الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾ العامِلُ في الظَّرْفِ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ؛ أيِ: اسْمَعُوا، أوِ اذْكُرُوا، أوِ احْذَرُوا. وقالَ الزَّجّاجُ: هو مَنصُوبٌ بِقَوْلِهِ: واتَّقُوا اللَّهَ المَذْكُورِ في الآيَةِ الأُولى، وقِيلَ بَدَلٌ مِن مَفْعُولِ اتَّقُوا بَدَلُ اشْتِمالٍ، وقِيلَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: لا يَهْدِي [المائدة: ١٠٩] المَذْكُورِ قَبْلَهُ، وقِيلَ مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مُتَأخِّرٍ تَقْدِيرُهُ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾ يَكُونُ مِنَ الأحْوالِ كَذا وكَذا. قَوْلُهُ: ﴿ماذا أُجِبْتُمْ﴾ أيْ: أيُّ إجابَةٍ أجابَتْكم بِهِ أُمَمُكُمُ الَّذِينَ بَعَثَكُمُ اللَّهُ إلَيْهِمْ ؟ أوْ أيُّ جَوابٍ أجابُوكم بِهِ ؟ وعَلى الوَجْهَيْنِ تَكُونُ ما مَنصُوبَةً بِالفِعْلِ المَذْكُورِ بَعْدَها، وتَوْجِيهُ السُّؤالِ إلى الرُّسُلِ لِقَصْدِ تَوْبِيخِ قَوْمِهِمْ، وجَوابِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: ﴿لا عِلْمَ لَنا﴾ مَعَ أنَّهم عالِمُونَ بِما أجابُوا بِهِ عَلَيْهِمْ تَفْوِيضٌ مِنهم، وإظْهارٌ لِلْعَجْزِ، وعَدَمِ القُدْرَةِ، ولا سِيَّما مَعَ عِلْمِهِمْ بِأنَّ السُّؤالَ سُؤالُ تَوْبِيخٍ فَإنَّ تَفْوِيضَ الجَوابِ إلى اللَّهِ أبْلَغُ في حُصُولِ ذَلِكَ، وقِيلَ: المَعْنى: لا عِلْمَ لَنا بِما أحْدَثُوا بَعْدَنا، وقِيلَ لا عِلْمَ لَنا بِما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ بَواطِنُهم، وقِيلَ: المَعْنى: لا عِلْمَ لَنا إلّا عِلْمُ ما أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنّا، وقِيلَ إنَّهم ذُهِلُوا عَمّا أجابَ بِهِ قَوْمُهم لِهَوْلِ المَحْشَرِ. قَوْلُهُ: ﴿إذْ قالَ اللَّهُ ياعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ إذْ بَدَلٌ مِن يَوْمَ يَجْمَعُ، وهو تَخْصِيصٌ بَعْدَ التَّعْمِيمِ وتَخْصِيصُ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِن بَيْنِ الرُّسُلِ لِاخْتِلافِ طائِفَتَيِ اليَهُودِ والنَّصارى فِيهِ إفْراطًا وتَفْرِيطًا، هَذِهِ تَجْعَلُهُ إلَهًا، وهَذِهِ تَجْعَلُهُ كاذِبًا، وقِيلَ: هو مَنصُوبٌ بِتَقْدِيرِ اذْكُرْ. قَوْلُهُ: ﴿اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعَلى والِدَتِكَ﴾ ذَكَّرَهُ سُبْحانَهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وعَلى أُمِّهِ مَعَ كَوْنِهِ ذاكِرًا لَها عالِمًا بِتَفَضُّلِ اللَّهِ سُبْحانَهُ بِها لِقَصْدِ تَعْرِيفِ الأُمَمِ بِما خَصَّهُما اللَّهُ بِهِ مِنَ الكَرامَةِ ومَيَّزَهُما بِهِ مِن عُلُوِّ المَقامِ، أوْ لِتَأْكِيدِ الحُجَّةِ وتَبْكِيتِ الجاحِدِ بِأنَّ مَنزِلَتَهُما عِنْدَ اللَّهِ هَذِهِ المَنزِلَةُ، وتَوْبِيخُ مَنِ اتَّخَذَهُما إلَهَيْنِ بِبَيانِ أنَّ ذَلِكَ الإنْعامَ عَلَيْهِما كُلَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ سُبْحانَهُ، وأنَّهُما عَبْدانِ مِن جُمْلَةِ عِبادِهِ مُنْعَمٌ عَلَيْهِما بِنِعَمِ اللَّهِ سُبْحانَهُ لَيْسَ لَهُما مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ. قَوْلُهُ: ﴿إذْ أيَّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ إذْ ظَرْفٌ لِلنِّعْمَةِ لِأنَّها بِمَعْنى المَصْدَرِ؛ أيِ: اذْكُرْ إنْعامِي عَلَيْكَ وقْتَ تَأْيِيدِي لَكَ، أوْ حالٌ مِنَ النِّعْمَةِ؛ أيْ: كائِنَةً ذَلِكَ الوَقْتِ أيَّدْتُكَ قَوَّيْتُكَ مَأْخُوذٌ مِنَ الأيْدِ وهو القُوَّةُ. وفِي رُوحِ القُدُسِ وجْهانِ: أحَدُهُما أنَّها الرُّوحُ الطّاهِرَةُ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ بِها، وقِيلَ: إنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقِيلَ: إنَّهُ الكَلامُ الَّذِي يُحْيِي بِهِ الأرْواحَ. والقُدُسُ: الطُّهْرُ، وإضافَتُهُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ سَبَبَهُ، وجُمْلَةُ ﴿تُكَلِّمُ النّاسَ﴾ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنى التَّأْيِيدِ، و﴿فِي المَهْدِ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ؛ أيْ: تُكَلِّمُ النّاسَ حالَ كَوْنِكَ صَبِيًّا وكَهْلًا لا يَتَفاوَتُ كَلامُكَ في الحالَتَيْنِ مَعَ أنَّ غَيْرَكَ يَتَفاوَتُ كَلامُهُ فِيهِما تَفاوُتًا بَيِّنًا. وقَوْلُهُ: ﴿وإذْ عَلَّمْتُكَ الكِتابَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ﴿إذْ أيَّدْتُكَ﴾ أيْ واذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وقْتَ تَعْلِيمِي لَكَ الكِتابَ؛ أيْ: جِنْسَ الكِتابِ، أوِ المُرادُ بِالكِتابِ الخَطُّ. وعَلى الأوَّلِ يَكُونُ ذِكْرُ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ، وتَخْصِيصُهُما بِالذِّكْرِ لِمَزِيدِ اخْتِصاصِهِ بِهِما: أمّا التَّوْراةُ فَقَدْ كانَ يُحْتَجُّ بِها عَلى اليَهُودِ في غالِبِ ما يَدُورُ بَيْنَهُ وبَيْنَهم مِنَ الجِدالِ كَما هو مُصَرَّحٌ بِذَلِكَ في الإنْجِيلِ، وأمّا الإنْجِيلُ فَلِكَوْنِهِ نازِلًا عَلَيْهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ سُبْحانَهُ، والمُرادُ بِالحِكْمَةِ جِنْسُ الحِكْمَةِ، وقِيلَ: هي الكَلامُ المُحْكَمُ ﴿وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ أيْ تُصَوِّرُ تَصْوِيرًا مِثْلَ صُورَةِ الطَّيْرِ بِإذْنِي لَكَ بِذَلِكَ وتَيْسِيرِي لَهُ فَتَنْفُخُ في الهَيْئَةِ المُصَوَّرَةِ فَتَكُونُ هَذِهِ الهَيْئَةُ طائِرًا مُتَحَرِّكًا حَيًّا كَسائِرِ الطُّيُورِ ﴿وتُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ بِإذْنِي﴾ لَكَ وتَسْهِيلِهِ عَلَيْكَ وتَيْسِيرِهِ لَكَ وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذا مُطَوَّلًا في البَقَرَةِ فَلا نُعِيدُهُ ﴿وإذْ تُخْرِجُ المَوْتى﴾ مِن قُبُورِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ آيَةً لَكَ عَظِيمَةً بِإذْنِي، وتَكْرِيرُ بِإذْنِي في المَواضِعِ الأرْبَعَةِ لِلِاعْتِناءِ بِأنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِن جِهَةِ اللَّهِ لَيْسَ لِعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ فِيهِ فِعْلٌ إلّا مُجَرَّدَ امْتِثالِهِ لِأمْرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ. قَوْلُهُ: ﴿وإذْ كَفَفْتُ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى " إذْ تُخْرِجُ " كَفَفْتُ مَعْناهُ: دَفَعْتُ وصَرَفْتُ ﴿بَنِي إسْرائِيلَ عَنْكَ﴾ حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِكَ ﴿إذْ جِئْتَهم بِالبَيِّناتِ﴾ بِالمُعْجِزاتِ الواضِحاتِ ﴿فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أيْ ما هَذا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إلّا سِحْرٌ بَيِّنٌ، لَمّا عَظُمَ ذَلِكَ في صَدْرِهِمْ (p-٤٠٤)وانْبَهَرُوا مِنهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلى جَحْدِهِ بِالكُلِّيَّةِ، بَلْ نَسَبُوهُ إلى السِّحْرِ. قَوْلُهُ: ﴿وإذْ أوْحَيْتُ إلى الحَوارِيِّينَ أنْ آمِنُوا بِي وبِرَسُولِي﴾ هو مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ. والوَحْيُ في كَلامِ العَرَبِ مَعْناهُ الإلْهامُ؛ أيْ: ألْهَمْتُ الحَوارِيِّينَ وقَذَفْتُ في قُلُوبِهِمْ، وقِيلَ مَعْناهُ: أمَرْتُهم عَلى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ أنْ يُؤْمِنُوا بِي بِالتَّوْحِيدِ والإخْلاصِ ويُؤْمِنُوا بِرِسالَةِ رَسُولِي. قَوْلُهُ: ﴿قالُوا آمَنّا﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأنَّهُ قِيلَ ماذا قالُوا ؟ فَقالَ: قالُوا آمَنّا ﴿واشْهَدْ بِأنَّنا مُسْلِمُونَ﴾ أيْ مُخْلِصُونَ لِلْإيمانِ؛ أيْ: واشْهَدْ يا رَبِّ، أوْ واشْهَدْ يا عِيسى. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ﴾ فَيَفْزَعُونَ فَيَقُولُونَ: ﴿لا عِلْمَ لَنا﴾ فَتَرُدُّ إلَيْهِمْ أفْئِدَتُهم فَيَعْلَمُونَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ في الآيَةِ قالَ: ذَلِكَ أنَّهم نَزَلُوا مَنزِلًا ذُهِلَتْ فِيهِ العُقُولُ، فَلَمّا سُئِلُوا قالُوا: لا عِلْمَ لَنا، ثُمَّ نَزَلُوا مَنزِلًا آخَرَ فَشَهِدُوا عَلى قَوْمِهِمْ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالُوا: لا عِلْمَ لَنا فَرَقًا يُذْهِلُ عُقُولَهم، ثُمَّ يَرُدُّ اللَّهُ إلَيْهِمْ عُقُولَهم فَيَكُونُونَ هُمُ الَّذِينَ يَسْألُونَ بِقَوْلِ اللَّهِ: ﴿فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ ولَنَسْألَنَّ المُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦] . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وابْنُ عَساكِرَ عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ يُدْعى بِالأنْبِياءِ وأُمَمِها ثُمَّ يُدْعى بِعِيسى فَيُذَكِّرُهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ فَيُقِرُّ بِها، فَيَقُولُ: يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ ﴿اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعَلى والِدَتِكَ﴾ الآيَةَ، ثُمَّ يَقُولُ أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّي إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ؟ فَيُنْكِرُ أنْ يَكُونَ قالَ ذَلِكَ، فَيُؤْتى بِالنَّصارى فَيُسْألُونَ، فَيَقُولُونَ نَعَمْ هو أمَرَنا بِذَلِكَ، فَيَطُولُ شَعْرُ عِيسى حَتّى يَأْخُذَ كُلُّ مَلَكٍ مِنَ المَلائِكَةِ بِشَعْرَةٍ مِن شَعْرِ رَأْسِهِ وجَسَدِهِ، فَيُجاثِيهِمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ مِقْدارَ ألْفِ عامٍ حَتّى يُوقِعَ عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ ويُرْفَعَ لَهُمُ الصَّلِيبُ ويُنْطَلَقَ بِهِمْ إلى النّارِ» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وإذْ كَفَفْتُ بَنِي إسْرائِيلَ عَنْكَ إذْ جِئْتَهم بِالبَيِّناتِ﴾ أيْ بِالآياتِ الَّتِي وضَعَ عَلى يَدَيْهِ مِن إحْياءِ المَوْتى وخَلْقِهِ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ وإبْراءِ الأسْقامِ والخَبَرِ بِكَثِيرٍ مِنَ الغُيُوبِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ: ﴿وإذْ أوْحَيْتُ إلى الحَوارِيِّينَ﴾ يَقُولُ: قَذَفْتُ في قُلُوبِهِمْ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ نَحْوَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب