الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واعْبُدْ رَبَّكَ﴾.
أمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وعَلا - نَبِيَّهُ ﷺ بِأنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ، أيْ: يَتَقَرَّبَ لَهُ عَلى وجْهِ الذُّلِّ والخُضُوعِ والمَحَبَّةِ، بِما أُمِرَ أنْ يَتَقَرَّبَ لَهُ بِهِ مِن جَمِيعِ الطّاعاتِ عَلى الوَجْهِ المَشْرُوعِ. وجُلُّ القُرْآنِ في تَحْقِيقِ هَذا الأمْرِ الَّذِي هو حَظُّ الإثْباتِ مِن لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، مَعَ حَظِّ النَّفْيِ مِنها. وقَدْ بَيَّنَ القُرْآنُ أنَّ هَذا لا يَنْفَعُ إلّا مَعَ تَحْقِيقِ الجُزْءِ الثّانِي مِن كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، الَّذِي هو حَظُّ النَّفْيِ مِنها، وهو خَلْعُ جَمِيعِ المَعْبُوداتِ سِوى اللَّهِ تَعالى في جَمِيعِ أنْواعِ العِباداتِ؛ قالَ تَعالى: ﴿فاعْبُدْهُ وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود: ١٢٣]، وقالَ ﴿فاعْبُدْهُ واصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ﴾ [مريم: ٦٥]، وقالَ: ﴿واعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: ٣٦]، وقالَ ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ ويُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى﴾ [البقرة: ٢٥٦]، وقالَ: ﴿وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهم بِاللَّهِ إلّا وهم مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف: ١٠٦]، والآياتُ في مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ .
قالَتْ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ، مِنهم سالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، ومُجاهِدٌ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، وغَيْرُهم: (p-٣٢٤)اليَقِينُ: المَوْتُ، ويَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ﴾ ولَمْ ﴿نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ﴾ ﴿وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الخائِضِينَ﴾ ﴿وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ ﴿حَتّى أتانا اليَقِينُ﴾ [المدثر: ٤٣ - ٤٧]، وهو: المَوْتُ.
وَيُؤَيِّدُ هَذا ما أخْرَجَهُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ خارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، عَنْ أُمِّ العَلاءِ (امْرَأةٍ مِنَ الأنْصارِ): «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا دَخَلَ عَلى عُثْمانَ بْنِ مَظْعُونٍ وقَدْ ماتَ، قالَتْ أُمُّ العَلاءِ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أبا السّائِبِ ! فَشَهادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أكْرَمَكَ اللَّهُ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”وَما يُدْرِيكِ أنَّ اللَّهَ قَدْ أكْرَمَهُ“ ؟ فَقالَتْ: بِأبِي وأُمِّي يا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَن يُكْرِمُهُ اللَّهُ ؟ فَقالَ: ”أمّا هو فَقَدْ جاءَهُ اليَقِينُ، وإنِّي لَأرْجُو لَهُ الخَيْرَ. .“» الحَدِيثَ. وهَذا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلى أنَّ اليَقِينَ المَوْتُ. وقَوْلُ مَن قالَ: إنَّ المُرادَ بِاليَقِينِ انْكِشافُ الحَقِيقَةِ، وتَيَقُّنُ الواقِعِ لا يُنافِي ما ذَكَرْنا؛ لِأنَّ الإنْسانَ إذا جاءَهُ المَوْتُ ظَهَرَتْ لَهُ الحَقِيقَةُ يَقِينًا. ولَقَدْ أجادَ التُّهامِيُّ في قَوْلِهِ:
؎والعَيْشُ نَوْمٌ والمَنِيَّةُ يَقَظَةٌ والمَرْءُ بَيْنَهُما خَيالٌ سارِي
وَقالَ صاحِبُ الدُّرِّ المَنثُورِ: أخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والحاكِمُ في التّارِيخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والدَّيْلَمِيُّ، عَنْ أبِي مُسْلِمٍ الخَوْلانِيِّ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «" ما أُوحِيَ إلَيَّ أنْ أجْمَعَ المالَ وأكُونَ مِنَ التّاجِرِينَ، ولَكِنْ أُوحِيَ إلَيَّ أنْ: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾» [الحجر: ٩٨ - ٩٩] .
وَأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «" ما أُوحِيَ إلَيَّ أنْ أجْمَعَ المالَ وأكُونَ مِنَ التّاجِرِينَ، ولَكِنْ أُوحِيَ إلَيَّ أنْ: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾» .
وَأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ والدَّيْلَمِيُّ، عَنْ أبِي الدَّرْداءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «" ما أُوحِيَ إلَيَّ أنْ أكُونَ تاجِرًا ولا أجْمَعُ المالَ مُتَكاثِرًا، ولَكِنْ أُوحِيَ إلَيَّ أنْ: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾» .
* تَنْبِيهانِ
الأوَّلُ: هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الإنْسانَ ما دامَ حَيًّا ولَهُ عَقْلٌ ثابِتٌ يُمَيِّزُ بِهِ، فالعِبادَةُ واجِبَةٌ عَلَيْهِ بِحَسَبِ طاقَتِهِ. فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّلاةَ قائِمًا فَلْيُصَلِّ قاعِدًا، فَإنْ لَمْ (p-٣٢٥)يَسْتَطِعْ فَعَلى جَنْبٍ، وهَكَذا قالَ تَعالى عَنْ نَبِيِّهِ عِيسى - عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ﴿وَأوْصانِي بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا﴾ [مريم: ٣١]، وقالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ ”بابُ إذا لَمْ يُطِقْ قاعَدًا صَلّى عَلى جَنْبٍ“، وقالَ عَطاءٌ: إنْ لَمْ يَقْدِرْ أنْ يَتَحَوَّلَ إلى القِبْلَةِ، صَلّى حَيْثُ كانَ وجْهُهُ، حَدَّثَنا عَبْدانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ طَهْمانَ، قالَ: حَدَّثَنِي الحُسَيْنُ المُكْتِبُ، عَنْ بُرَيْدَةَ، عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -، قالَ: «كانَتْ بِي بَواسِيرُ، فَسَألْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الصَّلاةِ، فَقالَ: ”صَلِّ قائِمًا، فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقاعِدًا، فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلى جَنْبٍ“ .» اه.
وَنَحْوُ هَذا مَعْلُومٌ؛ قالَ تَعالى: ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦]، وقالَ تَعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦]، وقالَ ﷺ: «إذا أمَرْتُكم بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنهُ ما اسْتَطَعْتُمْ. . .» الحَدِيثَ.
التَّنْبِيهُ الثّانِي: اعْلَمْ أنَّ ما يُفَسِّرُ بِهِ هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ بَعْضُ الزَّنادِقَةِ الكَفَرَةِ المُدَّعِينَ لِلتَّصَوُّفِ، مِن أنَّ مَعْنى اليَقِينِ المَعْرِفَةَ بِاللَّهِ - جَلَّ وعَلا -، وأنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ العَبْدَ إذا وصَلَ مِنَ المَعْرِفَةِ بِاللَّهِ إلى تِلْكَ الدَّرَجَةِ المُعَبَّرَ عَنْها بِاليَقِينِ، أنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ العِباداتُ والتَّكالِيفُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ اليَقِينَ هو غايَةُ الأمْرِ بِالعِبادَةِ.
إنَّ تَفْسِيرَ الآيَةِ بِهَذا كُفْرٌ بِاللَّهِ وزَنْدَقَةٌ، وخُرُوجٌ عَنْ مِلَّةِ الإسْلامِ بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ. وهَذا النَّوْعُ لا يُسَمّى في الِاصْطِلاحِ تَأْوِيلًا، بَلْ يُسَمّى لَعِبًا كَما قَدَّمْنا في ”آلِ عِمْرانَ“ . ومَعْلُومٌ أنَّ الأنْبِياءَ - صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ هم وأصْحابُهُ - هم أعْلَمُ النّاسِ بِاللَّهِ، وأعْرُفُهم بِحُقُوقِهِ وصِفاتِهِ وما يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّعْظِيمِ، وكانُوا مَعَ ذَلِكَ أكْثَرَ النّاسِ عِبادَةً لِلَّهِ - جَلَّ وعَلا -، وأشَدَّهم خَوْفًا مِنهُ وطَمَعًا في رَحْمَتِهِ. وقَدْ قالَ - جَلَّ وعَلا -: ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ [فاطر: ٢٨] . والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ یَأۡتِیَكَ ٱلۡیَقِینُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق