا ينال رضا المحبوب وقربه والابتهاج والفرح بالدنو مِنهُ والزلفى لَدَيْهِ إلا على جسر من الذلة والمسكنة وعَلى هَذا قامَ أمر المحبَّة فَلا سَبِيل إلى الوُصُول إلى المحبوب إلا بذلك كَما قيل ؎تذلل لمن تهوى لتحظى بِقُرْبِهِ ∗∗∗ فكم عزة قد نالها العَبْد بالذل ؎إذا كانَ من تهوى عَزِيز أوْ لم تكن ∗∗∗ ذليلا لَهُ فاقرأ السَّلام على الوَصْل وَقالَ آخر: ؎اخضع وذل لمن تحب فَلَيْسَ في ∗∗∗ شرع الهوى أنف يشال ويقْعد وَقالَ آخر: ؎وَما فرحت بالوصل نفس عزيزة ∗∗∗ وما العِزّ إلّا ذلها وانكسارها قالُوا وإذا علم أن إبْلِيس أهبط من دار العِزّ عقب امْتِناعه وإبائه من السُّجُود لآدم ثَبت أن وسوسته لَهُ ولزوجه كانَت في غير المحل الَّذِي أهبط مِنهُ والله أعْلَم. قالُوا: وأما قَوْلكُم إن الجنَّة إنَّما جاءَت معرفَة بِاللّامِ وهِي تَنْصَرِف إلى الجنَّة الَّتِي لا يعْهَد بَنو آدم سواها فَلا ريب أنها جاءَت كَذَلِك ولَكِن العَهْد وقع في خطاب الله تَعالى آدم لسكناها بقوله ﴿اسكن أنت وزوجك الجنَّة﴾ فَهي كانَت معهودة عند آدم ثمَّ اُخْبُرْنا سُبْحانَهُ عنها معرفا لَها بلام التَّعْرِيف فانْصَرف العرف بها إلى تِلْكَ الجنَّة المَعْهُودَة في الذِّهْن وهِي الَّتِي سكنها آدم ثمَّ أخرج مِنها فَمن أيْنَ في هَذا ما يدل على محلها وموضعها بِنَفْي أوْ إثْبات؟ وَأما مَجِيء جنَّة الخلد معرفَة بِاللّامِ فلأنها الجنَّة الَّتِي أخبرت بها الرُّسُل لأممهم ووعدها الرَّحْمَن عباده بِالغَيْبِ فَحَيْثُ ذكرت انْصَرف الذِّهْن إليها دون غَيرها لأنها قد صارَت مَعْلُومَة في القُلُوب مُسْتَقِرَّة فِيها ولا ينْصَرف الذِّهْن إلى غَيرها ولا يتَوَجَّه الخطاب إلى سواها وقد جاءَت الجنَّة في القُرْآن معرفَة بِاللّامِ والمراد بها بُسْتان في بقْعَة من الأرض كَقوله تَعالى: ﴿إنّا بلوناهم كَما بلونا أصحاب الجنَّة إذْ أقسموا ليصرمنها مصبحين﴾ فَهَذا لا ينْصَرف الذِّهْن فِيها إلى جنَّة الخلد ولا إلى جنَّة آدم بِحال. قالُوا: وأما قَوْلكُم إنه قد اتّفق أهل السّنة والجَماعَة على أن الجنَّة والنّار مخلوقتان وإنّهُ لم يُنازع في ذَلِك إلّا بعض أهل البدع والضلال واستدلالكم على وجود الجنَّة الآن فَحق لا ننازعكم فِيهِ وعِنْدنا من الأدلة على وجودها أضعاف ما ذكرْتُمْ ولَكِن أي تلازم بَين أن تكون جنَّة الخلد مخلوقة وبَين أن تكون هي جنَّة آدم بِعَينها فكأنكم تَزْعُمُونَ أن كل من قالَ إن جنَّة آدم هي جنَّة في الأرض فَلا بُد لَهُ أن يَقُول إن الجنَّة والنّار لم يخلقا بعد، وهَذا غلط مِنكُم منشؤه من توهمكم أن كل من قالَ بِأن الجنَّة لم تخلق بعد فَإنَّهُ يَقُول إن جنَّة آدم هي في الأرض كَذَلِك بِالعَكْسِ أن كل من قالَ إن جنَّة آدم في الأرض فَيَقُول إن الجنَّة لم تخلق، فَأما الأول فَلا ريب فِيهِ. وَأما الثّانِي فَوَهم لا تلازم بَينهما لا في المَذْهَب ولا في الدَّلِيل، فَأنْتم نصبتم دليلكم مَعَ طائِفَة نَحن وأنتم متفقون على إنكار قَوْلهم ورده وإبطاله، ولَكِن لا يلْزم من هَذا بطلان هَذا القَوْل الثّالِث وهَذا واضح. قالُوا: وأما قَوْلكُم أن جَمِيع ما نَفاهُ الله سُبْحانَهُ عَن الجنَّة من اللَّغْو والعَذاب وسائِر الآفات الَّتِي وجد بَعْضها من إبليس عَدو الله فَهَذا إنَّما يكون بعد القِيامَة إذا دَخلها المُؤْمِنُونَ كَما يدل عَلَيْهِ السِّياق فَجَوابه من وجْهَيْن: أحدهما أن ظاهر الخَبَر يَقْتَضِي نَفْيه مُطلقًا لقوله تَعالى: ﴿لا لَغْو فِيها ولا تأثيم﴾ ولقوله تَعالى: ﴿لا تسمع فِيها لاغية﴾ فَهَذا نفي عام لا يجوز تَخْصِيصه إلا بمخصص بَين، والله سُبْحانَهُ قد حكم بأنها دار الخلد حكما مُطلقًا فَلا يدخلها إلا خالِد فِيها فتخصيصكم هَذِه التَّسْمِيَة بِما بعد القِيامَة خلاف الظّاهِر. الثّانِي أن ما ذكرْتُمْ إنَّما يُصار إليه إذا قامَ الدَّلِيل السّالِم عَن المعارض المقاوم أنها جنَّة الخلد بِعَينها وحِينَئِذٍ يتَعَيَّن المصير إلى ما ذكرْتُمْ، فَأما إذا لم يقم دَلِيل سالم على ذَلِك ولم تجمع الأمة عَلَيْهِ فَلا يسوغ مُخالفَة ما دلّت عَلَيْهِ النُّصُوص البَيِّنَة بِغَيْر مُوجب والله أعْلَم. قالُوا: ومِمّا يدل على أنها لَيست جنَّة الخلد الَّتِي وعدها المتقون أن الله سُبْحانَهُ لما خلق آدم أعلمه أن لعمره أجلا يَنْتَهِي إليه وأنه لم يخلقه للبقاء ويدل على هَذا ما رَواهُ التِّرْمِذِيّ في جامعه قالَ حَدثنا مُحَمَّد بن بشار قالَ حَدثنا صَفْوان بن عِيسى حَدثنا الحارِث بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي زياب عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ قالَ قالَ رَسُول الله ﷺ "لما خلق الله آدم ونفخ فِيهِ الرّوح عطس فَقالَ الحَمد لله يا رب فَقالَ لَهُ ربه يَرْحَمك الله يا آدم اذهب إلى أولئك المَلائِكَة إلى ملاء مِنهُم جُلُوس فَقل السَّلام عَلَيْكُم قالُوا وعَلَيْك السَّلام ثمَّ رَجَعَ إلى ربه فَقالَ إن هَذِه تحيتك وتحية بنيك بَينهم، فَقالَ الله لَهُ ويداه مقبوضتان اختر أيتهما شِئْت، فَقالَ اخْتَرْت يَمِين رَبِّي كلتا يَدي رَبِّي يَمِين مباركة، ثمَّ بسطها فَإذا فِيها آدم وذريته قالَ أي رب ما هَؤُلاءِ؟ قالَ هَؤُلاءِ ذريتك، فَإذا كل إنْسان مَكْتُوب عمره بَين عَيْنَيْهِ، فَإذا رجل أضوؤهم أوْ من أضوئهم قالَ يا رب من هَذا؟ قالَ هَذا ابْنك داوُد وقد كتبت لَهُ عمرا أربعين سنة قالَ يا رب زد في عمره قالَ ذاك الَّذِي كتبت لَهُ قالَ أي رب فَإنِّي قد جعلت لَهُ من عمري سِتِّينَ سنة قالَ أنْت وذاكَ. قالَ ثمَّ أسكن الجنَّة ما شاءَ الله ثمَّ أهبط مِنها، وكانَ آدم يعد لنَفسِهِ فَأتاهُ ملك المَوْت فَقالَ لَهُ آدم قد عجلت ألْيَسَ قد كتبت لي ألف سنة؟ قالَ بلى ولَكِنَّك جعلت لابنك داوُد سِتِّينَ سنة فَجحد فَجحدت ذُريَّته ونسي فنسيت ذُريَّته، قالَ فَمن يَوْمئِذٍ أمر بِالكتاب والشُّهُود" هَذا حَدِيث حسن غَرِيب من هَذا الوَجْه. وروي من غير وجه عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي قالُوا فَهَذا صَرِيح في أن آدم لم يكن مخلوقا في دار الخلد الَّتِي لا يَمُوت من دَخلها وإنَّما خلق في دار الفناء الَّتِي جعل الله لَها ولأهلها أجلا مَعْلُوما وفيها أسكن فَإن قيل فَإذا كانَ آدم قد علم أن لَهُ عمرا يَنْتَهِي إليه وأنه لَيْسَ من الخالدين فَكيف لم يكذب إبليس ويعلم بطلان قَوْله حَيْثُ قالَ لَهُ ﴿هَل أدلك على شَجَرَة الخلد وملك لا يبْلى﴾ بل جوز ذَلِك وأكل من الشَّجَرَة طَمَعا في الخلد. فالجَواب ما تقدم من الوَجْهَيْنِ إما أن يكون المُراد بالخلد المكْث الطَّوِيل إلى أبَد الآباد أوْ يكون عدوه إبليس لما قاسمه وزوجه وغَيرهما وطمعهما بدوامهما في الجنَّة نسي ما قدر لَهُ من عمره. قالُوا والمعول عَلَيْهِ في ذَلِك قوله تَعالى للْمَلائكَة ﴿إنِّي جاعل في الأرض خَليفَة﴾ وهَذا الخَلِيفَة هو آدم بِاتِّفاق النّاس ولما عجبت المَلائِكَة من ذَلِك وقالُوا ﴿أتجعل فِيها من يفْسد فِيها ويسفك الدِّماء ونحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك﴾ عرفهم سُبْحانَهُ أن هَذا الخَلِيفَة الَّذِي هو جاعله في الأرض لَيْسَ حاله كَما توهمتم من الفساد بل أُعلِّمه من علمي ما لا تعلمونه فأظهر من فَضله وشرفه بِأن علمه الأسماء كلها ثمَّ عرضهمْ على المَلائِكَة فَلم يعرفوها وقالُوا ﴿سُبْحانَكَ لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العَلِيم الحَكِيم﴾ وهَذا يدل على أن هَذا الخَلِيفَة الَّذِي سبق بِهِ إخبار الرب تَعالى لملائكته، وأظْهر تَعالى فَضله وشرفه وأعلمه بِما لم تعلمه المَلائِكَة وهو خَليفَة مجعول في الأرض لا فَوق السَّماء. فَإن قيل قوله تَعالى: ﴿إني جاعل في الأرض خَليفَة﴾ إنَّما هو بِمَعْنى سأجعله في الأرض فَهي مآله ومصيره وهَذا لا يُنافِي أن يكون في جنَّة الخلد فَوق السَّماء أولا ثمَّ يصير إلى الأرض للخلافة الَّتِي جعلها الله لَهُ، واسم الفاعِل هُنا بِمَعْنى الِاسْتِقْبال ولِهَذا انتصب عَنهُ المَفْعُول؟ فالجَواب أن الله سُبْحانَهُ أعْلَم مَلائكَته بانه يخلقه لخلافة الأرض لا لسكنى جنَّة الخلود، وخَبره الصدْق وقَوله الحق، وقد علمت المَلائِكَة أنه هو آدم فَلَو كانَ قد أسكنه دار الخلود فَوق السَّماء لم يظْهر للْمَلائكَة وُقُوع المخبر ولم يحتاجوا إلى أن يبين لَهُم فَضله وشرفه وعلمه المتضمن رد قَوْلهم ﴿أتجْعَلُ فِيها من يفْسد فِيها ويسفك الدِّماء﴾ فَإنَّهُم إنَّما سَألُوا هَذا السُّؤال في حق الخَلِيفَة المجعول في الأرض، فأما من هو في دار الخلد فَوق السَّماء فَلم تتوهم المَلائِكَة مِنهُ سفك الدِّماء والفساد في الأرض ولا كانَ إظهار فَضله وشرفه وعلمه وهو فَوق السَّماء رادا لقَولهم وجوابا لسؤالهم، بل الَّذِي يحصل بِهِ جوابهم وضد ما توهموه إظْهار تِلْكَ الفَضائِل والعلوم مِنهُ وهو في مَحل خِلافَته الَّتِي خلق لَها وتوهمت المَلائِكَة أنه لا يحصل مِنهُ هُناكَ إلا ضدها من الفساد وسَفك الدِّماء، وهَذا واضح لمن تَأمله. وَأما اسْم الفاعِل وهو فاعل وإن كانَ بِمَعْنى الِاسْتِقْبال فَلِأن هَذا إخْبار عَمّا سيفعله الرب تَعالى في المُسْتَقْبل من جعله الخَلِيفَة في الأرض، وقد صدق وعده ووَقع ما أخبر بِهِ، وهَذا ظاهر في أنه من أول الأمر جعله خَليفَة في الأرض. وَأما جعله في السَّماء أولا ثمَّ جعله خَليفَة في الأرض ثانِيًا وإن كانَ مِمّا لا يُنافِي الِاسْتِخْلاف المَذْكُور فَهو مما لا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظ بِوَجْه بل يقتضي ظاهره خِلافه، فَلا يُصار إليه إلّا بِدَلِيل يُوجب المصير إليه وحَوله ندندن. قالُوا: وأيْضًا فَمن المَعْلُوم الَّذِي لا يُخالف فِيهِ مُسلم أن الله سُبْحانَهُ خلق آدم من تُراب، وهو تُراب هَذِه الأرض بِلا ريب كَما روى التِّرْمِذِيّ في جامعه من حَدِيث عَوْف عَن قسامَة بن زُهَيْر عَن أبي مُوسى الأشعري رضى الله عَنهُ قالَ قالَ رَسُول الله "إن الله تبارك وتَعالى خلق آدم من قَبْضَة قبضها من جَمِيع الأرض فجاء بَنو آدم على قدر الأرض، فجاء مِنهُم الأحمر والأبيض والأسود وبَين ذَلِك والسهل والحزن والخبيث والطّيب" قالَ التِّرْمِذِيّ هَذا حَدِيث حسن صَحِيح، وقد رَواهُ الإمام أحْمَد في مُسْنده من طرق عدَّة. وَقد أخبر سُبْحانَهُ أنه خلقه من تُراب، وأخْبر أنه خلقه من سلالة من طين وأخبر أنه خلقه من صلصال من حمإ مسنون والصلصال قيل فِيهِ هو الطين اليابِس الَّذِي لَهُ صلصلة ما لم يطْبخ فَإذا طبخ فَهو فخار. وَقيل فِيهِ هو المُتَغَيّر الرّائِحَة من قَوْلهم صل إذا انتن، والحمأ الطين الأسود المُتَغَيّر. والمسنون قيل المصبوب من سننت الماء إذا صببته. وَقيل المنتن المسن من قَوْلهم سننت الحجر على الحجر إذا حككته، فَإذا سالَ بَينهما شَيْء فَهو سِنِين، ولا يكون إلّا منتنا. وَهَذِه كلها أطوار التُّراب الَّذِي هو مبدؤه الأول، كَما أخبر عَن خلق الذُّرِّيَّة من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ من مُضْغَة. وَهَذِه أحوال النُّطْفَة الَّتِي هي مبدأ الذُّرِّيَّة ولم يخبر سُبْحانَهُ أنه رَفعه من الأرض إلى فَوق السَّماوات لا قبل التخليق ولا بعده وإنَّما أخبر عَن إسجاد المَلائِكَة لَهُ، وعَن إدْخاله الجنَّة وما جرى لَهُ مَعَ إبْلِيس بعد خلقه فَأخْبر سُبْحانَهُ بالأمور الثَّلاثَة في نسق واحِد مرتبطا بَعْضها بِبَعْض. قالُوا فَأيْنَ الدَّلِيل الدّال على إصعاد مادته وإصعاده بعد خلقه إلى فَوق السَّماوات هَذا مِمّا لا دَلِيل لكم عَلَيْهِ أصلا ولا هو لازم من لَوازِم ما أخبر الله بِهِ. قالُوا ومن المَعْلُوم أن ما فَوق السَّماوات لَيْسَ بمَكان للطين الأرضي المُتَغَيّر الرّائِحَة الَّذِي قد أنتن من تغيره، وإنَّما مَحَله هَذا الأرض الَّتِي هي مَحل المتغيرات والفاسدات. وَأما ما كانَ فَوق الأمْلاك فَلا يلْحقهُ تغير ولا نَتن ولا فساد ولا استحالة. قالُوا وهَذا أمر لا يرتاب فِيهِ العُقَلاء. قالُوا وقد قالَ تَعالى ﴿وَأمّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفي الجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ والأرْضُ إلّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)﴾ فَأخْبر سُبْحانَهُ أن هَذا العَطاء في جنَّة الخلد غير مَقْطُوع، وما أعطيه آدم فقد انْقَطع فَلم تكن تِلْكَ جنَّة الخلد. قالُوا: وأيْضًا فَلا نزاع في أن الله تَعالى خلق آدم في الأرض كَما تقدم ولم يذكر في قصَّته أنه نَقله إلى السَّماء، ولَو كانَ تَعالى قد نَقله إلى السَّماء لَكانَ هَذا أولى بِالذكر، لأنه من أعظم أنواع النعم عَلَيْهِ، وأكبر أسباب تفضيله وتشريفه، وأبلغ في بَيان آيات قدرته وربوبيته وحكمته، وأبلغ في بَيان المَقْصُود من عاقِبَة المعْصِيَة وهو الإهباط من السَّماء الَّتِي نقل إليها كَما ذكر ذَلِك في حق إبليس فَحَيْثُ لم يَجِئ في القُرْآن ولا في السّنة حرف واحِد أنه نَقله إلى السَّماء ورَفعه إليها بعد خلقه في الأرض علم أن الجنَّة الَّتِي أدخلها لم تكن هي جنَّة الخلد الَّتِي فَوق السَّماوات. قالُوا: وأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ قد أخبر في كِتابه أنه لم يخلق عباده عَبَثا ولا سدى وأنكر على من زعم ذَلِك فَدلَّ على أن هَذا مناف لحكمته ولَو كانَتا جنَّة آدم هي جنَّة الخلد لكانوا قد خلقُوا في دار لا يؤمرون فِيها ولا ينهون. وَهَذا باطِل بقوله ﴿أيحسب الإنسان أن يتْرك سدى﴾ قالَ الشّافِعِي وغَيره معطلا لا يُؤمر ولا ينْهى وقالَ ﴿أفحسبتم أنا خَلَقْناكم عَبَثا﴾ فَهو تَعالى لم يخلقهم عَبَثا ولا تَركهم سدى وجنة الخلد لا تَكْلِيف فِيها. قالُوا: وأيْضًا فَإنَّهُ خلقها جَزاء للعاملين بقوله تَعالى: ﴿نعم أجْرِ العالمين﴾ وجَزاء لِلْمُتقين بقوله ﴿ولنعم دار المُتَّقِينَ﴾ ودار الثَّواب بقوله ﴿ثَوابًا من عند الله﴾ فَلم يكن ليسكنها إلّا من خلقها لَهُم من العاملين ومن المُتَّقِينَ ومن تَبِعَهم من ذرياتهم وغَيرهم من الحور والولدان. وَبِالجُمْلَةِ فحكمته تَعالى اقْتَضَت أنها لا تنال إلا بعد الِابْتِلاء والامتحان والصَّبْر والجهاد وأنواع الطّاعات، وإذا كانَ هَذا مُقْتَضى حكمته فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لا يفعل إلا ما هو مطابق لَها. قالُوا فَإذا جمع ما أخبر الله عز وجل بِهِ من أنه خلقه من الأرض وجعله خَليفَة في الأرض، وأن إبليس وسوس لَهُ في مَكانَهُ الَّذِي أسكنه فِيهِ بعد أن أهبط إبليس من السَّماء، وأنه أخبر مَلائكَته أنه جاعل في الأرض خَليفَة، وأن دار الجنَّة لا لَغْو فِيها ولا تأثيم، وأن من دَخلها لا يخرج مِنها أبدا، وأن من دَخلها ينعم لا يبؤس، وأنه لا يخاف ولا يحزن، وأن الله سُبْحانَهُ حرمها على الكافرين، وعدو الله إبليس أكفر الكافرين، فمحال أن يدخلها أصلا لا دُخُول عبور ولا دُخُول قَرار، وأنها دار نعيم لا دار ابتلاء وامتحان إلى غير ذَلِك مِمّا ذَكرْناهُ من مُنافاة أوصاف جنَّة الخلد للجنة الَّتِي أسكنها آدم إذا جمع ذَلِك بعضه إلى بعض ونظر فِيهِ بِعَين الإنصاف والتجرد عَن نصْرَة المقالات تبين الصَّواب من ذَلِك والله المُسْتَعان. قالَ الآخرون بل الجنَّة الَّتِي أسكنها آدم عند سلف الأمة وأئمتها وأهل السّنة والجَماعَة هي جنَّة الخلد ومن قالَ إنها كانَت جنَّة في الأرض بِأرْض الهِنْد أو بِأرْض جدة أوْ غير ذَلِك فَهو من المتفلسفة والملحدين والمعتزلة أوْ من إخوانهم المُتَكَلِّمين المبتدعين فَإن هَذا يَقُوله من يَقُوله من المتفسلفة والمعتزلة والكتاب يرد هَذا القَوْل وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هَذا القَوْل قالَ تَعالى ﴿وَإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ أبى واسْتَكْبَرَ وكانَ مِنَ الكافِرِينَ (٣٤) وقُلْنا ياآدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ وكُلا مِنها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما ولا تَقْرَبا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ (٣٥) فَأزَلَّهُما الشَّيْطانُ عَنْها فَأخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ وقُلْنا اهْبِطُوا بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ولَكم في الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتاعٌ إلى حِينٍ (٣٦)﴾ فقد أخبر سُبْحانَهُ أنه أمرهم بالهبوط وأن بَعضهم لبَعض عَدو ثمَّ قالَ ﴿وَلكم في الأرض مُسْتَقر ومتاع إلى حِين﴾ وهَذا بَين أنهم لم يَكُونُوا في الأرض وإنَّما أهبطوا إلى الأرض فَإنَّهُم لَو كانُوا في الأرض وانتقلوا مِنها إلى أرْض أخرى كَما انْتقل قوم مُوسى من أرْض إلى أرْض كانَ مستقرهم ومتاعهم إلى حِين في الأرض قبل الهبوط كَما هو بعده. وَهَذا باطِل قالُوا وقد قالَ تَعالى في سُورَة الأعراف لما قالَ إبْلِيس ﴿أنا خير مِنهُ خلقتني من نار وخلقته من طين قالَ فاهبط مِنها فَما يكون لَك أن تتكبر فِيها فاخرج إنك من الصاغرين﴾ يبين اخْتِصاص الجنَّة الَّتِي في السَّماء بِهَذا الحكم بِخِلاف جنَّة الأرض فَإن إبليس كانَ غير مَمْنُوع من التكبر فِيها، والضَّمِير في قَوْله ﴿مِنها﴾ عائِد إلى مَعْلُوم وإن كانَ غير مَذْكُور في اللَّفْظ لأن العلم بِهِ أغْنى عَن ذكره. قالُوا وهَذا بِخِلاف قَوْله ﴿اهبطوا مصرا فَإن لكم ما سَألْتُم﴾ فَإنَّهُ لم يذكر هُنا ما اهبطوا مِنهُ وإنَّما ذكر ما أهبطوا إليه بِخِلاف إهباط إبليس فَإنَّهُ ذكر مبدأ هُبُوطه وهو الجنَّة، والهبوط يكون من علو إلى سفل، وبَنُو إسرائيل كانُوا بجبال السراة المشرفة على مصر الَّذِي يهبطون إليه، ومن هَبَط من جبل إلى واد قيل لَهُ أهبط. قالُوا: وأيْضًا فبنو إسرائيل كانُوا يَسِيرُونَ ويرحلون، والَّذِي يسير ويرحل إذا جاءَ بَلْدَة يُقال نزل فِيها لأن من عادَته أن يركب في مسيره فَإذا وصل نزل عَن دوابه، ويُقال نزل العَدو بِأرْض كَذا ونزل القفل ونَحْوه. وَلَفظ النُّزُول كَلَفْظِ الهبوط فَلا يسْتَعْمل نزل وهَبَطَ إلا إذا كانَ من علو إلى سفل وقالَ تَعالى عقب قَوْله ﴿اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو ولكم في الأرض مُسْتَقر ومتاع إلى حِين قالَ فِيها تحيون وفيها تموتون ومِنها تخرجُونَ﴾ فَهَذا دَلِيل على أنهم لم يَكُونُوا قبل ذَلِك في مَكان فِيهِ يحيون وفِيه يموتون ومِنه يخرجُون، والقُرْآن صَرِيح في أنهم إنما صارُوا إليه بعد الإهباط. قالُوا ولَو لم يكن في هَذِه إلا قصَّة آدم ومُوسى لكانَتْ كافِيَة فَإن مُوسى إنَّما لامَ آدم عَلَيْهِ السَّلام لما حصل لَهُ ولذريته من الخُرُوج من الجنَّة من النكد والمَشَقَّة، فَلَو كانَت بستانا في الأرض لَكانَ غَيره من بساتين الأرض يعوض عَنهُ، ومُوسى أعظم قدرا من أن يلومه على أن أخرج نَفسه وذريته من بُسْتان في الأرض. قالُوا وكَذَلِكَ قَول آدم يَوْم القِيامَة لما يرغب إليه النّاس أن يستفتح لَهُم باب الجنَّة فَيَقُول: "وَهل أخرجكم مِنها إلا خَطِيئَة أبيكم" فَإن ظُهُور هَذا في كَونها جنَّة الخلد وأنه اعتذر لَهُم بأنه لا يحسن مِنهُ أن يستفتحها وقد أخرج مِنها بخطيئته من أظهر الأدلة. قالَ الأولون أما قَوْلكُم إن من قالَ إنها جنَّة في الأرض فَهو من المتفلسفة والملحدين والمعتزلة أوْ من إخوانهم فقد أوجدناكم من قالَ بِهَذا ولَيْسَ من أحد من هَؤُلاءِ ومشاركة أهل الباطِل للمحق في المسألة لا يدل على بُطْلانها ولا تكون إضافتها لَهُم مُوجبَة لبطلانها ما لم يخْتَص بها فَإن أردتم أنه لم يقل بذلك إلّا هَؤُلاءِ فَلَيْسَ كَذَلِك، وإن أردتم أن هَؤُلاءِ من جملَة القائمين بِهَذا لم يفدكم شَيْئا. قالُوا: وأما قَوْلكُم وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هَذا القَوْل فَنحْن نطالبكم بِنَقْل صَحِيح عَن واحِد من الصَّحابَة ومن بعدهمْ من أئمة السّلف فضلا عَن اتِّفاقهم. قالُوا: ولا يُوجد عَن صاحب ولا تابع ولا تابع تابع خبر يَصح مَوْصُولا ولا شاذا ولا مَشْهُورا أن النَّبِي ﷺ قالَ إن الله تَعالى أسكن آدم جنَّة الخلد الَّتِي هي دار المُتَّقِينَ يَوْم المعاد. قالُوا وهَذا القاضِي مُنْذر بن سعيد قد حكى عَن غير واحِد من السّلف أنها لَيست جنَّة الخلد فَقالَ ونحن نوجدكم أن أبا حنيفَة فَقِيه العراق ومن قالَ بقوله قد قالُوا إن جنَّة آدم الَّتِي خلقها الله لَيست جنَّة الخلد، ولَيْسوا عند أحد من العالمين من الشاذين بل من رُؤَساء المُخالفين، وهَذِه الدَّواوِين مشحونة من علومهم. وَقد ذكرنا قَول ابْن عُيَيْنَة وقد ذكر ابْن مزين في تَفْسِيره قالَ سَألت ابْن نافِع عَن الجنَّة أمخلوقة؟ فَقالَ السُّكُوت عَن هَذا أفضل. قالُوا: فَلَو كانَ عند ابْن نافِع أن الجنة الَّتِي أسكنها آدم هي جنَّة الخلد لم يشك أنها مخلوقة ولم يتَوَقَّف في ذَلِك. وَقالَ ابْن قُتَيْبَة في كِتابه غَرِيب القُرْآن في قوله تَعالى: ﴿وَقُلْنا اهبطوا مِنها﴾ قالَ ابْن عَبّاس رضى الله عَنْهُما في رِوايَة أبي صالح هو كَما يُقال هَبَط فلان أرْض كَذا وكَذا ولم يذكر في كِتابه غَيره فَأيْنَ إجماع سلف الأمة وأئمتها؟ قالُوا وأما احتجاجكم بقوله تَعالى: ﴿وَلكم في الأرض مُسْتَقر﴾ عقيب قَوْله ﴿اهبطوا﴾ فَهَذا لا يدل على أنهم كانُوا في جنَّة الخلد فإن أحد الأقوال في المسألة أنها كانَت جنَّة في السَّماء غير جنَّة الخلد كَما حَكاهُ الماوَرْدِيّ في تفسره وقد تقدم. وَأيْضًا فَإن قَوْله ﴿وَلكم في الأرض مُسْتَقر﴾ يدل على أن لَهُم مُسْتَقرًّا إلى حِين في الأرض المنقطعة عَن الجنَّة ولا بُد فَإن الجنَّة أيضا لَها أرْض قالَ تَعالى عَن أهل الجنَّة ﴿وَقالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وعْدَهُ وأوْرَثَنا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أجْرُ العامِلِينَ (٧٤)﴾ فَدلَّ على أن قَوْله ﴿وَلكم في الأرض مُسْتَقر﴾ المُراد بِهِ الأرض الخالية من تِلْكَ الجنَّة لا كل ما يُسمى أرضا وكانَ مستقرهم الأول في أرْض الجنَّة ثمَّ صار في أرْض الِابْتِلاء والامتحان ثمَّ يصير مُسْتَقر المُؤمنِينَ يَوْم الجَزاء أرْض الجنَّة أيضا، فَلا تدل الآية على أن جنَّة آدم هي جنَّة الخلد. قالُوا وهَذا هو الجَواب بِعَيْنِه عَن استدلالكم بقوله تَعالى: ﴿قالَ فِيها تحيون وفيها تموتون ومِنها تخرجُونَ﴾ فإن المُراد بِهِ الأرض الَّتِي اهبطوا إليها وجعلت مسكنا لَهُم بدل الجنَّة، وهَذا تَفْسِير المستقر المَذْكُور في البَقَرَة مَعَ تضمنه ذكر الإخراج مِنها. قالُوا: وأما قوله تَعالى لإبليس ﴿اهبط مِنها فَما يكون لَك أن تتكبر فِيها﴾ وقولكم إن هَذا إنما هو في الجنَّة الَّتِي في السَّماء وإلا فجنة الأرض لم يمْنَع إبليس من التكبر فِيها فَهو دَلِيل لنا في المسألة فَإن جنَّة الخلد لا سَبِيل لإبليس إلى دُخُولها والتكبر فِيها أصلا، وقد أخبر تَعالى أنه وسوس لآدم وزوجه وكذبهما وغرهما وخانهما وتكبر عَلَيْهِما وحسدهما وهما حِينَئِذٍ في الجنَّة، فَدلَّ على أنها لم تكن جنَّة الخلد، ومحال أن يصعد إليها بعد إهباطه وإخراجه مِنها. قالُوا والضَّمِير في قَوْله ﴿اهبطوا مِنها﴾ إمّا أن يكون عائِدًا إلى السَّماء كَما هو أحد القَوْلَيْنِ. وعَلى هَذا فَيكون سُبْحانَهُ قد أهبطه من السَّماء عقب امْتِناعه من السُّجُود، وأخْبر أنه لَيْسَ لَهُ أن يتكبر ثمَّ تكبر وكذب وخان في الجنَّة، فَدلَّ على أنها لَيست في السَّماء، أوْ يكون عائِدًا إلى الجنَّة على القَوْل الآخر. وَلا يلْزم من هَذا القَوْل أن تكون الجنَّة الَّتِي كان فِيها آدم وغره وقاسمه كاذِبًا في تِلْكَ الَّتِي أهبط مِنها بل القُرْآن يدل على أنها غَيرها كَما ذَكرْناهُ. فعلى التَّقْدِيرَيْنِ لا تدل الآية على أن الجنَّة الَّتِي جرى لآدم مَعَ إبليس ما جرى فِيها هي جنَّة الخلد. قالُوا: وأما قَوْلكُم إن بني إسرائيل كانُوا بجبال السراة المشرفة على الأرض الَّتِي يهبطون وهم كانُوا يَسِيرُونَ ويرحلون فَلذَلِك قيل لَهُم ﴿اهبطوا﴾ فَهَذا حق لا ننازعكم فِيهِ، وهو بِعَيْنِه جَواب لنا فَإن الهبوط يدل على أن تِلْكَ الجنَّة كانَت أعلى من الأرض الَّتِي اهبطوا إليها. وأما كَونها جنَّة الخلد فَلا. قالُوا: والفرق بَين قَوْله ﴿اهبطوا مصرا﴾ وقَوله ﴿اهبطوا مِنها﴾ فَإن الأول لنهاية الهبوط وغايته، وهبطوا مِنها مُتَضَمّن لمبدئه وأوله لا تَأْثِير لَهُ فِيما نَحن فِيهِ، فَإن هَبَط من كَذا إلى كَذا يتَضَمَّن معنى الِانْتِقال من مَكان عال إلى مَكان سافل، فَأي تَأْثِير لابتداء الغايَة ونهايتها في تعْيين مَحل الهبوط بِأنَّهُ جنَّة الخلد؟ قالُوا: وأما قصَّة مُوسى ولومه لآدَم على إخراجه من الجنَّة فَلا يدل على أنَّها جنَّة الخلد، وقولكم لا يظنّ بمُوسى أنه يلوم آدم على إخْراجه نَفسه وذريته من بُسْتان في الأرض تشنيع لا يُفِيد شَيْئا أفَترى كانَ ذَلِك بستانا مثل آحاد هَذِه البَساتِين المقطوعة المهوعة الَّتِي هي عرضة الآفات والتعب والنّصب والظمأ والحرث والسقي والتلقيح وسائِر وُجُوه النصب الَّذِي يلْحق هَذِه البَساتِين؟ وَلا ريب أن مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام أعلم وأجل من أن يلوم آدم على خُرُوجه وإخْراج بنيه من بُسْتان هَذا شَأْنه، ولَكِن من قالَ بِهَذا وإنَّما كانَت جنَّة لا يلْحقها آفَة ولا تَنْقَطِع ثمارها ولا تغور أنهارها ولا يجوع ساكنها ولا يظمأ ولا يضحى للشمس ولا يعرى، ولا يمسهُ فِيها التَّعَب والنّصب والشقاء، ومثل هَذِه الجنَّة يحسن لوم الإنسان على التَّسَبُّب في خُرُوجه مِنها. قالُوا: وأما اعتذار آدم عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام يَوْم القِيامَة لأهل الموقف بِأن خطيئته هي الَّتِي أخرجته من الجنَّة فَلا يحسن أن يستفتحها لَهُم، فَهَذا لا يسْتَلْزم أن تكون هي بِعَينها الَّتِي أخرج مِنها بل إذا كانَت غَيرها كانَ أبلغ في الِاعْتِذار فَإنَّهُ إذا كانَ الخُرُوج من غير جنَّة الخلد حصل بِسَبَب الخَطِيئَة فَكيف يَلِيق استفتاح جنَّة الخلد والشفاعة فِيها ثمَّ خرج من غَيرها بخطيئة؟ فَهَذا موقف نظر الفَرِيقَيْنِ ونِهايَة أقْدام الطّائِفَتَيْنِ فَمن كانَ لَهُ فضل علم في هَذِه المسألة فليجد بِهِ، فَهَذا وقت الحاجة إليه ومن علم مُنْتَهى خطوته ومِقْدار بضاعته فليكل الأمر إلى عالمه ولا يرضى لنَفسِهِ بالتنقيص والإزراء عَلَيْهِ، وليكن من أهل التلول الَّذين هم نظارة الحَرْب إذا لم يكن من أهل الكر والفر والطعن والضَّرْب، فقد تلاقت الفحول وتطاعنت الأقران وضاق بهم المجال في حلبة هَذا الميدان ؎إذا تلاقى الفحول في لجب ∗∗∗ فَكيف حال الغصيص في الوسط هَذِه معاقد حجج الطّائِفَتَيْنِ مجتازة ببابك وإليك تساق وهَذِه بضائع تجار العلماء يُنادي عَلَيْها في سوق الكساد لا في سوق النّفاق، فَمن لم يكن لَهُ بِهِ شَيْء من أسباب البَيان والتبصرة فَلا يعْدم من قد استفرغ وسعه وبذل جهده مِنهُ التصويب والمعذرة، ولا يرضى لنَفسِهِ بشر الخطتين وأبخس الحظين، جهل الحق وأسبابه ومعاداة أهله وطلابه، وإذا عظم المَطْلُوب وأعوزك الرفيق الناصح العَلِيم، فارحل بهمتك من بَين الأموات، وعَلَيْك بمعلم إبْراهِيم فقد ذكرنا في هَذِه المسألة من النقول والأدلة والنكت البديعة ما لَعَلَّه لا يُوجد في شَيْء من كتب المصنفين، ولا يعرف قدره إلا من كانَ من الفُضَلاء المنصفين. وَمن الله سُبْحانَهُ الاستمداد، وعَلِيهِ التَّوَكُّل وإليه الِاسْتِناد، فَإنَّهُ لا يخيب من توكل عَلَيْهِ، ولا يضيع من لاذَ بِهِ وفوض أمره إليه، وهو حَسبنا ونعم الوَكِيل. * (فصل) وَلما أهبطه سُبْحانَهُ من الجنَّة وعرضه وذريته لأنواع المحن والبَلاء أعطاهم أفضل مِمّا مَنعهم وهو عهده الَّذِي عهد إليه وإلى بنيه وأخْبر أنه من تمسك بِهِ مِنهُم صار إلى رضوانه ودار كرامته قالَ تَعالى عقب إخراجه مِنها ﴿قُلْنا اهْبِطُوا مِنها جَمِيعًا فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ (٣٨)﴾ وَفِي الآية الأخرى ﴿قالَ اهْبِطا مِنها جَمِيعًا بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى (١٢٣) ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (١٢٥) قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى (١٢٦)﴾ فَلَمّا كَسره سُبْحانَهُ بإهباطه من الجنَّة جبره وذريته بِهَذا العَهْد الَّذِي عَهده إليهم فَقالَ تَعالى ﴿فإما يَأْتينكم مني هدى﴾ وهَذِه هي إن الشّرطِيَّة المُؤَكّدَة بِما الدّالَّة على استغراق الزَّمان. والمعْنى أي وقت وأي حِين أتاكم مني هدى، وجعل جَواب هَذا الشَّرْط جملَة شَرْطِيَّة وهِي قَوْله ﴿فَمن اتبع هُدايَ فَلا يضل ولا يشقى﴾ كَما تَقول إن زرتني فَمن بشرني بقدومك فَهو حر. وَجَواب الشَّرْط يكون جملَة تامَّة إما خَبرا مَحْضا كَقَوْلِك أن زرتني أكرمتك، أوْ خَبرا مَقْرُونا بِالشّرطِ كَهَذا، أو مؤكدا بالقسم أوْ بِإنْ واللّام كَقوله تَعالى: ﴿وَإن أطعتموهم إنكم لمشركون﴾ وإما طلبا كَقَوْل النَّبِي ﷺ "إذا سالَتْ فاسأل الله، وإذا استعنت فاسْتَعِنْ بِاللَّه" وَقَوله "وَإذا لقيتموهم فاصْبِرُوا" وَقوله تَعالى: ﴿وَإذا حللتم فاصطادوا﴾، ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشهر الحرم فاقْتُلُوا المُشْركين حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ وأكْثر ما يَأْتِي هَذا النَّوْع مَعَ إذا الَّتِي تفِيد تَحْقِيق وُقُوع الشَّرْط لسر وهو إفادته تحقيق الطلب عند تَحْقِيق الشَّرْط فَمَتى تحقق الشَّرْط فالطلب مُتَحَقق، فَأتى بـ (إذا) الدّالَّة على تَحْقِيق الشَّرْط فَعلم تَحْقِيق الطّلب عِنْدها. وَقد يَأْتِي مَعَ (إنْ) قَلِيلا كَقوله تَعالى: ﴿وَإن كَذبُوك فَقل لي عَمَلي ولكم عَمَلكُمْ﴾ وإما جملَة إنشائية كَقَوْلِه لعَبْدِهِ الكافِر: إن أسلمت فأنت حر، ولأمرأته: إن فعلت كَذا فأنت طالِق. فَهَذا إنشاء لِلْعِتْقِ والطَّلاق عند وجود الشَّرْط على رَأْي أوْ إنشاء لَهُ حال التَّعْلِيق ويتأخر نُفُوذه إلى حِين وجود الشَّرْط على رَأْي آخر. وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فجواب الشَّرْط جملَة إنشائية والمَقْصُود أن جَواب الشَّرْط في الآية المَذْكُورَة جملَة شَرْطِيَّة وهِي قَوْله ﴿فَمن تبع هُدايَ فلا خوف عَلَيْهِم ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ وهَذا الشَّرْط يقتضي ارتباط الجُمْلَة الأولى بِالثّانِيَةِ ارتباط العلَّة بالمعلول والسَّبَب بالمسبب، فَيكون الشَّرْط الَّذِي هو ملزوم عِلّة ومقتضيا للجزاء الَّذِي هو لازم فَإن كانَ بَينهما تلازم من الطَّرفَيْنِ كانَ وجود كل مِنهُما بِدُونِ دُخُول الآخر مُمْتَنعا كدخول الجنَّة بالإسلام وارتفاع الخَوْف والحزن والضلال والشقاء مَعَ مُتابعَة الهوى، وهَذِه هي عامَّة شُرُوط القُرْآن والسّنة فَإنَّها أسباب وعلل، والحكم ينتفى بِانْتِفاء علته. وَإن كانَ التلازم بَينهما من أحد الطَّرفَيْنِ كانَ الشَّرْط ملزوما خاصّا والجَزاء لازِما عاما، فَمَتى تحقق الشَّرْط المَلْزُوم الخاص تحقق الجَزاء اللّازِم العام، ولا يلْزم العَكْس كَما يُقال: إن كانَ هَذا إنسانا فَهو حَيَوان، وإن كانَ البيع صَحِيحا فالملك ثابت. وَهَذا غالب ما يَأْتِي في قِياس الدّلالَة حَيْثُ يكون الشَّرْط دَلِيلا على الجَزاء فَيلْزم من وجوده وجود الجَزاء، لأن الجَزاء لازمه ووُجُود المَلْزُوم يسْتَلْزم وجود اللّازِم، ولا يلْزم من عَدمه عدم الجَزاء، وإن وقع هَذا الشَّرْط بَين عِلّة ومعلول فَإن كانَ الحكم مُعَللا بعلل صَحَّ ذَلِك وجاز أن يكون الجَزاء أعم من الشَّرْط كَقَوْلِك: إن كانَ هَذا مُرْتَدا فَهو حَلال الدَّم، فَإن حل الدَّم أعم من حلّه بِالرّدَّةِ إلّا أن يُقال إن حكم العلَّة المعينَة ينتفي بانتفائها، وإن ثَبت الحكم بعلة أخرى فَهو حكم آخر. وأما حكم العلَّة المعينَة فمحال أن ينفي مَعَ زَوالها، وحِينَئِذٍ فَيَعُود التلازم من الطَّرفَيْنِ ويلْزم من وجود كل واحِد من الشَّرْط والجَزاء وجود الآخر، ومن عَدمه عَدمه. وَتَمام تَحْقِيق هَذا في مسألة تَعْلِيل الحكم الواحِد بعلتين، ولِلنّاسِ فِيهِ نزاع مَشْهُور. وَفصل الخطاب فِيها أن الحكم الواحِد إن كانَ واحِدًا بالنوع كحل الدَّم وثُبُوت الملك ونقض الطَّهارَة جازَ تَعْلِيله بالعلل المُخْتَلفَة. وَإن كانَ واحِدًا بِالعينِ كحل الدَّم بِالرّدَّةِ وثُبُوت الملك بِالبيعِ أو الميراث ونَحْو ذَلِك لم يجز تَعْلِيله بعلتين مختلفتين. وبِهَذا التَّفْصِيل يَزُول الِاشْتِباه في هَذِه المَسْألَة. والله أعْلَم. وَمن تَأمل أدلة الطّائِفَتَيْنِ وجد كل ما احْتج بِهِ من رأى تَعْلِيل الحكم بعلل مُخْتَلفَة إنَّما يدل على تَعْلِيل الواحِد بالنوع بها، وكل من نفى تَعْلِيل الحكم بعلتين إنَّما يتم دَلِيله على نفي تَعْلِيل الواحِد بِالعينِ بهما فالقولان عند التَّحْقِيق يرجعان إلى شَيْء واحِد. والمَقْصُود أن الله سُبْحانَهُ جعل اتِّباع هداه وعَهده الَّذِي عَهده إلى آدم سَببا ومقتضيا لعدم الخَوْف والحزن والضلال والشقاء، وهَذا الجَزاء ثابت بِثُبُوت الشَّرْط مُنْتَفٍ بانتفائه كَما تقدم بَيانه. وَنفي الخَوْف والحزن عَن مُتبع الهدى نفي لجَمِيع أنواع الشرور، فَإن المَكْرُوه الَّذِي ينزل بِالعَبدِ مَتى علم بحصوله فَهو خائِف مِنهُ أن يَقع بِهِ، وإذا وقع بِهِ فَهو حَزِين على ما أصابَهُ مِنهُ فَهو دائِما في خوف وحزن، وكل خائِف حَزِين فَكل حَزِين خائِف، وكل من الخَوْف والحزن يكون على فعل المحبوب وحُصُول المَكْرُوه، فالأقسام أربعة خوف من فَوت المحبوب، وحُصُول المَكْرُوه، وهَذا جماع الشَّرّ كُله فنفى الله سُبْحانَهُ ذَلِك عَن مُتبع هداه الَّذِي أنزلهُ على ألسنة رسله، وأتى في نفي الخَوْف بِالِاسْمِ الدّال على نفي الثُّبُوت واللزوم فَإن أهل الجنَّة لا بُد لَهُم من الخَوْف في الدُّنْيا وفي البرزخ ويَوْم القِيامَة حَيْثُ يَقُول آدم وغَيره من الأنبياء "نَفسِي نَفسِي" فَأخْبر سُبْحانَهُ أنهم وإن خافُوا فَلا خوف عَلَيْهِم أي لا يلحقهم الخَوْف الَّذِي خافُوا مِنهُ، وأتى في نفي الحزن بِالفِعْلِ المُضارع الدّال على نفي التجدد والحدوث أي لا يلحقهم حزن ولا يحدث لَهُم إذا لم يذكرُوا ما سلف مِنهُم بل هم في سرُور دائِم لا يعرض لَهُم حزن على ما فاتَ. وَأما الخَوْف فَلَمّا كانَ تعلقه بالمستقبل دون الماضِي نفي لُحُوقه لَهُم جملَة أي الَّذِي خافُوا مِنهُ لا ينالهم ولا يلم بهم والله أعْلَم. فالحزين إنَّما يحزن في المُسْتَقْبل على ما مضى، والخائف إنَّما يخاف في الحال مِمّا يسْتَقْبل. ﴿فَلا خوف عَلَيْهِم﴾ أي لا يلحقهم ما خافُوا مِنهُ، ولا يعرض لَهُم حزن على ما فاتَ. وَقالَ في الآية الأخرى ﴿فَمن اتبع هُدايَ فَلا يضل ولا يشقى﴾ فنفى عَن مُتبع هداه أمرين الضلال والشقاء قالَ عبد الله بن عَبّاس رضى الله عَنْهُما تكفل الله لمن قَرَأ القُرْآن وعمل بِما فِيهِ أن لا يضل في الدُّنْيا ولا يشقى في الآخرة ثمَّ قَرَأ ﴿فَإما يأتينكم مني هدى فَمن اتبع هُدايَ فَلا يضل ولا يشقى﴾ والآية نفت مُسَمّى الضلال والشقاء عَن مُتبع الهدى مُطلقًا فاقتضت الآية أنه لا يضل في الدُّنْيا ولا يشقى ولا يضل في الآخرة ولا يشقى فِيها، فَإن المَراتِب أربعة: هدى وشقاوة في الدُّنْيا، وهدى وشقاوة في الآخرة، لَكِن ذكر ابْن عَبّاس رضى الله عَنْهُما في كل دار أظهر مرتبتيها فَذكر الضلال في الدُّنْيا إذْ هو أظهر لنا وأقرب من ذكر الضلال في الآخرة. وَأيْضًا فضلال الدُّنْيا أضل ضلال في الآخرة، وشقاء الآخرة مُسْتَلْزم للضلال فِيها فنبه بِكُل مرتبَة على الأُخْرى، فنبه بِنَفْي ضلال الدُّنْيا على نفي ضلال الآخرة، فَإن العَبْد يَمُوت على ما عاشَ عَلَيْهِ، ويبْعَث على ما ماتَ عَلَيْهِ قالَ الله تَعالى في الآية الأُخْرى ﴿وَمَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (١٢٥) قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى (١٢٦)﴾ وَقالَ في الآية الأخرى ﴿وَمَن كانَ في هَذِهِ أعْمى فَهو في الآخِرَةِ أعْمى وأضَلُّ سَبِيلًا﴾ فَأخْبر أن من كانَ في هَذِه الدّار ضالًّا فَهو في الآخرة أضل. وأما نفي شقاء الدُّنْيا فقد يُقال إنه لما انْتَفى عَنهُ الضلال فِيها وحصل لَهُ الهدى والهدى فِيهِ من برد اليَقِين وطمأنينة القلب وذاق طعم الإيمان فَوجدَ حلاوته وفرحة القلب بِهِ وسروره والتنعيم بِهِ ومصير القلب حَيا بالإيمان مستنيرا بِهِ قَوِيا بِهِ قد نالَ بِهِ غذاؤه ورواءه وشفاءه وحياته ونوره وقوته ولذته ونعيمه ما هو من أجل أنواع النَّعيم وأطيب الطَّيِّبات وأعظم اللَّذّات قالَ الله تَعالى ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)﴾ فَهَذا خبر أصدق الصّادِقين ومخبره عند أهله عين اليَقِين بل هو حق اليَقِين، ولا بُد لكل من عمل صالحا أن يحييه الله حَياة طيبَة بِحَسب إيمانه وعَمله، ولَكِن يغلط الجفاة الأجلاف في مُسَمّى الحَياة حَيْثُ يظنونها التنعم في أنْواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح، أوْ لَذَّة الرياسة والمال وقهر الأعداء والتفنن بأنواع الشَّهَوات. وَلا ريب أن هَذِه لَذَّة مُشْتَركَة بَين البَهائِم بل قد يكون حَظّ كثير من البَهائِم مِنها أكثر من حَظّ الإنسان، فَمن لم تكن عِنْده لَذَّة إلا اللَّذَّة الَّتِي تشاركه فِيها السباع والدَّواب والأنعام فَذَلِك مِمَّن يُنادى عَلَيْهِ من مَكان بعيد، ولَكِن أيْنَ هَذِه اللَّذَّة من اللَّذَّة بِأمْر إذا خالط بشاشته القُلُوب سلى عَن الأبناء والنِّساء والأوطان والأموال والإخوان والمساكن ورضى بِتَرْكِها كلها والخُرُوج مِنها رَأْسا، وعرض نَفسه لأنواع المكاره والمشاق وهو متحل بِهَذا منشرح الصَّدْر بِهِ يطيب لَهُ قتل ابْنه وأبِيهِ وصاحبته وأخيه لا تَأْخُذهُ في ذَلِك لومة لائم حَتّى أن أحدهم ليتلقى الرمْح بصدره ويَقُول: فزت ورَبِّ الكَعْبَة، ويستطيل الآخر حَياته حَتّى يلقي قوته من يَده ويَقُول: إنها لحياة طَوِيلَة إن صبرت حَتّى آكلها ثمَّ يتَقَدَّم إلى المَوْت فَرحا مَسْرُورا. وَيَقُول الآخر مَعَ فقره لَو علم المُلُوك وأبناء المُلُوك ما نَحن عَلَيْهِ لجالدونا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ. وَيَقُول الآخر إنه ليمر بِالقَلْبِ أوقات يرقص فِيها طَربا. وَقالَ بعض العارفين إنه لتمر بِي أوقات أقول فِيها إن كانَ أهل الجنَّة في مثل هَذا إنهم لفي عَيْش طيب. وَمن تَأمل قَول النَّبِي ﷺ لما نَهاهُم عَن الوِصال فَقالُوا إنك تواصل فَقالَ "إني لست كهيئتكم إنِّي أظل عند رَبِّي يطعمني ويسقيني" علم أن هَذا طَعام الأرواح وشرابها وما يفِيض عَلَيْها من أنْواع البَهْجَة واللذة والسُّرُور والنَّعِيم الَّذِي رَسُول الله ﷺ في الذرْوَة العليا مِنهُ، وغَيره إذا تعلق بغباره رأى ملك الدُّنْيا ونَعِيمها بِالنِّسْبَةِ إليه هباء منثورا بل باطِلا وغرورا. وَغلط من قالَ إنه كانَ يَأْكُل ويشْرب طَعاما وشَرابًا يغتذى بِهِ بدنه لوجوه: أحدها أنه قالَ أظل عند رَبِّي يطعمني ويسقيني، ولَو كانَ أكلا وشربا لم يكن وصالا ولا صوما. الثّانِي أن النَّبِي ﷺ أخبرهم أنهم لَيْسُوا كَهَيْئَته في الوِصال، فَإنَّهُم إذا واصلوا تضرروا بذلك. وأما هو فَإنَّهُ إذا واصل لا يتَضَرَّر بالوصال، فَلَو كانَ يَأْكُل ويشْرب لَكانَ الجَواب وأنا أيضا لا أواصل بل آكل وأشرب كَما تَأْكُلُونَ وتشربون، فَلَمّا قررهم على قَوْلهم إنك تواصل ولم يُنكره عَلَيْهِم دلّ على أنه كانَ مواصلا وأنه لم يكن يَأْكُل أكلا وشربا يفْطر الصّائِم. الثّالِث أنه لَو كانَ أكلا وشربا يفْطر الصّائِم لم يَصح الجَواب بالفارق بَينهم وبَينه فَإنَّهُ حِينَئِذٍ يكون هو وهم مشتركون في عدم الوِصال فَكيف يَصح الجَواب بقوله "لست كهيئتكم" وهَذا أمْر يُعلمهُ غالب النّاس أن القلب مَتى حصل لَهُ ما يفرحه ويسره من نيل مَطْلُوبه ووصال حَبِيبه أوْ ما يغمه ويسؤوه ويحزنه شغل عَن الطَّعام والشراب حَتّى أن كثيرا من العشاق تمر بِهِ الأيام لا يَأْكُل شَيْئا ولا تطلب نَفسه أكلا وقد أفصح القائِل في هَذا المَعْنى ؎لَها أحاديث من ذكراك تشغلها ∗∗∗ عَن الشَّراب وتلهيها عَن الزّاد ؎لَها بِوَجْهِك نور تستضيء بِهِ ∗∗∗ ومن حَدِيثك في أعقابها حادي ؎إذْ اشتكت من كلال السّير أوْ عدها ∗∗∗ روح القدوم فتحيا عند ميعاد والمَقْصُود أن الهدى مُسْتَلْزم لسعادة الدُّنْيا وطيب الحَياة والنَّعِيم العاجل وهو أمر يشْهد بِهِ الحس والوجد وأما سَعادَة الآخرة فغيب يعلم بالإيمان فَذكرها ابْن عَبّاس رضى الله عَنْهُما لكَونها أهم وهِي الغايَة المَطْلُوبَة وضلال الدُّنْيا أظهر وبالنجاة مِنهُ ينجو من كل شَرّ وهو أضل ضلال الآخرة وشقائها فَلذَلِك ذكره وحده والله أعْلَم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب