الباحث القرآني

﴿قُلْنا﴾: اسْتِئْنافٌ؛ مَبْنِيٌّ عَلى سُؤالٍ يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ الكَلامُ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا وقَعَ بَعْدَ قَبُولِ تَوْبَتِهِ؟ فَقِيلَ: ﴿قُلْنا اهْبِطُوا مِنها جَمِيعًا﴾؛ كُرِّرَ الأمْرُ بِالهُبُوطِ إيذانًا بِتَحَتُّمِ مُقْتَضاهُ؛ وتَحَقُّقِهِ لا مَحالَةَ؛ ودَفْعًا لِما عَسى يَقَعُ في أُمْنِيَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِنَ اسْتِتْباعِ قَبُولِ التَّوْبَةِ لِلْعَفْوِ عَنْ ذَلِكَ؛ وإظْهارًا لِنَوْعِ رَأْفَةٍ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ لِما بَيْنَ الأمْرَيْنِ مِنَ الفَرْقِ النَّيِّرِ؛ كَيْفَ لا.. والأوَّلُ مَشُوبٌ بِضَرْبِ سُخْطٍ؛ مُذَيَّلٌ بِبَيانِ أنَّ مَهْبِطَهم دارُ بَلِيَّةٍ؛ وتَعادٍ؛ لا يُخَلَّدُونَ فِيها؛ والثّانِي مَقْرُونٌ بِوَعْدِ إيتاءِ الهُدى؛ المُؤَدِّي إلى النَّجاةِ؛ والنَّجاحِ؟ وأمّا ما فِيهِ مِن وعِيدِ العِقابِ فَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ مِنَ التَّكْلِيفِ قَصْدًا أوَّلِيًّا؛ بَلْ إنَّما هو دائِرٌ عَلى سُوءِ اخْتِيارِ المُكَلَّفِينَ؛ قِيلَ: وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الحازِمَ يَكْفِيهِ في الرَّدْعِ عَنْ مُخالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ (تَعالى) مَخافَةُ الإهْباطِ؛ المُقْتَرِنِ بِأحَدِ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ؛ فَكَيْفَ بِالمُقْتَرِنِ بِهِما؟ فَتَأمَّلْ. وقِيلَ: الأوَّلُ: مِنَ الجَنَّةِ إلى السَّماءِ الدُّنْيا؛ والثّانِي: مِنها إلى الأرْضِ؛ ويَأْباهُ التَّعَرُّضُ لِاسْتِقْرارِهِمْ في الأرْضِ في الأوَّلِ. ورُجُوعُ الضَّمِيرِ (p-93) إلى الجَنَّةِ في الثّانِي. و"جَمِيعًا": حالٌ في اللَّفْظِ؛ وتَأْكِيدٌ في المَعْنى؛ كَأنَّهُ قِيلَ: "اهْبِطُوا أنْتُمْ أجْمَعُونَ"؛ ولِذَلِكَ لا يَسْتَدْعِي الِاجْتِماعَ عَلى الهُبُوطِ في زَمانٍ واحِدٍ؛ كَما في قَوْلِكَ: جاؤُوا جَمِيعًا؛ بِخِلافِ قَوْلِكَ: جاؤُوا مَعًا. ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى﴾: الفاءُ لِتَرْتِيبِ ما بَعْدَها عَلى الهُبُوطِ المَفْهُومِ مِنَ الأمْرِ بِهِ؛ و"إمّا": مُرَكَّبَةٌ مِن "إنْ" الشَّرْطِيَّةِ؛ و"ما" المَزِيدَةِ؛ المُؤَكِّدَةِ لِمَعْناها؛ والفِعْلُ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِالشَّرْطِ؛ لِأنَّهُ مَبْنِيٌّ لِاتِّصالِهِ بِنُونِ التَّأْكِيدِ. وقِيلَ: مُعْرَبٌ مُطْلَقًا؛ وقِيلَ: مَبْنِيٌّ مُطْلَقًا؛ والصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ: إنْ باشَرَتْهُ النُّونُ بُنِيَ؛ وإلّا أُعْرِبَ؛ نَحْوَ: هَلْ يَقُومانِ؟ وتَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلى الفاعِلِ لِما مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ؛ والمَعْنى: إنْ يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى بِرَسُولٍ أبْعَثُهُ إلَيْكُمْ؛ وكِتابٍ أُنْزِلُهُ عَلَيْكم. وجَوابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَمَن تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾؛ كَما في قَوْلِكَ: إنْ جِئْتَنِي فَإنْ قَدِرْتُ أحْسَنْتُ إلَيْكَ. وإيرادُ كَلِمَةِ الشَّكِّ؛ مَعَ تَحْقِيقِ الإتْيانِ لا مَحالَةَ؛ لِلْإيذانِ بِأنَّ الإيمان باللَّهِ والتَّوْحِيدَ لا يُشْتَرَطُ فِيهِ بِعْثَةُ الرُّسُلِ؛ وإنْزالُ الكُتُبِ؛ بَلْ يَكْفِي في وُجُوبِهِ إفاضَةُ العَقْلِ؛ ونَصْبُ الأدِلَّةِ الآفاقِيَّةِ والأنْفُسِيَّةِ؛ والتَّمْكِينُ مِنَ النَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ؛ أوْ لِلْجَرْيِ عَلى سَنَنِ العُظَماءِ في إيرادِ "عَسى"؛ و"لَعَلَّ"؛ في مَواقِعِ القَطْعِ والجَزْمِ؛ والمَعْنى: إنَّ مَن تَبِعَ هُدايَ مِنكم فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ؛ في الدّارَيْنِ؛ مِن لُحُوقِ مَكْرُوهٍ؛ ولا هم يَحْزَنُونَ مِن فَواتِ مَطْلُوبٍ؛ أيْ: لا يَعْتَرِيهِمْ ما يُوجِبُ ذَلِكَ؛ لا أنَّهُ يَعْتَرِيهِمْ ذَلِكَ؛ لَكِنَّهم لا يَخافُونَ؛ ولا يَحْزَنُونَ؛ ولا أنَّهُ لا يَعْتَرِيهِمْ نَفْسُ الخَوْفِ والحُزْنِ أصْلًا؛ بَلْ يَسْتَمِرُّونَ عَلى السُّرُورِ؛ والنَّشاطِ؛ كَيْفَ لا.. واسْتِشْعارُ الخَوْفِ؛ والخَشْيَةِ؛ اسْتِعْظامًا لِجَلالِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - وهَيْبَتِهِ؛ واسْتِقْصارًا لِلْجِدِّ؛ والسَّعْيِ في إقامَةِ حُقُوقِ العُبُودِيَّةِ؛ مِن خَصائِصِ الخَواصِّ؛ والمُقَرَّبِينَ؟ والمُرادُ بَيانُ دَوامِ انْتِفائِهِما؛ لا بَيانُ انْتِفاءِ دَوامِهِما؛ كَما يُتَوَهَّمُ مِن كَوْنِ الخَبَرِ في الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ مُضارِعًا لِما تَقَرَّرَ في مَوْضِعِهِ أنَّ النَّفْيَ - وإنْ دَخَلَ عَلى نَفْسِ المُضارِعِ - يُفِيدُ الدَّوامَ والِاسْتِمْرارَ؛ بِحَسَبِ المَقامِ. وإظْهارُ الهُدى مُضافًا إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ؛ لِتَعْظِيمِهِ؛ وتَأْكِيدِ وُجُوبِ اتِّباعِهِ؛ أوْ لِأنَّ المُرادَ بِالثّانِي ما هو أعَمُّ مِنَ الهِداياتِ التَّشْرِيعِيَّةِ؛ وما ذُكِرَ مِن إفاضَةِ العَقْلِ؛ ونَصْبِ الأدِلَّةِ الآفاقِيَّةِ والأنْفُسِيَّةِ؛ كَما قِيلَ؛ وقُرِئَ: "هُدَيَّ" عَلى لُغَةِ هُذَيْلٍ؛ و"لا خَوْفَ"؛ بِالفَتْحِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب