الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ ﴿إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ﴾ ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُنْ مِنَ الساجِدِينَ﴾ ﴿واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ "اصْدَعْ": مَعْناهُ: أنْفِذْ وصَرِّحْ بِما بُعِثْتَ بِهِ، والصَدْعُ: التَفْرِيقُ بَيْنَ مُلْتَحِمٍ، كَصَدْعِ الزُجاجَةِ ونَحْوَهُ، فَكَأنَّ المُصَرِّحَ بِقَوْلٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ يَصْدَعُ بِهِ ما سِواهُ مِمّا يُضادُّهُ، (p-٣٢١)والصَدِيعُ: الصُبْحُ، لَأنَّهُ يَصْدَعُ اللَيْلَ. وقالَ مُجاهِدٌ: نَزَلَتْ في أنْ يُجْهَرَ بِالقُرْآنِ في الصَلاةِ. وفِي "تُؤْمَرُ" ضَمِيرٌ عائِدٌ عَلى "ما"، تَقْدِيرُهُ: تُؤْمَرُ بِهِ، أو تُؤْمَرُهُ، وفي هَذَيْنَ تَنازُعٌ. وقَوْلُهُ: ﴿وَأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ مِن آياتِ المُهادَناتِ الَّتِي نَسَخَتْها آيَةُ السَيْفِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، ثُمَّ أعْلَمَهُ اللهُ تَعالى أنَّهُ كَفاهُ المُسْتَهْزِئِينَ بِهِ مِن كَفّارِ مَكَّةَ بِبَوائِقَ أصابَتْهُمْ، لَمْ يَسْعَ بِها مُحَمَّدٌ، ولا تَكَلَّفَ فِيها مَشَقَّةً. وقالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُبَيْرِ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: المُسْتَهْزِئُونَ خَمْسَةُ نَفَرٍ: الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةَ، والعاصِي بْنُ وائِلٍ، والأُسُودُ بْنُ المُطَّلِبِ أبُو زَمْعَةَ، والأُسُودُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، ومِن خُزاعَةَ الحارِثُ بْنُ الطُلاطِلَةَ، وهو ابْنُ غَيْطَلَةَ، وهو ابْنُ قَيْسٍ. قالَ أبُو بَكْرٍ الهُذَلِيُّ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: إنَّ ابْنَ جُبَيْرٍ، وعِكْرِمَةَ اخْتَلَفا في رَجُلٍ مِنَ المُسْتَهْزِئِينَ، فَقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هو الحارِثُ بْنُ غَيْطَلَةَ، وقالَ عِكْرِمَةُ: هو الحارِثُ بْنُ قَيْسٍ، فَقالَ الزُهْرِيُّ: صَدَقا، أُمُّهُ غَيْطَلَةَ وأبُوهُ قَيْسٌ، وذَكَرَ الشَعْبِيُّ في المُسْتَهْزِئِينَ هَبّارَ بْنَ الأُسُودِ، وذَلِكَ وهْمٌ، لَأنَّ هَبّارًا أسْلَمَ يَوْمَ الفَتْحِ ورَحَلَ إلى المَدِينَةِ. وذَكَرَ الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ المُسْتَهْزِئِينَ كانُوا ثَمانِيَةً، كُلُّهم ماتَ قَبْلَ بَدْرٍ، ورُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ في المَسْجِدِ، فَأتاهُ جِبْرِيلُ، فَجاءَ الوَلِيدُ فَأومَأ جِبْرِيلُ بِأُصْبُعِهِ إلى ساقِهِ وقالَ: كُفِيتَ، ثُمَّ جاءَ العاصِي فَأومَأ إلى أخْمَصِهِ وقالَ: كُفِيتَ، ثُمَّ جاءَ أبُو زَمْعَةَ فَأومَأ إلى عَيْنِهِ، ثُمَّ مَرَّ الأسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ فَأومَأ إلى رَأْسَهِ وقالَ: كُفِيتَ، ثُمَّ الحارِثُ فَأومَأ إلى بَطْنِهِ وقالَ: كُفِيتَ، وكانَ الوَلِيدُ قَدْ مَرَّ بِقَيْنٍ في خُزاعَةَ فَتَعَلَّقَ سَهْمٌ مِن نَبْلِهِ بِإزارِهِ فَجُرْحَ ساقُهُ، ثُمَّ بَرِئَ، فانْتَقَضَ بِهِ ذَلِكَ الخَدْشُ بَعْدَ إشارَةِ جِبْرِيلَ فَقَتَلَهُ، وقِيلَ: إنَّ السَهْمَ قَطْعَ أكْحَلَهُ، قالَهُ قَتادَةُ، ومُقْسِمٌ. ورَكِبَ العاصِي بَغْلَةً في حاجَةٍ، فَلَمّا جاءَ (p-٣٢٢)يَنْزِلُ وضَعَ أخْمُصَهُ عَلى شِبْرِقَةٍ، فَوَرِمَتْ قَدَمُهُ فَماتَ، وعَمِيَ أبُو زَمْعَةَ، وكانَ يَقُولُ: دَعا عَلِيَّ مُحَمَّدٌ بِالعَمى فاسْتُجِيبَ لَهُ، ودَعَوْتُ عَلَيْهِ بِأنْ يَكُونَ طَرِيدًا شَرِيدًا فاسْتُجِيبَ لِي، وتَمَخَّضَ رَأْسُ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ قَيْحًا فَماتَ، وامْتَلَأ بَطْنُ الحارِثِ ماءً فَماتَ حِينًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي ذِكْرِ هَؤُلاءِ وكِفايَتِهِمُ اخْتِلافٌ بَيْنَ الرُواةِ، وفي صِفَةِ أحْوالِهِمْ وما جَرى لَهُمْ، جَلَبْتُ أصَحَّهُ مُخْتَصَرًا طَلَبًا لِلْإيجازِ. ثُمَّ قَرَّرَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى ذَنْبَهم في الكُفْرِ، واتِّخاذَ الأصْنامِ آلِهَةً مَعَ اللهِ، ثُمَّ تَوَعَّدَهم بِعَذابِ الآخِرَةِ الَّذِي هو أشَقُّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ﴾ آيَةُ تَأْنِيسٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ وتَسْلِيَةٍ عن أقْوالِ المُشْرِكِينَ وإنْ كانَتْ مِمّا يُقْلِقُ، وضِيقُ الصَدْرِ يَكُونُ مِنَ امْتِلائِهِ غَيْظًا بِما يَكْرَهُ الإنْسانُ، ثُمَّ أمَرَهُ تَعالى بِمُلازَمَةِ الطاعَةِ، وأنْ تَكُونَ مَسْلاتَهُ عِنْدَ الهُمُومِ. وقَوْلُهُ: ﴿مِنَ الساجِدِينَ﴾ يُرِيدُ: مِنَ المَصْلَيْنِ، فَذَكَرَ مِنَ الصَلاةِ حالَةَ القُرْبِ مِنَ اللهِ تَعالى وهي السُجُودُ، وهي أكْرَمُ حالاتِ الصَلاةِ وأقَمْنُها بِنَيْلِ الرَحْمَةِ، وفي الحَدِيثِ: « "كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إذا حِزْبَهُ أمْرٌ فَزِعَ إلى الصَلاةِ"،» فَهَذا مِنهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ أخْذٌ بِهَذِهِ الآيَةِ. و"اليَقِينُ": المَوْتُ، بِذَلِكَ فَسَّرَهُ هُنا ابْنُ عُمَرَ، ومُجاهِدٌ، والحَسَنُ، وابْنُ زَيْدٍ، ومِنهُ «قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ عِنْدَ مَوْتِ عُثْمانَ بْنِ مَظْعُونٍ: "أمّا هو فَقَدْ رَأى اليَقِينَ"»، (p-٣٢٣)وَيُرْوى: « "فَقَدْ جاءَهُ اليَقِينُ"،» ولَيْسَتِ اليَقِينُ مِن أسْماءِ المَوْتِ، وإنَّما العِلْمُ بِهِ يَقِينٌ لا يَمْتَرِي فِيهِ عاقِلٌ، فَسَمّاهُ هُنا يَقِينًا تَجَوُّزًا، أيْ: يَأْتِيكَ الأمْرُ اليَقِينُ عِلْمُهُ ووُقُوعُهُ، وهَذِهِ الغايَةُ مَعْناها: مُدَّةُ حَياتِكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ في النَصْرِ الَّذِي وُعِدْتَهُ. نَجُزَ تَفْسِيرُ سُورَةِ الحِجْرِ، ولِلَّهِ الحَمْدُ والمِنَّةُ، وصَلّى اللهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعَلى آلِهِ وصَحِبَهُ وسَلَّمَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب