الباحث القرآني

﴿فَأزَلَّهُما الشَّيْطانُ عَنْها فَأخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ وقُلْنا اهْبِطُوا بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ولَكم في الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتاعٌ إلى حِينٍ﴾ ﴿فَتَلَقّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿قُلْنا اهْبِطُوا مِنها جَمِيعًا فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ . أزَلَّ: مِنَ الزَّلَلِ، وهو عُثُورُ القَدَمِ. يُقالُ: زَلَّتْ قَدَمُهُ، وزَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ. والزَّلَلُ في الرَّأْيِ والنَّظَرِ مَجازٌ، وأزالَ: مِنَ الزَّوالِ، وأصْلُهُ التَّنْحِيَةُ. والهَمْزَةُ في كِلا الفِعْلَيْنِ لِلتَّعْدِيَةِ. الهُبُوطُ: هو النُّزُولُ، مَصْدَرُ هَبَطَ، ومُضارِعُهُ يَهْبِطُ ويَهْبُطُ بِكَسْرِ الباءِ وضَمِّها، والهَبُوطُ بِالفَتْحِ: مَوْضِعُ النُّزُولِ. وقالَ المُفَضَّلُ: الهَبُوطُ: الخُرُوجُ عَنِ البَلْدَةِ، وهو أيْضًا الدُّخُولُ فِيها مِنَ الأضْدادِ، ويُقالُ في انْحِطاطِ المَنزِلَةِ مَجازًا، ولِهَذا قالالفَرّاءُ: الهَبُوطُ: الذُّلُّ، قالَ لَبِيدٌ: ؎إنْ يُغْبَطُوا يُهْبَطُوا يَوْمًا وإنْ أمِرُوا بَعْضٌ: أصْلُهُ مَصْدَرُ بَعَضَ يَبْعَضُ بَعْضًا، أيْ قَطَعَ، ويُطْلَقُ عَلى الجُزْءِ، ويُقابِلُهُ كُلُّ، وهُما مَعْرِفَتانِ لِصُدُورِ الحالِ مِنهُما في فَصِيحِ الكَلامِ، قالُوا: مَرَرْتُ بِبَعْضٍ قائِمًا، وبِكُلٍّ جالِسًا، ويُنْوى فِيهِما الإضافَةُ، فَلِذَلِكَ لا تَدْخُلَ عَلَيْهِما الألِفُ واللّامُ، ولِذَلِكَ خَطَّأُوا أبا القاسِمِ الزَّجّاجِيَّ في قَوْلِهِ: ويُبْدَلُ البَعْضُ مِنَ الكُلِّ، ويَعُودُ الضَّمِيرُ عَلى بَعْضٍ إذا أُرِيدَ بِهِ جَمْعٌ، مُفْرَدًا ومَجْمُوعًا. وكَذَلِكَ الخَبَرُ والحالُ والوَصْفُ يَجُوزُ إفْرادُهُ إذْ ذاكَ وجَمْعُهُ. العَدُوُّ: مِنَ العَداوَةِ، وهي مُجاوَزَةُ الحَدِّ، (p-١٦٠)يُقالُ: عَدا فُلانٌ طَوْرَهُ: إذا جاوَزَهُ، وقِيلَ: العَداوَةُ، التَّباعُدُ بِالقُلُوبِ مِن عُدْوَيِ الجَبَلِ، وهُما طَرَفاهُ، سُمِّيا بِذَلِكَ لِبُعْدِ ما بَيْنَهُما، وقِيلَ: مِن عَدا، أيْ ظَلَمَ، وكُلُّها مُتَقارِبَةٌ في المَعْنى. والعَدُوُّ يَكُونُ لِلْواحِدِ والِاثْنَيْنِ والجَمْعِ، والمُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ، وقَدْ جُمِعَ فَقِيلَ: أعْداءٌ، وقَدْ أُنِّثَ فَقالُوا: عَدُوَّةٌ، ومِنهُ: أيْ عَدُوّاتِ أنْفُسِهِنَّ. وقالَ الفَرّاءُ: قالَتِ العَرَبُ لِلْمَرْأةِ: عَدُوَّةُ اللَّهِ، وطَرَحَ بَعْضُهُمُ الهاءَ. المُسْتَقَرُّ: مُسْتَفْعَلٌ مِنَ القَرارِ، وهو اللُّبْثُ والإقامَةُ، ويَكُونُ مَصْدَرًا وزَمانًا ومَكانًا؛ لِأنَّهُ مِن فِعْلٍ زائِدٍ عَلى ثَلاثَةِ أحْرُفِ، فَيَكُونُ لِما ذُكِرَ بِصُورَةِ المَفْعُولَ، ولِذَلِكَ سُمِّيَتِ الأرْضُ: القَرارَةُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎جادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ∗∗∗ فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرارَةٍ كالدِّرْهَمِ واسْتَفْعَلَ فِيهِ: بِمَعْنى فَعَلَ، اسْتَقَرَّ وقَرَّ بِمَعْنًى. المَتاعُ: البُلْغَةُ، وهو مَأْخُوذٌ مِن مَتَعَ النَّهارُ: إذا ارْتَفَعَ، فَيَنْطَلِقُ عَلى ما يَتَحَصَّلُ لِلْإنْسانِ مِن عَرَضَ الدُّنْيا، ويُطْلَقُ عَلى الزّادِ وعَلى الِانْتِفاعِ بِالنِّساءِ، ومِنهُ، ﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ﴾ [النساء: ٢٤]، ونِكاحُ المُتْعَةِ، وعَلى الكُسْوَةِ، (ومَتِّعُوهُنَّ)، وعَلى التَّعْمِيرِ ﴿يُمَتِّعْكم مَتاعًا حَسَنًا﴾ [هود: ٣]، قالُوا: ومِنهُ أمْتَعَ اللَّهُ بِكَ، أيْ أطالَ اللَّهُ الإيناسَ بِكَ، وكُلُّهُ راجِعٌ لِمَعْنى البُلْغَةِ. الحِينُ: الوَقْتُ والزَّمانُ، ولا يَتَخَصَّصُ بِمُدَّةٍ، بَلْ وُضِعَ المُطْلَقُ مِنهُ. تَلَّقّى: تَفَعَّلَ مِنَ اللِّقاءِ، نَحْوَ تَعَدّى مِنَ العَدْوِ، قالُوا: أوْ بِمَعْنى اسْتَقْبَلَ، ومِنهُ: تَلَقّى فُلانٌ فُلانًا اسْتَقْبَلَهُ. ويَتَلَقّى الوَحْيَ: أيْ يَسْتَقْبِلُهُ ويَأْخُذُهُ ويَتَلَقَّفُهُ، وخَرَجْنا نَتَلَقّى الحَجِيجَ: نَسْتَقْبِلُهم، وقالَ الشَّمّاخُ: ؎إذا ما رايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ∗∗∗ تَلَقّاها عُرابَةُ بِاليَمِينِ وقالَ القَفّالُ: التَّلَقِّي: التَّعَرُّضُ لِلِّقاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ مَوْضِعَ القَبُولِ والأخْذِ، ومِنهُ وإنَّكَ لَتُلَقّى القُرْآنَ، تَلَقَّيْتُ هَذِهِ الكَلِمَةَ مِن فُلانٍ: أخَذْتُها مِنهُ. الكَلِمَةُ: اللَّفْظَةُ المَوْضُوعَةُ لِمَعْنى، والكَلِمَةُ: الكَلامُ، والكَلِمَةُ: القَصِيدَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاشْتِمالِها عَلى الكَلِمَةِ والكَلامِ، ويُجْمَعُ بِحَذْفِ التّاءِ فَيَكُونُ اسْمَ جِنْسٍ، نَحْوَ: نَبْقَةٍ ونَبْقٍ. التَّوْبَةُ: الرُّجُوعُ، تابَ يَتُوبُ تَوْبًا وتَوْبَةً ومَتابًا، فَإذا عُدِّيَ بِعَلى ضُمِّنَ مَعْنى العَطْفِ. تَبِعَ: بِمَعْنى لَحِقَ، وبِمَعْنى تَلا، وبِمَعْنى اقْتَدى. والخَوْفُ: الفَزَعُ، خافَ يَخافُ خَوْفًا وتَخَوَّفَ تَخَوُّفًا، فَأفْزَعَ، ويَتَعَدّى بِالهَمْزِ وبِالتَّضْعِيفِ، ويَكُونُ لِلْأمْرِ المُسْتَقْبَلِ. وأصْلُ الحُزْنِ: غِلَظُ الهَمِّ، مَأْخُوذٌ مِنَ الحُزْنِ: وهو ما غَلُظَ مِنَ الأرْضِ، يُقالُ: حَزِنَ يَحْزَنُ حُزْنًا وحَزَنًا، ويُعَدّى بِالهَمْزَةِ وبِالفُتْحَةِ، نَحْوَ: شُتِرَتْ عَيْنُ الرَّجُلِ، وشَتَرَها اللَّهُ، وفي التَّعْدِيَةِ بِالفَتْحَةِ خِلافٌ، ويَكُونُ لِلْأمْرِ الماضِي. الآيَةُ: العَلامَةُ، ويَجْمَعُ آيًا وآياتٍ، قالَ النّابِغَةُ: ؎تَوَهَّمْتُ آياتٍ لَها فَعَرَفْتُها ∗∗∗ لِسِتَّةِ أعْوامٍ وذا العامُ سابِعُ ووَزْنُها عِنْدَ الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ: فَعْلَةٌ، فَأُعِلَّتِ العَيْنُ وسَلِمَتِ اللّامُ شُذُوذًا والقِياسُ العَكْسُ. وعِنْدَ الكِسائِيِّ: فاعِلَةٌ، حُذِفَتِ العَيْنُ لِئَلّا يَلْزَمُ فِيهِ مِنَ الإدْغامِ ما لَزِمَ في دابَّةٍ، فَتَثْقُلُ، وعِنْدَ الفَرّاءِ: فَعْلَةٌ، فَأُبْدِلَتِ العَيْنُ ألِفًا اسْتِثْقالًا لِلتَّضْعِيفِ، كَما أُبْدِلَتْ في قِيراطٍ ودِيوانٍ، وعِنْدَ بَعْضِ الكُوفِيِّينَ: فِعْلَةٌ: اسْتُثْقِلَ التَّضْعِيفُ فَقُلِبَتِ الفاءُ الأُولى ألِفًا؛ لِانْكِسارِها وتَحَرُّكِ ما قَبْلَها، وهَذِهِ مَسْألَةٌ يُنْهى الكَلامُ عَلَيْها في عِلْمِ التَّصْرِيفِ. الصُّحْبَةُ: الِاقْتِرانُ، صَحِبَ يَصْحَبُ، والأصْحابُ: جَمْعُ صاحِبٍ، وجَمْعُ فاعِلٍ عَلى أفْعالٍ شاذٌّ، والصُّحْبَةُ والصَّحابَةُ: أسْماءُ جُمُوعٍ، وكَذا صَحِبَ عَلى الأصَحِّ خِلافًا لِلْأخْفَشِ، وهي لِمُطْلَقِ الِاقْتِرانِ في زَمانٍ ما. ﴿فَأزَلَّهُما الشَّيْطانُ عَنْها﴾: الهَمْزَةُ: كَما تَقَدَّمَ في (أزَلَّ) لِلتَّعْدِيَةِ، والمَعْنى: جَعَلَهُما زَلّا بِإغْوائِهِ وحَمَلَهَما عَلى أنْ زَلّا وحَصَلا في الزَّلَّةِ، هَذا أصْلُ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. وقَدْ تَأْتِي بِمَعْنى جَعَلَ أسْبابَ الفِعْلِ، فَلا يَقَعُ إذْ ذاكَ الفِعْلُ. تَقُولُ: أضْحَكْتُ زَيْدًا فَما ضَحِكَ وأبْكَيْتُهُ فَما بَكى، أيْ جَعَلْتُ لَهُ أسْبابَ الضَّحِكِ وأسْبابَ البُكاءِ فَما تَرَتَّبَ عَلى ذَلِكَ ضَحِكُهُ ولا بُكاؤُهُ، والأصْلُ هو الأوَّلُ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حالِ مَتْنِهِ ∗∗∗ كَما زَلَّتِ الصَّفْواءُ بِالمُتَنَزِّلِ (p-١٦١)مَعْناهُ فِيما يَشْرَحُ الشُّرّاحُ، يَزِلُّ اللِّبْدُ: يَزْلِقُهُ عَنْ وسَطِ ظَهْرِهِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ؎يَزِلُّ الغُلامُ الخُفَّ عَنْ صَهَواتِهِ أيْ يَزْلِقُهُ. وقِيلَ (أزَلَّهُما) أبْعَدَهُما. تَقُولُ: زَلَّ عَنْ مَرْتَبَتِهِ، وزَلَّ عَنِّي ذاكَ، وزَلَّ مِنَ الشَّهْرِ كَذا؛ أيْ: ذَهَبَ وسَقَطَ، وهو قَرِيبٌ مِنَ المَعْنى الأوَّلِ؛ لِأنَّ الزَّلَّةَ هي سُقُوطٌ في المَعْنى، إذْ فِيها خُرُوجُ فاعِلِها عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِقامَةِ، وبُعْدُهُ عَنْها. فَهَذا جاءَ عَلى الأصْلِ مِن تَعْدِيَةِ الهَمْزَةِ. وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو رَجاءٍ وحَمْزَةُ: فَأزالَهُما، ومَعْنى الإزالَةِ: التَّنْحِيَةُ. ورُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ وأبِي عُبَيْدَةَ إمالَةُ فَأزالَهُما. والشَّيْطانُ: هو إبْلِيسُ بِلا خِلافٍ هُنا. وحَكَوْا أنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَرَأ، فَوَسْوَسَ لَهُما الشَّيْطانُ عَنْها، وهَذِهِ القِراءَةُ مُخالِفَةٌ لِسَوادِ المُصْحَفِ المُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أنْ يُجْعَلَ تَفْسِيرًا، وكَذا ما ورَدَ عَنْهُ وعَنْ غَيْرِهِ مِمّا خالَفَ سَوادَ المُصْحَفِ. وأكْثَرُ قِراءاتِ عَبْدِ اللَّهِ إنَّما تُنْسَبُ لِلشِّيعَةِ. وقَدْ قالَ بَعْضُ عُلَمائِنا: إنَّهُ صَحَّ عِنْدَنا بِالتَّواتُرِ قِراءَةُ عَبْدُ اللَّهِ عَلى غَيْرِ ما يُنْقَلُ عَنْهُ مِمّا وافَقَ السَّوادَ، فَتِلْكَ إنَّما هي آحادٌ، وذَلِكَ عَلى تَقْدِيرِ صِحَّتِها، فَلا تُعارِضُ ما ثَبَتَ بِالتَّواتُرِ. وفِي كَيْفِيَّةِ تَوَصُّلِ إبْلِيسَ إلى إغْوائِهِما حَتّى أكَلا مِنَ الشَّجَرَةِ أقاوِيلُ: قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ والجُمْهُورُ: شافَهَهُما بِدَلِيلِ (وقاسَمَهُما) قِيلَ: فَدَخَلَ إبْلِيسُ الجَنَّةَ عَلى طَرِيقِ الوَسْوَسَةِ ابْتِلاءً لِآدَمَ وحَوّاءَ، وقِيلَ: دَخَلَ في جَوْفِ الحَيَّةِ. وذَكَرُوا كَيْفَ كانَتْ خِلْقَةُ الحَيَّةِ وما صارَتْ إلَيْهِ، وكَيْفَ كانَتْ مُكالَمَةُ إبْلِيسَ لِآدَمَ. وقَدْ قَصَّها اللَّهُ تَعالى أحْسَنَ القَصَصِ وأصْدَقَهُ في سُورَةِ الأعْرافِ وغَيْرِها. وقِيلَ: لَمْ يَدْخُلْ إبْلِيسُ الجَنَّةَ، بَلْ كانَ يَدْنُو مِنَ السَّماءِ فَيُكَلِّمُهُما. وقِيلَ: قامَ عِنْدَ البابِ فَنادى، وقِيلَ: لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ بَلْ كانَ ذَلِكَ بِسُلْطانِهِ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ آدَمُ وذُرِّيَّتُهُ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ، ﷺ: «إنَّ الشَّيْطانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرى الدَّمِ» . وقِيلَ: خاطَبَهُ مِنَ الأرْضِ ولَمْ يَصْعَدْ إلى السَّماءِ بَعْدَ الطَّرْدِ واللَّعْنِ، وكانَ خِطابُهُ وسْوَسَةً، وقَدْ أكْثَرَ المُفَسِّرُونَ في نَقْلِ قَصَصٍ كَثِيرٍ في قِصَّةِ آدَمَ وحَوّاءَ والحَيَّةِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِذَلِكَ، وتَكَلَّمُوا في كَيْفِيَّةِ حالِهِ حِينَ أكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، أكانَ ذَلِكَ في حالِ التَّعَمُّدِ، أمْ في حالِ غَفْلَةِ الذِّهْنِ عَنِ النَّهْيِ بِنِسْيانٍ، أمْ بِسُكْرٍ مِن خَمْرِ الجَنَّةِ، كَما ذَكَرُوا عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ. وما أظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْهُ؛ لِأنَّ خَمْرَ الجَنَّةِ، كَما ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لا فِيها غَوْلٌ ولا هم عَنْها يُنْزَفُونَ﴾ [الصافات: ٤٧] إلّا إنْ كانَتِ الجَنَّةُ في الأرْضِ، عَلى ما فَسَّرَهُ بَعْضُهم، فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ خَمْرُها بِسُكْرٍ. والَّذِينَ قالُوا بِالعَمْدِ، قالُوا: كانَ النَّهْيُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، وقِيلَ: كانَ مَعَهُ مِنَ الفَزَعِ عِنْدَ إقْدامِهِ ما صَيَّرَ هَذا الفِعْلَ صَغِيرَةً. وقِيلَ: فَعَلَهُ اجْتِهادًا، وخالَفَ لِأنَّهُ تَقَدَّمَ أنَّ الإشارَةَ إلى الشَّخْصِ لا إلى النَّوْعِ، فَتَرَكَها وأكَلَ أُخْرى. والِاجْتِهادُ في الفُرُوعِ لا يُوجِبُ العِقابَ. وقِيلَ كانَ الأكْلُ كَبِيرَةً، وقِيلَ: أتاهُما إبْلِيسُ في غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفانِها، فَلَمْ يَعْرِفاهُ، وحَلِفَ لَهُما أنَّهُ ناصِحٌ. وقِيلَ: نَسِيَ عَداوَةَ إبْلِيسَ، وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَتَأوَّلَ آدَمُ (ولا تَقْرَبا) أنَّهُ نَهْيٌ عَنِ القُرْبانِ مُجْتَمِعِينَ، وأنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ واحِدٍ أنْ يَقْرَبَ، والَّذِي يُسْلَكُ فِيما اقْتَضى ظاهِرُهُ بَعْضَ مُخالَفَةٍ: تَأْوِيلُهُ عَلى أحْسَنِ مَحْمَلٍ، وتَنْزِيهُ الأنْبِياءِ عَنِ النَّقائِصِ. وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلى ما يَرِدُ مِن ذَلِكَ، وتَأْوِيلُهُ عَلى الوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ، إنْ شاءَ اللَّهُ. وفِي (المُنْتَخَبِ) لِلْإمامِ أبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي الفَضْلِ المُرْسِيِّ ما مُلَخَّصُهُ: مَنَعَتِ الأُمَّةُ وُقُوعَ الكُفْرِ مِنَ الأنْبِياءِ، عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، إلّا الفَضِيلِيَّةَ مِنَ الخَوارِجِ، قالُوا: وقَدْ وقَعَ مِنهم ذُنُوبٌ، والذَّنْبُ عِنْدَهم كُفْرٌ، وأجازَ الإمامِيَّةُ إظْهارَ الكُفْرِ مِنهم عَلى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ، واجْتَمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الكَذِبِ والتَّحْرِيفِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، فَلا يَجُوزُ عَمْدًا ولا سَهْوًا، ومِنَ النّاسِ مِن جَوَّزَ ذَلِكَ سَهْوًا، وأجْمَعُوا عَلى امْتِناعِ خَطَئِهِمْ في الفُتْيا عَمْدًا واخْتَلَفُوا في السَّهْوِ. وأمّا أفْعالُهم فَقالَتِ الحَشَوِيَّةُ: يَجُوزُ وُقُوعُ الكَبائِرِ مِنهم عَلى جِهَةِ العَمْدِ. وقالَ أكْثَرُ المُعْتَزِلَةِ بِجَوازِ الصَّغائِرِ عَمْدًا إلّا في القَوْلِ، كالكَذِبِ. وقالَ الجُبّائِيُّ: يَمْتَنِعانِ عَلَيْهِمْ إلّا عَلى جِهَةِ التَّأْوِيلِ. وقِيلَ: (p-١٦٢)يَمْتَنِعانِ عَلَيْهِمْ، إلّا عَلى جِهَةِ السَّهْوِ والخَطَأِ، وهم مَأْخُوذُونَ بِذَلِكَ، وإنْ كانَ مَوْضُوعًا عَنْ أُمَّتِهِمْ. وقالَتِ الرّافِضَةُ: يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلى كُلِّ جِهَةٍ. واخْتُلِفَ في وقْتِ العِصْمَةِ فَقالَتِ الرّافِضَةُ: مِن وقْتِ مَوْلِدِهِمْ، وقالَ كَثِيرٌ مِنَ المُعْتَزِلَةِ: مِن وقْتِ النُّبُوَّةِ. والمُخْتارُ عِنْدَنا: أنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهم ذَنْبٌ حالَةَ النُّبُوَّةِ ألْبَتَّةَ، لا الكَبِيرَةَ ولا الصَّغِيرَةَ؛ لِأنَّهم لَوْ صَدَرَ عَنْهُمُ الذَّنْبُ لَكانُوا أقَلَّ دَرَجَةٍ مِن عُصاةِ الأُمَّةِ، لِعَظِيمِ شَرَفِهِمْ، وذَلِكَ مُحالٌ. ولِئَلّا يَكُونُوا غَيْرَ مَقْبُولِي الشَّهادَةِ، ولِئَلّا يَجِبُ زَجْرُهم وإيذاؤُهم، ولِئَلّا يُقْتَدى بِهِمْ في ذَلِكَ، ولِئَلّا يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقابِ، ولِئَلّا يَفْعَلُونَ ضِدَّ ما أمَرُوا بِهِ؛ لِأنَّهم مُصْطَفَوْنَ، ولِأنَّ إبْلِيسَ اسْتَثْناهم في الإغْواءِ. انْتَهى ما لَخَّصْناهُ مِنَ المُنْتَخَبِ. والقَوْلُ في الدَّلائِلِ لِهَذِهِ المَذاهِبِ، وفي إبْطالِ ما يَنْبَغِي إبْطالُهُ مِنها مَذْكُورٌ في كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ. عَنْها: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الشَّجَرَةِ، وهو الظّاهِرُ؛ لِأنَّهُ أقْرَبُ مَذْكُورٍ. والمَعْنى: فَحَمَلَهُما الشَّيْطانُ عَلى الزَّلَّةِ بِسَبَبِها. وتَكُونُ (عَنْ) إذْ ذاكَ لِلسَّبَبِ، أيْ أصْدَرَ الشَّيْطانُ زَلَّتَهُما عَنِ الشَّجَرَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي﴾ [الكهف: ٨٢]، ﴿وما كانَ اسْتِغْفارُ إبْراهِيمَ لِأبِيهِ إلّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وعَدَها إيّاهُ﴾ [التوبة: ١١٤] . وقِيلَ: عائِدٌ عَلى الجَنَّةِ؛ لِأنَّها أوَّلُ مَذْكُورٍ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ حَمْزَةَ وغَيْرِهِ: فَأزالَهُما، إذْ يَبْعُدُ فَأزالَهُما الشَّيْطانُ عَنِ الشَّجَرَةِ. وقِيلَ: عائِدٌ عَلى الطّاعَةِ، قالُوا: بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وعَصى آدَمُ رَبَّهُ﴾ [طه: ١٢١]، فَيَكُونُ إذْ ذاكَ الضَّمِيرُ عائِدًا عَلى غَيْرِ مَذْكُورٍ، إلّا عَلى ما يُفْهَمُ مِن مَعْنى قَوْلِهِ: (ولا تَقْرَبا) لِأنَّ المَعْنى: أطِيعانِي بِعَدَمِ قُرْبانِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ. وقِيلَ: عائِدٌ عَلى الحالَةِ الَّتِي كانُوا عَلَيْها مِنَ التَّفَكُّهِ والرَّفاهِيَةِ والتَّبَوُّءِ مِنَ الجَنَّةِ، حَيْثُ شاءا، ومَتى شاءا، وكَيْفَ شاءا بِدَلِيلِ ﴿وكُلا مِنها رَغَدًا﴾ [البقرة: ٣٥] . وقِيلَ: عائِدٌ عَلى السَّماءِ وهو بَعِيدٌ. ﴿فَأخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ﴾ مِنَ الطّاعَةِ إلى المَعْصِيَةِ، أوْ مِن نِعْمَةِ الجَنَّةِ إلى شَقاءِ الدُّنْيا، أوْ مِن رِفْعَةِ المَنزِلَةِ إلى سُفْلِ مَكانَةِ الذَّنْبِ، أوْ رِضْوانِ اللَّهِ، أوْ جِوارِهِ. وكُلُّ هَذِهِ الأقْوالُ مُتَقارِبَةٌ. قالَ الَمَهْدَوِيُّ: إذا جُعِلَ (أزَلَّهُما) مِن: زَلَّ عَنِ المَكانِ، فَقَوْلُهُ: ﴿فَأخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ﴾ تَوْكِيدٌ. إذْ قَدْ يُمْكِنُ أنْ يَزُولا عَنْ مَكانٍ كانا فِيهِ إلى مَكانٍ آخَرَ مِنَ الجَنَّةِ. انْتَهى. والأوْلى أنْ يَكُونَ بِمَعْنى كَسْبِهِما الزَّلَّةَ لا يَكُونُ بِإلْقاءٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهُنا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظّاهِرُ، تَقْدِيرُهُ: فَأكَلا مِنَ الشَّجَرَةِ، ويَعْنِي أنَّ المَحْذُوفَ يَتَقَدَّرُ قَبْلَ قَوْلِهِ: ﴿فَأزَلَّهُما الشَّيْطانُ﴾، ونَسَبَ الإزْلالَ والإزالَةَ والإخْراجَ لِإبْلِيسَ عَلى جِهَةِ المَجازِ، والفاعِلُ لِلْأشْياءِ هو اللَّهُ تَعالى. (وقُلْنا اهْبِطُوا): قَرَأ الجُمْهُورُ بِكَسْرِ الباءِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: (اهْبُطُوا) بِضَمِّ الباءِ، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّهُما لُغَتانِ. والقَوْلُ في: (وقُلْنا اهْبِطُوا) مِثْلُ القَوْلِ في: ﴿وقُلْنا ياآدَمُ اسْكُنْ﴾ [البقرة: ٣٥] . ولَمّا كانَ أمْرًا بِالهُبُوطِ مِنَ الجَنَّةِ إلى الأرْضِ، وكانَ في ذَلِكَ انْحِطاطُ رُتْبَةِ المَأْمُورِ، لَمْ يُؤْنِسْهُ بِالنِّداءِ، ولا أقْبَلَ عَلَيْهِ بِتَنْوِيهِهِ بِذِكْرِ اسْمِهِ والإقْبالِ عَلَيْهِ بِالنِّداءِ، بِخِلافِ قَوْلِهِ: ﴿وقُلْنا ياآدَمُ اسْكُنْ﴾ [البقرة: ٣٥] والمُخاطَبُ بِالأمْرِ آدَمُ وحَوّاءُ والحَيَّةُ، قالَهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أوْ هَؤُلاءِ وإبْلِيسُ، قالَهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أوْ آدَمُ وإبْلِيسُ، قالَهُ مُجاهِدٌ، أوْ هُما وحَوّاءُ، قالَهُ مُقاتِلٌ، أوْ آدَمُ وحَوّاءُ فَحَسْبُ، ويَكُونُ الخِطابُ بِلَفْظِ الجَمْعِ وإنْ وقَعَ عَلى التَّثْنِيَةِ نَحْوَ: ﴿وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨]، ذَكَرَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ، أوْ آدَمُ وحَوّاءُ والوَسْوَسَةُ، قالَهُ الحَسَنُ، أوْ آدَمُ وحَوّاءُ وذُرِّيَّتُهُما، قالَهُ الفَرّاءُ، أوْ آدَمُ وحَوّاءُ، والمُرادُ هُما وذُرِّيَّتُهُما، ورَجَّحَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قالَ: لِأنَّهُما لَمّا كانا أصْلَ الأِنْسِ ومُتَشَعَّبَهم جُعِلا كَأنَّهُما الأِنْسُ كُلُّهم. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿قالَ اهْبِطا مِنها جَمِيعًا بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [طه: ١٢٣]، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَمَن تَبِعَ هُدايَ﴾ الآيَةَ، وما هو إلّا حُكْمٌ يَعُمُّ النّاسَ كُلَّهم. انْتَهى. وفِي قَوْلِ الفَرّاءِ خِطابُ مَن لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ؛ لِأنَّ ذُرِّيَّتَهُما كانَتْ إذْ ذاكَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ. وفي قَوْلِ مَن أدْخَلَ إبْلِيسَ مَعَهُما في الأمْرِ ضَعْفٌ؛ لِأنَّهُ كانَ خَرَجَ قَبْلَهُما، ويَجُوزُ عَلى ضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ. قالَ كَعْبٌ ووَهْبٌ: أُهْبِطُوا جُمْلَةً ونَزَلُوا في بِلادٍ مُتَفَرِّقَةٍ. وقالَ مُقاتِلُ: أُهْبِطُوا مُتَفَرِّقِينَ، (p-١٦٣)فَهَبَطَ إبْلِيسُ، قِيلَ بِالأُبُلَّةِ، وحَوّاءُ بِجَدَّةَ، وآدَمُ بِالهِنْدِ، وقِيلَ: بِسَرَنْدِيبَ بِجَبَلٍ يُقالُ لَهُ: واسِمٌ. وقِيلَ: كانَ غِذاؤُهُ جَوْزَ الهِنْدِ، وكانَ السَّحابُ يَمْسَحُ رَأْسَهُ فَأوْرَثَ ولَدَهُ الصَّلَعَ. وهَذا لا يَصِحُّ إذْ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ أوْلادُهُ كُلُّهم صُلْعًا. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ الحَيَّةَ أُهْبِطَتْ بِنَصِيبِينَ. ورَوى الثَّعْلَبِيُّ: بِأصْبَهانَ، والمَسْعُودِيُّ: بِسِجِسْتانَ، وهي أكْثَرُ بِلادِ اللَّهِ حَيّاتٍ. وقِيلَ: بِبِيسانَ. وقِيلَ: كانَ هَذا الهُبُوطَ الأوَّلَ مِنَ الجَنَّةِ إلى سَماءِ الدُّنْيا. وقِيلَ: لَمّا نَزَلَ آدَمُ بِسَرَنْدِيبَ مِنَ الهِنْدِ ومَعَهُ رِيحُ الجَنَّةِ، عَلِقَ بِشَجَرِها وأوْدِيَتِها، فامْتَلَأ ما هُناكَ طِيبًا، فَمِن ثَمَّ يُؤْتى بِالطِّيبِ مِن رِيحِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. وذَكَرَ أبُو الفَرَجِ بْنُ الجَوْزِيِّ في إخْراجِهِ كَيْفِيَّةً ضَرَبْنا صَفْحًا عَنْ ذِكْرِها، قالَ: وأُدْخِلَ آدَمُ في الجَنَّةِ ضَحْوَةً، وأُخْرِجَ مِنها بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ، فَمَكَثَ فِيها نِصْفَ يَوْمٍ، والنِّصْفُ خَمْسُمِائَةِ عامٍ، مِمّا يَعُدُّ أهْلُ الدُّنْيا، والأشْبَهُ أنَّ قَوْلَهُ: (اهْبِطُوا) أمْرُ تَكْلِيفٍ؛ لِأنَّ فِيهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً بِسَبَبِ ما كانا فِيهِ مِنَ الجَنَّةِ، إلى مَكانٍ لا تَحْصُلُ فِيهِ المَعِيشَةُ إلّا بِالمَشَقَّةِ، وهَذا يُبْطِلُ قَوْلَ مَن ظَنَّ أنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ؛ لِأنَّ التَّشْدِيدَ في التَّكْلِيفِ يَكُونُ بِسَبَبِ الثَّوابِ. فَكَيْفَ يَكُونُ عِقابًا مَعَ ما في هُبُوطِهِ وسُكْناهُ الأرْضَ مِن ظُهُورِ حِكْمَتِهِ الأزَلِيَّةِ في ذَلِكَ، وهي نَشْرُ نَسْلِهِ فِيها لِيُكَلِّفَهم ويُرَتِّبَ عَلى ذَلِكَ ثَوابَهم وعِقابَهم في جَنَّةٍ ونارٍ. وكانَتْ تِلْكَ الأكْلَةُ سَبَبَ هُبُوطِهِ، واللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ. وأمَرَهُ بِالهُبُوطِ إلى الأرْضِ بَعْدَ أنْ تابَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ ثانِيَةً: ﴿وقُلْنا اهْبِطُوا بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾، إنْ كانَ المُخاطِبُونَ آدَمَ وحَوّاءَ وذُرِّيَّتَهُما، كَما قالَ مُجاهِدٌ، فالمُرادُ ما عَلَيْهِ النّاسُ مِنَ التَّعادِي وتَضْلِيلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، والبَعْضِيَّةُ مَوْجُودَةٌ في ذُرِّيَّتِهِما؛ لِأنَّهُ لَيْسَ كُلُّهم يُعادِي كُلَّهم، بَلِ البَعْضُ يُعادِي البَعْضَ، وإنْ كانَ مَعَهُما إبْلِيسُ أوِ الحَيَّةُ، كَما قالَهُ مُقاتِلُ، فَلَيْسَ بَعْضُ ذُرِّيَّتِهِما يُعادِي ذُرِّيَّةَ آدَمَ، بَلْ كُلُّهم أعْداءٌ لِكُلِّ بَنِي آدَمَ. ولَكِنْ يَتَحَقَّقُ هَذا بِأنْ جَعَلَ المَأْمُورُونَ بِالهُبُوطِ شَيْئًا واحِدًا وجَزِّئُوا أجْزاءً، فَكُلُّ جُزْءٍ مِنها جُزْءٌ مِنَ الَّذِينَ هَبَطُوا، والجُزْءُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ البَعْضُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: كُلُّ جِنْسٍ مِنكم مُعادٍ لِلْجِنْسِ المُبايِنِ لَهُ. وقالَ الزَّجّاجُ: إبْلِيسُ عَدُوٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ وهم أعْداؤُهُ. وقِيلَ مَعْناهُ: عَداوَةُ نَفْسِ الإنْسانِ لَهُ وجَوارِحُهُ، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ، أيِ اهْبِطُوا مُتَعادِينَ، والعامِلُ فِيها اهْبِطُوا. فَصاحِبُ الحالِ الضَّمِيرُ في اهْبِطُوا، ولَمْ يَحْتَجْ إلى الواوِ لِإغْناءِ الرّابِطِ عَنْها، واجْتِماعُ الواوِ والضَّمِيرِ في الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الواقِعَةِ حالًا أكْثَرُ مِنَ انْفِرادِ الضَّمِيرِ. وفي كِتابِ اللَّهِ تَعالى: ﴿ويَوْمَ القِيامَةِ تَرى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى اللَّهِ وُجُوهُهم مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر: ٦٠]، ولَيْسَ مَجِيئَها بِالضَّمِيرِ دُونَ الواوِ شاذًّا، خِلافًا لِلْفَرّاءِ ومَن وافَقَهُ كالزَّمَخْشَرِيِّ. وقَدْ رَوى سِيبَوَيْهِ عَنِ العَرَبِ كَلِمَتَهُ فُوهُ إلى فِيَّ، ورَجَعَ عُودُهُ عَلى بَدْئِهِ، وخَرَّجَهُ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ (عُودُهُ) مُبْتَدَأٌ و(عَلى بَدْئِهِ) خَبَرٌ، والجُمْلَةُ حالٌ، وهو كَثِيرٌ في لِسانِ العَرَبِ، نُظْمُها ونَثْرُها، فَلا يَكُونُ ذَلِكَ شاذًّا. وأجازَ مَكِّيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، إخْبارًا مِنَ اللَّهِ تَعالى بِأنَّ بَعْضَهم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَلا يَكُونُ في مَوْضِعِ الحالِ، وكَأنَّهُ فَرَّ مِنَ الحالِ؛ لِأنَّهُ تَخَيَّلَ أنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ القَيْدِ في الأمْرِ أنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ، أوْ كالمَأْمُورِ. ألا تَرى أنَّكَ إذا قُلْتَ: قُمْ ضاحِكًا كانَ المَعْنى الأمْرُ بِإيقاعِ القِيامِ مَصْحُوبًا بِالحالِ، فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِها أوْ كالمَأْمُورِ؛ لِأنَّكَ لَمْ تُسَوِّغْ لَهُ القِيامَ إلّا في حالِ الضَّحِكِ وما يُتَوَصَّلُ إلى فِعْلِ المَأْمُورِ إلّا بِهِ مَأْمُورٌ بِهِ، واللَّهُ تَعالى لا يَأْمُرُ بِالعَداوَةِ ولا يَلْزَمُ ما يُتَخَيَّلُ مِن ذَلِكَ؛ لِأنَّ الفِعْلَ إذا كانَ مَأْمُورًا بِهِ مَن يُسْنَدُ إلَيْهِ في حالٍ مِن أحْوالِهِ، لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الحالُ مَأْمُورًا بِها؛ لِأنَّ النِّسْبَةَ الحالِيَّةَ هي لَنِسْبَةٍ تَقْيِيدِيَّةٍ لا نِسْبَةٍ إسْنادِيَّةٍ. فَلَوْ كانَتْ مَأْمُورًا بِها إذا كانَ العامِلُ فِيها أمْرًا، فَلا يُسَوَّغُ ذَلِكَ هُنا؛ لِأنَّ الفِعْلَ المَأْمُورَ بِهِ إذا كانَ لا يَقَعُ في الوُجُودِ إلّا بِذَلِكَ القَيْدِ ولا يُمْكِنُ خِلافُهُ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ القَيْدُ مَأْمُورًا بِهِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ داخِلًا في حَيِّزِ التَّكْلِيفِ، وهَذِهِ الحالُ مِن هَذا النَّوْعِ، فَلا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ (p-١٦٤)أمَرَ بِها، وهَذِهِ الحالُ مِنَ الأحْوالِ اللّازِمَةِ. وقَوْلُهُ: لِبَعْضٍ مُتَعَلِّقٌ بُقُولِهِ عَدُوٌّ، واللّامُ مُقَوِّيَةٌ لِوُصُولِ (عَدُوٌّ) إلَيْهِ، وأفْرَدَ (عَدُوٌّ) عَلى لَفْظِ (بَعْضُ) أوْ لِأنَّهُ يُصْلِحُ لِلْجَمْعِ، كَما سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ عِنْدَ الكَلامِ عَلى (بَعْضُ) وعَلى (عَدُوٌّ) حالَةَ الإفْرادِ. ﴿ولَكم في الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾: مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ. لَكم هو الخَبَرُ، وفي الأرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ، وحَقِيقَتُهُ أنَّهُ مَعْمُولٌ لِلْعامِلِ في الخَبَرِ، والخَبَرُ هُنا مُصَحِّحٌ لِجَوازِ الِابْتِداءِ بِالنَّكِرَةِ، ولا يَجُوزُ (في الأرْضِ) أنْ يَتَعَلَّقَ بِـ(مُسْتَقَرٌّ) سَواءً كانَ يُرادُ بِهِ مَكانُ اسْتِقْرارٍ كَما قالَهُ أبُو العالِيَةِ وابْنُ زَيْدٍ، أوِ المَصْدَرُ، أيْ: اسْتِقْرارٌ، كَما قالَهُ السُّدِّيُّ؛ لِأنَّ اسْمَ المَكانِ لا يَعْمَلُ، ولِأنَّ المَصْدَرَ المَوْصُولَ لا يُجَوِّزُ بَعْضُهم تَقْدِيمَ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ، ولا يَجُوزُ في الأرْضِ أنْ يَكُونَ خَبَرًا، ولَكم مُتَعَلِّقٌ بِـ(مُسْتَقَرٌّ) لِما ذَكَرْناهُ، أوْ في مَوْضِعِ الحالِ مِن مُسْتَقَرٌّ؛ لِأنَّ العامِلَ إذْ ذاكَ فِيها يَكُونُ الخَبَرَ، وهو عامِلٌ مَعْنَوِيٌّ، والحالُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلى جُزْأيِ الإسْنادِ، فَلا يَجُوزُ ذَلِكَ، وصارَ نَظِيرَ: قائِمًا زَيْدٌ في الدّارِ، أوْ قائِمًا في الدّارِ زَيْدٌ، وهو لا يَجُوزُ بِإجْماعٍ. مُسْتَقَرٌّ: أيْ مَكانُ اسْتِقْرارِكم حالَتَيِ الحَياةِ والمَوْتِ، وقِيلَ: هو القَبْرُ، أوِ اسْتِقْرارٌ، كَما تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. (ومَتاعٌ): المَتاعُ ما اسْتُمْتِعَ بِهِ مِنَ المَنافِعِ، أوِ الزّادِ، أوِ الزَّمانِ الطَّوِيلِ، أوِ التَّعْمِيرِ. (إلى حِينٍ): إلى المَوْتِ، أوْ إلى قِيامِ السّاعَةِ، أوْ إلى أجَلٍ قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. ويَتَعَلَّقُ إلى بِمَحْذُوفٍ، أيْ: ومَتاعٌ كائِنٌ إلى حِينٍ، أوْ بِمَتاعٍ، أيْ واسْتِمْتاعٍ إلى حِينٍ، وهو مِن بابِ الإعْمالِ، أُعْمِلُ فِيهِ الثّانِي ولَمْ يَحْتَجْ إلى إضْمارٍ في الأوَّلِ؛ لِأنَّ مُتَعَلِّقَهُ فَضْلَةٌ، فالأوْلى حَذْفُهُ، ولا جائِزَ أنْ يَكُونَ مِن إعْمالِ الأوَّلِ؛ لِأنَّ الأوْلى أنْ لا يُحْذَفَ مِنَ الثّانِي، والأحْسَنُ حَمْلُ القُرْآنِ عَلى الأوْلى، والأفْصَحُ لا يُقالُ إنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ الإعْمالِ، وإنْ كانَ كُلٌّ مِن (مُسْتَقَرٌّ ومَتاعٌ) يَقْتَضِيهِ مِن جِهَةِ المَعْنى بِسَبَبِ أنَّ الأوَّلِ لا يَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ إلى حِينٍ؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ الفَصْلُ بَيْنَ المَصْدَرِ ومَعْمُولِهِ بِالمَعْطُوفِ، والمَصْدَرُ مَوْصُولٌ فَلا يُفْصَلُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَعْمُولِهِ؛ لِأنَّ المَصْدَرَ هُنا لا يَكُونُ مَوْصُولًا، وذَلِكَ أنَّ المَصْدَرَ مِنهُ ما يُلْحَظُ فِيهِ الحُدُوثُ فَيُتَقَدَّرُ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ مَعَ الفِعْلِ، وهَذا هو المَوْصُولُ، وإنَّما كانَ مَوْصُولًا بِاعْتِبارِ تَقْدِيرِهِ بِذَلِكَ الحَرْفِ الَّذِي هو مَوْصُولٌ بِالفِعْلِ، وإلّا فالمَصْدَرُ مِن حَيْثُ هو مَصْدَرٌ لا يَكُونُ مَوْصُولًا، ومِنهُ ما لا يُلْحَظُ فِيهِ الحُدُوثُ، نَحْوَ قَوْلِهِ: لِزَيْدٍ مَعْرِفَةٌ بِالنَّحْوِ، وبَصَرٌ بِالطِّبِّ، ولَهُ ذَكاءٌ ذَكاءُ الحُكَماءِ، فَمِثْلَ هَذا لا يُتَقَدَّرُ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ والفِعْلِ، حَتّى ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أنَّ هَذا المَصْدَرَ إذا أُضِيفَ لَمْ يَحْكم عَلى الِاسْمِ بَعْدَهُ، لا بِرَفْعٍ ولا بِنَصْبٍ، قالُوا: فَإذا قُلْتَ: يُعْجِبُنِي قِيامُ زَيْدٍ، فَزَيْدٌ فاعِلُ القِيامِ تَأْوِيلُهُ يُعْجِبُنِي أنْ يَقُومَ زَيْدٌ، ومُمْكِنٌ أنَّ زَيْدًا يَعْرا مِنهُ القِيامُ، ولا يُقْصَدُ فِيهِ إلى إفادَةِ المُخاطَبِ أنَّهُ فَعَلَ القِيامَ فِيما مَضى، أوْ يَفْعَلُهُ فِيما يُسْتَقْبَلُ، بَلْ تَكُونُ النِّيَّةُ في الإخْبارِ كالنِّيَّةِ في: يُعْجِبُنِي خاتَمُ زَيْدٍ المَحْدُودُ المَعْرُوفُ بِصاحِبِهِ والمَخْفُوضُ بِالمَصْدَرِ. عَلى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لا يُقْضى عَلَيْهِ بِرَفْعٍ، ولا يُؤَكَّدُ، ولا يُنْعَتُ، ولا يُعْطَفُ عَلَيْهِ إلّا بِمِثْلٍ ما يُسْتَعْمَلُ مَعَ المَخْفُوضاتِ الصِّحاحِ. انْتَهى. فَأنْتَ تَرى تَجْوِيزَهم أنْ لا يَكُونَ مَوْصُولًا مَعَ المَصْدَرِ الَّذِي يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مَوْصُولًا، وهو قَوْلُهم: يُعْجِبُنِي قِيامُ زَيْدٍ، فَكَيْفَ مَعَ ما لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَوْصُولًا نَحْوَ ما مَثَّلْنا بِهِ مِن قَوْلِهِ: لَهُ ذَكاءٌ ذَكاءُ الحُكَماءِ، وبَصَرٌ بِالطِّبِّ، ونَحْوَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَقَرٌّ ومَتاعٌ مِن قَبِيلِ ما لا يَكُونُ مَوْصُولًا. ولا يَمْتَنِعُ أنْ يَعْمَلَ في الجارِّ والمَجْرُورِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُولًا، كَما مَثَّلْنا في قَوْلِهِ: لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّحْوِ؛ لِأنَّ الظَّرْفَ والجارَّ والمَجْرُورَ يَعْمَلُ فِيهِما رَوائِحُ الأفْعالِ، حَتّى الأسْماءُ الأعْلامُ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: أنا أبُو المِنهالِ بَعْضَ الأحْيانِ، وأنا ابْنُ ماوِيَّةَ إذْ جَدَّ النَّقْرُ، وأمّا أنْ تَعْمَلَ في الفاعِلِ، أوِ المَفْعُولِ بِهِ فَلا. وأمّا إذا قُلْنا بِمَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ، وهو أنَّ المَصْدَرَ إذا نُوِّنَ، أوْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الألِفُ واللّامُ، تَحَقَّقَتْ لَهُ الِاسْمِيَّةُ وزالَ عَنْهُ تَقْدِيرُ الفِعْلِ، فانْقَطَعَ عَنْ أنْ يُحْدِثَ إعْرابًا، وكانَتْ قِصَّتُهُ قِصَّةَ زَيْدٍ وعَمْرٍو والرَّجُلِ والثَّوْبِ، فَيُمْكِنُ أيْضًا أنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مُسْتَقَرٌّ ومَتاعٌ إلى حِينٍ﴾، (p-١٦٥)ولا يَبْعُدُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَعَلُّقُ الجارِّ والمَجْرُورِ بِكُلٍّ مِنهُما؛ لِأنَّهُ يَتَّسِعُ فِيهِما ما لا يَتَّسِعُ في غَيْرِهِما، ولِأنَّ المَصْدَرَ إذْ ذاكَ لا يَكُونُ بِأبْعَدَ في العَمَلِ في الظَّرْفِ أوِ المَجْرُورِ مِنَ الِاسْمِ العَلَمِ، ويُمْكِنُ أنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ: ﴿مُسْتَقَرٌّ ومَتاعٌ إلى حِينٍ﴾ بِقَوْلِهِ: ﴿قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وفِيها تَمُوتُونَ ومِنها تُخْرَجُونَ﴾ [الأعراف: ٢٥]، وفي قَوْلِهِ: ( إلى حِينٍ دَلِيلٌ عَلى عَدَمِ البَقاءِ في الأرْضِ، ودَلِيلٌ عَلى المَعادِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ التَّحْذِيرُ عَنْ مُخالَفَةِ أمْرِ اللَّهِ بِقَصْدٍ أوْ تَأْوِيلٍ، وأنَّ المُخالَفَةَ تُزِيلُ عَنْ مَقامِ الوِلايَةِ. * * * (فَتَلَقّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِماتٍ)، تَلَقّى: تَفَعَّلَ مِنَ اللِّقاءِ، وهو هُنا بِمَعْنى التَّجَرُّدِ، أيْ لَقِيَ آدَمُ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: تَعَدّاكَ هَذا الأمْرُ، بِمَعْنى عَدّاكَ، وهو أحَدُ المَعانِي الَّتِي جاءَتْ لَها تَفَعَّلَ، وهي سَبْعَةَ عَشَرَ مَعْنًى مُطاوِعَةً فَعَّلَ، نَحْوَ: كَسَّرْتُهُ فَتَكَسَّرَ، والتَّكَلُّفُ نَحْوَ: تَحَلَّمَ، والتَّجَنُّبُ نَحْوَ: تَجَنَّبَ، والصَّيْرُورَةُ نَحْوَ: تَألَّمَ، والتَّلَبُّسُ بِالمُسَمّى المُشْتَقِّ مِنهُ نَحْوَ: تَقَمَّصَ، والعَمَلُ فِيهِ نَحْوَ: تَسَحَّرَ، والِاتِّخاذُ نَحْوَ: تَبَنَّيْتُ الصَّبِيَّ، ومُواصَلَةُ العَمَلِ في مَهَلَةٍ نَحْوَ: تَفَهَّمَ، ومُوافَقَةُ اسْتَفْعَلَ نَحْوَ: تَكَبَّرَ، ومُوافَقَةُ المُجَرَّدِ نَحْوَ: تَعَدّى الشَّيْءَ، أيْ عَدّاهُ، والإغْناءُ عَنْهُ نَحْوَ: تَكَلَّمَ، والإغْناءُ عَنْ فِعْلٍ نَحْوَ: تَوْبَلَ، ومُوافَقَةُ فَعَّلَ نَحْوَ: تَوَلّى، أيْ ولّى، والخِتْلُ نَحْوَ: تَعَقَّلْتُهُ، والتَّوَقُّعُ نَحْوَ: تَخَوَّفَهُ، والطَّلَبُ نَحْوَ: تُنْجَزُ حَوائِجُهُ، والتَّكْثِيرُ نَحْوَ: تُعْطِينا. ومَعْنى تَلَقِّي الكَلِماتِ: أخْذُها وقَبُولُها، أوِ الفَهْمُ، أوِ الفَطانَةُ، أوِ الإلْهامُ أوِ التَّعَلُّمُ والعَمَلُ بِها، أوْ الِاسْتِغْفارُ والِاسْتِقالَةُ مِنَ الذَّنْبِ، وقَوْلُ مَن زَعَمَ أنَّ أصْلَهُ: تَلَقَّنَ، فَأُبْدِلَتِ النُّونُ ألِفًا، ضَعِيفٌ، وإنْ كانَ المَعْنى صَحِيحًا؛ لِأنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا مِمّا كانَ عَيْنُهُ ولامُهُ مِن جِنْسٍ واحِدٍ نَحْوَ: تَظَنّى، وتَقَضّى، وتَسَرّى، أصْلُهُ: تَظَنَّنَ، وتَقَضَّضَ، وتَسَرَّرَ، ولا يُقالُ في تَقَبَّلَ: تَقَبّى. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِرَفْعِ (آدَمُ) ونَصْبِ الكَلِماتِ، وعَكَسَ ابْنُ كَثِيرٍ. ومَعْنى تَلَقِّي الكَلِماتِ لِآدَمَ: وُصُولُها إلَيْهِ؛ لِأنَّ مَن تَلَقّاكَ فَقَدْ تَلَقَّيْتَهُ فَكَأنَّهُ قالَ: فَجاءَتْ آدَمَ مِن رَبِّهِ كَلِماتٌ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: كَلِماتٍ، أنَّها جُمْلَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلى كَلِمٍ، أوْ جُمَلٌ مِنَ الكَلامِ قالَها آدَمُ، فَلِذَلِكَ قَدَّرُوا بَعْدَ قَوْلِهِ: كَلِماتٍ، جُمْلَةً مَحْذُوفَةً وهي: فَقالَها فَتابَ عَلَيْهِ. واخْتَلَفُوا في تَعْيِينِ تِلْكَ الكَلِماتِ عَلى أقْوالٍ، وقَدْ طَوَّلُوا بِذِكْرِها، ولَمْ يُخْبِرْنا اللَّهُ بِها إلّا مُبْهَمَةً، ونَحْنُ نَذْكُرُها كَما ذَكَرَها المُفَسِّرُونَ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وابْنُ جُبَيْرٍ ومُجاهِدٌ وابْنُ كَعْبٍ وعَطاءٌ الخُراسانِيُّ والضَّحّاكُ وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وابْنُ زَيْدٍ: هي (رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا)، الآيَةَ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أنَّ أحَبَّ الكَلامِ إلى اللَّهِ ما قالَهُ أبُونا حِينَ اقْتَرَفَ الخَطِيئَةَ: ”سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ وتَبارَكَ اسْمُكَ وتَعالى جَدُّكَ، لا إلَهَ إلّا أنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي، فَإنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا أنْتَ“ . وسُئِلَ بَعْضُ السَّلَفِ عَمّا يَنْبَغِي أنْ يَقُولَهُ المُذْنِبُ فَقالَ: يَقُولُ ما قالَهُ أبَواهُ: ”رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي“ وما قالَهُ يُونُسُ: ”لا إلَهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ“ . ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ووَهْبٍ أنَّها: ”سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وظَلَمْتُ نَفْسِي، فاغْفِرْ لِي إنَّكَ خَيْرُ الغافِرِينَ“ . وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ هي: ”لا إلَهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ“ . وحَكى السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: ”رَبِّ ألَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ ؟ قالَ: بَلى، قالَ: ألَمْ تَنْفُخْ فِيَّ مَن رُوحِكَ ؟ قالَ: بَلى، قالَ: ألَمْ تَسْبِقْ رَحْمَتُكَ غَضَبُكَ ؟ قالَ: بَلى، قالَ: ألَمْ تُسْكِنِّي جَنَّتَكَ ؟ قالَ: بَلى، قالَ: رَبِّ إنْ تُبْتُ وأصْلَحْتُ أراجِعِي إلى الجَنَّةِ ؟ قالَ:“ نَعَمْ ”. وزادَ قَتادَةُ في هَذا:“ وسَبَقَتْ رَحْمَتُكَ إلَيَّ قَبْلَ غَضَبِكَ ؟ قِيلَ لَهُ بَلى، قالَ: رَبِّ هَلْ كَتَبْتَ هَذا عَلَيَّ قَبْلَ أنْ تَخْلُقَنِي ؟ قِيلَ لَهُ: نَعَمْ، فَقالَ: رَبِّ إنْ تُبْتُ وأصْلَحْتُ أراجِعِي أنْتَ إلى الجَنَّةِ ؟ قِيلَ لَهُ: نَعَمْ ”. وقالَ قَتادَةُ هي:“ أسْتَغْفِرُكَ وأتُوبُ إلَيْكَ إنَّكَ أنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ ”. وقالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، قالَ:“ يا رَبِّ خَطِيئَتِي الَّتِي أخْطَأتُها أشَيْءٌ كَتَبْتَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ تَخْلُقَنِي ؟ أوْ شَيْءٌ ابْتَدَعْتُهُ مِن قِبَلِ نَفْسِي ؟ قالَ: بَلْ شَيْءٌ كَتَبْتُهُ عَلَيْكَ قَبْلَ أنْ أخْلُقَكَ، قالَ: ”فَكَما كَتَبْتَ عَلَيَّ فاغْفِرْ لِي“ . وقِيلَ إنَّها: ”سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ لا إلَهَ إلّا أنْتَ ظَلَمْتَ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي إنَّكَ أنْتَ (p-١٦٦)الغَفُورُ“ . وقِيلَ: رَأى مَكْتُوبًا عَلى ساقِ العَرْشِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَتَشَفَّعَ بِذَلِكَ فَهي الكَلِماتُ. وقِيلَ: قَوْلُهُ حِينَ عَطَسَ: ”الحَمْدُ لِلَّهِ“ . وقِيلَ: هي الدُّعاءُ والحَياءُ والبُكاءُ. وقِيلَ: الِاسْتِغْفارُ والنَّدَمُ والحُزْنُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وسَمّاها كَلِماتٍ مَجازًا لِما هي في خَلْقِها صادِرَةٌ عَنْ كَلِماتٍ، وهي: كُنْ في كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ "، وهَذا قَوْلٌ يَقْتَضِي أنَّ آدَمَ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا إلّا الِاسْتِغْفارَ المَعْهُودَ. انْتَهى كَلامُهُ. (فَتابَ عَلَيْهِ): أيُّ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ وأفْرَدَهُ بِالإخْبارِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِ، وإنْ كانَتْ زَوْجَتُهُ مُشارِكَةً لَهُ في الأمْرِ بِالسُّكْنى والنَّهْيِ عَنْ قُرْبانِ الشَّجَرَةِ وتَلَقِّي الكَلِماتِ والتَّوْبَةِ؛ لِأنَّهُ هو المُواجَهُ بِالأمْرِ والنَّهْيِ، وهي تابِعَةٌ لَهُ في ذَلِكَ، فَكَمُلَتِ القِصَّةُ بِذِكْرِهِ وحْدَهُ، كَما جاءَ في قِصَّةِ مُوسى والخِضْرِ، إذْ جاءَ ﴿حَتّى إذا رَكِبا في السَّفِينَةِ﴾ [الكهف: ٧١]، فَحَمَلاها بِغَيْرِ نَوْلٍ، وكانَ مَعَ مُوسى يُوشَعُ، لَكِنَّهُ كانَ تابِعًا لِمُوسى فَلَمْ يُذْكُرْهُ ولَمْ يُجْمَعْ مَعَهُما في الضَّمِيرِ، أوِ اكْتَفى بِذِكْرِ أحَدِهِما، إذْ كانَ فِعْلُهُما واحِدًا، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ ورَسُولُهُ أحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢]، ﴿فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقى﴾ [طه: ١١٧]، أوْ طَوى ذَكَرَها كَما طَواهُ عِنْدَ ذِكْرِ المَعْصِيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿وعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ [طه: ١٢١] . وقَدْ جاءَ طَيُّ ذِكْرِ النِّساءِ في أكْثَرَ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، وقَدْ ذَكَرَها في قَوْلِهِ: ﴿قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا﴾ [الأعراف: ٢٣]، وإنَّما لَمْ يُراعِ هَذا السَّتْرَ في امْرَأتَيْ نُوحٍ ولُوطٍ لِأنَّهُما كانَتْ كافِرَتَيْنِ، وقَدْ ضَرَبَ بِهِما المَثَلَ لِلْكُفّارِ؛ لِأنَّ ذُنُوبَهُما كانَتْ غايَةً في القُبْحِ والفُحْشِ. والكافِرُ لا يُناسِبُ السَّتْرَ عَلَيْهِ ولا الإغْضاءَ عَنْ ذَنْبِهِ، بَلْ يُنادِي عَلَيْهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أخْزى لَهُ وأحَطَّ لِدَرَجَتِهِ، وحَوّاءُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، ولِأنَّ مَعْصِيَتَهُما تَكَرَّرَتْ واسْتَمَرَّ مِنهُما الكُفْرُ والإصْرارُ عَلى ذَلِكَ، والتَّوْبَةُ مُتَعَذِّرَةٌ لِما سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ أنَّهُما لا يَتُوبانِ، ولَيْسَتْ حَوّاءُ كَذَلِكَ لِخِفَّةِ ما وقَعَ مِنها، أوْ لِرُجُوعِها إلى رَبِّها، ولِأنَّ التَّبْكِيتَ لِلْمُذْنِبِ شَرْعُ رَجاءِ الإقْلاعِ، وهَذا المَعْنى مَعْقُودٌ فِيهِما، وذِكْرُهُما بِالإضافَةِ إلى زَوْجَيْهِما فِيهِ مِنَ الشُّهْرَةِ ما لا يَكُونُ في ذِكْرِ اسْمَيْهِما غَيْرَ مُضافَيْنِ إلَيْهِما، وتَوْبَةُ العَبْدِ رُجُوعُهُ عَنِ المَعْصِيَةِ، وتَوْبَةُ اللَّهِ عَلى العَبْدِ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ بِالقَبُولِ والرَّحْمَةِ. واخْتُلِفَ في التَّوْبَةِ المَطْلُوبَةِ مِنَ العَبْدِ، فَقالَ قَوْمٌ: هي النَّدَمُ، أخْذًا بِظاهِرِ قَوْلِهِ، ﷺ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» وقالَ قَوْمٌ: شُرُوطُها ثَلاثَةٌ: النَّدَمُ عَلى ما فاتَ، والإقْلاعُ عَنْهُ، والعَزْمُ عَلى أنْ لا يَعُودَ. وتَأوَّلُوا النَّدَمَ تَوْبَةً عَلى مُعْظَمِ التَّوْبَةِ نَحْوَ: الحَجُّ عَرَفَةٌ، وزادَ بَعْضُهم في الشُّرُوطِ، بِرَدِّ المَظالِمِ إذا قَدَرَ عَلى رَدِّها، وزادَ بَعْضُهم: المَطْعَمُ الحَلّالُ، وقالَ القَفّالُ: لا بُدَّ مَعَ تِلْكَ الشُّرُوطِ الثَّلاثَةِ مِنَ الإشْفاقِ فِيما بَيْنَ ذَلِكَ، وذَلِكَ أنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّوْبَةِ، ولا سَبِيلَ لَهُ إلى القَطْعِ بِأنَّهُ أتى بِها كَما لَزِمَهُ، فَيَكُونُ خائِفًا، ولِهَذا جاءَ يُحَذِّرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ آدَمَ وحَوّاءَ بَكَيا عَلى ما فاتَهُما مِن نَعِيمِ الجَنَّةِ مِائَتَيْ سَنَةٍ. وقَدْ ذَكَرُوا في كَثْرَةِ دُمُوعِ آدَمَ وداوُدَ شَيْئًا يَفُوتُ الحَصْرَ كَثْرَةً، وقالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: بَلَغَنِي أنَّ آدَمَ لَمّا أُهْبِطَ إلى الأرْضِ مَكَثَ ثَلاثَمِائَةِ سَنَةٍ لا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَياءً مِنَ اللَّهِ تَعالى. ورُوِيَ أنَّ اللَّهَ تَعالى تابَ عَلى آدَمَ في يَوْمِ عاشُوراءَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (إنَّهُ): بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وقَرَأ نَوْفَلُ بْنُ أبِي عَقْرَبٍ: أنَّهُ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، ووَجْهُهُ أنَّهُ فَتَحَ عَلى التَّعْلِيلِ، التَّقْدِيرُ: لِأنَّهُ، فالمَفْتُوحَةُ مَعَ ما بَعْدَها فَضْلَةٌ، إذْ هي في تَقْدِيرٍ مُفْرَدٍ ثابِتٍ واقِعٍ مَفْرُوغٍ مِن ثُبُوتِهِ لا يُمْكِنُ فِيهِ نِزاعُ مُنازِعٍ، وأمّا الكَسْرُ فَهي جُمْلَةٌ ثابِتَةٌ تامَّةٌ أُخْرِجَتْ مَخْرَجِ الإخْبارِ المُسْتَقِلِّ الثّابِتِ، ومَعَ ذَلِكَ فَلَها رَبْطٌ مَعْنَوِيٌّ بِما قَبْلَها، كَما جاءَتْ في: ﴿وما أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأمّارَةٌ﴾ [يوسف: ٥٣]، ﴿اتَّقُوا رَبَّكم إنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: ١]، ﴿وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ﴾ [التوبة: ١٠٣]، حَتّى لَوْ وُضِعَتِ الفاءُ الَّتِي تُعْطِي الرَّبْطَ مَكانَها أغْنَتْ عَنْها، وقالُوا: إنَّ إنَّ إنَّما تَجِيءُ لِتَثْبِيتِ ما يَتَرَدَّدُ المُخاطَبُ في ثُبُوتِهِ ونَفْيِهِ، فَإنْ قُطِعَ بِأحَدِ الأمْرَيْنِ، فَلَيْسَ مِن مَظانِّها، فَإنْ وُجِدَتْ داخِلَةً عَلى ما قُطِعَ فِيهِ بِأحَدِ الأمْرَيْنِ ظاهِرًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِتَنْزِيلِهِ مَنزِلَةَ المُتَرَدِّدِ فِيهِ لِأمْرٍ ما، وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلى ذَلِكَ في نَحْوِ: ﴿إنَّكم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾ [المؤمنون: ١٥]، (p-١٦٧)إنْ شاءَ اللَّهُ. ولَمّا دَخَلَتْ لِلتَّأْكِيدِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾، قَوِيَ التَّأْكِيدُ بِتَأْكِيدٍ آخَرَ، وهو لَفْظُهُ: (هو) . وقَدْ ذَكَرْنا فائِدَتَهُ في قَوْلِهِ: (وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) . وبُولِغَ أيْضًا في الصِّفَتَيْنِ بَعْدَهُ، فَجاءَ التَّوّابُ عَلى وزْنِ فَعّالٍ، والرَّحِيمُ عَلى وزْنٍ فَعِيلٍ، وهُما مِنَ الأمْثِلَةِ الَّتِي صِيغَتْ لِلْمُبالَغَةِ، وهَذا كُلُّهُ تَرْغِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِلْعَبْدِ في التَّوْبَةِ والرُّجُوعِ إلى الطّاعَةِ، وإطْماعٌ في عَفْوِهِ تَعالى وإحْسانِهِ لِمَن تابَ إلَيْهِ، والتَّوّابُ مِن أسْمائِهِ تَعالى، وهو الكَثِيرُ القَبُولُ لِتَوْبَةِ العَبْدِ، أوِ الكَثِيرِ الإعانَةِ عَلَيْها. وقَدْ ورَدَ هَذا الِاسْمُ في كِتابِ اللَّهِ مُعَرَّفًا ومُنَكَّرًا، ووَصَفَ بِهِ تَعالى نَفْسَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ مِمّا اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعالى. وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّهُ تَعالى لا يُوصَفُ بِهِ إلّا تَجَوُّزًا، وأجْمَعُوا أنَّهُ لا يُوصَفُ تَعالى بِتائِبٍ ولا آيِبٍ ولا رَجّاعٍ ولا مُنِيبٍ، وفُرِّقَ بَيْنَ إطْلاقِهِ عَلى اللَّهِ تَعالى وعَلى العَبْدِ، وذَلِكَ لِاخْتِلافِ صِلَتَيْهِما، ألا تَرى: (فَتابَ عَلَيْهِ)، (وتُوبُوا إلى اللَّهِ) ؟ فالتَّوْبَةُ مِنَ اللَّهِ عَلى العَبْدِ هي العَطْفُ والتَّفَضُّلُ عَلَيْهِ، ومِنَ العَبْدِ هي الرُّجُوعُ إلى طاعَتِهِ تَعالى، لِطَلَبِ ثَوابٍ، أوْ خَشْيَةِ عِقابٍ، أوْ رَفْعِ دَرَجاتٍ. وأعْقَبَ الصِّفَةَ الأوْلى بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ؛ لِأنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ سَبَبُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ، وتَقَدُّمُ التَّوّابِ لِمُناسَبَةِ (فَتابَ عَلَيْهِ)، ولِحُسْنِ خَتْمِ الفاصِلَةِ بِقَوْلِهِ: (الرَّحِيمِ) . وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في البَسْمَلَةِ عَلى لَفْظَةِ الرَّحِيمِ وما يَتَعَلَّقُ بِها، فَأغْنى ذَلِكَ عَنْ إعادَتِهِ. (قُلْنا اهْبِطُوا)، كَرَّرَ القَوْلَ، إمّا عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ المَحْضِ؛ لِأنَّ سَبَبَ الهُبُوطَ كانَ أوَّلَ مُخالَفَةٍ، فَكَرَّرَ تَنْبِيهًا عَلى ذَلِكَ، أوْ لِاخْتِلافِ مُتَعَلِّقَيْهِما؛ لِأنَّ الأوَّلَ عُلِّقَ بِهِ العَداوَةُ، والثّانِي عُلِّقَ بِإتْيانِ الهُدى. وأمّا لا عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، بَلْ هُما هُبُوطانِ حَقِيقَةً، الأوَّلُ مِنَ الجَنَّةِ إلى السَّماءِ، والثّانِي مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ، وضُعِّفَ هَذا الوَجْهُ بِقَوْلِهِ في الهُبُوطِ الأوَّلِ: ﴿ولَكم في الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾، ولَمْ يَحْصُلْ الِاسْتِقْرارُ عَلى هَذا التَّخْرِيجِ إلّا بِالهُبُوطِ الثّانِي، فَكانَ يَنْبَغِي الِاسْتِقْرارُ أنْ يُذْكَرَ فِيهِ وبِقَوْلِهِ في الهُبُوطِ الثّانِي مِنها، وظاهِرُ الضَّمِيرِ أنَّهُ يَعُودُ إلى الجَنَّةِ، فاقْتَضى ذَلِكَ أنْ يَكُونَ الهُبُوطَ الثّانِي مِنهُما. (جَمِيعًا): حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في اهْبِطُوا، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في لَفْظَةِ جَمِيعًا وأنَّها تَقْتَضِي التَّعْمِيمَ في الحُكْمِ، لا المُقارَنَةَ في الزَّمانِ عِنْدَ الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩]، فَهُنا يَدُلُّ عَلى أنَّهم كُلُّهم خُوطِبُوا بِالهُبُوطِ، فَقَدْ دَلّا عَلى اتِّحادِ زَمانِ الهُبُوطِ. وأبْعَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ في قَوْلِهِ: كَأنَّهُ قالَ هُبُوطًا جَمِيعًا، أوْ هابِطَيْنِ جَمِيعًا، فَجَعَلَهُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أوْ لِاسْمِ فاعِلٍ مَحْذُوفٍ، كُلٌّ مِنهُما يَدُلُّ عَلَيْهِ الفِعْلُ. قالَ: لِأنَّ جَمِيعًا لَيْسَ بِمَصْدَرٍ ولا اسْمَ فاعِلٍ، مَعَ مُنافاةِ ما قَدَّرَهُ لِلْحُكْمِ الَّذِي صَدَّرَهُ؛ لِأنَّهُ قالَ: أوَّلًا وجَمِيعًا حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في اهْبِطُوا. فَإذا كانَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في اهْبِطُوا عَلى ما قَرَّرَ أوَّلًا، فَكَيْفَ يُقَدَّرُ ثانِيًا ؟ كَأنَّهُ قالَ: هُبُوطًا جَمِيعًا، أوْ هابِطِينَ جَمِيعًا. فَكَلامُهُ أخِيرًا يُعارِضُ حُكْمَهُ أوَّلًا، ولا يُنافِي كَوْنَهُ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ ولا اسْمَ فاعِلٍ وُقُوعُهُ حالًا حَتّى يُضْطَرَّ إلى هَذا التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ، وأبْعَدَ غَيْرَهُ أيْضًا في زَعْمِهِ أنَّ التَّقْدِيرَ: وقُلْنا اهْبِطُوا مُجْتَمِعِينَ، فَهَبَطُوا جَمِيعًا، فَجَعَلَ ثُمَّ حالًا مَحْذُوفَةً لِدِلالَةِ جَمِيعًا عَلَيْها، وعامِلًا مَحْذُوفًا لِدِلالَةِ اهْبِطُوا عَلَيْهِ، ولا يَلْتَئِمُ هَذا التَّقْدِيرُ مَعَ ما بَعْدَهُ إلّا عَلى إضْمارِ قَوْلٍ: أيْ فَقُلْنا: إمّا يَأْتِيَنَّكم. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في المَأْمُورِينَ بِالهُبُوطِ، وعَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ هُبُوطًا ثانِيًا، فَقِيلَ يَخُصُّ آدَمَ وحَوّاءَ؛ لِأنَّ إبْلِيسَ لا يَأْتِيهِ هُدًى، وخُصّا بِخِطابِ الجَمْعِ تَشْرِيفًا لَهُما. وقِيلَ: يَنْدَرِجُ في الخِطابِ لِأنَّ إبْلِيسَ مُخاطَبٌ بِالإيمانِ بِالإجْماعِ، وإنْ شَرْطِيَّةٌ وما زائِدَةٌ بَعْدَها لِلتَّوْكِيدِ، والنُّونُ في يَأْتِيَنَّكم نُونُ التَّوْكِيدِ، وكَثُرَ مَجِيءُ هَذا النَّحْوِ في القُرْآنِ: (فَإمّا تَرَيِنَّ)، (وإمّا يَنْزَغَنَّكَ)، (فَإمّا نَذْهَبَنَّ) . قالَ أبُو العَبّاسِ الَمَهْدَوِيِّ: (إنَّ) هي الَّتِي لِلشَّرْطِ زِيدَتْ عَلَيْها ما لِلتَّأْكِيدِ لِيَصِحَّ دُخُولُ النُّونِ لِلتَّوْكِيدِ في الفِعْلِ، ولَوْ سَقَطَتْ، يَعْنِي ما لَمْ تَدْخُلِ النُّونُ، فَما تُؤَكَّدْ أوَّلَ الكَلامِ، والنُّونُ تُؤَكَّدُ آخِرَهُ. وتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ في هَذا فَقالَ: فَإنْ هي لِلشَّرْطِ، دَخَلَتْ ما عَلَيْها مُؤَكِّدَةً لِيَصِحَّ دُخُولُ النُّونِ (p-١٦٨)المُشَدَّدَةِ، فَهي بِمَثابَةِ لامِ القَسَمِ الَّتِي تَجِيءُ لِمَجِيءِ النُّونِ. انْتَهى كَلامُهُ. وهَذا الَّذِي ذَهَبا إلَيْهِ مِن أنَّ النُّونَ لازِمَةٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ إذا وُصِلَتْ (إنَّ) بِـ (ما) هو مَذْهَبُ المُبَرِّدِ والزَّجّاجِ، زَعَما أنَّها تَلْزَمُ تَشْبِيهًا بِما زِيدَتْ لِلتَّأْكِيدِ في لامِ اليَمِينِ نَحْوَ: واللَّهِ لَأخْرُجَنَّ. وزَعَمُوا أنَّ حَذْفَ النُّونِ إذا زِيدَتْ (ما) بَعْدَ (إنَّ) ضَرُورَةٌ، وذَهَبَ سِيبَوَيْهِ والفارِسِيُّ وجَماعَةٌ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ إلى أنَّ ذَلِكَ لا يُخْتَصُّ بِالضَّرُورَةِ، وأنَّهُ يَجُوزُ في الكَلامِ إثْباتُها وحَذْفُها، وإنْ كانَ الإثْباتُ أحْسَنَ. وكَذَلِكَ يَجُوزُ حَذْفُ (ما) وإثْباتُ النُّونِ، قالَ سِيبَوَيْهِ في هَذِهِ المَسْألَةِ: وإنْ شِئْتَ لَمْ تُقْحِمِ النُّونَ، كَما أنَّكَ إنْ شِئْتَ لَمْ تَجِئْ بِـ (ما) انْتَهى كَلامُهُ. وقَدْ كَثُرَ السَّماعُ بِعَدَمِ النُّونِ بَعْدَ (إمّا) قالَ الشَّنْفَرى: ؎فَإمّا تَرَيْنِي كابْنَةِ الرَّمْلِ ضاحِيًا عَلى رِقَّةٍ أحْفى ولا أتَنَعَّلُ وقالَ آخَرُ: ؎يا صاحِ إمّا تَجِدْنِي غَيْرَ ذِي جَدَّةٍ ∗∗∗ فَما التَّخَلِّي عَنِ الإخْوانِ مِن شِيَمِي وقالَ آخَرُ: ؎زَعَمَتْ تُماضِرُ أنَّنِي إمّا أمُتْ ∗∗∗ تُسَدِّدُ بَنُوها الأصاغِرُ خُلَّتِي والقِياسُ يَقْبَلُهُ؛ لِأنَّ (ما) زِيدَتْ حَيْثُ لا يُمْكِنُ دُخُولُ النُّونِ، نَحْوَ قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎إمّا أقَمْتُ وإمّا كُنْتُ مُرْتَحِلًا ∗∗∗ فاللَّهُ يَحْفَظُ ما تُبْقِي وما تَذَرُ فَكَما جاءَتْ هُنا زائِدَةً بَعْدَ (إنَّ) فَكَذَلِكَ في نَحْوِ: إمّا تَقُمْ يَأْتِيَنَّكم، مَبْنِيٌّ مَفْتُوحُ الآخِرِ. واخْتُلِفَ في هَذِهِ الفَتْحَةِ أهِيَ لِلْبِناءِ، أمْ بُنِيَ عَلى السُّكُونِ وحُرِّكَ بِالفَتْحَةِ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ. وقَدْ أوْضَحْنا ذَلِكَ في كِتابِنا المُسَمّى (بِالتَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) . (مِنِّي): مُتَعَلِّقٌ بِيَأْتِيَنَّكم، وهَذا شَبِيهٌ بِالِالتِفاتِ؛ لِأنَّهُ انْتَقَلَ مِنَ الضَّمِيرِ المَوْضُوعِ لِلْجَمْعِ، أوِ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ، إلى الضَّمِيرِ الخاصِّ بِالمُتَكَلِّمِ المُفْرَدِ. وقَدْ ذَكَرْنا حِكْمَةَ ذاكَ الضَّمِيرِ في: قُلْنا، عِنْدَ شَرْحِ قَوْلِهِ: ﴿وقُلْنا ياآدَمُ اسْكُنْ﴾ [البقرة: ٣٥]، وحِكْمَةُ هَذا الِانْتِقالِ هُنا أنَّ الهُدى لا يَكُونُ إلّا مِنهُ وحْدَهُ تَعالى، فَناسَبَ الضَّمِيرُ الخاصُّ كَوْنَهُ لا هادِيَ إلّا هو تَعالى، فَأعْطى الخاصَّ الَّذِي لا يُشارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ الضَّمِيرَ الخاصَّ الَّذِي لا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ تَعالى. وفي قَوْلِهِ: مِنِّي، إشارَةٌ إلى أنَّ الخَيْرَ كُلَّهُ مِنهُ، ولِذَلِكَ جاءَ: (قَدْ جاءَكم بِرِهانٌ مِن رَبِّكم وقَدْ جاءَتْكم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكم وشِفاءٌ)، فَأتى بِكَلِمَةِ: مِن، الدّالَّةِ عَلى الِابْتِداءِ في الأشْياءِ، لِيُنَبَّهَ عَلى أنَّ ذَلِكَ صادِرٌ مِنهُ ومُبْتَدَأٌ مِن جِهَتِهِ تَعالى، وأتى بِأداةِ الشَّرْطِ في قَوْلِهِ: ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى﴾، وهي تَدْخُلُ عَلى ما يُتَرَدَّدُ في وُقُوعِهِ، والَّذِي أُبْهِمَ زَمانُ وُقُوعِهِ، وإتْيانُ الهُدى واقِعٌ لا مَحالَةَ؛ لِأنَّهُ أبْهَمَ وقْتَ الإتْيانِ، أوْ لِأنَّهُ آذَنَ ذَلِكَ بِأنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ تَعالى لَيْسَ شَرْطًا فِيهِ إتْيانُ رُسُلٍ مِنهُ، ولا إنْزالُ كُتُبٍ بِذَلِكَ، بَلْ لَوْ لَمْ يَبْعَثْ رُسُلًا، ولا أنْزَلَ كُتُبًا، لَكانَ الإيمانُ بِهِ واجِبًا، وذَلِكَ لِما رَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ العَقْلِ، ونَصَّبَ لَهم مِنَ الأدِلَّةِ، ومَكَّنَ لَهم مِنَ الِاسْتِدْلالِ، كَما قالَ: ؎وفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ∗∗∗ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ واحِدُ قالَ مَعْناهُ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ إنْشادِ الشِّعْرِ. هُدًى: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى الهُدى في قَوْلِهِ: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، ونَكَّرَهُ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ هو المُطْلَقُ، ولَمْ يَسْبِقْ عَهْدٌ فِيهِ فَيُعَرَّفَ. والهُدى المَذْكُورُ هُنا: الكُتُبُ المُنَزَّلَةُ، أوِ الرُّسُلُ، أوِ البِيانُ، أوِ القُدْرَةُ عَلى الطّاعَةِ، أوْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ، أقْوالٌ. فَمَن تَبِعَ: الفاءُ مَعَ ما دَخَلَتْ عَلَيْهِ جَوابٌ لِقَوْلِهِ: (فَإمّا يَأْتِيَنَّكم) . وقالَ السَّجاوِنْدِي: الجَوابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فاتَّبِعُوهُ. انْتَهى. فَكَأنَّهُ عَلى رَأْيِهِ حُذِفَ لِدَلالَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: (فَمَن تَبِعَ هُدايَ) . وتَظافَرَتْ نُصُوصُ المُفَسِّرِينَ والمُعْرِبِينَ عَلى أنَّ (مَن) في قَوْلِهِ: (فَمَن تَبِعَ) شَرْطِيَّةٌ، وأنَّ جَوابَ هَذا الشَّرْطِ هو قَوْلُهُ: (فَلا خَوْفٌ)، فَتَكُونُ الآيَةُ فِيها (p-١٦٩)شَرْطانِ، وحُكِيَ عَنِ الكِسائِيِّ أنَّ قَوْلَهُ: (فَلا خَوْفٌ) جَوابٌ لِلشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا، وقَدْ أتْقَنّا مَسْألَةَ اجْتِماعِ الشَّرْطَيْنِ في (كِتابِ التَّكْمِيلِ)، ولا يَتَعَيَّنُ عِنْدِي أنْ تَكُونَ (مِن) شَرْطِيَّةً، بَلْ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، بَلْ يَتَرَجَّحُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ في قَسِيمِهِ: (والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا)، فَأتى بِهِ مَوْصُولًا، ويَكُونُ قَوْلُهُ: (فَلا خَوْفٌ) جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الخَبَرِ. وأمّا دُخُولُ الفاءِ في الجُمْلَةِ الواقِعَةِ خَبَرًا، فَإنَّ الشُّرُوطَ المُسَوِّغَةَ لِذَلِكَ مَوْجُودَةٌ هُنا. وفِي قَوْلِهِ: (فَمَن تَبِعَ هُدايَ)، تَنْزِيلُ الهُدى مَنزِلَةَ الإمامِ المُتَّبَعِ المُقْتَدى بِهِ، فَتَكُونُ حَرَكاتُ التّابِعِ وسَكَناتُهُ مُوافَقَةً لِمَتْبُوعِهِ، وهو الهُدى، فَحِينَئِذٍ يَذْهَبُ عَنْهُ الخَوْفُ والحُزْنُ. وفي إضافَةِ الهُدى إلَيْهِ مِن تَعْظِيمِ الهُدى ما لا يَكُونُ فِيهِ لَوْ كانَ مُعَرَّفًا بِالألِفِ واللّامِ، وإنْ كانَ سَبِيلُ مِثْلِ هَذا أنْ يَعُودَ بِالألِفِ واللّامِ نَحْوَ قَوْلِهِ: (إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)، والإضافَةُ تُؤَدِّي مَعْنى الألِفِ واللّامِ مِنَ التَّعْرِيفِ، ويَزِيدُ عَلى ذَلِكَ بِمَزِيَّةِ التَّعْظِيمِ والتَّشْرِيفِ. وقَرَأ الأعْرَجُ: (هُدايْ) بِسُكُونِ الياءِ، وفِيهِ الجَمْعُ بَيْنَ ساكِنَيْنِ، كَقِراءَةِ مَن قَرَأ: ومَحْيايْ، وذَلِكَ مِن إجْراءِ الوَصْلِ مَجْرى الوَقْفِ. وقَرَأ عاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي إسْحاقَ وعِيسى بْنُ أبِي عُمَرَ: (هُدِيِّي) بِقَلْبِ الألِفِ ياءً وإدْغامِها في ياءِ المُتَكَلِّمِ، إذْ لَمْ يُمْكِنْ كَسْرُ ما قَبْلَ الياءِ؛ لِأنَّهُ حَرْفٌ لا يَقْبَلُ الحَرَكَةَ، وهي لُغَةُ هُذَيْلٍ، يَقْلِبُونَ ألِفَ المَقْصُورِ ياءً ويُدْغِمُونَها في ياءِ المُتَكَلِّمِ، وقالَ شاعِرُهم: ؎سَبَقُوا هَوَيَّ وأعْنَقُوا لِهَواهُمُ ∗∗∗ فَتَخَرَّمُوا ولِكُلِّ قَوْمٍ مَصْرَعُ (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ): قَرَأ الجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ والتَّنْوِينِ، وقَرَأ الزُّهْرِيُّ وعِيسى الثَّقَفِيُّ ويَعْقُوبُ بِالفَتْحِ في جَمِيعِ القُرْآنِ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِاخْتِلافٍ عَنْهُ بِالرَّفْعِ مِن غَيْرِ تَنْوِينٍ، وجْهُ قِراءَةِ الجُمْهُورِ مُراعاةُ الرَّفْعِ في (ولا هم يَحْزَنُونَ)، فَرَفَعُوا لِلتَّعادُلِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والرَّفْعُ عَلى إعْمالِها إعْمالَ لَيْسَ، ولا يَتَعَيَّنُ ما قالَهُ، بَلِ الأوْلى أنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِداءِ لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ إعْمالَ (لا) عَمَلَ (لَيْسَ) قَلِيلٌ جِدًّا، ويُمْكِنُ النِّزاعُ في صِحَّتِهِ، وإنْ صَحَّ فَيُمْكِنُ النِّزاعُ في اقْتِياسِهِ، والثّانِي: حُصُولُ التَّعادُلِ بَيْنَهُما، إذْ تَكُونُ (لا) قَدْ دَخَلَتْ في كِلْتا الجُمْلَتَيْنِ عَلى مُبْتَدَأٍ ولَمْ تَعْمَلْ فِيهِما، ووَجْهُ قِراءَةِ الزُّهْرِيِّ ومَن وافَقَهُ أنَّ ذَلِكَ نَصٌّ في العُمُومِ، فَيَنْفِي كُلَّ فَرْدٍ مِن مَدْلُولِ الخَوْفِ، وأمّا الرَّفْعُ فَيُجَوِّزُهُ ولَيْسَ نَصًّا، فَراعَوْا ما دَلَّ عَلى العُمُومِ بِالنَّصِّ دُونَ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالظّاهِرِ. وأمّا قِراءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ فَخَرَّجَها ابْنُ عَطِيَّةَ عَلى أنَّهُ مِن إعْمالِ (لا) عَمَلَ (لَيْسَ) وأنَّهُ حَذَفَ التَّنْوِينَ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، وقَدْ ذَكَرْنا ما في إعْمالِ (لا) عَمَلَ (لَيْسَ) فالأوْلى أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً كَما ذَكَرْناهُ، إذا كانَ مَرْفُوعًا مُنَوَّنًا، وحُذِفَ تَنْوِينُهُ كَما قالَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عُرِّيَ مِنَ التَّنْوِينِ؛ لِأنَّهُ عَلى نِيَّةِ الألِفِ واللّامِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَلا الخَوْفُ عَلَيْهِمْ، ويَكُونُ مِثْلَ ما حَكى الأخْفَشُ عَنِ العَرَبِ: سَلامُ عَلَيْكم، بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. قالُوا: يُرِيدُونَ السَّلامُ عَلَيْكم، ويَكُونُ هَذا التَّخْرِيجُ أوْلى، إذْ يَحْصُلُ التَّعادُلُ في كَوْنِ (لا) دَخَلَتْ عَلى المَعْرِفَةِ في كِلْتا الجُمْلَتَيْنِ، وإذا دَخَلَتْ عَلى المَعارِفِ لَمْ تُجْرَ مَجْرى لَيْسَ، وقَدْ سُمِعَ مِن ذَلِكَ بَيْتٌ لِلنّابِغَةِ الجَعْدِيِّ، وتَأوَّلَهُ النُّحاةُ وهو: ؎وحَلَّتْ سَوادَ القَلْبِ لا أنا باغِيًا ∗∗∗ سِواها ولا في حُبِّها مُتَراخِيًا وقَدْ لَحَّنُوا أبا الطِّيبِ في قَوْلِهِ: ؎فَلا الحَمْدُ مَكْسُوبًا ولا المالُ باقِيًا وكَنّى بِقَوْلِهِ: (عَلَيْهِمْ) عَنِ الِاسْتِيلاءِ والإحاطَةِ، ونَزَلَ المَعْنى مَنزِلَةَ الجُرْمِ، ونَفى كَوْنَهُ مُعْتَلِيًا مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِمْ، وفي ذَلِكَ إشارَةٌ لَطِيفَةٌ إلى أنَّ الخَوْفَ لا يَنْتَفِي بِالكُلِّيَّةِ، ألا تَرى إلى انْصِبابِ النَّفْيِ عَلى كَيْنُونَةِ الخَوْفِ عَلَيْهِمْ ؟ ولا يَلْزَمُ مِن كَيْنُونَةِ اسْتِعْلاءِ الخَوْفِ انْتِفاءُ الخَوْفِ في كُلِّ حالٍ، ولِذَلِكَ قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: لَيْسَ في قَوْلِهِ: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) دَلِيلٌ عَلى نَفْيِ أهْوالِ يَوْمِ القِيامَةِ وخَوْفِها عَنِ المُطِيعِينَ لِما وصَفَهُ اللَّهُ تَعالى ورَسُولُهُ مِن شَدائِدِ القِيامَةِ، (p-١٧٠)إلّا أنَّها مُخَفَّفَةٌ عَنِ المُطِيعِينَ، فَإذا صارُوا إلى رَحْمَتِهِ، فَكَأنَّهم لَمْ يَخافُوا، وقَدَّمَ عَدَمَ الخَوْفِ عَلى عَدَمِ الحُزْنِ؛ لِأنَّ انْتِفاءَ الخَوْفِ فِيما هو آتٍ آكَدُ مِنِ انْتِفاءِ الحُزْنِ عَلى ما فاتَ، ولِذَلِكَ أُبْرِزَتْ جُمْلَتُهُ مُصَدَّرَةً بِالنَّكِرَةِ الَّتِي هي أوْغَلُ في بابِ النَّفْيِ، وأُبْرِزَتِ الثّانِيَةُ مُصَدَّرَةً بِالمَعْرِفَةِ في قَوْلِهِ: (ولا هم يَحْزَنُونَ) . وفِي قَوْلِهِ: ولا هم يَحْزَنُونَ إشارَةٌ إلى اخْتِصاصِهِمْ بِانْتِفاءِ الحُزْنِ، وأنَّ غَيْرَهم يَحْزَنُ، ولَوْ لَمْ يُشِرْ إلى هَذا المَعْنى لَكانَ (ولا يَحْزَنُونَ) كافِيًا، ولِذَلِكَ أوْرَدَ نَفْيَ الحُزْنِ عَنْهم وإذْهابَهُ في قَوْلِهِ: (إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهم) إلى قَوْلِهِ: ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ وتَتَلَقّاهُمُ المَلائِكَةُ﴾ [الأنبياء: ١٠٣] ومَعْلُومٌ أنَّ هَذَيْنِ الخَبَرَيْنِ وما قَبْلَهُما مِنَ الخَبَرِ مُخْتَصٌّ بِالَّذِينَ سَبَقَتْ لَهم مِنَ اللَّهِ الحُسْنى، وفي قَوْلِهِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنّا الحَزَنَ﴾ [فاطر: ٣٤]، فَدَلَّ هَذا كُلُّهُ عَلى أنَّ غَيْرَهم يُحْزِنُهُ الفَزَعُ، ولا يَذْهَبُ عَنْهُمُ الحَزَنُ. وحُكِيَ عَنِ المُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ أقْوالٌ: أحَدُها: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيما يَسْتَقْبِلُونَ مِنَ العَذابِ ولا يَحْزَنُونَ عِنْدَ المَوْتِ، الثّانِي: لا يَتَوَقَّعُونَ مَكْرُوهًا في المُسْتَقْبَلِ، ولا هم يَحْزَنُونَ لِفَواتِ المَرْغُوبِ في الماضِي والحالِ، الثّالِثُ: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيما يَسْتَقْبِلُهم، ولا هم يَحْزَنُونَ فِيما خَلْفَهُ، الرّابِعُ: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيما بَيْنَ أيْدِيهِمْ مِنَ الآخِرَةِ، ولا هم يَحْزَنُونَ عَلى ما فاتَهم مِنَ الدُّنْيا، الخامِسُ: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِن عِقابٍ، ولا هم يَحْزَنُونَ عَلى فَواتِ ثَوابٍ، السّادِسُ: إنَّ الخَوْفَ اسْتِشْعارُ غَمٍّ لِفَقْدِ مَطْلُوبٍ، والحُزْنَ اسْتِشْعارُ غَمٍّ لِفَواتِ مَحْبُوبٍ، السّابِعُ: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيما بَيْنَ أيْدِيهِمْ مِنَ الدُّنْيا، ولا هم يَحْزَنُونَ عَلى ما فاتَهم مِنها، الثّامِنُ: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ، ولا هم يَحْزَنُونَ فِيها، التّاسِعُ: أنَّهُ أشارَ إلى أنَّهُ يُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ الَّتِي هي دارُ السُّرُورِ والأمْنِ، لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيها ولا حُزْنٌ، العاشِرُ: ما قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أمامَهم، فَلَيْسَ شَيْءٌ أعْظَمَ في صَدْرِ الَّذِي يَمُوتُ مِمّا بَعْدَ المَوْتِ، فَأمَّنَهُمُ اللَّهُ مِنهُ، ثُمَّ سَلّاهم عَنِ الدُّنْيا، ولا هم يَحْزَنُونَ عَلى ما خَلَّفُوهُ بَعْدَ وفاتِهِمْ في الدُّنْيا، الحادِي عَشَرَ: لا خَوْفٌ حِينَ أطْبَقَتِ النّارُ، ولا حُزْنٌ حِينَ ذُبِحَ المَوْتُ في صُورَةِ كَبْشٍ عَلى الصِّراطِ، فَقِيلَ لِأهْلِ الجَنَّةِ والنّارِ: خُلُودٌ فَلا مَوْتٌ، الثّانِي عَشَرَ: لا خَوْفٌ ولا حُزْنٌ عَلى الدَّوامِ. وهَذِهِ الأقْوالُ كُلُّها مُتَقارِبَةٌ، وظاهِرُ الآيَةِ عُمُومُ نَفْيِ الخَوْفِ والحُزْنِ عَنْهم، لَكِنْ يُخَصُّ بِما بَعْدَ الدُّنْيا؛ لِأنَّهُ في دارِ الدُّنْيا قَدْ يَلْحَقُ المُؤْمِنَ الخَوْفُ والحُزْنُ، فَلا يُمْكِنُ حَمْلُ الآيَةِ عَلى ظاهِرِها مِنَ العُمُومِ لِذَلِكَ. (والَّذِينَ كَفَرُوا) قَسِيمٌ لِقَوْلِهِ (فَمَن تَبِعَ هُدايَ) وهو أبْلَغُ مِن قَوْلِهِ: ومَن لَمْ يَتْبَعْ هُدايَ، وإنْ كانَ التَّقْسِيمُ اللَّفْظِيُّ يَقْتَضِيهِ؛ لِأنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ يَكُونُ بِوُجُوهٍ، مِنها: عَدَمُ القابِلِيَّةِ بِخِلْقَةٍ أوْ غَفْلَةٍ، ومِنها تَعَمُّدُ تَرْكِ الشَّيْءِ، فَأُبْرِزَ القَسِيمُ بِقَوْلِهِ: (والَّذِينَ كَفَرُوا) في صُورَةٍ ثُبُوتِيَّةٍ لِيَكُونَ مُزِيلًا لِلِاحْتِمالِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّفْيُ، ولَمّا كانَ الكُفْرُ قَدْ يَعْنِي كُفْرَ النِّعْمَةِ وكُفْرَ المَعْصِيَةِ بَيَّنَ: أنَّ المُرادَ هُنا الشِّرْكُ، بِقَوْلِهِ: وكَذَّبُوا بِآياتِنا، وبِآياتِنا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وكَذَّبُوا، وهو مِن إعْمالِ الثّانِي، إنْ قُلْنا: إنَّ (كَفَرُوا) يَطْلُبُهُ مِن حَيْثُ المَعْنى، وإنْ قُلْنا: لا يَطْلُبُهُ، فَلا يَكُونُ مِنَ الإعْمالِ، ويَحْتَمِلُ الوَجْهَيْنِ، والآياتُ هُنا: الكُتُبُ المُنَزَّلَةُ عَلى جَمِيعِ الأُمَمِ، أوْ مُعْجِزاتُ الأنْبِياءِ، عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أوِ القُرْآنُ، أوْ دَلائِلُ اللَّهِ في مَصْنُوعاتِهِ، أقْوالٌ. وأُولَئِكَ: مُبْتَدَأٌ، وأصْحابُ: خَبَرٌ عَنْهُ، والجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: والَّذِينَ كَفَرُوا، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ أُولَئِكَ بَدَلًا وعَطْفَ بَيانٍ، فَيَكُونُ (أصْحابُ النّارِ) إذْ ذاكَ، خَبَرًا عَنِ (الَّذِينَ كَفَرُوا) وفي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ دَلالَةٌ عَلى اخْتِصاصِ مَن كَفَرَ وكَذَّبَ بِالنّارِ، فَيُفْهَمُ أنَّ مَنِ اتَّبَعَ الهُدى هم أصْحابُ الجَنَّةِ. وكانَ التَّقْسِيمُ يَقْتَضِي أنَّ مَنِ اتَّبَعَ الهُدى لا خَوْفٌ ولا حَزْنٌ يَلْحَقُهُ، وهو صاحِبُ الجَنَّةِ، ومَن كَذَّبَ يَلْحَقُهُ الخَوْفُ والحُزْنُ، وهو صاحِبُ النّارِ، فَكَأنَّهُ حُذِفَ مِنَ الجُمْلَةِ الأُولى شَيْءٌ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ في الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ، ومِنَ الثّانِيَةِ شَيْءٌ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ في الجُمْلَةِ الأُولى، فَصارَ نَظِيرَ قَوْلِ الشّاعِرِ:(p-١٧١) ؎وإنِّي لَتَعْرُونِي لِذاكِرٍ فَتْرَةٌ ∗∗∗ كَما انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ وفِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ، إشارَةٌ إلى الذَّواتِ المُتَّصِفَةِ بِالكُفْرِ والتَّكْذِيبِ، وكَأنَّ فِيها تَكْرِيرًا وتَوْكِيدًا لِذِكْرِ المُبْتَدَأِ السّابِقِ. والصُّحْبَةُ مَعْناها: الِاقْتِرانُ بِالشَّيْءِ، والغالِبُ في العُرْفِ أنْ يَنْطَلِقَ عَلى المُلازَمَةِ، وإنْ كانَ أصْلُها في اللُّغَةِ: أنْ تَنْطَلِقَ عَلى مُطْلَقِ الِاقْتِرانِ، والمُرادُ بِها هُنا: المُلازَمَةُ الدّائِمَةُ، ولِذَلِكَ أكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: هم فِيها خالِدُونَ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ حالِيَّةً، كَما جاءَ في مَكانٍ آخَرَ: أُولَئِكَ أصْحابُ الجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها، فَيَكُونُ إذْ ذاكَ لَها مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ نَصْبٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُفَسِّرَةً لِما أنَّبَهم في قَوْلِهِ: أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ، فَفَسَّرَ وبَيَّنَ أنَّ هَذِهِ الصُّحْبَةَ لا يُرادُ بِها مُطْلَقُ الِاقْتِرانِ، بَلِ الخُلُودُ، فَلا يَكُونُ لَها إذْ ذاكَ مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا ثانِيًا لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هو: أُولَئِكَ، فَيَكُونُ قَدْ أخْبَرَ عَنْهُ بِخِبْرَيْنِ: أحَدُهُما مُفْرَدٌ، والآخَرُ جُمْلَةٌ، وذَلِكَ عَلى مَذْهَبِ مَن يَرى ذَلِكَ، فَيَكُونُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى الخُلُودِ، وهَلْ هو المُكْثُ زَمانًا لا نِهايَةَ لَهُ، أوْ زَمانًا لَهُ نِهايَةٌ ؟
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب