الباحث القرآني

(p-٥٨)﴿ولا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ ودَعْ أذاهم وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾ جاءَ في مُقابَلَةِ قَوْلِهِ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ ولا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ تَحْذِيرًا لَهُ مِن مُوافَقَتِهِمْ فِيما يَسْألُونَ مِنهُ وتَأْيِيدًا لِفِعْلِهِ مَعَهم حِينَ اسْتَأْذَنَهُ المُنافِقُونَ في الرُّجُوعِ عَنِ الأحْزابِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهم فَنُهِيَ عَنِ الإصْغاءِ إلى ما يَرْغَبُونَهُ فَيَتْرُكَ ما أُحِلَّ لَهُ مِنَ التَّزَوُّجِ، أوْ فَيُعْطِي الكافِرِينَ مِنَ الأحْزابِ ثَمَرَ النَّخْلِ صُلْحًا أوْ نَحْوَ ذَلِكَ، والنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى الدَّوامِ عَلى الِانْتِهاءِ. وعُلِمَ مِن مُقابَلَةِ أمْرِ التَّبْشِيرِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّهْيِ عَنْ طاعَةِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ أنَّ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ هم مُتَعَلَّقُ الإنْذارِ مِن قَوْلِهِ (ونَذِيرًا) لِأنَّ وصْفَ (بَشِيرًا) قَدْ أخَذَ مُتَعَلَّقَهُ فَقَدْ صارَ هَذا ناظِرًا إلى قَوْلِهِ (ونَذِيرًا) . وقَوْلُهُ ودَعْ أذاهم يَجُوزُ أنْ يَكُونَ فِعْلُ (دَعْ) مُرادًا بِهِ أنْ لا يُعاقِبَهم فَيَكُونُ (دَعْ) مُسْتَعْمَلًا في حَقِيقَتِهِ وتَكُونُ إضافَةُ أذاهم مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى مَفْعُولِهِ، أيْ دَعْ أذاكَ إيّاهم. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (دَعْ) مُسْتَعْمَلًا مَجازًا في عَدَمِ الِاكْتِراثِ وعَدَمِ الِاغْتِمامِ فِيما يَقُولُونَهُ مِمّا يُؤْذِي، ويَكُونُ إضافَةُ (أذاهم) مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى فاعِلِهِ، أيْ لا تَكْتَرِثْ بِما يَصْدُرُ مِنهم مِن أذًى إلَيْكَ فَإنَّكَ أجَلُّ مِنَ الِاهْتِمامِ بِذَلِكَ، وهَذا مِنَ اسْتِعْمالِ اللَّفْظِ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ. وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ اقْتَصَرُوا عَلى هَذا الِاحْتِمالِ الأخِيرِ. والوَجْهُ: الحَمْلُ عَلى كِلا المَعْنَيَيْنِ، فَيَكُونُ الأمْرُ بِتَرْكِ أذاهم صادِقًا بِالإعْراضِ عَمّا يُؤْذُونَ بِهِ النَّبِيءَ ﷺ مِن أقْوالِهِمْ وصادِقًا بِالكَفِّ عَنِ الإضْرارِ بِهِمْ، أيْ أنْ يَتَرَفَّعَ النَّبِيءُ ﷺ عَنْ مُؤاخَذَتِهِمْ عَلى ما يَصْدُرُ مِنهم في شَأْنِهِ، وهَذا إعْراضٌ عَنْ أذًى خاصٍّ لا عُمُومَ لَهُ، فَهو بِمَنزِلَةِ المُعَرَّفِ بِلامِ العَهْدِ، فَلَيْسَتْ آياتُ القِتالِ بِناسِخَةٍ لَهُ. وهَذا يَقْتَضِي أنَّهُ يَتْرُكُ أذاهم ويَكِلُهم إلى عِقابٍ آجِلٍ وذَلِكَ مِن مَعْنى قَوْلِهِ (شاهِدًا)؛ لِأنَّهُ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ فَتَوَلَّ عَنْهم حَتّى حِينٍ وأبْصِرْهم. والتَّوَكُّلُ: الِاعْتِمادُ وتَفْوِيضُ التَّدْبِيرِ إلى اللَّهِ. وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٩] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ وقَوْلِهِ ﴿وعَلى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ٢٣] (p-٥٩)فِي سُورَةِ العُقُودِ، أيِ اعْتَمِدْ عَلى اللَّهِ في تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ وفي كِفايَتِهِ إيّاكَ شَرَّ عَدُوِّكَ، فَهَذا ناظِرٌ إلى قَوْلِهِ ﴿وداعِيًا إلى اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٤٦] وقَوْلُهُ ﴿وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ ﴿وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ﴾ . والمَعْنى: فَإنَّ اللَّهَ هو الوَكِيلُ الكافِي في الوِكالَةِ، أيِ المُجْزِي مَن تَوَكَّلَ عَلَيْهِ ما وكَّلَهُ عَلَيْهِ فالباءُ تَأْكِيدٌ، وتَقَدَّمَ قَوْلُهُ ﴿وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾ [النساء: ٨١] في سُورَةِ النِّساءِ. والتَّقْدِيرُ: كَفى اللَّهُ. و(وكِيلًا) تَمْيِيزٌ. فَقَدْ جاءَتْ هَذِهِ الجُمَلُ الطَّلَبِيَّةُ مُقابِلَةٌ وناظِرَةٌ لِلْجُمَلِ الإخْبارِيَّةِ مِن قَوْلِهِ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا إلى وسِراجًا مُنِيرًا فَقَوْلُهُ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ناظِرًا إلى قَوْلِهِ ومُبَشِّرًا. وقَوْلُهُ ﴿ولا تُطِعِ الكافِرِينَ﴾ ناظِرٌ إلى قَوْلِهِ (ونَذِيرًا)؛ لِأنَّهُ جاءَ في مُقابَلَةِ بِشارَةِ المُؤْمِنِينَ كَما تَقَدَّمَ. وقَوْلُهُ ودَعْ أذاهم ناظِرٌ إلى قَوْلِهِ شاهِدًا كَما عَلِمْتَ. وقَوْلُهُ ﴿وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ﴾ ناظِرٌ إلى قَوْلِهِ ﴿وداعِيًا إلى اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٤٦] . وأمّا قَوْلُهُ ﴿وسِراجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٦] فَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُقابِلٌ في هَذِهِ المَطالِبِ إلّا أنَّهُ لَمّا كانَ كالتَّذْيِيلِ لِلصِّفاتِ كَما تَقَدَّمَ ناسَبَ أنْ يُقابِلَهُ ما هو تَذْيِيلٌ لِلْمَطالَبِ، وهو قَوْلُهُ (﴿وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾) . وهَذا أقْرَبُ مِن بَعْضِ ما في الكَشّافِ مِن وُجُوهِ المُقابَلَةِ ومِن بَعْضِ ما لِلْآلُوسِيِّ فانْظُرْهُما واحْكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب