الباحث القرآني
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ عَطْفٌ عَلى مَفْهُومٍ تَقْدِيرُهُ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا فاشْهَدْ وبَشِّرْ، ولَمْ يَذْكُرْ فاشْهَدْ لِلِاسْتِغْناءِ عَنْهُ، وأمّا البِشارَةُ فَإنَّها ذُكِرَتْ إبانَةً لِلْكَرَمِ، ولِأنَّها غَيْرُ واجِبَةٍ لَوْلا الأمْرُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِأنَّ لَهم مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ هو مِثْلُ قَوْلِهِ: “ وأعَدَّ لَهم أجْرًا عَظِيمًا “ فالعَظِيمُ والكَبِيرُ مُتَقارِبانِ وكَوْنُهُ مِنَ اللَّهِ كَبِيرٌ فَكَيْفَ إذا كانَ مَعَ ذَلِكَ كَبارَةٌ أُخْرى.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ ودَعْ أذاهم وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾
إشارَةٌ إلى الإنْذارِ يَعْنِي خالِفْهم ورُدَّ عَلَيْهِمْ، وعَلى هَذا فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ودَعْ أذاهُمْ﴾ أيْ دَعْهُ إلى اللَّهِ فَإنَّهُ يُعَذِّبُهم بِأيْدِيكم وبِالنّارِ، ويُبَيِّنُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾ أيِ اللَّهُ كافٍ عَبْدَهُ، قالَ بَعْضُ المُعْتَزِلَةِ: لا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ بِالوَكِيلِ لِأنَّ الوَكِيلَ أدْوَنُ مِنَ المُوَكَّلِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وشُبْهَتُهُ واهِيَةٌ مِن حَيْثُ إنَّ الوَكِيلَ قَدْ يُوَكَّلُ لِلتَّرَفُّعِ وقَدْ يُوَكَّلُ لِلْعَجْزِ، واللَّهُ وكِيلُ عِبادِهِ لِعَجْزِهِمْ عَنِ التَّصَرُّفِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾ يَتَبَيَّنُ إذا نَظَرْتَ في الأُمُورِ الَّتِي لِأجْلِها لا يَكْفِي الوَكِيلُ الواحِدُ مِنها أنْ لا يَكُونَ قَوِيًّا قادِرًا عَلى العَمَلِ كالمَلِكِ الكَثِيرِ الأشْغالِ يَحْتاجُ إلى وُكَلاءَ لِعَجْزِ الواحِدِ عَنِ القِيامِ بِجَمِيعِ أشْغالِهِ، ومِنها أنْ لا يَكُونَ عالِمًا بِما فِيهِ التَّوْكِيلُ، ومِنها أنْ لا يَكُونَ غَنِيًّا، واللَّهُ تَعالى عالِمٌ قادِرٌ وغَيْرُ مُحْتاجٍ فَيَكْفِي وكِيلًا.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكم عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَراحًا جَمِيلًا﴾
وجْهُ تَعَلُّقِ الآيَةِ بِما قَبْلَها هو أنَّ اللَّهَ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ مَكارِمَ الأخْلاقِ وأدَّبَ نَبِيَّهُ عَلى ما (p-١٨٩)ذَكَرْناهُ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ بِما أمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ المُرْسَلَ، فَكُلَّما ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ مَكْرُمَةً وعَلَّمَهُ أدَبًا ذَكَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ ما يُناسِبُهُ، فَكَما بَدَأ اللَّهُ في تَأْدِيبِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِذِكْرِ ما يَتَعَلَّقُ بِجانِبِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾، وثَنّى بِما يَتَعَلَّقُ بِجانِبِ مَن تَحْتَ يَدِهِ مِن أزْواجِهِ بِقَوْلِهِ بَعْدُ: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ قُلْ لِأزْواجِكَ﴾، وثَلَّثَ بِما يَتَعَلَّقُ بِجانِبِ العامَّةِ بِقَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا﴾، كَذَلِكَ بَدَأ في إرْشادِ المُؤْمِنِينَ بِما يَتَعَلَّقُ بِجانِبِ اللَّهِ فَقالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤١]، ثُمَّ ثَنّى بِما يَتَعَلَّقُ بِجانِبِ مَن تَحْتَ أيْدِيهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ﴾، ثُمَّ كَما ثَلَّثَ في تَأْدِيبِ النَّبِيِّ بِجانِبِ الأُمَّةِ ثَلَّثَ في حَقِّ المُؤْمِنِينَ بِما يَتَعَلَّقُ بِجانِبِ نَبِيِّهِمْ، فَقالَ بَعْدَ هَذا: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: ٥٣] وبِقَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٥٦] . وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: إذا كانَ الأمْرُ عَلى ما ذَكَرْتَ مِن أنَّ هَذا إرْشادٌ إلى ما يَتَعَلَّقُ بِجانِبِ مَن هو مِن خَواصِّ المَرْءِ فَلِمَ خَصَّ المُطَلَّقاتِ اللّاتِي طُلِّقْنَ قَبْلَ المَسِيسِ بِالذِّكْرِ ؟ فَنَقُولُ: هَذا إرْشادٌ إلى أعْلى دَرَجاتِ المَكْرُماتِ لِيُعْلَمَ مِنها ما دُونَها، وبَيانُهُ هو أنَّ المَرْأةَ إذا طُلِّقَتْ قَبْلَ المَسِيسِ لَمْ يَحْصُلْ بَيْنَهُما تَأكُّدُ العَهْدِ، ولِهَذا قالَ اللَّهُ تَعالى في حَقِّ المَمْسُوسَةِ ﴿وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ وأخَذْنَ مِنكم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: ٢١] وإذا أمَرَ اللَّهُ بِالتَّمَتُّعِ والإحْسانِ مَعَ مَن لا مَوَدَّةَ بَيْنَهُ وبَيْنَها، فَما ظَنُّكَ بِمَن حَصَلَتِ المَوَدَّةُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْها بِالإفْضاءِ أوْ حَصَلَ تَأكُّدُها بِحُصُولِ الوَلَدِ بَيْنَهُما. والقُرْآنُ في الحَجْمِ صَغِيرٌ ولَكِنْ لَوِ اسْتُنْبِطَتْ مَعانِيهِ لا تَفِي بِها الأقْلامُ ولا تَكْفِي لَها الأوْراقُ، وهَذا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ﴾ [الإسراء: ٢٣] لَوْ قالَ لا تَضْرِبْهُما أوْ لا تَشْتُمْهُما ظُنَّ أنَّهُ حَرامٌ، لِمَعْنًى مُخْتَصٍّ بِالضَّرْبِ أوِ الشَّتْمِ، أمّا إذا قالَ: لا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ عُلِمَ مِنهُ مَعانٍ كَثِيرَةٌ، وكَذَلِكَ هَهُنا لَمّا أُمِرَ بِالإحْسانِ مَعَ مَن لا مَوَدَّةَ مَعَها عُلِمَ مِنهُ الإحْسانُ مَعَ المَمْسُوسَةِ ومَن لَمْ تُطَلَّقْ بَعْدُ ومَن ولَدَتْ عِنْدَهُ مِنهُ.
وقَوْلُهُ: ﴿إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ﴾ التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ إرْشادٌ إلى أنَّ المُؤْمِنَ يَنْبَغِي أنْ يَنْكِحَ المُؤْمِنَةَ فَإنَّها أشَدُّ تَحْصِينًا لِدِينِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ في أنَّ تَعْلِيقَ الطَّلاقِ بِالنِّكاحِ لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ التَّطْلِيقَ حِينَئِذٍ لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ النِّكاحِ واللَّهُ تَعالى ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ ثُمَّ، وهي لِلتَّراخِي، وقَوْلُهُ: ﴿فَما لَكم عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ﴾ بَيَّنَ أنَّ العِدَّةَ حَقُّ الزَّوْجِ فِيها غالِبٌ وإنْ كانَ لا يَسْقُطُ بِإسْقاطِهِ لِما فِيهِ مِن حَقِّ اللَّهِ تَعالى، وقَوْلُهُ: ﴿تَعْتَدُّونَها﴾ أيْ تَسْتَوْفُونَ أنْتُمْ عَدَدَها، ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ قِيلَ: بِأنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالمُفَوَّضَةِ الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَها إذا طُلِّقَتْ قَبْلَ المَسِيسِ وجَبَ لَها المُتْعَةُ، وقِيلَ: بِأنَّهُ عامٌّ وعَلى هَذا فَهو أمْرُ وُجُوبٍ أوْ أمْرُ نَدْبٍ اخْتَلَفَ العُلَماءُ فِيهِ، فَمِنهم مَن قالَ: لِلْوُجُوبِ فَيَجِبُ مَعَ نِصْفِ المَهْرِ المُتْعَةُ أيْضًا، ومِنهم مَن قالَ: لِلِاسْتِحْبابِ فَيُسْتَحَبُّ أنْ يُمَتِّعَها مَعَ الصَّداقِ بِشَيْءٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وسَرِّحُوهُنَّ سَراحًا جَمِيلًا﴾ الجَمالُ في التَّسْرِيحِ أنْ لا يُطالِبَها بِما آتاها.
{"ayahs_start":47,"ayahs":["وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَضۡلࣰا كَبِیرࣰا","وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَدَعۡ أَذَىٰهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِیلࣰا","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَیۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةࣲ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحࣰا جَمِیلࣰا"],"ayah":"وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَدَعۡ أَذَىٰهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











