الباحث القرآني

﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إنَّكَ أنْتَ عَلّامُ الغُيُوبِ﴾ ﴿إذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعَلى والِدَتِكَ إذْ أيَّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ تُكَلِّمُ النّاسَ في المَهْدِ وكَهْلًا وإذْ عَلَّمْتُكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتَّوْراةَ والإنْجِيلَ وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طائِرًا بِإذْنِي وتُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ بِإذْنِي وإذْ تُخْرِجُ المَوْتى بِإذْنِي وإذْ كَفَفْتُ بَنِي إسْرائِيلَ عَنْكَ إذْ جِئْتَهم بِالبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ . (p-٩٨)جُمْلَةُ ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا﴾ [المائدة: ٨٥] إلى قَوْلِهِ ﴿وذَلِكَ جَزاءُ المُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: ٨٥] . وما بَيْنَهُما جُمَلٌ مُعْتَرِضَةٌ نَشَأ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ، فَعادَ الكَلامُ الآنَ إلى أحْوالِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَبَدَّلَ كَثِيرٌ مِنهم تَبْدِيلًا بَلَغَ بِهِمْ إلى الكُفْرِ ومُضاهاةِ المُشْرِكِينَ، لِلتَّذْكِيرِ بِهَوْلٍ عَظِيمٍ مِن أهْوالِ يَوْمِ القِيامَةِ تَكُونُ فِيهِ شَهادَةُ الرُّسُلِ عَلى الأُمَمِ وبَراءَتُهم مِمّا أحْدَثَهُ أُمَمُهم بُعْدَهم في الدِّينِ مِمّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، والتَّخَلُّصُ مِن ذَلِكَ إلى شَهادَةِ عِيسى عَلى النَّصارى بِأنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهم بِتَأْلِيهِهِ وعِبادَتِهِ. وهَذا مُتَّصِلٌ في الغَرَضِ بِما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَتَجِدَنَّ أقْرَبَهم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إنّا نَصارى﴾ [المائدة: ٨٢] . فَإنَّ في تِلْكَ الآياتِ تَرْغِيبًا وتَرْهِيبًا، وإبْعادًا وتَقْرِيبًا، وقَعَ الِانْتِقالُ مِنها إلى أحْكامٍ تَشْرِيعِيَّةٍ ناسَبَتْ ما ابْتَدَعَهُ اليَهُودُ والنَّصارى، وذَلِكَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٧] . . . وتَفَنُّنُ الِانْتِقالِ إلى هَذا المَبْلَغِ، فَهَذا عَوْدٌ إلى بَيانِ تَمامِ نُهُوضِ الحُجَّةِ عَلى النَّصارى في مَشْهَدِ يَوْمِ القِيامَةِ. ولَقَدْ جاءَ هَذا مُناسِبًا لِلتَّذْكِيرِ العامِّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ واسْمَعُوا واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ [المائدة: ١٠٨] . ولِمُناسَبَةِ هَذا المَقامِ التَزَمَ وصْفَ عِيسى بِابْنِ مَرْيَمَ كُلَّما تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ في هَذِهِ الآياتِ أرْبَعُ مَرّاتٍ تَعْرِيضًا بِإبْطالِ دَعْوى أنَّهُ ابْنٌ لِلَّهِ تَعالى. ولِأنَّهُ لَمّا تَمَّ الكَلامُ عَلى الِاسْتِشْهادِ عَلى وصايا المَخْلُوقِينَ ناسَبَ الِانْتِقالَ إلى شَهادَةِ الرُّسُلِ عَلى وصايا الخالِقِ تَعالى، فَإنَّ الأدْيانَ وصايا اللَّهِ إلى خَلْقِهِ. قالَ تَعالى: ﴿شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ ما وصّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ وما وصَّيْنا بِهِ إبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى﴾ [الشورى: ١٣] . وقَدْ سَمّاهُمُ اللَّهُ تَعالى شُهَداءً في قَوْلِهِ ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٤١] . فَقَوْلُهُ (﴿يَوْمَ يَجْمَعُ﴾) ظَرْفٌ، والأظْهَرُ أنَّهُ مَعْمُولٌ لِعامِلٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بِنَحْوِ: اذْكُرْ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ، أوْ يُقَدَّرُ لَهُ عامِلٌ يَكُونُ بِمَنزِلَةِ الجَوابِ لِلظَّرْفِ، لِأنَّ الظَّرْفَ إذا تَقَدَّمَ يُعامَلُ مُعامَلَةَ الشَّرْطِ في إعْطائِهِ جَوابًا. وقَدْ حُذِفَ هَذا العامِلُ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ مِنَ التَّهْوِيلِ، تَقْدِيرُهُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ يَكُونُ هَوْلٌ عَظِيمٌ لا يَبْلُغُهُ طُولُ التَّعْبِيرِ فَيَنْبَغِي طَيُّهُ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ (p-٩٩)﴿قالُوا لا عِلْمَ لَنا﴾ إلَخْ، أيْ أنَّ ذَلِكَ الفِعْلَ هو المَقْصُودُ مِنَ الجُمْلَةِ المُسْتَأْنَفَةِ. وأصْلُ نَظْمِ الكَلامِ: يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ يَوْمَ القِيامَةِ فَيَقُولُ إلَخْ. فَغَيَّرَ نَظْمَ الكَلامِ إلى الأُسْلُوبِ الَّذِي وقَعَ في الآيَةِ لِلِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ، فَيَفْتَتِحُ بِهَذا الظَّرْفِ المَهُولِ ولِيُورِدَ الِاسْتِشْهادَ في صُورَةِ المُقاوَلَةِ بَيْنَ اللَّهِ والرُّسُلِ. والمَقْصُودُ مِنَ الكَلامِ هو ما يَأْتِي بِقَوْلِهِ: ﴿وإذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦] وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ. ومِنَ البَعِيدِ أنْ يَكُونَ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ ﴿لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ [المائدة: ١٠٨] لِأنَّهُ لا جَدْوى في نَفْيِ الهِدايَةِ في يَوْمِ القِيامَةِ، ولِأنَّ جَزالَةَ الكَلامِ تُناسِبُ اسْتِئْنافَهُ، ولِأنَّ تَعَلُّقَهُ بِهِ غَيْرُ واسِعِ المَعْنى. ومِثْلُهُ قَوْلُ الزَّجّاجِ: إنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ [المائدة: ١٠٨] عَلى أنَّ (يَوْمَ) مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ، وقِيلَ: بَدَلُ اشْتِمالٍ مِنَ اسْمِ الجَلالَةِ في قَوْلِهِ واتَّقُوا اللَّهَ لِأنَّ جَمْعَ الرُّسُلِ مِمّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ شَأْنُ اللَّهِ، فالِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ ﴿ماذا أُجِبْتُمْ﴾ مُسْتَعْمَلٌ في الِاسْتِشْهادِ. يَنْتَقِلُ مِنهُ إلى لازِمِهِ، وهو تَوْبِيخُ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ في حَياتِهِمْ أوْ بَدَّلُوا وارْتَدُّوا بَعْدَ مَماتِهِمْ. وظاهِرُ حَقِيقَةِ الإجابَةِ أنَّ المَعْنى: ماذا أجابَكُمُ الأقْوامُ الَّذِينَ أُرْسِلْتُمْ إلَيْهِمْ، أيْ ماذا تَلَقَّوْا بِهِ دَعَواتِكم، حَمْلًا عَلى ما هو بِمَعْناهُ في نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ﴾ [النمل: ٥٦] . ويُحْمَلُ قَوْلُ الرُّسُلِ لا عِلْمَ لَنا عَلى مَعْنى لا عِلْمَ لَنا بِما يُضْمِرُونَ حِينَ أجابُوا فَأنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنّا. أوْ هو تَأدُّبٌ مَعَ اللَّهِ تَعالى لِأنَّ ما عَدا ذَلِكَ مِمّا أجابَتْ بِهِ الأُمَمُ يَعْلَمُهُ رُسُلُهُمْ؛ فَلا بُدَّ مِن تَأْوِيلِ نَفْيِ الرُّسُلِ العِلْمَ عَنْ أنْفُسِهِمْ وتَفْوِيضِهِمْ إلى عِلْمِ اللَّهِ تَعالى بِهَذا المَعْنى. فَأجْمَعَ الرُّسُلُ في الجَوابِ عَلى تَفْوِيضِ العِلْمِ إلى اللَّهِ، أيْ أنَّ عِلْمَكَ سُبْحانَكَ أعْلى مِن كُلِّ عِلْمٍ وشَهادَتَكَ أعْدَلُ مِن كُلِّ شَهادَةٍ، فَكانَ جَوابَ الرُّسُلِ مُتَضَمِّنًا أُمُورًا: أحَدُها الشَّهادَةُ عَلى الكافِرِينَ مِن أُمَمِهِمْ بِأنَّ ما عامَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ هو الحَقُّ. والثّانِي تَسْفِيهُ أُولَئِكَ الكافِرِينَ في إنْكارِهِمُ الَّذِي لا يُجْدِيهِمْ. والثّالِثُ تَذْكِيرُ أُمَمِهِمْ بِما عامَلُوا بِهِ رُسُلَهم لِأنَّ في قَوْلِهِمْ: ﴿إنَّكَ أنْتَ عَلّامُ الغُيُوبِ﴾، تَعْمِيمًا لِلتَّذْكِيرِ بِكُلِّ ما صَدَرَ مِن أُمَمِهِمْ مِن تَكْذِيبٍ وأذًى وعِنادٍ. ويُقالُ لِمَن يَسْألُ عَنْ شَيْءٍ لا أزِيدُكَ عِلْمًا بِذَلِكَ، أوْ أنْتَ تَعْرِفُ ما جَرى. (p-١٠٠)وإيرادُ الضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ بَعْدَ الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ لِزِيادَةِ تَقْرِيرِ الخَبَرِ وتَأْكِيدِهِ. وعَنِ ابْنِ الأنْبارِيِّ تَأْوِيلُ قَوْلِ الرُّسُلِ لا عِلْمَ لَنا بِأنَّهم نَفَوْا أنْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ ما كانَ مِن آخِرِ الأُمَمِ بَعْدَ مَوْتِ رُسُلِهِمْ مِن دَوامٍ عَلى إقامَةِ الشَّرائِعِ أوِ التَّفْرِيطِ فِيها وتَبْدِيلِها فَيَكُونُ قَوْلُ الرُّسُلِ لا عِلْمَ لَنا مَحْمُولًا عَلى حَقِيقَتِهِ ويَكُونُ مَحْمَلُ (ماذا) عَلى قَوْلِهِ ماذا أُجِبْتُمْ هو ما أجابُوا بِهِ مِن تَصْدِيقٍ وتَكْذِيبٍ ومِن دَوامِ المُصَدِّقِينَ عَلى تَصْدِيقِهِمْ أوْ نَقْصِ ذَلِكَ، ويُعَضِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ ما جاءَ بَعْدَ هَذا الكَلامِ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ١١٦]، وقَوْلِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ﴾ [المائدة: ١١٧] الآيَةَ فَإنَّ المُحاوَرَةَ مَعَ عِيسى بَعْضٌ مِنَ المُحاوَرَةِ مَعَ بَقِيَّةِ الرُّسُلِ. وهو تَأْوِيلٌ حَسَنٌ. وعَبَّرَ في جَوابِ الرُّسُلِ بِـ (قالُوا) المُفِيدُ لِلْمُضِيِّ مَعَ أنَّ الجَوابَ لَمْ يَقَعْ، لِلدَّلالَةِ عَلى تَحْقِيقِ أنْ سَيَقَعَ حَتّى صارَ المُسْتَقْبَلُ مِن قُوَّةِ التَّحَقُّقِ بِمَنزِلَةِ الماضِي في التَّحَقُّقِ. عَلى أنَّ القَوْلَ الَّذِي تُحْكى بِهِ المُحاوَراتُ لا يُلْتَزَمُ فِيهِ مُراعاةُ صِيغَتِهِ لِزَمانِ وُقُوعِهِ لِأنَّ زَمانَ الوُقُوعِ يَكُونُ قَدْ تَعَيَّنَ بِقَرِينَةِ سِياقِ المُحاوَرَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ الغُيُوبِ بِضَمِّ الغَيْنِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ بِكَسْرِ الغَيْنِ وهي لُغَةٌ لِدَفْعِ ثِقَلِ الِانْتِقالِ مِنَ الضَّمَّةِ إلى الباءِ، كَما تَقَدَّمَ في بُيُوتٍ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَأمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ﴾ [النساء: ١٥] مِن سُورَةِ النِّساءِ. وفَصَلَ (قالُوا) جَرْيًا عَلى طَرِيقَةِ حِكايَةِ المُحاوَراتِ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَوْلُهُ ﴿إذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ ظَرْفٌ، هو بَدَلٌ مِن ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾ بَدَلُ اشْتِمالٍ، فَإنَّ يَوْمَ الجَمْعِ مُشْتَمِلٌ عَلى زَمَنِ هَذا الخِطابِ لِعِيسى، ولِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ هَذِهِ الجُمْلَةُ عَلى الَّتِي قَبْلَها. والمَقْصُودُ مِن ذِكْرِ ما يُقالُ لِعِيسى يَوْمَئِذٍ هو تَقْرِيعُ اليَهُودِ والنَّصارى الَّذِينَ ضَلُّوا في شَأْنِ عِيسى بَيْنَ طَرَفَيْ إفْراطِ بُغْضٍ وإفْراطِ حُبٍّ. فَقَوْلُهُ ﴿اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿لا أُعَذِّبُهُ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ﴾ [المائدة: ١١٥] اسْتِئْناسٌ (p-١٠١)لِعِيسى لِئَلّا يُفْزِعَهُ السُّؤالُ الوارِدُ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ ﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦] إلَخْ. . . وهَذا تَقْرِيعٌ لِلْيَهُودِ، وما بَعْدَها تَقْرِيعٌ لِلنَّصارى. والمُرادُ مِنَ ﴿اذْكُرْ نِعْمَتِي﴾ الذُّكْرُ بِضَمِّ الذّالِ وهو اسْتِحْضارُ الأمْرِ في الذِّهْنِ. والأمْرُ في قَوْلِهِ اذْكُرْ لِلِامْتِنانِ، إذْ لَيْسَ عِيسى بِناسٍ لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وعَلى والِدَتِهِ. ومِن لازِمِهِ خِزْيُ اليَهُودِ الَّذِينَ زَعَمُوا أنَّهُ ساحِرٌ مُفْسِدٌ إذْ لَيْسَ السِّحْرُ والفَسادُ بِنِعْمَةٍ يَعُدُّها اللَّهُ عَلى عَبْدِهِ. ووَجْهُ ذِكْرِ والِدَتِهِ هُنا الزِّيادَةُ مِن تَبْكِيتِ اليَهُودِ وكَمَدِهِمْ لِأنَّهم تَنَقَّصُوها بِأقْذَعَ مِمّا تَنَقَّصُوهُ. والظَّرْفُ في قَوْلِهِ ﴿إذْ أيَّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ (نِعْمَتِي) لِما فِيها مِن مَعْنى المَصْدَرِ، أيِ النِّعْمَةَ الحاصِلَةَ في ذَلِكَ الوَقْتِ، وهو وقْتُ التَّأْيِيدِ بِرُوحِ القُدُسِ. ورُوحُ القُدُسِ هُنا جِبْرِيلُ عَلى الأظْهَرِ. والتَّأْيِيدُ ورُوحُ القُدُسِ تَقَدَّما في سُورَةِ البَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿وآتَيْنا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّناتِ وأيَّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] . وجُمْلَةُ (تُكَلِّمُ) حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ المَنصُوبِ بِـ (أيَّدْتُكَ) وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ ألْقى الكَلامَ مِنَ المَلِكِ عَلى لِسانِ عِيسى وهو في المَهْدِ، وفي ذَلِكَ تَأْيِيدٌ لَهُ لِإثْباتِ نَزاهَةِ تَكَوُّنِهِ، وفي ذَلِكَ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ، وعَلى والِدَتِهِ إذْ ثَبَتَتْ بَراءَتُها مِمّا اتُّهِمَتْ بِهِ. والجارُّ والمَجْرُورُ في قَوْلِهِ ﴿فِي المَهْدِ﴾ حالٌ مِن ضَمِيرِ (تُكَلِّمُ) . (و كَهْلًا) مَعْطُوفٌ عَلى في المَهْدِ لِأنَّهُ حالٌ أيْضًا، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿دَعانا لِجَنْبِهِ أوْ قاعِدًا أوْ قائِمًا﴾ [يونس: ١٢] . والمَهْدُ والكَهْلُ تَقَدَّما في تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. وتَكْلِيمُهُ كَهْلًا أُرِيدَ بِهِ الدَّعْوَةُ إلى الدِّينِ فَهو مِنَ التَّأْيِيدِ بِرُوحِ القُدُسِ، لِأنَّهُ الَّذِي يُلْقِي إلى عِيسى ما يَأْمُرُهُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ. وقَوْلُهُ ﴿وإذْ عَلَّمْتُكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ تَقَدَّمَ القَوْلُ في نَظِيرِهِ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿وإذْ تُخْرِجُ المَوْتى بِإذْنِي﴾ تَقَدَّمَ القَوْلُ في نَظِيرِهِ هُنالِكَ. إلّا أنَّهُ قالَ هُنا ﴿فَتَنْفُخُ فِيها﴾ وقالَ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ فَأنْفُخُ فِيهِ. فَعَنْ مَكِّيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ أنَّ الضَّمِيرَ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ عادَ إلى الطَّيْرِ، والضَّمِيرَ في هَذِهِ السُّورَةِ (p-١٠٢)عادَ إلى الهَيْئَةِ واخْتارَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ هُنا عائِدًا إلى ما تَقْتَضِيهِ الآيَةُ ضَرُورَةً. أيْ بِدَلالَةِ الِاقْتِضاءِ. وذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ ﴿وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ يَقْتَضِي صُوَرًا أوْ أجْسامًا أوْ أشْكالًا، وكَذَلِكَ الضَّمِيرُ المُذَكَّرُ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ يَعُودُ عَلى المَخْلُوقِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ (أخْلُقُ) . وجَعَلَهُ في الكَشّافِ عائِدًا إلى الكافِ بِاعْتِبارِ كَوْنِها صِفَةً لِلَّفْظِ هَيْئَةِ المَحْذُوفِ الدّالِّ عَلَيْهِ لَفْظُ هَيْئَةِ المَدْخُولِ لِلْكافِ وكُلُّ ذَلِكَ ناظِرًا إلى أنَّ الهَيْئَةَ لا تَصْلُحُ لِأنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَ (تَنْفُخُ)، إذِ الهَيْئَةُ مَعْنًى لا يُنْفَخُ فِيها ولا تَكُونُ طائِرًا. وقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ ﴿فَتَكُونُ طائِرًا﴾ بِالإفْرادِ كَما قَرَأ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. وتَوْجِيهُها هُنا أنَّ الضَّمِيرَ جَرى عَلى التَّأْنِيثِ فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ المُرادُ وإذْ تَخْلُقُ، أيْ تُقَدِّرُ هَيْئَةً كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَتَكُونُ الهَيْئَةُ طائِرًا، أيْ كُلُّ هَيْئَةٍ تُقَدِّرُها تَكُونُ واحِدًا مِنَ الطَّيْرِ. وقَرَأ البَقِيَّةُ (﴿طَيْرًا﴾) بِصِيغَةِ اسْمِ الجَمْعِ بِاعْتِبارِ تَعَدُّدِ ما يُقَدِّرُهُ مِن هَيْئاتٍ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. وقالَ هُنا ﴿وإذْ تُخْرِجُ المَوْتى﴾ ولَمْ يَقُلْ: وتُحْيِ المَوْتى، كَما قالَ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ، أيْ تُخْرِجُهم مِن قُبُورِهِمْ أحْياءً، فَأُطْلِقَ الإخْراجُ وأُرِيدَ بِهِ لازِمُهُ وهو الإحْياءُ، لِأنَّ المَيِّتَ وُضِعَ في القَبْرِ لِأجْلِ كَوْنِهِ مَيِّتًا فَكانَ إخْراجُهُ مِنَ القَبْرِ مَلْزُومًا لِانْعِكاسِ السَّبَبِ الَّذِي لِأجْلِهِ وُضِعَ في القَبْرِ. وقَدْ سَمّى اللَّهُ الإحْياءَ خُرُوجًا في قَوْلِهِ: ﴿وأحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الخُرُوجُ﴾ [ق: ١١] وقالَ ﴿أئِذا كُنّا تُرابًا وآباؤُنا أئِنّا لَمُخْرَجُونَ﴾ [النمل: ٦٧] . وقَوْلُهُ ﴿وإذْ كَفَفْتُ بَنِي إسْرائِيلَ عَنْكَ﴾ عُطِفَ عَلى إذْ أيَّدْتُكَ، وما عُطِفَ عَلَيْهِ. وهَذا مِن أعْظَمِ النِّعَمِ، وهي نِعْمَةُ العِصْمَةِ مِنَ الإهانَةِ، فَقَدْ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ بَنِي إسْرائِيلَ سِنِينَ، وهو يَدْعُو إلى الدِّينِ بَيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ مَعَ حِقْدِهِمْ وقِلَّةِ أنْصارِهِ، فَصَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ ضُرِّهِ حَتّى أدّى الرِّسالَةَ، ثُمَّ لَمّا اسْتَفاقُوا وأجْمَعُوا أمْرَهم عَلى قَتْلِهِ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنهم فَرَفَعَهُ إلَيْهِ ولَمْ يَظْفَرُوا بِهِ، وماتَتْ نُفُوسُهم بِغَيْظِها. وقَدْ دَلَّ عَلى جَمِيعِ هَذِهِ المُدَّةِ الظَّرْفُ في قَوْلِهِ ﴿إذْ جِئْتَهم بِالبَيِّناتِ﴾ فَإنَّ تِلْكَ المُدَّةَ كُلَّها مُدَّةُ ظُهُورِ مُعْجِزاتِهِ (p-١٠٣)بَيْنَهم. وقَوْلُهُ ﴿فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهُمْ﴾ تَخَلُّصٌ مِن تَنْهِيَةِ تَقْرِيعِ مُكَذِّبِيهِ إلى كَرامَةِ المُصَدِّقِينَ بِهِ. واقْتُصِرَ مِن دَعاوِي تَكْذِيبِهِمْ إيّاهُ عَلى قَوْلِهِمْ ﴿إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾، لِأنَّ ذَلِكَ الِادِّعاءَ قَصَدُوا بِهِ التَّوَسُّلَ إلى قَتْلِهِ، لِأنَّ حُكْمَ السّاحِرِ في شَرِيعَةِ اليَهُودِ القَتْلُ إذِ السِّحْرُ عِنْدَهم كُفْرٌ، إذْ كانَ مِن صِناعَةِ عَبَدَةِ الأصْنامِ، فَقَدْ قَرَنَتِ التَّوْراةُ السِّحْرَ وعِرافَةِ الجانِّ بِالشِّرْكِ، كَما جاءَ في سِفْرِ اللاوِيِّيينَ في الإصْحاحِ العِشْرِينَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (﴿إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ﴾)، والإشارَةُ بِـ هَذا إلى مَجْمُوعِ ما شاهَدُوهُ مِنَ البَيِّناتِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ (إلّا ساحِرٌ) . والإشارَةُ إلى عِيسى المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ ﴿إذْ جِئْتَهم بِالبَيِّناتِ﴾ . ولا شَكَّ أنَّ اليَهُودَ قالُوا لِعِيسى كِلْتا المَقالَتَيْنِ عَلى التَّفْرِيقِ أوْ عَلى اخْتِلافِ جَماعاتِ القائِلِينَ وأوْقاتِ القَوْلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب