الباحث القرآني

الصادق لا نهاية لطلبه ولا فتور لقصده، بل قصده أتم وطلبه أكمل ونيته. قال تعالى: ﴿واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيكَ اليَقِينْ﴾ واليقين هنا الموت باتفاق أهل الإسلام، فجاء ﷺ إذ جاءه وإرادته وقصده ونيته في الذروة العليا ونهاية كمالها وتمامها، فأين العلة في هذه الإرادة؟ ولكن العلة والنقص في الإرادة التي يكون مصدرها النفس والهوى، وغايتها نيل حظ المريد من محبوبه، وإن كان المحبوب يريد ذلك لكن غيره أحب إليه منه، وهو أن يكون مراده محض حق محبوبه وحصول مرضاته، فانيًا عن حظه هو من محبوبه، بل قد صار حظه منه نفس حقه ومراده، فهذه هي الإرادة والمحبة التي لا عِلَّة فيها ولا نقص. نسأل الله تعالى أن يمن علينا ويحيينا ولو بنفس منها، كما منّ بتعليمها ومعرفتها إنه جواد كريم. * (فصل) قال ابن القيم - بعد كلام طويل عن منزلة الفناء -: وَيَقُولُ قائِلُهُمْ: مَن شَهِدَ الحَقِيقَةَ سَقَطَ عَنْهُ الأمْرُ، ويَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ [الحجر: ٩٩] ويُفَسِّرُونَ اليَقِينَ بِشُهُودِ الحُكْمِ الكَوْنِيِّ، وهي الحَقِيقَةُ عِنْدَهم. وَلا رَيْبَ أنَّ العامَّةَ خَيْرٌ مِن هَؤُلاءِ وأصَحُّ إيمانًا، فَإنَّ هَذا زَنْدَقَةٌ ونِفاقٌ، وكَذِبٌ مِنهم عَلى أنْفُسِهِمْ ونَبِيِّهِمْ وإلَهِهِمْ. أمّا كَذِبُهم عَلى أنْفُسِهِمْ فَإنَّهم لا بُدَّ أنْ يُفَرِّقُوا قَطْعًا، فَرَغِبُوا عَنِ الفَرْقِ النَّبَوِيِّ والقُرْآنِيِّ، ووَقَعُوا في الفَرْقِ النَّفْسِيِّ الطَّبْعِيِّ، مِثْلَ حالِ إبْلِيسَ، تَكَبَّرَ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ، ورَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالقِيادَةِ لِفُسّاقِ ذُرِّيَّتِهِ، ومِثْلَ المُشْرِكِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ الحَيِّ القَيُّومِ، وَرَضُوا لِأنْفُسِهِمْ بِعِبادَةِ الأحْجارِ والأشْجارِ والمَوْتى والأوْثانِ، ومِثْلَ أهْلِ البِدَعِ تَكَبَّرُوا عَنْ تَقْلِيدِ النُّصُوصِ، وتَلَقِّي الهُدى مِن مِشْكاتِها، ورَضُوا لِأنْفُسِهِمْ بِتَقْلِيدِ أقْوالٍ مُخالِفَةٍ لِلْفِطْرَةِ والعَقْلِ والشَّرْعِ، وظَنُّوها قَواطِعَ عَقْلِيَّةً، وقَدَّمُوها عَلى نُصُوصِ الأنْبِياءِ، وهي في الحَقِيقَةِ شُبُهاتٌ مُخالِفَةٌ لِلسَّمْعِ والعَقْلِ. وَمِثْلَ الجَهْمِيَّةِ نَزَّهُوا الرَّبَّ عَنْ عَرْشِهِ، وجَعَلُوهُ في أجْوافِ البُيُوتِ والحَوانِيتِ والحَمّاماتِ، وقالُوا: هو في كُلِّ مَكانٍ بِذاتِهِ، ونَزَّهُوهُ عَنْ صِفاتِ كَمالِهِ ونُعُوتِ جَلالِهِ حَذَرًا - بِزَعْمِهِمْ - مِنَ التَّشْبِيهِ فَشَبَّهُوهُ بِالجامِداتِ النّاقِصَةِ الخَسِيسَةِ الَّتِي لا تَتَكَلَّمُ، ولا سَمْعَ لَها ولا بَصَرَ، ولا عِلْمَ ولا حَياةَ، بَلْ شَبَّهُوهُ بِالمَعْدُوماتِ المُمْتَنِعِ وُجُودُها. وَمِثْلَ المُعَطَّلَةِ الَّذِينَ قالُوا: ما فَوْقَ العَرْشِ إلّا العَدَمُ، ولَيْسَ فَوْقَ العَرْشِ رَبٌّ يُعْبَدُ، ولا إلَهٌ يُصَلّى لَهُ ويُسْجَدُ، ولا تَرْتَفِعُ الأيْدِي إلَيْهِ، ولا رَفَعَ المَسِيحُ إلَيْهِ، ولا تَعَرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ، ولا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَيْهِ، ولا دُنِّيَ مِنهُ حَتّى كانَ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنى، ولا يَنْزِلُ مِن عِنْدِهِ شَيْءٌ، ولا يَصْعَدُ إلَيْهِ شَيْءٌ، ولا يَراهُ أهْلُ الجَنَّةِ مِن فَوْقِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ، واسْتِواؤُهُ عَلى عَرْشِهِ لا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ عَلى المَجازِ الَّذِي يَصِحُّ نَفْيُهُ، وعُلُوُّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ بِالرُّتْبَةِ والشَّرَفِ لا بِالذّاتِ، وكَذَلِكَ فَوَقِيَّتُهُ فَوْقِيَّةُ قَهْرٍ، لا فَوْقِيَّةَ ذاتٍ، فَنَزَّهُوهُ عَنْ كَمالِ عُلُوِّهِ وفَوْقِيَّتِهِ، ووَصَفُوهُ بِما ساوَوْا بِهِ بَيْنَهُ وبَيْنَ العَدَمِ والمُسْتَحِيلِ، فَقالُوا: لا هو داخِلَ العالَمِ، ولا خارِجَهُ، ولا مُتَّصِلٌ بِهِ، ولا مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، ولا مُحايِثٌ لَهُ، ولا مُبايِنٌ لَهُ، ولا هو فِينا، ولا خارِجٌ عَنّا. وَمَعْلُومٌ أنَّهُ لَوْ قِيلَ لِأحَدِهِمْ: صِفْ لَنا العَدَمَ، لَوَصَفَهُ بِهَذا بِعَيْنِهِ. وانْطِباقُ هَذا السَّلْبِ عَلى العَدَمِ المَحْضِ أقْرَبُ إلى العُقُولِ والفِطَرِ مِنِ انْطِباقِهِ عَلى رَبِّ العالَمِينَ الَّذِي لَيْسَ في مَخْلُوقاتِهِ شَيْءٌ مِن ذاتِهِ، ولا في ذاتِهِ شَيْءٌ مِن مَخْلُوقاتِهِ، بَلْ هو بائِنٌ مِن خَلْقِهِ، مُسْتَوٍ عَلى عَرْشِهِ، عالٍ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ. والقَصْدُ أنَّ كُلَّ مَن أعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الحَقِّ وجَحَدَهُ، وقَعَ في باطِلٍ مُقابِلٍ لِما أعْرَضَ عَنْهُ مِنَ الحَقِّ وجَحَدَهُ ولا بُدَّ، حَتّى في الأعْمالِ مَن رَغِبَ عَنِ العَمَلِ لِوَجْهِ اللَّهِ وحْدَهُ ابْتَلاهُ اللَّهُ بِالعَمَلِ لِوُجُوهِ الخَلْقِ، فَرَغِبَ عَنِ العَمَلِ لِمَن ضَرُّهُ ونَفْعُهُ ومَوْتُهُ وحَياتُهُ وسَعادَتُهُ بِيَدِهِ، فابْتُلِيَ بِالعَمَلِ لِمَن لا يَمْلِكُ لَهُ شَيْئًا مِن ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَن رَغِبَ عَنْ إنْفاقِ مالِهِ في طاعَةِ اللَّهِ ابْتُلِيَ بِإنْفاقِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وهو راغِمٌ. وَكَذَلِكَ مَن رَغِبَ عَنِ التَّعَبِ لِلَّهِ ابْتُلِيَ بِالتَّعَبِ في خِدْمَةِ الخَلْقِ ولا بُدَّ. وَكَذَلِكَ مَن رَغِبَ عَنِ الهَدْيِ بِالوَحْيِ، ابْتُلِيَ بِكُناسَةِ الآراءِ وزِبالَةِ الأذْهانِ، ووَسَخِ الأفْكارِ. فَلْيَتَأمَّلْ مَن يُرِيدُ نُصْحَ نَفْسِهِ وسَعادَتَها وفَلاحَها هَذا المَوْضِعَ في نَفْسِهِ وفي غَيْرِهِ. وَلا رَيْبَ أنَّ العامَّةَ - مَعَ غَفْلَتِهِمْ وشَهَواتِهِمْ - أصَحُّ إيمانًا مِن هَؤُلاءِ إذا لَمْ يُعَطِّلُوا الأمْرَ والنَّهْيَ، فَإنَّ إيمانًا مَعَ تَفْرِقَةٍ وغَفْلَةٍ، خَيْرٌ مِن شُهُودٍ وجَمْعِيَّةٍ يَصْحَبُها فَسادُ الإيمانِ والِانْسِلاخُ مِنهُ. وَأمّا كَذِبُهم عَلى نَبِيِّهِمْ فاعْتِقادُهم أنَّهُ إنَّما كانَ قِيامُهُ بِالأوْرادِ والعِباداتِ لِأجْلِ التَّشْرِيعِ، لا لِأنَّها فَرْضٌ عَلَيْهِ، إذْ قَدْ سَقَطَ ذَلِكَ عَنْهُ بِشُهُودِ الحَقِيقَةِ وكَمالِ اليَقِينِ، فَإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أمَرَهُ وأمَرَ سائِرَ رُسُلِهِ بِعِبادَتِهِ إلى حِينِ انْقِضاءِ آجالِهِمْ، فَقالَ ﴿واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ [الحجر: ٩٩] وهو المَوْتُ بِالإجْماعِ كَما قالَ في الآيَةِ الأُخْرى عَنِ الكُفّارِ ﴿وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتّى أتانا اليَقِينُ﴾ [المدثر: ٤٦] وقالَ ﷺ «أمّا عُثْمانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَقَدْ جاءَهُ اليَقِينُ مِن رَبِّهِ» قالَهُ لَمّا ماتَ عُثْمانُ، وقالَ المَسِيحُ ﴿إنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الكِتابَ وجَعَلَنِي نَبِيًّا وجَعَلَنِي مُبارَكًا أيْنَما كُنْتُ وأوْصانِي بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا﴾ [مريم: ٣٠] فَهَذِهِ وصِيَّةُ اللَّهِ لِلْمَسِيحِ، وكَذَلِكَ لِجَمِيعِ أنْبِيائِهِ ورُسُلِهِ وأتْباعِهِمْ، قالَ الحَسَنُ: لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لِعَبْدِهِ المُؤْمِنِ أجَلًا دُونَ المَوْتِ. وَإذا جَمَعَ هَؤُلاءِ التَّجَهُّمَ في الأسْماءِ والصِّفاتِ إلى شُهُودِ الحَقِيقَةِ والوُقُوفِ عِنْدَها، فَأعاذَكَ اللَّهُ مِن تَعْطِيلِ الرَّبِّ وشَرْعِهِ بِالكُلِّيَّةِ، فَلا رَبَّ يُعْبَدُ، ولا شَرْعَ يُتَّبَعُ بِالكُلِّيَّةِ. وَمَن أرادَ الوُقُوفَ عَلى حَقِيقَةِ ما ذَكَرْنا فَلْيُسَيِّرْ طَرْفَهُ بَيْنَ تِلْكَ المَعالِمِ، ولْيَقِفْ عَلى تِلْكَ المَعاهِدِ، ولْيَسْألِ الأحْوالَ والرُّسُومَ والشَّواهِدَ، فَإنْ لَمْ تَجُبْهُ حِوارًا، أجابَتْهُ حالًا واعْتِبارًا، وإنَّما يُصَدِّقُ بِهَذا مَن رافَقَ السّالِكِينَ، وفارَقَ القاعِدِينَ وتَبَوَّأ الإيمانَ، وفارَقَ عَوائِدَ أهْلِ الزَّمانِ، ولَمْ يَرْضَ بِقَوْلِ القائِلِ: ؎دَعِ المَعالِي لا تَنْهَضْ لِبُغْيَتِها ∗∗∗ واقْعُدْ فَإنَّكَ أنْتَ الطّاعِمُ الكاسِي
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب